Yeni Sayfa 1بديع الزمان النورسي والتصوف أو من توحيد الولي، إلى توحيد الصفيد. جعفر ابن الحاج السُلَميإن دراسة الفكر الإسلامي المعاصر، يستلزم ضمن ما يستلزم، العناية بالمفكرين المسلمين الذين لم يكتبوا بالعربية، أو كتبوا بها قليلا، فلم يشتهروا. ويستلزم كذلك، العناية بعناصر هذا الفكر، ومذاهبه ومشاربه، ورصد التحولات الطارئة عليه، وتفسيرها بقدر الإمكان.في دائرة هذا التوجه، نرغب في أن نسائل الأستاذ بديع الزمان النورسي، رحمه الله، من حيث هو مفكر إسلامي معاصر، عن طبيعة اتجاهه الفكري، وطبيعة موقفه من التصوف الإسلامي، وموقفه من المذاهب الصوفية، ولا سيما مذهب وحدة الوجود، وهو أخطر مذهب صوفي هزّ العلماء والمفكرين المسلمين، وعن موقفه من الطرق الصوفية، وموقفه من خصوم التصوف كذلك.وبما أن هذا الموضوع لا يسعه هذا المقام، بل يحتاج إلى مؤلّف حافل، فسوف نقتصر على موقفه من وحدة الوجود الصوفية. وعسى أن يكون هذا البحث منطلقا لأبحاث أخرى عن علاقة رسائل النور بالتصوف، ونقط التقائها في خدمة القرآن به، ونقط افتراقها عنه، وأسباب ذلك، مع السعي إلى عدم تحميل كلام الأستاذ بديع الزمان، رحمه الله، مالا يحتمل من وجوه المعاني، ما أمكننا ذلك. ولا سيما اننا لم نرجع إلى رسائل النور في أصلها التركي، بل إلى ترجماتها العربية. إن السؤال الأول الذي يجب علينا أن نطرحه على أنفسنا هو هذا:لماذا ناقش الأستاذ بديع الزمان ابن عربي؟ وكيف ناقشه، وماذا كان موقفه من مذهبه؟لنقرر في البدء إن مناقشة الأستاذ بديع الزمان لابن عربي لم تكن غايتها تسفيه كلام ابن عربي (-638هـ) وإثبات كذبه وضلاله، بل مروقه من الدين، كما صنع المتعصبون عليه، ولا ممالئته ومشايعته، كما صنع المتعصبون له، ولكن كانت رد فعل على الضغط الفكري الذي واجهه الأستاذ، لتبيين موقفه من ابن عربي. تجلى هذا الضغط في كثرة الأسئلة المرفوعة إليه من تلاميذه وغيرهم، في خصوص مذهب ابن عربي. ولننتبه إلى أن النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، الذي كان يكتب فيه الأستاذ، وحتى ما بعده، كان عصر تسلل الفلسفة المادية الغربية إلى دار الإسلام، في تركية ومصر والشام والهند، كما كان عصر الحركات الإسلامية الإصلاحية والمهدوية، وانبعاث السلفية والوهابية في نجد ومصر. وقد كان هذا العصر قد ورث من الماضي طرقا صوفية كثيرة، كانت مسيطرة على العقول والقلوب. فضلا عن أن الطباعة التي كانت قد نشطت وقتئذ قد طرحت على المثقفين والعلماء إشكالات كثيرة، بما ظهر من الكتب التي كانت نادرة. إن تبلبل الأفكار وتصارعها بفعل نشاط الفكر الفلسفي المادي الغربي، والفكر الإصلاحي والسلفي الوهابي، والفكر الصوفي، كان لا بد له من أن ينعكس على الأستاذ بديع الزمان، وأن يجعل مناقشته لهذه التيارات والمذاهب والمشارب، جزءا من مشروعه الكبير لخدمة القرآن والإيمان، لإنقاذ الإسلام من الضياع، في وقت أعرض فيه كثير من الناس عن الإيمان والإسلام، ورأوا أن المخرج من أزمة المسلمين، كامن بالضبط في التملص من الإسلام والإيمان، وهيمنة القرآن على المسلمين.ولنقرر في البدء أن مبدأ خدمة الإيمان، الذي هو عينه عند الأستاذ خدمة القرآن، هو الذي حفزه على التكلم في ابن عربي، لما تطرحه وحدة الوجود على المفكرين والمؤمنين من إشكالات دقيقة، كثيرا ما تؤدي إلى إنكار الشريعة، وما بنيت عليه من وحي مُنـزل وسنة، أو إنكار الموجودات، أو إنكار الخالق.ولنقرر في البدء أيضا إن مناقشة الأستاذ لابن عربي، وإن خدمة الإيمان والقرآن بمناقشته، ليستا بالأمر السهل إطلاقا، بالنظر إلى دقة الإشكالات الوجودية والإيمانية عند ابن عربي، ولنقرر كذلك أن الأستاذ كان أولى من يناقشه، بالنظر إلى طول باعه في الفلسفة القديمة وعلوم التصوف وعلوم الشريعة، وإلى طول تدبره للقرآن الكريم.إن أهم ما يسترعي نظر الباحث، وهو يتأمل رسائل النور، هو أن الأستاذ لا يسمي وحدة الوجود فلسفة، ولا يسميها مذهبا، ولا يسميها نظرية، بل يسميها مشربا ولعله سماها بهذا الاسم وهو يستحضر قوله تعالى: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾البقرة:60 ولهذا الأمر دلالته الكبيرة. ذلك أن الفلسفة نسق فكري عقلاني، وأن المذهب نسق فكري أو شرعي، داخل نسق أعم، بينما وحدة الوجود ليست عنده من الفلسفة في شيء، ولا من المذهب في شيء. بل هي عنده مشرب، أي تجربة ذاتية روحانية، وهذا ما أفاض القول فيه؛1 لا ترقى إلى مرتبة الفلسفة أو المذهب. إن دلالة التسمية أمارة على الموقف من وحدة الوجود.يلخص الأستاذ القول بوحدة الوجود، فيما ذهبوا إليه في مبحث الوجود من ترك إثبات وجودين منفصلين متمايزين، أحدهما مطلق وآخر نسبي، وأولهما مؤثر في الثاني، هما الله والعالم، إلى القول بوجود واحد، غير متجزئ ولا منفصل، احترازا من الوقوع في الاثنينية، هو الوجود الإلهي، مع إنكار العالم. يقول:لذلك رأوا أنفسهم مضطرين أمام القول: كل شيء هو تعالى، أو لا شيء موجود، أو أن الموجود خيال، أو من التظاهر أو من الجلوات.2يستعمل الأستاذ في مناقشة أهل وحدة الوجود ثنائية فلسفية قديمة، من الفلسفة الإسلامية، هي ثنائية الوجود الممكن والواجب، أي الله والعالم، كما يستعمل ثنائية النسبي والمطلق أيضا. يقول مفككا لنمط تصور الوجود عند أهل الوحدة:يعتبر وحدة الوجود التي تضم وحدة الشهود من المشارب الصوفية المهمة وهي تعني: حصر النظر في وجود واجب الوجود، أي إن الموجود الحق هو: واجب الوجود سبحانه فحسب، وأن سائر الموجودات ظلال باهتة وزيف ووهم لا تستحق إطلاق صفة الوجود عليها حيال واجب الوجود لذا فإن أهل هذا المشرب يذهبون إلى اعتبار الموجودات خيالا ووهماً، ويتصورونها عدما في مرتبة ترك ما سواه، أي: ترك ما سوى الله تعالى حتى إنهم يتطرفون ويذهبون إلى حد اعتبار الموجودات مرايا خيالية لتجليات الأسماء الحسنى. 3 ولا يعترض الأستاذ على القول بوجود الله، ولكن على إنكار وجود العالم، من حيث هو ذات أو هوية مستقلة. وهنا مربط الفرس عنده، لأن العالم عند الأستاذ ليس هو الله، ولا هو خيال، ولا تجلّ للّٰه. بل للعالم وجود تام وحقيقي، ولو أنه منفعل وممكن لا واجب. إن القول بوحدة الوجود في نظر الأستاذ محاولة للتملص بالرياضة الروحانية من تدبر المفارقات الدقيقة المشكلة الكائنة في العلاقة بين وجودي الله والعالم. يقول: لذا يجدون ملجأهم في مسألة وحدة الوجود لأجل التخلص من فراقات رهيبة.4 إن مشربية وحدة الوجود، قائمة في نظر الأستاذ على العاطفة والرياضة، لا على العقل ولا على الشرع. وأصحابها لا علماء ولا فلاسفة، بل عشاق مستغرقون: ولأنهم يتصورون بسُكر العشق وبمقتضى شوق البقاء واللقاء والوصال، أن في وحدة الوجود مشرباً حالياً في منتهى الذوق، لذا يجدون ملجأهم في مسألة وحدة الوجود لأجل التخلص من فراقات رهيبة.5 ويسمي أهلها أهل السكر والاستغراق، وأصحاب الشوق والعشق.ويمثل تمثيلا جيدا -على عادته دائما- في ضرب المثال لتقريب المفاهيم وتصويرها في كتاباته، للعلاقة بين الله والعالم، بالعلاقة بين الكاتب وبين المكتوب . يقول:فالذي يظن الرسالة كاتبها أو يتخيل الكاتب في الرسالة نفسها، أو يتوهم الرسالة خيالا لاشك أنه قد ستر عقله بستار العشق ولم يبصر الصورة الحقيقية للحقيقة. 6 إنه مهما يكن جمال المكتوب، ومهما يكن إتقان الكاتب، فبين الهويتين فرق، وبين الطبيعتين فرق، وبين الوجودين فرق. لكن علاقة المحبة والاستغراق في العشق، أي هذه العلاقة العاطفية التي تربط بين الصوفي وربه، تخيل إليه وهو يسلك الطريق، أن لا شيء إلا الحبيب، وأن العالم كله تجل له. فينكر العالم، وينسى نفسه.إن العلاقة بين الله وبين العالم علاقة أثر ومؤثر، وقدم وحدوث. إنها علاقة منّية، تأثيرية، لا علاقة هوية، علاقة فصل مع تأثير، لا علاقة وصل مع مماهاة. يقول:فالموجودات ليست أوهاماً كما يدعي أصحاب وحدة الوجود، بل هذه الأشياء الظاهرة هي من آثار الله سبحانه وتعالى.إذن فليس صحيحاً قولهم همه اوست أي لا موجود إلا هو وإنما الصحيح همه از اوست أي لا موجود إلا منه ذلك لأن الحادثات لا يمكن أن تكون القديم نفسه، أي أزلية.7ويردّ الأستاذ ظهور القول بالوحدة إلى شيئين اثنين: أحدهما عقلي، والآخر قلبي رياضي. يقول: إن منشأ السبب الأول: هو عدم بلوغ العقل قسماً من حقائق الإيمان الواسعة للغاية والسامية جداً، وعدم استطاعته الإحاطة بها، مع عدم انكشاف العقل انكشافا تاماً من حيث الإيمان.أما منشأ السبب الثاني: فهو انكشاف القلب انكشافاً فوق المعتاد، بتأثير العشق وانبساطه انبساطاً خارقاً للعادة.8بيد أن هذا السبب القلبي الذي هو الاستغراق في العشق، ليس عشقا خالصا دائما للّٰه، بل هو مشوب بشيء من حظ النفس البشرية، أي مشوب بعشق الدنيا، وإن كان صاحبه لا يفطن إليه. يقول: إن أهم جهة من أنواع العشق التي تسبب الانسلاك إلى مشرب وحدة الوجود هي عشق الدنيا، إذ حينما يتحول عشق الدنيا الذي هو عشق مجازي إلى عشق حقيقي ينقلب إلى وحدة الوجود. .. فإن كان ذا إيمان رفيع راسخ يكون له هذا المشرب مرتبة ذات قيمة نورانية مقبولة كما هي لدى ابن عربي وأمثاله، وإلا فلربما يسقط في ورطات وينغمس في الماديات ويغرق في الأسباب .أما وحدة الشهود فلا ضرر فيها، وهي مشرب عال لأهل الصحو.9ولقد ألح الأستاذ بديع الزمان على ذاتية التجربة الصوفية عند أهل وحدة الوجود، وعدم إمكان تحويل المعرفة الحدسية القلبية، التي تحصل بالاستغراق في العشق إلى معرفة شرعية، يلزم كل الناس الاعتقاد بها، والإيمان بها، والخوض فيها. وهو ما قد يعطل الشريعة، التي تقتضي أركان الإيمان فيها وجود العالم، ممكن الوجود، وحقيقية العالم، لا وهميته. فالأركان الإيمانية تستدعي وجود الممكنات أي إن هذه الأركان المحكَمة لا يمكن أن تقوم على أساس خيالي. فعلى صاحب هذا المشرب ألاّ يصحب معه هذا المشرب، وألاّ يعمل بمقتضاه عندما يفيق من عالم الاستغراق والنشوة. ثم إن عليه ألاّ يقلب هذا المشرب القلبي والوجداني والذوقي إلى أسس عقلية وقولية وعلمية، ذلك لأن الدساتير العقلية والقوانين العلمية، وأصول علم الكلام النابعة من الكتاب والسنة المطهرين لا يمكنها أن تتحمل هذا المشرب، ولا تتسع لإمكانية تطبيقه. لذا فلا يرى هذا المشرب في أهل الصحوة الإيمانية من الخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين، والعلماء العاملين من أجيال السلف الصالح من هذه الأمة، إذن فليس هذا المشرب في أعلى المراتب واسماها، بل قد يكون ذا علو إلاّ أنه ناقص في علوه، وقد يكون ذا حلاوة مغرية ولكنه لاذع المذاق. ولظاهر حلاوته، ولجمال إيحائه لا يرغب الداخلون فيه في الخروج منه؛ ويتوهمون -باستشرافات نفوسهم-أنه أعلى المراتب وأسماها.10تقييم وحدة الوجود وترتيب درجة المعرفة:قرر الأستاذ بديع الزمان، رحمه الله، في غير موضع من رسائل النور، أن المعرفة الصوفية القائمة على القول بوحدة الوجود، ناقصة، لأنها حال و مشرب ذلك أن الأولوية دائما هي للمعرفة الشرعية القرآنية يقول: أما وحدة الوجود فهي مشرب ونزعة وحال وهي مرتبة ناقصة، ولكن لكونها مشرّبة بلذة وجدانية ونشوة روحية فإن معظم الذين يحملونها أو يدخلون إليها لا يرغبون في مغادرتها فيبقون فيها، ظانين أنها هي المرتبة الأخيرة التي لا تسمو فوقها مرتبة ولا يطالها أفق.11لذلك يفضّل هو المعرفة القرآنية الإيمانية يقول:إن المعرفة الناتجة عن طريق التصوف أيضا ناقصة ومبتورة بالنسبة نفسها أمام المعرفة التي استقاها ورثة الأنبياء من القرآن الكريم مباشرة، ذلك لأن ابن عربي يقول لا موجود إلاّ هو لأجل الحصول على الحضور القلبي الدائم، أمام الله سبحانه وتعالى، حتى وصل به الأمر إلى إنكار وجود الكائنات.أما الآخرون فلأجل الحصول على الحضور القلبي أيضا قالوا: لا مشهود إلاّ هو وألقوا ستار النسيان المطلق على الكائنات واتخذوا طوراً عجيباً.12ولقد عدّ الأستاذ بديع الزمان كتاباته طريقا إلى المعرفة القرآنية، ومدخلا إليها، بعدما لاحظ الخلل عند المتكلمين والصوفية. يقول جوابا عن سؤال عن أشكال المعرفة الكلامية العقلية، والمعرفة الصوفية الباطنية، مصوَّر في صورةِ كلامٍ دار بين فخرالدين الرازي، المتكلم السنّي، ومحيي الدين بن عربي، شيخ الصوفية:إن الذي دعا محي الدين بن عربي إلى أن يقول هذا الكلام لفخر الدين الرازي وهو إمام من أئمة الكلام هو: إن ما بيّنه أئمة أصول الدين وعلماء الكلام فيما يخص العقائد ووجود الله سبحانه وتوحيده غير كاف في نظر ابن عربي.حقاً! إن معرفة الله المستنبطة بدلائل علم الكلام ليست هي المعرفة الكاملة، ولا تورث الاطمئنان القلبي، في حين أن تلك المعرفة متى ما كانت على نهج القرآن الكريم المعجز، تصبح معرفة تامة وتسكب الاطمئنان الكامل في القلب. نسأل الله العلي القدير أن يجعل كل جزء من أجزاء رسائل النور بمثابة مصباح يضئ السبيل القويم النوراني للقرآن الكريم.13إن المعرفة التي يدعو إليها الأستاذ ليست هي المعرفة الصوفية الباطنية، ولا هي المعرفة الكلامية العقلية. بل هي المعرفة الناتجة عن التدبر الدائم في القرآن الكريم. يقول:المعرفة المستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم، فضلاً عن أنها لا تقضي على الكائنات بالعدم ولا تسجنها في سجن النسيان المطلق، بل تنقذها من الإهمال والعبثية وتستخدمها في سبيل الله سبحانه، جاعلة من كل شيء مرآة تعكس المعرفة الإلهية وتفتح في كل شيء نافذة إلى المعرفة الإلهية.14 المعرفة الصوفية من الرؤية إلى الرؤيا: لمن حقُّ التأويل والتعبير والتشريع؟لاشك في أن المعرفة الإنسانية أنماط وأشكال؛ فمنها الديني، ومنها الباطني الصوفي، ومنها الفلسفي، ومنها العلمي. ولكلّ منها حدود ودوائر. وقد تتداخل أحيانا، فيقع الائتلاف بينها، وقد يقع التصادم والتناقض بينها. إن هذا التداخل بين الحدود والدوائر، مثلما قد لاحظنا أنه حاصل بين المعرفة الشرعية، القائمة على الكتاب والسنة، واجتهادات العلماء، وبين المعرفة الصوفية الباطنية، القائمة على الاستغراق في العشق والرياضة، قد حصل كذلك بين المعرفة الباطنية والأسطورية، التي يقدمها ابن عربي وبين المعرفة العلمية. يصوّر هذا التداخل السؤال الذي سئل إياه الأستاذ النورسي عن مشاهدات ابن عربي والجيلي الصوفية الأسطورية، ونصه: إن أولياء مشهورين أمثال الشيخ محي الدين بن عربي -قدس سره- صاحب كتاب الفتوحات المكية والشيخ عبد الكريم الجيلي -قدس سره- صاحب كتاب الإنسان الكامل يبحثون في طبقات الأرض السبع، وفي الأرض البيضاء خلف جبل قاف، وفي أمور عجيبة كالمشمشية -كما في الفتوحات- ويقولون: لقد رأينا! فهل ما يقولونه صدق وصواب؟ فإن كان هكذا فليس في أرضنا مثل ما يقولون! والجغرافية والعلوم الحاضرة تنكر ما يقولونه! وإن لم تكن أقوالهم صواباً فكيف أصبحوا أولياء صالحين، إذ كيف يكون من ينطق بمثل هذه الأقوال المخالفة للواقع المشاهد والمحسوس والمنافية للحقيقة، من أهل الحق والحقيقة!.15إن هذا السؤال العلمي الطابع، لم يشأ الأستاذ النورسي أن يذهب هدراً. بل أجاب عنه، محاولاً أن يجعل التوازن قائما أبداً بين المعرفة الصوفية وبين المعرفة العلمية، وألاّ تطغى إحداهما على الأخرى. لقد كان من السهل على الأستاذ أن يسفّه كتابات الجيلي وابن عربي، وأن يضرب بها عرض الحائط، ويقول بتخريفيتها، ليبني دولة العلم على أنقاض دولة الباطن. لقد اعترف لهم الأستاذ بصحة ما رأوا حالة استغراقهم وسُكرهم، أي ذهولهم عن العالم، ولم ينكره، وأثبت لهم الولاية وصححها لهم، ولم يجعل التناقض الظاهر بين كلامهم وبين الحصائل العلمية سبباً في الطعن فيهم، وفي حقيقية المعرفة الصوفية. لكنه أنكر عليهم حق تأويل رؤيتهم وتجربتهم الروحانية. يقول: إنهم من أهل الحق والحقيقة، وهم أيضا أهل ولاية وشهود، فما شاهدوه فقد رأوه حقاً، ولكن يقع الخطأ في قسم من أحكامهم، في مشاهداتهم في حالة الشهود التي لا ضوابط لها ولا حدود، وفي تعبير رؤيتهم الشبيهة بالرؤى التي لا حق لهم في التعبير عنها.إذ كما لا يحق لصاحب الرؤيا التعبير عن رؤياه بنفسه، فذلك القسم من أهل الشهود والكشف ليس لهم الحق أن يعبروا عن مشاهداتهم في تلك الحالة، حالة الشهود. فالذي يحق له التعبير عن تلك المشاهدات إنما هم ورثة الأنبياء من العلماء المحققين المعروفين بالأصفياء. ولا ريب أن أهل الشهود هؤلاء عندما يرقون إلى مقام الأصفياء سيدركون خطأهم بأنفسهم بإرشاد الكتاب والسنة ويصححونها. وقد صححها فعلاً قسم منهم.16إن التجربة الصوفية عند الأستاذ يصححها القرآن والسنة، وليس للصوفي إلاّ أن يعبّر عن تجربته. لكن ليس له أن يؤوّلها، ولا أن يحوّلها إلى معرفة شرعية أو علمية. إن المعرفة الصوفية عنده إلى الرؤيا أقرب منها إلى الرؤية. لذلك يجب أن توزن دائما بميزان القرآن والسنة، أو ميزان الشرع. يقول:فما يرونه صدق وحقيقة، ولكن لأن عالم المثال شبيه صورةً بالعالم المادي، فهم يرونهما -أي العالمين كليهما- ممزوجين معاً. فيعبّرون عما يشاهدون كما هو. ولكن لأن مشهوداتهم غير موزونة بموازين الكتاب والسنة، ويسجلونها كما هي في كتبهم عندما يعودون إلى عالم الصحو، فإن الناس يتلقونها خلاف الحقيقة.17إن الميزان عنده هو الكتاب والسنة. وهذان إنما يزن بهما الأصفياء أي العلماء المحققون الكبار. إن مرتبة المعرفة الصوفية هي إذن دائما دون المعرفة الشرعية. وإن الأولوية هي دائما للصفيّ على الولي. يقول:يُفهم من هذه المسألة: أن درجة الشهود أوطأ بكثير من درجة الإيمان بالغيب. أي أن الكشفيات التي لا ضوابط لها لقسم من الأولياء المستندين إلى شهودهم فقط، لا تبلغ أحكام الأصفياء والمحققين من ورثة الأنبياء الذين لا يستندون إلى الشهود بل إلى القرآن والوحي، فيصدرون أحكامهم حول الحقائق الإيمانية السديدة. فهي حقائق غيبية إلا أنها صافية لا شائبة فيها. وهي محددة بضوابط، وموزونة بموازين.إذن فميزان جميع الأحوال الروحية والكشفيات والأذواق والمشاهدات إنما هو: دساتير الكتاب والسنة السامية، وقوانين الأصفياء والمحققين الحدسية.18بل إن الولاية الكبرى هي الولاية التي تصدر عن المعرفة الشرعية، لا عن المعرفة الباطنية. إنها ولاية الأصفياء، أي علماء الصحابة والتابعين وآل البيت والمجتهدين من أهل السنة والجماعة، أي السلف الصالح. يقول:إذن فالصراط المستقيم، بل صراط الولاية الكبرى إن هو إلاّ طريق الصحابة والأصفياء والتابعين وأئمة أهل البيت والأئمة المجتهدين وهو الطريق الذي سلكه التلاميذ الأوَل للقرآن الكريم.19وقد قرر أنهم أفضل من أهل وحدة الوجود المتأخرين. ولقد سمّى عقيدة هؤلاء: الجادة الكبرى: وهي البديل عنده لمشرب الوحدة. يقول عن توحيد السلف:نعم! إن الصراط المستقيم لهو طريق الصحابة والتابعين والأصفياء الذين يرون أن حقائق الأشياء ثابتة وهي القاعدة الكلية لديهم، وهم الذين يعلمون أن الأدب اللائق بحق الله سبحانه وتعالى هو قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾الشورى:11 أي أنه منـزّه عن الشبيه والتحيز والتجزؤ. وأن علاقته بالموجودات علاقة الخالق بالمخلوقات.فالموجودات ليست أوهاماً كما يدّعي أصحاب وحدة الوجود، بل هذه الأشياء الظاهرة هي من آثار الله سبحانه وتعالى.إذن فليس صحيحاً قولهم همه اوست اي لا موجود إلا هو وانما الصحيح همه از اوست أي لا موجود الاّ منه ذلك لأن الحادثات لا يمكن أن تكون القديم نفسه، أي أزلية.20 إن توحيد هؤلاء هو ما يسميه بالمرتبة العظمى. يقول:أما مرتبة التوحيد العظمى التي يراها بصراحة القرآن، الأولياء العظام، أعني الأصفياء الذين هم أهل الصحو وأهل وراثة النبوة، فإنها مرتبة رفيعة عالية جداً، إذ تفيد المرتبة العظمى للربوبية والخلاّقية الإلهية، وتبين أن جميع الأسماء الحسنى هي أسماء حقيقية، وهي تحافظ على الأسس من دون إخلال بموازنة أحكام الربوبية.21 لقد كان بحثنا هذا مقتصراً على تحليل كلام الأستاذ بديع الزمان في خصوص مذهب ابن عربي الأندلسي ومن لفّ لفّه من أهل وحدة الوجود، مع تجنب ما قاله الناس في ابن عربي، حتى يكون عملنا منهجيا لا إسقاطيا. وحاولنا قدر الإمكان ألاّ نحمّله ما لا يحتمل، وأن نتفهم طبيعة موقف الأستاذ من مشرب الوحدة. فعسى ألاّ نكون قد أسأنا الفهم والتحليل والاستنتاج، فنكون قد ظلمنا الأستاذ ومشرب وحدة الوجود. والله الموفق.* * *الهوامش:1 اللمعات : 61 مثلا
2 اللمعات :61
3 المكتوبات:579
4 اللمعات :62
5 اللمعات: 61
6 اللمعات: 64
7 المكتوبات:106
8 اللمعات: 62
9 اللمعات :64
10 المكتوبات: 579
11 المكتوبات: 105
12 المكتوبات : 424
13 نفسه
14 نفسه
15 المكتوبات:101
16 المكتوبات: 102
17 المكتوبات : 104
18 المكتوبات : 105
19 المكتوبات: 108
20 المكتوبات :106
21 اللمعات : 62
يتلا ةعابطلانأ نع لاضف . بولقلاو لوقعلا ىلع ةرطيسم تناك ،ةريثك ةيفوص اقرط ءاملعلاو نيفقثملا ىلع تحرط دق ذئتقو تطشن دق تناك رهظ امب ،ةريثك تلااكشإ يفسلفلا ركفلا طاشن لعفب اهعراصتوراكفلأا لبلبت نإ .ةردان تناك يتلا بتكلا نم
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | June 1, 2014 |
Published in Issue | Year 2014 Issue: 9 - Al Nur Issue 09 |