قاعـدة
قاعـدة "الفنـاء في الإخـوان" في فكر بديـع الزمـان
-دراسة تأصيلية مقاصدية للوحدة الإسلامية-
-ABSTRACT-
The rule of self forgetfulness for the sake of brothers according to the thought of Bediuzzaman
Dr. Farhad Ibrahim Akbar al-Shawani
This study explores an important rule which was linked to its sources from the spirit of the holy Quran and the prophetic tradition by Ustadh Nursi.
It states that a person should experience self forgetfulness for the sake of his community. An individual should let go of his personal emotions and intellectually indulge himself in the virtues and good manners of his brothers. The essence of such behavior is loyalty. When individuals reach this kind of behaviour by applying this rule, the Muslim Ummah will become solid and will occupy a high rank and good status. The Muslim ummah then will regain her lost glory after being deprived from it because of not applying the book of God and the tradition of the prophet and because of many negative characteristics that has spread such as selfishness, miserliness and stinginess. The way to change the recent state of ignominy is to apply this rule on an individual level.
***
- ملخص البحث -
د. فرهاد إبراهيم أكبر الشواني1
حاولت في هذه المقالة دراسة قاعدة عظيمة أصّل لها الإمام النورسي بحجج القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومفاد القاعدة أن يفنى الفرد في الجماعة وأن يكون وجوده مرتبطا بها، حتى إنّه ينسى متعه الشخصية إذا تضاربت مع المجموع لصالحه ، وأن يعيش فكرا مع مزايا إخوانه وفضائلهم، ومناط هذا النوع من الإحساس هو الإخلاص، وبلوغ الأفراد إلى مثل هذا الشعور بتطبيق هذه القاعدة يكسب الأمة الإسلامية قوة إلى قوتها، تجعلها في الرتب السامقة بين الأمم بالغة الرفعة والعلو كأنجم الثريا، حتى يكون لها شأن عظيم بين الأمم وتستطيع أن تستعيد أمجادها المسلوبة منها بسبب ابتعادها عن كتاب ربها وسنة نبيها وتفشي الأمراض الفتاكة بين أفرادها كالغرور والأنانية وحب النفس والشح والبخل، ومن هنا كان السبيل إلى النجاة من الذل المطبق على هذه الأمة في هذا العصر هو بتطبيق هذه القاعدة من قبل الأفراد.
***
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبـي الأمين محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فليس من الغريب أن يعيش المسلمون اليوم عالة على الحضارة الغربية، ولا من العجيب أن يكونوا كالأيتام على موائد اللئام، فما هو واقع بهم من بؤس وجوع وضياع وضعف وخيبة إلاّ نتيجة هجرهم النور الإلهي، وإعراضهم عن الدستور السماوي، ومما يزيد الطين بلة، والمرض علة، أنهم لا يتفقون على كلمة، ولا يجتمعون على أخوة، حتى ضاقت بهم الشعاب، وتفرعت بهم الطرق، وادلهمَّ عليهم ليلهم، وأظلم عليهم نهارهم، فأصبحوا في حالة يرثى لها.
وللخروج من هذا المأزق، وللنجاة من هذا الذل تَوَجَّب عليهم أن يعودوا إلى ما كان عليه أسلافهم من العزِّ والهيبة التي ورثوها من أنوار سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلوا من القرآن الكريم والهدي النبوي شعاعاً يضيء لهم سبل الرقي والنهضة والحياة الحرة النقية.
نشهد اليوم -والحمد لله- بارقة أمل تمكننا نحن المسلمين من إدارة عجلة الزمن إلى ما كانت عليه القرون الخيرة من رفعة وسمو، وكمال وعلو، وما ذلك إلاّ بفضل العناية الإلهية لكوننا أمة محمدية اقتبست نورها من الشمس المعنوية2 التي استوعبت الكون وارتبطت بكل مكوناته.
ومن كرم الله تعالى علينا أن هيّأ لنا سعيداً ليسعدنا ويبصرنا طرق الفلاح في ظل رسائل نورانية نابعة من فيوضات قرآنية، فنتعلم منها حقيقة أنفسنا، والغاية من خلقنا، ونستلهم من نفحاتها سر قوتنا، فإذا بسطورها تنطق وتردد شعارات الوحدة والألفة والمحبة والأخوة والتعاون والتناصر والتآزر وكلها ضمن مشروع "وحدة الأمة الإسلامية".
قال النورسي: "إن جوهر الحياة الاجتماعية الإنسانية ولاسيما للأمة الإسلامية وأساسهَا هو: وجود محبة خالصة بين الأقرباء، ووجود رابطة وثيقة بين القبائل والطوائف، ووجود أخوة معنوية وتعاونية نحو إخوته المؤمنين ضمن القومية الإسلامية، ووجود علاقة فداء نحو قومه وجنسه، ووجود التزام قوي ورابطة قوية لا تهتز مع الحقائق القرآنية التي تنقذ حياته الأبدية، ومع ناشري هذه الحقائق، وأمثالها من الروابط التي تحقق أساس الحياة الاجتماعية"، لهذا يدعو رحمه الله إلى الحذر من الميل عنها أو إنكارها لأن "إنكارها لا يؤدي إلاّ إلى قبول الخطر الأحمر 'الشيوعية' الذي يتربص بنا في الشمال والذي يبذر بذور الفوضى ويحاول القضاء على الأجيال وعلى القومية، ويجمع أطفال الناس هناك ويضعهم تحت تصرفه، ويحاول إزالة شعور القرابة وشعور القومية، وإفساد المدنية البشرية والحياة الاجتماعية إفسادا تاما، أقول إنّه بذلك الإنكار وذلك القبول يمكن إطلاق اسم الجمعية على طلاب النور، لذا فإن طلاب النور الحقيقيين يظُهرون علاقاتهم المقدسة مع الحقائق القرآنية ويظهرون ارتباطهم الذي لا ينفصم مع إخوانهم في الحياة الآخرة". 3
وقال تأكيدا لهذه المعاني في سياق آخر: "إن التوحيد الإلهي هو جهة الوحدة في الاتحاد المحمدي الذي هو حقيقة اتحاد الإسلام 'الوحدة الإسلامية'. أما يمينه وبيعته فهو الإيمان، ومقراّته وأماكن تجمعاته: المساجد والمدارس الدينية والزوايا. ومنتسبوه: جميع المؤمنين. ونظامه الداخلي: السنن الأحمدية، والقوانين الشرعية بأوامرها ونواهيها، فهذا الاتحاد ليس نابعا من العادة وإنما هو عبادة فالإخفاء والخوف من الرياء، والفرائض لا رياء فيها، وأوجبُ الفرائض في هذا الوقت هو اتحاد الإسلام 'الوحدة الإسلامية'، وهدف الاتحاد وقصده تحريك الرابطة النورانية التي تربط المعابد الإسلامية التي هي منتشرة ومتشعبة، وإيقاظ المرتبطين بها بهذا التحريك، ودفعهم إلى طريق الرقي بأمر وجداني. مشرب هذا الاتحاد هو: المحبة، وعدوه: الجهل والفقر والنفاق".4
وبما أن تحقيق هذا المشروع يحتاج إلى أخوة خالصة ارتأيت أن استعرضها في ضوء قاعدة أصّل لها النورسي من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ألا وهي "الفناء في الإخوان" فكانت هذه القاعدة عنوانا لبحثي.
واقتضت المادة المجموعة للبحث تقسيمها إلى مقدمة أردفتها بثلاثة مباحث، وخاتمة عرضت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها، فخصصت المبحث الأول لبيان مفهوم القاعدة وتأصيلها ومقاصدها، وأفردت ثانيه لبيان المستلزمات الأساسية لتحقيق القاعدة، وركزت في ثالثه على عرض المعوقات الرئيسة التي تعترض إعمال القاعدة.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن موضوع الوحدة قريب إلى القلب، وكتبت عنه في بحوثي الأكاديمية، فقد نلت درجة الماجستير ببحث موسوم بـ "الوحــدة الإسلامية في المنظـور القـرآنـي"، لهذا بعث البحث في النفس رغبة والقلب همّة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
أولا: مفهوم قاعدة "الفناء في الإخوان"، وأصلها، ومقاصدها
مفهوم القاعدة عند النورسي
الفَناء لغة نَقِيض البقاء والفعل فَنى يَفْنَى.5
والفناء من المصطلحات الشائعة بين الصوفية وهو عندهم على نوعين: الأول: يراد به سقوط الأوصاف المذمومة كما أن البقاء وجود الأوصاف المحمودة وهذا يحصل بالرياضة،6 والنوع الثاني: يراد به عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت وهو بالاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق وإليه أشير بقولهم: الفقر سواد الوجه في الدارين، يعني في الفناء في العالمين.7
والفناء عند الصوفية يكون في أمور ثلاثة: أولها: الفناء في الله: وهو تبدل الصفات البشرية للسالك بالصفات الإلهية. وثانيها: الفناء في الرسول: وهو تبدل الصفات البشرية للسالك بصفات النبـي صلى الله عليه وسلم، وثالثها: الفناء في الشيخ: تبدل صفات المريد بصفات شيخه ومرشده في الطريق.8
وفي مقابل هذه الأمور نجد أن بديع الزمان النورسي قد أضاف نوعاً آخراً من الفناء وهو "الفناء في الإخوان"9 تأكيداً على أهمية الأخوة وضرورتها في الحياة.
يوضح الأستاذ خلال هذه قاعدة "الفناء في الإخوان" حقيقة الأخوة الإيمانية وجوهرها القائم على الامتزاج التام روحاً وسلوكاً بين المؤمنين الذين تجمعهم عقيدة ربانية واحدة، وغاية كونية سامية، ومنهج إلهي موحد، فيستشعر الفرد من خلال تلك الأحاسيس بأنّه تلبّس جسد إخوته المؤمنين فيُسَرُّ بسرورهم، ويحزن بحزنهم، أو بمعنى آخر "إفناء الفرد شخصيته في شخصية إخوانه وإيثارهم على نفسه"،10 وبتطبيق هذه القاعدة يكسب الفردُ الواحد أرواحاً كثيرة.11
قال الأستاذ النورسي: "هناك اصطلاحات تدور بين المتصوفة أمثال: 'الفناء في الشيخ'، 'الفناء في الرسول'، وأنا لست صوفياً، ولكن 'الفناء في الإخوان' دستور جميلٌ يناسب مسلكنا ومنهجنا تماماً. أي أن يفنى كل في الآخر، أي أن ينسى كل أخ أحاسيسه النفسانية، ويعيش فكراً مع مزايا إخوانه وفضائلهم، حيث إن أساس مسلكنا ومنهجنا هو 'الأخوة' في الله، وأن العلاقات التي تربطنا هي الأخوة الحقيقية، وليست علاقة الأب مع الابن ولا علاقة الشيخ مع المريد. وان كان لابد فمجرد العلاقة بالأستاذ. وما دام مسلكنا هو 'الخليلية' فمشربنا إذا 'الخلة'. والخلة تقتضي صديقاً صدوقاً، ورفيقاً مضحياً، وأخاً شهماً غيوراً. وأس الأساس لهذه الخلة هو 'الإخلاص التام'. فمن يقصّر منكم فيه فقد هوى من على برج الخلة العالي، ولربما يتردى في واد سحيق، إذ لا موضع في المنتصف".12
وذكر في موضع آخر مؤكّدا هذه المعاني: "إن في مسلك رسائل النور لا تعطى الأهمية للشخص، حيث يكتفي الجميع بما نالت رسائل النور -من حيث المشاركة المعنوية والفناء في الإخوان- من الآلف الكرامات العلمية ومن يسر في نشر الحقائق الإيمانية، وبما يجد أولئك الطلاب من بركة في معايشهم وأمثالها من الكرامات الإلهية، لذا لا يفتشون عن كمالات وكرامات أخرى شخصية".13 ففكرة النورسي تدور حول إبراز أهمية الجماعة والعمل في إطارها بدلا من العمل الفردي، لأن التلاقح المعنوي الحاصل بين الجماعة هو المحقق للمراد الذي يريده الإسلام المتمثل في التعاون على الخير وما فيه صلاح للجميع.
2- تأصيل قاعدة "الفناء في الإخوان"
لا يمكن قبول وضع قاعدة "الفناء في الإخوان" وجعلها دستوراً للحياة ما لم تستند في تأسيسها على أصول ثابتة، يتيسّر بموجبها تحقيق معنى الفناء والانصهار فيصبح الواحد في الكل، والجوهر الفردي ضمن إطار الجوهر الجماعي، ولا مرية في أن حصول تلك الحالة يحتاج إلى عناية إلهية،14 ومدد رباني مهيمن على الكون كله في أصل وجوده واستمراره ومساره ومصيره، ولا يمكن أن ينال الرقي نحو هذه المرتبة بغير إرشادات مستمرة، ووفق منهجيات وضعها الوحي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، واستناداً عليهما أصَّل النورسي قاعدته لتكون دستوراً جامعاً للفضائل والمحاسن.
أ- تأصيل القاعدة من القرآن الكريم
جعل النورسي القرآن الكريم مصدرا ومعياراً ثابتاً لتأصيل قاعدته، ودستوراً أساسياً جامعاً ومفسراً لمعالمها، فقال في أهمية هذا المصدر الرباني: "إن السعيد هو منَ يرمي شخصيته، ويذيب أنانيته التي هي كقطعة ثلج في الحوض العظيم15 اللذيذ المترشح من كوثر القرآن الكريم كي يغنم ذلك الحوض".16
فكان القرآن الكريم مصدره المعتمد في التأصيل لهذه القاعدة، ومن الآيات التي أصل بها قاعدته:
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾.الحجرات:10
عدّ النورسي الآية ناموساً إلهياً17 تؤكد ضرورة التآخي بين المؤمنين، لكونه وسيلة للتصدي لكل مؤامرة خارجية تسعى إلى بث الفرقة والشقاق بين المسلمين، يشهد لهذه المعاني السامقة قوله: "إن كنتم تريدون حقاً الحياة العزيزة، وترفضون الرضوخ لأغلال الذل والهوان، فأفيقوا من رقدتكم، وعُودُوا إلى رشدكم، وادخلوا القلعة الحصينة المقدسة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وحصِّنوا أنفسكم بها من أيدي أولئك الظلمة الذين يستغلون خلافاتكم الداخلية. وإلاّ لا تعجزون عن الدفاع عن حقوقكم بل حتى عن الحفاظ على حياتكم، إذ لا يخفى أن طفلاً صغيراً يستطيع أن يضرب بطلين يتصارعان، وأن حصاة صغيرة تلعب دوراً في رفع كفة ميزان وخفض الأخرى ولو كان فيهما جبلان متوازنان".18
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾.الأنفال:46
قال النورسي: "سأبيِّن لكم دستوراً في الأخوة عليكم الأخذ به بجد: إن الحياة نتيجة الوحدة والاتحاد، فإذا ذهب الاتحاد المندمج الممتزج، فالحياة المعنوية تذهب أيضاً أدراج الرياح، فالآية الكريمة ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾. تشير إلى أن التساند والترابط إذا اختل تفقد الجماعة مذاقها. إنكم تعلمون أن ثلاث ألفات إذا كتبت منفردة متفرقة فقيمتها ثلاث، ولكن إذا اجتمعت بالتساند العددي فقيمتها مائة واحد عشر. فإن بضع أشخاص من أمثالكم من خدّام الحق إذا عمل كل منهم على انفراد من دون اعتبار لتقسيم الأعمال فان قوتهم تكون بقوة ثلاثة أو أربعة أشخاص، بينما إذا ما عملوا متساندين بأخوة حقيقية، مفتخراً كل منهم بفضائل الآخرين، حتى يبلغوا بسر 'الفناء في الأخوة' أن يكون أحدهم هو الآخر بنفسه، أقول: إنهم إذا ما عملوا هكذا فان قيمة أولئك الأشخاص الأربعة تكون بمثابة أربعمائة شخص".19 فالنورسي يؤكد بذلك أن الإخلاص في الترابط والتساند بين الجماعة المسلمة تؤتي أكلها أضعافا مضاعفة، مما يسفر عن ذلك قوة ضاربة لكل الفتن التي تحيط بالإنسان الذي يعيش في وسط تلك الجماعة التي فنى روحه فيهم، وأذاب جموح نفسه في شخصيتهم.
قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾.آل عمران:103
يستدل النورسي بهذه الآية الكريم على ضرورة الجماعة لتؤدي دورها في تطبيق الأحكام الشرعية، فقـال: "إن هذا العصر عصر الجماعة، إذ الشخصية المعنوية -التي هي روح الجماعة- أثبت وأمتن من شخصية الفرد وهي أكثر استطاعة على تنفيذ الأحكام الشرعية". 20
إن من طبيعة كل قانون أو حكم يبغى أن ينفذ لابد أن يكون وراءه أناس مخلصين مؤمنين به همهم تنفيذه وتثبيت وطئته، فاجتماع الناس عليه بمثابة تصديق لهذا الحكم وما لاشك أن التكاتف على هذا الأمر يبعث الثقة في النفوس على أن يجعلوا من هذا القانون سبيلا موصلا للحق.
ب- تأصيل القاعدة من السنة النبوية الشريفة
إضافة إلى القرآن الكريم فقد أصل النورسي قاعدة "الفناء في الإخوان" من السنة النبوية الشريفة باعتبارها النظام الداخلي للإتحاد المحمدي الذي هو حقيقة إتحاد الإسلام "الوحدة الإسلامية".21
قال النورسي: "فيا معشر أهل الإيمان! إن قوتكم تذهب أدراج الرياح من جراء أغراضكم الشخصية وأنانيتكم وتحزّبكم، فقوة قليلة جداً تتمكن من أن تذيقكم الذل والهلاك. فإن كنتم حقاً مرتبطين بملة الإسلام فاستهدوا بالدستور النبوي العظيم: (الـمُؤْمِنُ لِلْـمُؤْمِنِ كَالْبُنيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً)،22 وعندها فقط تسلمون من ذل الدنيا وتنجون من شقاء الآخرة.23
ويذكر النورسي أن القاعدة متأصلة بفعل الصحابة رضي الله عنهم فقال: "إن ما في رسائل النور من مشرب الخلة ومسلك الأخوة، هذا المشرب الخالص والمسلك القوي الذي يكسب الفرد الواحد أرواحاً كثيرة، ويظهر سراً من أسرار الأخوة التي ورثها الصحابة الكرام من نور النبوة، هذا المشرب لا يدع حاجة إلى البحث عن المرشد الوالد في الخارج -مع إضرار به بثلاث جهات- بل يوجدِ له بدلاً من الوالد المرشد الواحد، إخوانا كبارا كثيرين فلا شك أن ما تسبغه أنواع الشفقة النابعة من قلوب إخوة كبار، يزيل شفقة الوالد الواحد. نعم، إن الذي اتخذ لنفسه شيخا قبل دخوله الدائرة يمكنه أن يحافظ على رابطته بشيخه ومرشده ضمن الدائرة أيضاً، ولكن منَ لم يكن له شيخ بعد الدخول في الدائرة، ليس له أن يتخذ شيخاً إلاّ ضمن الدائرة".24
ومضمون هذا القول مطابق لما جاء في السنة الشريفة (على صاحبها أفضل الصلاة والسلام) إذ يقول: (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فما تَعَارَفَ منها ائْتَلَفَ، وما تَنَاكَرَ منها اخْتَلَفَ).25
وذكر الأستاذ النورسي في موضع آخر: "إن أسمىَ جمعية وأقدسها في الوقت الحاضر، هي جمعية الجنود المؤمنين فجميع الذين انخرطوا في سلك الجندية المؤمنة المضحية ابتداء من الجندي إلى القائد هم داخلون في هذه الجمعية إذ إن أقدس هدف لأقدس جمعية في العالم هو الاتحاد والأخوة والطاعة والمحبة وإعلاء كلمة الله فالجنود المؤمنون قاطبة يدعون إلى هذا الهدف ألا إن الجنود هم المراكز، فعلى الأمة والجمعيات أن ينتسبوا إلى الجنود، إذ الجمعيات الأخرى ما هي إلا لجعل الأمة جنودا في المحبة والأخوةّ، أما الاتحاد المحمدي الذي هو شامل لجميع المؤمنين فهو ليس جمعية ولا حزبا،ً إذ مركزه وصفهّ الأول المجاهدون والشهداء والعلماء والمرشدون فليس هناك مؤمن ولا جندي فدائي -سواء أكان ضابطا أو جنديًّا- خارج عن هذا الاتحاد، لذا فلا داعي للانتساب إلى جمعيات أخرى".26
والناظر بعين الفاحص المنتفع بحياة الصحابة رضي الله عنهم أنّهم -مع شدة فاقتهم- كانوا بسر الإخلاص يفنون أنفسهم في إخوانهم المهاجرين، فيؤثرونهم على أنفسهم بالقليل الذي لديهم، وقد باتوا في الاجتماع والتآلف كأنجم الثريا، فأصبحوا في كتاب يتلى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾.الحشر:9
قال الحسن البصري: "كان أحدهم يشق إزاره بينه وبين أخيه"،27 فكان الإيثار ديدنهم وخدمة الإخوان سجية فيهم، لهذا دعا الأستاذ النورسي إلى استعادة مآثرهم بالنسج على منوالهم، وبهذا يوضح نوع الإيثار المطلوب التحلي به، فقال: "أي عليكم أن تفضلوا إخوانكم على أنفسكم في المراتب والمناصب والتكريم والتوجه، حتى في المنافع المادية التي تهش لها النفس وترتاح إليه".28
وحسبنا ما جاء عن النبـي صلى الله عليه وسلم لتؤصل ماهية هذه القاعدة: (المسلمون كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إن اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ).29
إن الحديث الشريف هذا يفسر لنا تفسيرا دقيقا قاعدة الفناء في الإخوان، فمتى حصل الفناء المعنوي بين الأفراد أحس الجميع براحة معنوية ومادية، وشعور بالقوة في مقارعة الفتن والمصاعب.
3- مقاصد قاعدة "الفناء في الإخوان"-دراسة تحليلية -
تميّز الأستاذ النورسي بشمولية النظر، وسعة الأفق، وعمق معالجة كثير من الأمور، مما أسعفه على وضع قاعدة تكون مرتكزاً لجلب منافع كثيرة، ومقصداً لتحصيل خيرات وفيرة، فهو بهذه القاعدة ينتهج نهج حكم المآل، لأن مضمون القاعدة يقتضي أن يذوب الإنسان في أحاسيس إخوته وأن يتشارك معهم في العمل، مفتخراً شاكراً بمزايا إخوانه، حتى إنّه ليتصورها في نفسه، بل ويَعُدُ فضائلهم في ذاته،30 فالتحول إذن من الفردية إلى الجماعية يكون تحولاً معنوياً يثمر عنه الاتحاد والتساند، ومن هنا كان تطبيق القاعدة في هذا الزمان الذي تمزقت فيه الأمة بسبب الفرقة وتكالب الأعداء على جسدها بالنهش من ماضيها وحاضرها، ضرورة للنهوض بسلوك مسالك الرقي بقصد استعادة مجد الأمة الإسلامية، لهذا يرى النورسي أنّ الأخوة ركن استناد وقوة حقيقية.31
وفي موضع آخر يقول: "إن هذا الزمان -لأهل الحقيقة- زمان الجماعة، وليس زمان الشخصية الفردية وإظهار 'الفردية والأنانية'. الشخص المعنوي الناشئ من الجماعة هو الذي ينفذ حكمه ويصمد تجاه الأعاصير. فلأجل الحصول على حوض عظيم، ينبغي للفرد إلقاء شخصيته وأنانيته التي هي كقطعة ثلج في ذلك الحوض وإذابتها فيه. وإلاّ فستذوب حتماً تلك القطعة من الثلج، وتذهب هباء وتفوت الفرصة من الاستفادة من ذلك الحوض أيض".32
ومن هنا كانت القاعدة هذه مشروعا لوحدة الأمة الإسلامية التي دعا الله تعالى إليها في آيات كثيرة فتأتي أكلها اليانعة، بل وتمد ظلالها الوارفة محققة مصالح دينية ودنيوية وأخروية،33 وبيان ذلك كالآتي:
أ- تحقيق المصالح الدينية
يتحقق في ظل الوحدة الإسلامية المنبثقة من هذه القاعدة الهدفُ الأسمى، والغاية المثلى، والمقصد الأعظم ألا وهو عبودية الله تعالى وإعلاء كلمته، لأن الأخوة طريق لمعرفة الحق، وسبيل للوصول إلى أسمى مقاماته، فالمعين على العبادة والنهوض بالتكاليف الشرعية هي الخلة والصحبة، لذا نجد أن النورسي قد بين حقيقة ذلك بقوله: "وشأن الدين هو 'الأخوة والتكاتف' "،34 ومنطلق قوله ما صرح به رب العزة: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾.الشورى:13
وفي موضع آخر وضّح النورسي أهمية الجماعة في زيادة نشاط المسلم في عبادة ربه، حيث قال: "اعلم أن سر تساند المؤمنين في عباداتهم ودعواتهِم في جماعاتهم سرٌ عظيمٌ وأمرٌ جسيمٌ له شأن فخيم؛ إذ يصير به كل فرد كالحجر المجصوص، في البناء المرصوص يستفيد من إخوانه في الإيمان، بألوف ألف ألف ما يستفيد من عمل نفسه، فإذا نظمّهم سلك الإيمان يصير كل لكل، وللكل شفيعا وداعيا ومسترحما وراجيا ومادحا ومزكيا لاسيما لرئيسهم ورأسهم. فيتلذذ كل فرد بسعادات سائر إخوانه كتنعمّ الأم الجائعة بلذة ولدها، والأخ الشقيق بسعادة شقيقه، حتى يصير هذا الإنسان المسكين الفاني مستعدا لعبودية خلاّق الكائنات، وقبول السعادة الأبدية"، ثم يربط المسألة بالأنموذج الأكمل صلى الله عليه وسلم، فقال: "فانظر إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فإذا تراه، وهو يدعو بـ 'يا أرحم الراحمين' ترى الأمة كلهم يقولون: 'الَلهَّمُ صل وسلم على عبدك وحبيبك محمد بحر أنوارك، ومعدن أسرارك، وناشر ذكرك وشكرك، ودلاّل محاسن سلطنة ربوبيتك" فيزكُّونه عند ربهم، ويحببونه إلى منَ أرسله رحمة لهم، ويؤيدون شفاعته. وكذا ينادون بلسان عجزهم المطلق وفقرهم المطلق، غناءه -سبحانه- المطلق، في استغنائه الأكمل. وينادون جوده المطلق في عزته الأجلّ. وينادون بلسان عبوديتهم المطلقة ربوبيته المطلقة. وبهذا التعاون العلُوي المعنوي يترقى الإنسان من أسفل سافلي الحقارة والصغر والعجز؛ إلى أعلى عليي الخلافة، وحمل الأمانة وقابلية المكُرَمَّية بتسخير السماوات والأرض له".35
يتجلى مما سلف تقريره أنّ قاعدة "الفناء في الإخوان" والتي من شأنها وحدة المسلمين تقرر مسألة القيام بأمر العبودية باعتبار أن كليهما لازم وملزوم، أو بمعنى آخر أن الأول سبب للحياة، والثاني غايتها، كما صرّح بذلك النورسي في أكثر من موضع، منها قوله في الاتحاد كما مرَّ بنا سابقاً: "سأبيِّن لكم دستوراً في الأخوة عليكم الأخذ به بجد: إن الحياة نتيجة الوحدة والاتحاد"،36 وقال في العبودية في ضوء تفسيره لسورة الفاتحة: "لأن الحمدَ صورةٌ إجمالية للعبادة التي هي نتيجةٌ للخِلقة، والمعرفةِ التي هي حكمةٌ وغايةٌ للكائنات. فكأن ذكره تصورٌ للعلة الغائية. وقد قال عزّ وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾".الذاريات:56 37
فما أدركه النورسي من ارتباط بين هذه القاعدة والعبودية نابع من مشكاة النبوة (على صاحبها أفضل الصلاة والسلام) لمّا وقف في معركة بدر يدعو ربه قائلا: (اللهم أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي اللهم آتِ ما وَعَدْتَنِي اللهم إن تُهْلِكْ هذه الْعِصَابَةَ من أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ في الأرض).38
فالعمل في إطار الجماعة خير معين لدفع البلايا والشرور النازل بالأمة، لأن الحق ثقيل المحمل فهو في حاجة إلى جماعة تتساند على حمله وهذا ما لا يحصل بفرد لوحده يعيش بمعزل روحي عن أبناء جنسه ودينه.
ب- تحقيق المصالح الدنيوية
بما أن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش بمفرده فمن الضروري بالنسبة إليه أن يرتبط بجماعة تكون له عوناً، فيشد بها أزره، ويقوي بها ظهره، وتحقيق هذه المتطلبات منوط بإخلاص المتبادل مع الجماعة، فإن اتصفت بهذه الصفة استطاع المرء أن يدخل معهم في رابطة نورانية تضيء له دنياه محققة منافع ومصالح عدة منها:
- التهوين من المصائب، والتغلب على المصاعب، والتمكن من إزالة العوائق بالتعاون والتآزر، قـال الأستاذ النورسي في تقرير هذه المعاني: "فالمقام هنا في الأخوة فسيح واسع، لا مجال فيه للمزاحمة بالمنافسة، وإن كان لابد فالأخ معاون لأخيه مكمل لعمله، وظهير له"،39 وذكر في موضع آخر: "إن رؤية أحباء حقيقيين رحماء -أرحم على الإنسان من شقيقه- في هذا الشتاء المادي والمعنوي المضاعف الذي تعطلت فيه الأعمال وفي هذه المدرسة اليوسفية التي هي مدرسة واحدة من مدارس الزهراء، واللقاء بإخوة الآخرة، وهم بمثابة مرشدين ناصحين، وزيارتهَم والاستفادة من مزاياهم الخاصة والتزود من حسناتهم التي تسري سريان النور والنوراني في المواد الشفافة، وحصول ذلك بمنتهى الرخص وبتكاليف قليلة، فضلا عن الاستمداد من معاونتهم المعنوية ومن مسراّتهم وسلوانهم كل ذلك يجعل هذه المصيبة تبُدل شكلهَا وتتحول إلى نوع من مشهد عناية ربانية معنوية"،40 ذلك أنّ تجاوز المحن والإحن واستعادة معنى الحياة واستجلابا للمصالح يؤكّد أنّ "نقطة استنادنا تجاه المصائب والدواهي، التي ألقت بثقلها العظيم، عظم الأرض، على العالم الإسلامي، هي الإسلام الذي يأمر بالاتحاد النابع من المحبة، وبامتزاج الأفكار الناشئ من المعرفة، وبالتعاون الذي تولده الأخوة. فانظر بدءاً من العالم الإسلامي، تلك الدائرة الواسعة، وانتهاء إلى طالب علم في المدرسة الشرعية كأصغر دائرة. تجد أن لكل منها عقدا حياتية، وتلك العقد مرتبطة ببعضها متسلسلة ومستندة إلى تلك النقطة العظمى، كأفراد المجتمع وروابطه.. بمعنى أنه يمكن أن يصحو المسلمون ويبدأوا بالرقي متى ما نُبِّهوا وبُثَّ فيهم روح النماء، فلا صحوة بخنق تلك العقد الحياتية".41
الأخوة سبب لتوثيق أواصر المحبة، فكما نحب إخواننا الذين هم من دمائنا لكونهم من آبائنا، فكذلك يتولَّد حبنا لأخوتنا في الإيمان لارتباطهم بنا معنوياً برباط مقدس وهو الإسلام، يستشف هذا المعنى من قول الأستاذ: "مشربهم: المحبة وإنماء المحبة المندمجة في بذرة الأخوة الموجودة بين المؤمنين لتصبح شجرة طوبى مباركة"،42 ويزيد المسألة شرحا بقوله: "إن مشربنا: محبة المحبة، ومخاصمة الخصومة، أي إمداد جنود المحبة بين المسلمين، وتشتيت عساكر الخصومة فيما بينهم...، إن كل مؤمن هو منتسب -معنىً- لجماعتنا43 وصورة هذا الانتساب هو العزم القاطع على حياء السنة النبوية في عالمه الخاص، فنحن ندعو باسم الشريعة أولئك المرشدين من العلماء والمشايخ من طلاب العلوم إلى الاتحاد قبل أي أحد سواهم".44
إن هذه القاعدة الأخوية وسيلة لقهر أنانية النفس وغرورها وحرصها وشرهها، فتنجو بذلك من الرياء، يجلي الأستاذ هذه القاعدة بقوله: "ولما كان طلاب رسائل النور قد حولوا 'أن' إلى 'نحن' أي تركوا الأنانية ودخلوا ضمن دائرة الشخصية المعنوية للجماعة ويسعون في أعمالهم باسم تلك الشخصية أي يقولون 'نحن' بدلاً من 'أن' وكما نجا أهل الطرق من الرياء بوسائل قتل النفس الأمارة بقاعدة: 'الفناء في الشيخ' و 'الفناء في الرسول'، فإن إحدى تلك الوسائل هي 'الفناء في الإخوان'، أي إذابة الشخصية الفردية في حوض الشخصية المعنوية لإخوانه وبناء أعماله على وفق ذلك، أقول: إنه كما قد نجا أهل الحقيقة بتلك الوسائل من ورطة الرياء، ينجو بإذن الله طلاب النور بهذا السر أيض".45
إن تنامي الأخوة بين المسلمين يسرع في هزِّ المدنية الحاضرة ويقرب دمارها، وستتبدل صورة المدنية الحاضرة، وسيقوَّض نظامها، وعندها تظهر المدنية الإسلامية، وسيكون المسلمون أول من يدخلونها بإرادتهم.46
الأخوة سلاح إيماني بها يتمكن المسلمون من التصدي لجميع المؤامرات التي يشنها أهل الضلالة والنفاق، يقول النورسي: "وحيث إن طلاب رسائل النور الحقيقيين قد أذابوا أنانيتهم الشبيهة بقطعة ثلج في الشخص المعنوي والحوض المشترك للجماعة، فلا يتزعزعون بإذن الله في غمرة هذه العواصف والأعاصير. نعم، إن خطة مهمة ومجربة للمنافقين هي: جمع أمثال هؤلاء الذين كل منهم يملك شخصية ضابط وحاكم، في مسألة واحدة، في مكان ضيق يهيج الأعصاب ويورث الضجر والنقاش الحاد والجدال والنقد، ويثيرون فيهم النزاع لبعثرة قوتهم المعنوية. ثم يؤدبون من فقد قوته المعنوية بيسر وسهولة. فطلاب رسائل النور لأنهم يسلكون مسلك الخلة والأخوة و 'الفناء في الإخوان' سيُفشلون هذه الخطة المهمة المجربة للمنافقين بإذن الله"،47 ويستشف تأكيد هذه المعاني من قوله: "وإن شئت أن تعدد دوائر الأعداء المحيطة بالإسلام، فهم ابتداء من أهل الضلالة والإلحاد وانتهاء إلى عالم الكفر ومصائب الدنيا وأحوالها المضطربة جميعها، فهي دوائرٌ متداخلةٌ تبلغ السبعين دائرة، كلُّها تريد أن تصيبكم بسوء، وجميعها حانقة عليكم وحريصة على الانتقام منكم، فليس لكم أمام جميع أولئك الأعداء الألداء إلاّ ذلك السلاح البتار والخندق الأمين والقلعة الحصينة، ألا وهي 'الأخوة الإسلامية'. فأفِق أيها المسلم! واعلم أن زعزعة قلعة الإسلام الحصينة بحجج تافهة وأسباب واهية، خلاف للوجدان الحي وأيُّ خلاف ومناف لمصلحة الإسلام كلياً.. فانتبه!"48
ج- تحقيق المصالح الأخروية
إن الرغبة في استدامة الحصول على الثواب، والتطلع لمضاعفة الأجر في الآخرة، هي الغاية العظمى من قاعدة "الفناء في الإخوان" ففي ظل الشخصية المعنوية المنبثقة من الجماعة التي انتظمت في قالب نوراني ملبية نداء ربها وخالقها، يستطيع الفرد أن يغنم تلك الغاية فيكون من الفائزين في الآخرة.
ومن تأمل رسائل النور يدرك أن الإمام النورسي كثيراً ما أكد على هذه الفكرة من خلال إرشاد طلابه الذين تآلفوا على خدمة الرسائل التي "هي المعجزة المعنوية للقرآن الكريم"،49 فيقول: "وإن رابطة الأخوة الموثوقة بسلسلة رسائل النور لحَسنة عظيمة تذهب بألف سيئة فينبغي التعامل بالمحبة والصفح فيما بينكم حسب رجحان الحسنات على السيئات كما هو في الحشر الأعظم حيث تذُهب العدالة الإلهية السيئات برجحان الحسنات"،50 ويقرب من هذه المعاني قوله في مقام آخر: "لمِاَ أنكم قد ارتبطتم برسائل النور رغبة بثواب الآخرة، وأداء لنوع من العبادة، فلا شك أن كل ساعة من ساعاتكم -تحت هذه الشروط والأحوال الصعبة- تصبح في حكم عبادة عشرين ساعة، والعشرين ساعة من العمل في خدمة القرآن والإيمان -لما فيها من جهاد معنوي- تكسب أهمية مائة ساعة، والمائة ساعة التي تمضي في لقاء مجاهدين حقيقيين من إخوة طيبين -كل منهم يعادل في الأهمية مائة شخص- وعقد أواصر الأخوة معهم، وإمدادهم -بالقوة المعنوية- والاستمداد منهم، وتسليتهم والتسلي بهم، والاستمرار معهم في خدمة الإيمان السامية بترابط حقيقي وثبات تام، والانتفاع بسجاياهم الكريمة، وكسب أهلية الطالب في مدرسة الزهراء بالدخول في مجلس الامتحان هذا، في هذه المدرسة اليوسفية، وأخذ كل طالب قسمته المقسومة له قدَرَا، وتناوله رزقه المقدرّ له فيها، نوالا للثواب تستوجب الشكر على مجيئكم إلى هن"،51 لهذا تراه معتنيا بأهمية التساند الحقيقي والاتحاد التام النابع من الإخلاص، فاعتبره المحور الذي "تدور عليه منافع لا تنتهي، كذلك فهو ترس عظيم، ومرتكز قوي للوقوف تجاه المخاوف العديدة، بل أمام الموت، لأن الموت لا يسلب إلاّ روحا واحدة، لأن الذي ارتبط بإخوانه بسر الأخوة الخالصة في الأمور المتعلقة بالآخرة وفي سبيل مرضاة الله، يحمل أرواحا بعدد إخوانه، فيلقى الموت مبتسما وقائلا: لتسلم أرواحي الأخرى. ولتبق معافاة، فإنها تديم لي حياة معنوية بكسبها الثواب لي دائما، فأنا لم أمت إذن. ويُسلّم روحه وهو قرير العين. ولسان حاله يقول: أنا أعيش بتلك الأرواح من حيث الثواب ولا أموت إلاّ من حيث الذنوب والآثام".52
ويبيّن الأستاذ النورسي في موضع آخر أهمية الكسب المعنوي الجماعي، فقال: "إن الدليل القاطع على أنّ كلّ طالب صادق لرسائل النور سيكسب ذلك الكسب الخارق النابع من سر ليلة القدر والتي يكسب فيها المرء ثلاثاً وثمانين سنة من عمر معنوي، ومن سر الإخلاص والتساند والاشتراك في الأعمال الأخروية الجارية بين طلاب رسائل النور"، وهذا "هو: الاحتمال القوي أن لا يكسب ذلك الكسب الخارق واحدٌ أو اثنان أو عشرة أو عشرون، بل مئات ضمن دائرة النور التي تضم أربعين ألفا بل مائة ألف من المؤمنين الحقيقيين الخالصين. فبسر الإخلاص وبدستور الاشتراك في الأعمال الأخروية نتوجه نحن وأنتم كذلك إلى هذه الحقيقة -حقيقة ليلة القدر- فنفترض أنفسنا ضمن جميع الأخوة وكل منّا يتكلم باسم الجميع في هذا الشهر المبارك فنقول بصيغة الجمع: أجرنا، ارحمنا، واغفر لنا، ووفقنا، واهدنا، واجعل ليلة القدر في هذا الشهر شهر رمضان خيراً في حقنا من ألف شهر. وننوى في كل دعاء ضمن ( نا ) ضمير الجمع جميع إخواننا. وعليكم معاونة أخيكم هذا الضعيف بالذات في وظيفته المرهقة بتلك النية الخاصة".53
ثانـيا: المستلزمات الأساسية لتحقيق قاعدة (الفناء في الإخوان) -عرض وتحليل-
لما كانت رسائل النور برهاناً باهراً للقرآن الكريم، وتفسيراً قيّما له، ولمعة براقة من لمعات إعجازه المعنوي،54 كان من الضروري على الأمة الإسلامية في هذا العصر أن تسخّر الأضواء المنعكسة من تلك اللمعة وتوظفها لتحقيق قاعدة "الفناء في الإخوان"، فتحيا سعيدة وضّاءة تنير لنفسها وللعالم أجمع دروب الخير والسعادة في الدارين، مساهمة منها في إسعاف الخلق لبلوغ دار السلام الذي دعا الله تعالى إليه في محكم كتابه قائلا: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾.يونس:25
قال بديع الزمان سعيد النورسي: "فيا طلاب رسائل النور ويا خدام القرآن! نحن جميعا أجزاء وأعضاء في شخصية معنوية جديرة بأن يطُلق عليها: الإنسان الكامل ونحن جميعا بمثابة تروس ودواليب معمل ينسج السعادة الأبدية في حياة خالدة فنحن خدام عاملون في سفينة ربانية تسير بالأمة المحمدية إلى شاطئ السلامة وهي دار السلام. نحن إذن بحاجة ماسة بل مضطرون إلى الاتحاد والتساند التام"،55 هذا هو المسلك العام لرسائل النور لهذا فهي "أقوى وسيلة وأنجع دواء لهذه الأمة في هذا البلد في سبيل إعادة الأخوةّ الإسلامية السابقة والمحبة السابقة وحسن الظن والتعاون المعنوي بين ثلاثمائة وخمسين مليون مسلم، وفي سبيل البحث عن وسائل هذا التعاون".56
لم تكتف رسائل النور بالبيان العام بل عرضت التعريف بالدعائم والمرتكزات المحققة لقاعدة "الفناء في الإخوان"، فضلاً عن بيانها لأهم السبل والآليات المنهجية المساهمة في زيادة توثيق رابطة الأخوة الإيمانية، وذلك في المطلبين الآتيين:
1- دعائم ومرتكزات قاعدة "الفناء في الإخوان"
انتهيت بعد قراءة تحليلية وبحث مستقصي في مضامين رسائل النور إلى أنّ الأخوة والمحبة المتبادلة ترتكز على ثلاث دعامات أساسية وهي: الإيمان، والإسلام، والإنسانية، وهو صريح قول الأستاذ قول النورسي: "إن أسباب المحبة هي الإيمان، والإسلام، والإنسانية، وأمثالها من السلاسل النورانية المتينة والحصون المعنوية المنيعة. أما أسباب العداوة والبغضاء تجاه المؤمن فإنما هي أمور خاصة تافهة تفاهة الحصيات..."57
ولبيان تأثير تلك الدعامات على تقوية أواصر الأخوة من خلال فكر بديع الزمان نعرض جملة منها باختصار:
أ- الإيمان هو شعاع إلهي متى تسرب إلى القلب أصبح الجسد ربانيا تحفوه قوة تجعله من أن يتحكم الإنسان بجوارحه، ويكون صلدا في مواجهة جميع الفتن التي تحيط به، ولاسيما إذا اجتمعت القلوب المتنورة بذلك النور فإنها تكون كالحصن المنيع للأعداء الذين يبغون النفوذ إليه ليستبيحوا كرامته، ومن هنا كان الإيمان هو العنصر المقوي للجماعة ومن دونه كان العمل هباء لا خير فيه ولا قوة .
يقول النورسي: "إن الإيمان بعقيدة واحدة، يستدعي حتما توحيد قلوب المؤمنين بها على قلب واحد. ووحدة العقيدة هذه، تقتضي وحدة المجتمع . فأنت تستشعر بنوع من الرابطة مع من يعيش معك في طابور واحد، وبعلاقة صداقة معه إن كنت تعمل معه تحت إمرة قائد واحد، بل تشعر بعلاقة أخوة معه لوجودكما في مدينة واحدة، فما بالك بالإيمان الذي يهب لك من النور والشعور ما يريك به من علاقات الوحدة الكثيرة، وروابط الاتفاق العديدة، ووشائج الأخوة الوفيرة ما تبلغ عدد الأسماء الحسنى. فيرشدك مثالا إلى: أن خالقكما واحد، مالكما واحد، معبودكما واحد، رازقكما واحد، وهكذا واحد واحد إلى أن تبلغ الألف. ثم إن نبيَّكما واحد، دينكما واحد، قبلتكما واحدة، وهكذا واحد واحد إلى أن تبلغ المائة. ثم، إنكما تعيشان معا في قرية واحدة، تحت ظل دولة واحدة، في بلاد واحدة. وهكذا واحد واحد إلى أن تبلغ العشرة".58
ويقول في موضع آخر: "ولأن الإيمان يؤسس الأخوةّ بين كل شيء، لا يشتد الحرص والعداوة والحقد والوحشة في روح المؤمن؛ إذ بالدقة يرَى أعدى عدوّه نوع أخ له".59
وبسرِّ الإيمان تتميز مدنية المؤمنين عن مدنية الكافرين، فيقول ما نصه: "اعلم أن الفرق بين مدنية الكافرين ومدنية المؤمنين، أن الأولى: وحشة مستحالة ظاهرهُا مزينّ، باطنهُا مشوّه، صورتها مأنوسة، سيرتها موحشة، ومدنية المؤمنين باطنهُا أعلى من ظاهرها، معناها أتم من صورتها، في جوفها أنُسية وتحببّ وتعاون والسر: أن المؤمن بسر الإيمان والتوحيد يرى أخوةّ بين كل الكائنات، وأنُسية وتحببا بين أجزائها، لاسيما بين الآدميين ولاسيما بين المؤمنين ويرى أخوة في الأصل والمبدأ والماضي، وتلاقيا في المنتهى، والنتيجة في المستقبل".60
وما تجدر الإشارة إليه هو أن الإيمان المجرد من الإخلاص لا يمكن أن يحقق قاعدة "الفناء في الإخوان"، لهذا فإنّ اقترانه بالإخلاص شرط ضروري لاستجلاب مضامين القاعدة "الفناء في الإخوان"، يقرر هذا الحكم قول النورسي: "فكما أن للولاية كرامة، فإن للنية الخالصة كرامة أيضاً، وللإخلاص كرامة أيضاً، ولاسيما الترابط الوثيق والتساند المتين بين الإخوان ضمن دائرة أخوة خالصة لله، تكون له كرامات كثيرة، حتى إن الشخص المعنوي لمثل هذه الجماعة يمكن أن يكون في حكم ولي كامل يحظى بالعنايات الإلهية"،61 هذه المعاني مهيمنة على رسائل النور، بحيث لا تخلو منها جملة الرسائل، ذلك لأنّ طلبة النور "بحاجة ماسة بل مضطرون إلى الاتحاد والتساند التام وإلى الفوز بسر الإخلاص الذي يهيئ قوة معنوية بمقدار ألف ومائة وأحد عشر '1111' ناتجة من أربعة أفراد نعم، إن لم تتحد ثلاث 'ألفات' فستبقى قيمتهُا ثلاثا فقط، أما إذا اتحدت وتساندت بسر العددية، فإنها تكسب قيمة مائة وأحد عشر '111' ، وكذا الحال في أربع 'أربعات' عندما تكتب كل '4' منفردة عن البقية فإن مجموعها '16' أما إذا اتحدت هذه الأرقام واتفقت بسر الأخوة ووحدة الهدف والمهمة الواحدة على سطر واحد فعندها تكسب قيمة أربعة آلاف وأربعمائة وأربع وأربعين '4444'،" ثم يستشهد الأستاذ التاريخ القديم والحديث في الدلالة على أنّ الاتحاد عبر التاريخ شاهد إثبات القوة والمنعة، قال الأستاذ: "وقوتها هناك شواهد ووقائع تاريخية كثيرة جدا أثبتت أن ستة عشر شخصا من المتآخين المتحدين المضحين بسر الإخلاص التام تزيد قوتهُم المعنوية وقيمتهُم على أربعة آلاف شخص أما حكمة هذا السر فهي أن كل فرد من عشرة أشخاص متفقين حقيقة يمكنه أن يرى بعيون سائر إخوانه ويسمع بآذانهم أي إن كلاً منهم يكون له من القوة المعنوية والقيمة ما كأنه ينظر بعشرين عينا ويفكر بعشرة عقول ويسمع بعشرين أذُنا ويعمل بعشرين يد".62
ويذكر النورسي مثالاً رائعاً في الإخلاص والتفاني في حب الإخوان: "ولما كنت أرى أن الشعور الأخوي الخالص الذي أبداه أخونا الحافظ علي63 تجاه أحد إخواننا الذي سيكون منافساً له في الاستنساخ اليدوي جدير بأن تطلعوا عليه، أذكره لكم وهو الآتي:
جاءني الحافظ علي وقلت له: إن خط الأخ فلان أجود من خطه وأنه أكثر منه عملاً ونشاطاً. وإذا بي أجد أن الحافظ علي يفتخر بإخلاص ومن الصميم بتفوق الآخر عليه، بل التذ بذلك وانشرح، وذلك لأن الآخر قد استطاع جلب محبة أستاذه وثنائه عليه. راقبت قلبه أمعنت فيه بدقة، وعلمت انه ليس تصنعاً قط. بل شعرت أنه شعور خالص. فشكرت الله تعالى على أن في إخواننا من يحمل هذا الشعور السامي، وسينجز هذا الشعور بأذن الله كثيراً جداً من الخدمات. والحمد لله فان ذلك الشعور الأخوي قد سرى تدريجياً في صفوف إخواننا في هذه المنطقة".64
فمثل هذا الحب والافتخار بمزايا الأخوة النابع من الإيمان الخالص، وإن خلا من الحب خلا القلب من الإيمان، كما قال النبـي صلى الله عليه وسلم65: (لا يُؤْمِنُ أحدكم حتى يُحِبَّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).66 إن الفهم الحقيقي لهذا الحديث يجعل المؤمن أن يكون حريصا على أخوته المؤمنين ومخلصا في إرادة الخير لهم لأن خلاف ذلك معناه انتفاء الإيمان من القلب وهذا وبال نسأل الله تعالى العصمة منه.
ب- الإسلام
الإسلام هو الدين الذي اختاره الله تعالى للبشرية وفطرهم عليه، مصداقا لقوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾،الروم:30 واتحاد الناس في هذا المنهج يوجب عليهم توثيق روح الأخوة فيما بينهم، لتكون الأمة متكاملة في القوة، وبالغة السمو والرفعة.
قال الأستاذ النورسي: "إذ إن حجر الأساس في بناء أمتنا وقوام روحها إنما هو الإسلام...، وهكذا فبفضل هذه الرابطة المقدسة التي تشد الأمة الإسلامية بعضها ببعض يصبح المسلمون كافة كعشيرة واحدة فترتبط طوائف الإسلام برباط الأخوة الإسلامية كما يرتبط أفراد العشيرة الواحدة ويمُد بعضهم بعضا معنوياّ،ً وإذا اقتضى الأمر فماديا،ً وكأن الطوائف الإسلامية تنتظم جميعها كحلقات سلسلة نورانية فكما إذا ارتكب فرد في عشيرة ما جريمة فإن عشيرته بأسرها تكون مسؤولة ومتهّمَة في نظر العشيرة الأخرى وكأن كل فرد من تلك العشيرة هو الذي قد ارتكب الجريمة، فتلك الجريمة قد أصبحت بمثابة الألوف منها، كذلك إذا قام أحد أفراد تلك العشيرة بحسنة واحدة، افتخر بها سائر أفراد العشيرة وكأن كل فرد منها هو الذي كسب تلك الحسنة" لهذا فإنّ المسيء ليس "هو وحده المسؤول عن سيئته، بل تتضرر الأمة الإسلامية بملايينها بتلك السيئة وستظهر أمثلة هذه الحقيقة بكثرة بعد أربعين أو خمسين سنة".67
ج- الإنسانية
بما أنّ الناس من أب واحد وأم واحدة هما آدم وحواء -عليهما السلام- فإنّ جميعهم إخوة تفرض عليهم هذه الصفة التعارف والتكاتف والتعاون، وإن تباعدت حلقات السلسلة البشرية، وتنوعت ألسنتها، وتباينت ألوانها، واختلفت أوطانها، وإلى هذه الحقيقة أشار الله تعالى بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾،الحجرات:13 أي خلقناكم طوائف وقبائل وأمما وشعوبا كي يعرف بعضكم بعضا وتتعرفوا على علاقاتكم الاجتماعية، لتتعارفوا فيما بينكم، ولم نجعلكم قبائل وطوائف لتتناكروا فتتخاصموا.68
ومن هذا المنطلق توجب المعرفة بالأصل الواحد لبني آدم على المسلمين أن يؤصلوا رابطة أخوتهم تبعاً لوحدة أصلهم، وقد سماها النورسي بالقومية الإيجابية، فيذكر أنّ: "القومية الإيجابية نابعة من حاجة داخلية للحياة الاجتماعية، وهي سبب للتعاون والتساند، وتحققِّ قوة نافعة للمجتمع، وتكون وسيلة لإسناد أكثر للأخوة الإسلامية هذا الفكر الإيجابي القومي"، ثم يحث المسلمين على التعامل الإيجابي مع هذه المعاني ، فيذكر مرشدا المسلم في العصر الحديث بقوله:" ينبغي أن يكون خادما للإسلام، وأن يكون قلعة حصينة له، وسورا منيعا حوله، لا أن يحل محل الإسلام، ولا بديلاً عنه، لأن الأخوة التي يمنحها الإسلام تتضمن ألوف أنواع الأخوة وإنها تبقى خالدة في عالم البقاء وعالم البرزخ. ولهذا فلا تكون الأخوة القومية مهما كانت قوية إلاّ ستاراً من أستار الأخوة الإسلامية. وبخلافه، أي إقامة القومية بديلاً عن الإسلام جناية خرقاء أشبه ما يكون بوضع أحجار القلعة في خزينة ألماس فيها وطرح الألماسات خارج القلعة".69
2- الوسائل المحققة لقاعدة "الفناء في الإخوان"
إن غريزة تلبية نداءات الشهوة نابعة من حب الإنسان لنفسه، ولذلك قلما تجد إنساناً متحكماً في ترويضها من دون مرشد ولا كتاب منير، وهذا أمر طبيعي بالنسبة للنفوس لكونها أمارة بالسوء، فوظيفة الإنسان بعد العلم والبيان
This study explores an important rule which was linked to its sources from the spirit of the holy Quran and the prophetic tradition by Ustadh Nursi. It states that a person should experience self forgetfulness for the sake of his community. An individual should let go of his personal emotions and intellectually indulge himself in the virtues and good manners of his brothers. The essence of such behavior is loyalty. When individuals reach this kind of behaviour by applying this rule, the Muslim Ummah will become solid and will occupy a high rank and good status. The Muslim ummah then will regain her lost glory after being deprived from it because of not applying the book of God and the tradition of the prophet and because of many negative characteristics that has spread such as selfishness , miserliness and stinginess. The way to change the recent state of ignominy is to apply this rule on an individual level. – ثحبلا صخلم–
و ةيناسنلإا ةيعامتجلاا ةايحلا رهوج نإ :يسرونلا لاق ةيملاسلإا ةملأل اميسلا لئابقلا نيب ةقيثو ةطبار دوجوو ،ءابرقلأا نيب ةصلاخ ةبحم دوجو :وه ا هساسأو ةيموقلا نمض نينمؤملا هتوخإ وحن ةينواعتو ةيونعم ةوخأ دوجوو ،فئاوطلاو لا ةيوق ةطبارو يوق مازتلا دوجوو ،هسنجو هموق وحن ءادف ةقلاع دوجوو ،ةيملاسلإا
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | December 1, 2014 |
Published in Issue | Year 2014 Volume: 10 Issue: 10 |