BibTex RIS Cite

اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي

Year 2013, Volume: 8 Issue: 8, - , 01.12.2013

Abstract

اعتبار المآل واستشراف المستقبل ع
اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي
أ.د. عبدالكريم عكيوي1
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته الطيبين وأهل بيته الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، والتابعين لهم ومن تبعهم بإيمان إلى يوم الدين. أما بعد، فإن الغرض من هذا العرض الكشف عن منهج في المعرفة الإسلامية، أصله في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، سار عليه المحققون من علماء الإسلام واعتمده أهل التربية والسلوك، واهتدى به أهل السياسة وتدبير الشأن العام. وقصدنا خاصة أن نبرز معالم هذا المنهج عند أحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، الداعية المربي الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الكردي المتوفى عام 1960م، والذي كان له ولدعوته بالغ الأثر وجميل الفائدة على بلده تركيا ثم سائر بلاد الإسلام التي امتد إليها إشعاع رسائله ودعوة طلبته من بعده. إن من يتأمل حياة هذا الرجل لابد أن يأخذ العجب بقلبه وعقله، عندما يرى ما كان عليه من الإخلاص لدعوته والتجرد الكامل لنشر هداية القرآن الكريم وإنقاذ الإيمان في النفوس وتجديده في القلوب بعد أن كاد يندثر بسبب رياح عاتية هبت على العالم الإسلامي في عصره تبتغي نشر الإلحاد وتزيين التحلل من الدين والفضيلة. وقد ذاق رحمه الله من أجل ذلك أصناف العذاب من السجن والنفي والبعد عن الأهل والأحبة.
وقد كان له رحمه الله منهج واضح في العلم والعمل، استخلصه من خبرته في الحياة وتقلبه بين الأفكار المتداولة في عصره، ومن مجاهدته في مواجهة قضايا الحياة وخطوب الزمان، ومن إدمانه على تدبر القرآن الكريم وطلب الأنس والسلوان منه دون سواه. وهذا المنهج واضح من خلال "رسائل النور" التي أودعها خلاصة تجربته في تدبر القرآن الكريم وتنزيل هديه على أحوال الحياة المتجددة.
ومن معالم مسلكه في الفكر والدعوة، التي تبدو للناظر الباحث في رسائل النور، منهج التدبر في حقائق الحياة والتأمل في دقائق الأمور لمعرفة وجه الحكمة في ذلك كله. إن الكون كله في النظرة النورسية من أصغر أجزائه إلى أكبرها، من الذرات إلى المجرات –بأجسامه ومعانيه، بأشباحه وأرواحه، كل ذلك– بمنزلة ألسنة ناطقة بحسب حالها. فهي ليست مجرد أشكال هندسية، وأجسام متحركة، وأرقام محدودة، إنما حقيقتها أكبر من ذلك وأعمق.
وفي سعيه رحمه الله لمعرفة وجه الحكمة، وعمله على ربط كل مسألة بحكمتها، كان ينظر في القضية حتى إذا استوعبها ونفذ إلى حقيقتها، عبر منها إلى امتداداتها عبر الزمان وتصورها في سيرها في مستقبل الأيام، مقارنا بين أحوال الحاضر والمستقبل، بين الحال والمآل.
وهذا المنهج حاضر عند علماء الإسلام، خاصة عند علماء أصول الفقه في الأصل الذي سموه "اعتبار المآل". وقبل استخلاص معالمه عند النورسي أرى من الواجب أن أقدم له بخلاصة موجزة جامعة لقضاياه عند علماء الأصول.
اعتبار المآل عند علماء أصول الفقه
إن "اعتبار المآل" من أمهات القواعد المعتمدة عند النظر في النصوص الشرعية بقصد العمل بها وتنزيلها على محالها. وقد وضع الأئمة هذا الأصل بعد تدبر نصوص الوحي وتتبع موارد الأحكام، فتبين أن الشريعة وضعت لحكم وغايات في العاجلة وفي الآخرة، فاهتمت بالوسائل الموصلة إلى هذه الحكم بل جعلت لهذه الغايات أثرا في حكم الوسائل المفضية إليها. فالشارع الحكيم يعطي للعمل والوسيلة حكم الوجوب القطعي إذا كانت تؤول إلى مصلحة عظيمة، وينزل عن ذلك كلما نزلت المصلحة عن هذه المرتبة، ويعطيها حكم المنع قطعا إذا كانت تؤول إلى مفسدة عظيمة. ولهذا كانت مآلات الأفعال وما يترتب عنها في العاجل والآجل محل نظر وموضع عناية عند المجتهدين، لأنها مما يتوقف عليه حكم الأفعال التي يأتيها المكلفون، ولهذا قرر علماء الأصول ضرورة اعتبار ما سيؤول إليه الحكم المأخوذ من النص الشرعي، فقالوا: إن مآلات الأفعال معتبرة شرعا. وفي معنى ذلك قال الشاطبي: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا… وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل".2 "فالمجتهد حين يجتهد ويفتي عليه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه، وألا يعتبر أن مهمته تنحصر في إعطاء الحكم الشرعي. بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله أو مآلاته، وأن يصدر الحكم وهو ناظر إلى أثر أو آثاره".3
إن المجتهد أو المفتي عندما ينظر في النازلة ويلتمس لها الأدلة من الشريعة، لا يقتصر على بيان الدليل أو النص الوارد في المسألة، وإنما عليه أن يقدر ما سيؤول إليه العمل بمقتضى ذلك الدليل أو ذلك النص، من خلال نظره في ظروف الزمان والمكان وقرائن الحال وكل ما يحيط بالنازلة وبصاحب النازلة. ولهذا فإن اعتبار المآل يأتي عند العمل بالنصوص وتنزيلها على محالها، فهو من مناهج تنزيل نصوص الوحي على الوقائع والحوادث. وهذا يميزه عن مجال آخر قبل هذا وهو مجال النظر في نصوص الوحي لفهم مراد الشارع منها وبيان الدلالات الصحيحة لها من غير وجود نازلة ومن غير بيان محل العمل بهذه النصوص.
وهذا ما سماه الشاطبي الاقتضاء التبعي لما قال: "اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين: أحدهما الاقتضاء الأصلي قبل طرء العوارض وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسن النكاح… والثاني: الاقتضاء التبعي وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت… وبالجملة، كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي"4 فقد جعل الشاطبي هنا من أسباب تغير الحكم الأصلي اعتبار مآل الإبقاء على الحكم الأصلي، وذكر من أمثلة ذلك قبل طرء العوارض، سن النكاح، وهو ما يستفاد من نصوص الوحي، لكن لما طرأت العوارض ودخل هذا الفعل مجال العمل وتمحضت مآلاته في بعض الأحوال وعند بعض الأشخاص، تغير الحكم الأصلي، فصار النكاح واجبا على من خشي العنت، ومباحا لمن لا أرب له في النساء. وهذا مؤيد لما سبق أن اعتبار المآل يكون عند تنزيل نصوص الوحي على محالها.
ويعد المباح أوسع مجال لاعتبار المآل بالنسبة للمكلف، فالواجب والمندوب مأمور بهما لمآلها إلى المصلحة، والحرام والمكروه وقع النهي عنهما لمآلهما إلى المفسدة. فالفعل في هذه الأحكام الأربعة ظاهر" المصلحة أو ظاهر المفسدة، وبقي أعمال ليست في ذاتها ظاهرة المصلحة ولا ظاهرة المفسدة، وإنما تحتمل الأمرين ويتجاذبها الجانبان، وقد تؤول إلى مصلحة وقد تؤول إلى المفسدة، وهذا العمل الذي يصدق عليه هذا الوصف هو المباح، وقد ترك الشارع أمر تقدير مآله إلى المكلف لأنه ليس منضبطا. وهذا سبب اختلاف الأئمة في المباح إلى فريقين، الأول يقول بأن المباح مطلوب الترك والثاني يقول إنه مطلوب الفعل. وهذا بناء على اعتبار مآل المباح، فمن نظر إلى ما يمكن أن يؤول إليه المباح من المفسدة قال بتركه، ومن رأى ما يحتمل أن يؤول إليه من المصلحة قال بإتيانه، وكلاهما صحيح لأن المباح يتجاذبه الأمران، لكن الخطأ في قصر المباح على جانب دون الآخر، ولهذا رد الشاطبي المذهبين معا، لأن المباح لا يبقى على أصل واحد، وإنما تختلف مآلاته بحسب الملابسات والمؤثرات، فقد تدخل عليه مؤثرات تصيره مذموما، وقد تدخله مؤثرات تدخله في جانب طلب الفعل. ولهذا قال الشاطبي: "إن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة"5 فقد يكون واجبا إذا كان خادما لأصل ضروري لأنه يؤول إلى المصلحة، فالتمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب والملبس واجب في حدود ما يحفظ الحياة، فإذا تجاوز ذلك إلى حد المبالغة والإسراف كان مكروها أو حراما. وعلى هذا قسم الشاطبي المباح إلى أربعة أقسام هي: "–(1) مباح بالجزء مندوب بالكل كالتمتع بالطيبات فيما زاد عن الضرورة فهو بحسب الجزئية مباح وبحسب الكل مندوب – (2) مباح بالجزء واجب بالكل كالأكل والشرب والبيع والشراء وسائر الحرف والمهن والصنائع، فهي من ناحية الجزء مباحة، واجبة بحسب الكل لأن تركها جملة يؤول إلى المفسدة – (3) مباح بالجزء مكروه بالكل مثل التنزه وسماع الغناء المباح وسائر أنواع اللّهو واللعب المباح، فإذا فعل يوما أو في حالة ما فلا حرج وان فعل دائما كان مكروها لأنه يؤول إلى الغفلة عن الواجبات وترك الجد – (4) مباح بالجزء محرم بالكل مثل الإدمان المفرط على اللّهو واللعب حتى يصير حرفة لأنه يؤول إلى أن يكون عمره كله لعبا ولهوا.6 وظاهر أن هذه الأقسام كلها إنما هي باعتبار ما يؤول إليه الفعل المباح في أصله قبل طرء العوارض والملابسات، لأن المباح هنا يكون وسيلة، والوسيلة لها حكم الغاية التي تؤول اليها، ولهذا قالوا إن ما يفضي إلى الحرام حرام، وما يفضي إلى المكروه مكروه وما يتوقف عليه الواجب أو المندوب فهو واجب أو مندوب".7 فالبيع مثلا في أصله مباح، لكنه إذا تعلق بأمر اضطر إليه المسلمون صار واجبا في حق البائع، والنكاح أيضا إذا كان المرء لا ينفك عن الزنا إلا به وكان قادرا عليه فهو واجب عليه، وان كان لا يخاف العنت وكان سيضر بالمرأة لعاهة أو عدم نفقة كان حراما، ولهذا قالوا إن النكاح تتجاذبه الأحكام الأربعة.
ومن أمثلة اعتبار المآل في المباح عند الفقهاء قول فريق منهم بكراهة الزواج من الكتابية مع أن الآية صريحة في إباحته حيث قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾.المائدة:5 وسبب ذلك أن هذا المباح قد يؤول في بعض الحالات وبعض البلدان وبعض العصور إلى مفسدة مثل فتنة الأزواج في دينهم، والإعراض عن زواج المسلمات. ويصدق هذا على عصرنا أكثر من غيره، فقد أصبح الزواج من الكتابيات يؤول في الغالب إلى مفاسد ومحرمات، منها صرف الزوج المسلم عن دينه، وعلى نشأة الأبناء بلا دين، وهذا ثابت بالمشاهدة والمعاينة.
اعتبار المآل عند النورسي
إذا كان اعتبار المآل قد اصطبغ بصبغة أصول الفقه فظهر كأنه منهج مقصور على النظر في خطاب الشارع بقصد تنزيله على محله، فإن النورسي منحه صفة العموم والشمول فجعله منهجا في الحياة كلها، وظهر عنده خاصة في جانب التربية وترسيخ الإيمان والسلوك، بالإضافة إلى فروع الشريعة من العبادات والمعاملات.
اعتبار المآل في فقه الخطاب الشرعي وتنزيله على محله
في فقه الخطاب الشرعي وتنزيله على محله فإن النورسي ممن يرى أن الأفعال التي تنزل في درجتها عن الوجوب إلى الندب، وخاصة إلى الإباحة، لابد فيها من اعتبار الآثار التي سيؤول إليه العمل بها ولا يقتصر على ما يترتب في الحال. وهذا يختلف باختلاف مراتب المكلفين وأحوالهم وما يحتف بهم من الظروف. وهذه القاعدة لم يفصح عنها النورسي صراحة في شكلها النظري، وإنما تستنبط من تصرفاته وما اختاره في مسلكه في العلم والدعوة، والسلوك والتربية. وأظهر مثال على ذلك ما اختاره من حياة العفة والكف عن الزواج مع تنصيصه على سنيته، ثم منع تعميم هذا الحكم على غيره. ووجه ذلك أنه رحمه الله وضع لنفسه هدفا عظيما ومقصدا ساميا جمعه في إنقاذ الإيمان وإظهار حقائق القرآن. ثم رأى أن بلوغ هذه الغاية عسير لأن دونها حواجز كثيرة ومعوقات كثيفة. فكيف يخلص إلى غاية عظيمة هي قوام أمة كاملة، وخصومها قد جمعوا العدد والعدة وأحكموا القبضة على البلاد والعباد، وجردوا حملات ووقفوا أموالا لتزيين الباطل ونشر الإلحاد، ونصبوا المشانق لمن خالف سبيلهم؟ وكيف السبيل إلى ذلك والأمة في ركود فكري وسياسي؟ فهذه هي الظروف التي حفت بالنورسي وهو يضع غايات في حياته. فبعد طول نظر وتأمل وتفكير رأى أن هذه الغاية لا تنال إلا بالتضحية والصبر والمصابرة وركوب المعاناة. وفي إعداد نفسه لهذه المعاناة رصد كل ما يمكن أن يكون سببا لانكسار المرء أمام معاناة الحياة أو سببا لغياب الإخلاص عنه، فظهر له أن التعلق بالدنيا ومحبتها والتنعم بأذواقها مما يسجن النفس ويضعفها عن المقاومة والمغالبة وينال من صفاء الإخلاص، ولهذا حمل نفسه على التجرد من نعيم الدنيا فاختار طريق العفة في أقوى درجاتها فلم يقبل حتى الهدية. ثم رأى أيضا أن محبة الأهل والأولاد والحدب الأبوي عليهم مما يحمل على ذلك فوضع لنفسه حكم الكف عن الزواج. ومما يدل على هذا أن هذه المسألة كانت حاضرة عنده دائما، فكان كلما وجد نفسه مسجونا أو منفيا يحمد الله على صحة مسلكه، لأنه ليس له من الدنيا ما يتعلق به ليداري ويداهن من أجل بقائه.
وفي وجه امتناعه عن الزواج قال: "في الوقت الذي يلزم لصد هجوم زندقة رهيبة تُغير منذ أربعين سنة، فدائيون يضحّون بكل ما لديهم، قررت أن أضحي لحقيقة القرآن الكريم... فلأجل أن أتمكن من القيام بخدمة القرآن على وجهها الصحيح بإخلاص حقيقي، ما كان لي بد من ترك زواج الدنيا الوقتي –مع علمي بأنه سنة نبوية– بل لو وُهب لي عشر من الحور العين في هذه الدنيا، لوجدت نفسي مضطرة إلى التخلي عنهن جميعاً، لأجل تلك الحقيقة، حقيقة القرآن. لأن هذه المنظمات الملحدة الرهيبة تشن هجمات عنيفة، وتدبر مكايد خبيثة، فلابد لصدها من منتهى التضحية وغاية الفداء، وجعل جميع الأعمال في سبيل نشر الدين خالصة لوجه الله وحده، من دون أن تكون وسيلة لشيء مهما كان... لذا تركت عادة الزواج الذي أعلم أنها سنة نبوية لئلا ألج في محرمات كثيرة، ولكي أتمكن من القيام بكثير من الواجبات وأداء الفرائض، إذ لا يمكن أن تقترف محرمات كثيرة لأجل أداء سنة واحدة".8 ويعلم النورسي أن هذا المسلك قد يلقى من يعارضه بدعوى مخالفته للشريعة، ولهذا أورد من الأدلة ما يجعل هذا المسلك من روح الشريعة. من ذلك أن تاريخ المسلمين يشهد على عمل كثير من علماء الإسلام بمنهج اعتبار المآل في الأعمال خاصة في قسم المباح، فكفوا عن المباحات من الدنيا وكفوا عن الزواج.9 وإن من كان في مثل مقامه خاصة فيريد أن يكون دليلا على الله في مثل زمانه، لا يعتبر خارجا عن الشريعة إذا كان قصد مثل قصده. قال رحمه الله: "فلابد أن الذي يعمل لأجل سعادة باقية، لكثير جداً من المنكوبين، ويحول بينهم وبين السقوط في هاوية الضلالة، ويسعى لتقوية إيمانهم، خدمةً للقرآن والإيمان خدمة حقيقية، ويثبت تجاه هجمات الإلحاد المغير من الخارج والظاهر في الداخل، أقول لابد أن الذي يقوم بهذا العمل العام الكلي –وليس عملا خاصاً لنفسه– تاركاً دنياه الآفلة، لا يخالف السنة النبوية بل يعمل طبقا لحقيقة السنة النبوية".10 وليس هذا عنده مسلكا عاما إنما هو استثناء من الحكم الأصلي بحسب مقام الشخص وأحواله. ولهذا ينبه طلبته خاصة لهذه القاعدة في قوله: "لا نقول لطلاب النور: تخلوا عن الزواج، دعوه للآخرين ولا ينبغي أن يقال لهم هذا الكلام. ولكن الطلاب أنفسهم على مراتب وطبقات. فمنهم من يلزم عليه ألا يربط نفسه بحاجات الدنيا، قدر المستطاع، في هذا الوقت، وفي فترة من عمره، بلوغاً إلى التضحية العظمى والثبات الأعظم والإخلاص الأتم. وإذا ما وجد الزوجة التي تعينه على خدمة القرآن والإيمان، فبها ونعمت، إذ لا يضر هذا الزواج بخدمته وعمله للقرآن. وللّٰه الحمد والمنة ففي صفوف طلاب النور كثيرون من أمثال هؤلاء، وزوجاتهم لا يقصرن عنهم في خدمة القرآن والإيمان، بل قد يفقن أزواجهن ويسبقنهم لما فطرن عليه من الشفقة التي لا تطلب عوضاً، فيؤدين العمل بهذه البطولة الموهوبة لهن بإخلاص تام".11 فهذا مثال لحضور منهج اعتبار المآل عند النورسي في مجال الأحكام التكليفية في حكم المباح خاصة.
اعتبار المآل في التربية والسلوك
يبقى مجال التربية والسلوك أبرز مجال أعمل فيه النورسي هذا الأصل. وقد اهتدى النورسي إلى ذلك من خلال تدبره لآي القرآن الكريم وطول تفكره في أحوال الكون والإنسان. فمن القضايا التي أخذت بعقله وسيطرت على تفكيره مسألة الزمان. فالزمان قيد تخضع له كل المخلوقات، فالإنسان والكون بجميع أجزائه الكبيرة والصغيرة، كل ذلك يجري عليه الزمان ضرورة، فهو تحت سلطانه اضطرارا. ومن آثار ذلك نفاذ الزوال إليها وجريان الفناء عليها. ومعنى هذا أن الحياة حلقات متوالية يؤدي بعضها إلى بعض ويتوقف بعضها على بعض. وإن حياة الإنسان تدل على هذا بوضوح. إن أحوال هذه الدنيا لا قرار فيها ولا ثبات، كلها تقلبات تلحّ على فكر الإنسان بهذا السؤال: "إن جميع ما نملك لا يستقر ولا يبقى في أيدينا، بل يفنى ويغيب عنّا، أليس هناك من علاج لهذا؟ ألا يمكن أن يحل البقاء بهذا الفناء؟!"12
فالعمر ليس على صفة واحدة وإنما محطات متسلسلة تؤدي كل منها إلى التي تليها ضرورة. فالطفولة تؤدي إلى الشباب، والشباب إلى الرشد، والرشد إلى الكبر والكبر إلى الهرم، ولا يعقب الحياة إلا الموت. فلماذا لا يتخلف الترتيب ولو مرة واحدة، أو عند شخص واحد على الأقل؟ إنه قانون مطرد قطعا لأنه من آثار اسم الله المحيي واسم المميت واسم القهار وغيرها من أسماء الله الحسنى التي من آثارها حركة التجدد في الكون في كل لحظة.
والفائدة التي أقامها النورسي على هذه الحقيقة في مجال التربية والسلوك هي أن كل لحظة من لحظات حياة الإنسان تتوقف في صفتها على استحضار المكلف للحظة التي تؤول إليها. فليس سواء في الحال والسلوك من يحيى مستحضرا مستقبل أيامه ومن يحيى غافلا عنه.
ولهذا فإن مآلات الأحوال ومستقبلات الأيام والحياة ملك على النورسي أقطار نفسه وتفكيره، فكان مستحضرا لها مستشرفا لتفاصيلها، فكثيرا ما تجده يتحدث عن المآلات كأنه يراها في شاشة معنوية منصوبة أمامه، وأحيانا ينتقل بنفسه وبالقارئ معه في سفر خيالي إلى بعض محطات المستقبل فيستشرف كل التحولات ويصور جميع الصفات التي تؤول إليها الأحوال. فالقوة مآلها الضعف، والغنى مآله الفقر، والشباب مآله الهرم والشيخوخة، وجمال الصورة مآله قبح الهرم، وفتوة الجسم مآلها العجز، والحياة مآلها الموت، والوجود مآله الزوال، والحياة الدنيا مآلها الفناء، والدار الدنيا كلها مآلها ومنتهاها إلى الآخرة، فالدار الآخرة إذن غاية كل شيء ومستقبل كل مخلوق، وكل مستقبل من هذه المستقبلات إنما هو اقتراب منها وإيذان بدنوها.
والغرض المقصود من هذا أن يحصل الجمع في التفكير بين الحال والمآل، فالوقوف عند الحال وحده قصور. فعلى هذا النحو تحدث النورسي في رسائله عن الإنسان والحياة، فلا يذكر الشيء إلا مقرونا بمآله ولا اللحظة من الحياة الخاصة للفرد المكلف أو للحياة العامة في الكون إلا مستحضرا مآلها، لما في ذلك من التربية للمكلف. من ذلك مثلا أنه لما كان في السجن دخل في لحظة تفكير عميق يتأمل فيها شاشة معنوية أوحت له بها مشاهد الشباب فلنستمع إليه يحكي هذه الحادثة ذات العبرة له ولغيره، يقول: "كنت في أحد أيام عيد الجمهورية جالسا أمام شباك سجن "أسكي شهر" الذي يطل على مدرسة إعدادية للبنات.. وكانت طالباتها اليافعات يلعبن ويرقصن في ساحة المدرسة وفنائها ببهجة وسرور، فتراءت لي فجأة على شاشة معنوية ما يؤول إليه حالهن بعد خمسين سنة، فرأيت أن نحواً من خمسين من مجموع ما يقارب الستين طالبة يتحولن إلى تراب ويعذبن في القبر، وأن عشرة منهن قد تحولن إلى عجائز ذميمات بلغن السبعين والثمانين من العمر، شاهت وجوههن وتشوه حسنهن، يقاسين الآلام من نظرات التقزز والاستهجان من الذين كنّ يتوقعن منهم الإعجاب والحب، حيث لم يصنّ عفتهن أيام شبابهن!.. نعم رأيت هذا بيقين قاطع، فبكيت على حالهن المؤلمة بكاء ساخناً أثار انتباه البعض من زملاء السجن، فأسرعوا إلىّ مستفسرين. فقلت لهم: "دعوني الآن وحالي... انصرفوا عني". أجل، إن ما رأيته حقيقة وليس بخيال، إذ كما سيؤول هذا الصيف والخريف إلى الشتاء، فإن ما خلف صيف الشباب ووراء خريف الشيب، شتاء القبر والبرزخ. فلو أمكن إظهار حوادث ما بعد خمسين سنة من المستقبل مثلما يمكن ذلك لحوادث الخمسين سنة الفائتة –بجهاز كجهاز السينما– وعرضت حوادث أهل الضلالة وأحوالهم في المستقبل، إذن لتقززوا ولتألموا ولبكوا بكاء مراً على ما يفرحون منه الآن ويتلذذون به من المحرّمات في الوقت الحاضر".13 ونظر مرة من نافذة السجن إلى ضحكات البشرية المبكية، ثم نظر إليها من خلال عدسة التفكر في المستقبل والقلق عليه، فانكشف أمامه نظر خيالي عبر عنه بقوله: "مثلما تشاهد في السينما أوضاع الحياة لمن هم الآن راقدون في القبر، فكأنني شاهدت أمامي الجنائز المتحركة لمن سيكونون في المستقبل القريب من أصحاب القبور.. بكيت على أولئك الضاحكين الآن، فانتابني شعور بالوحشة والألم. راجعت عقلي، وسألت عن الحقيقة قائلاً: ما هذا الخيال؟ قالت الحقيقة: إن خمسة من كل خمسين من هؤلاء البائسين الضاحكين الآن والذين يمرحون في نشوة وبهجة سيكونون كهولاً بعد خمسين عاماً، وقد انحنت منهم الظهور وناهز العمر السبعين. والخمسة والأربعين الباقية يُرمّون في القبور. فتلك الوجوه الملاح، وتلك الضحكات البهيجة، تنقلب إلى أضدادها. وحسب قاعدة "كل آت قريب" فإن مشاهدة ما سيأتي كأنه آتٍ الآن تنطوي على حقيقة، فما شاهدته إذاً ليس خيالا".14
* * *
وتحت هذا الأصل حمل المصائب التي تنزل بالإنسان على أنها من رحمة الله لأنها تحمل المبتلى على التفكر في المآل واستحضار المستقبل، وإن العافية قد تكون بلاء وفتنة لما تسببه من توهم الأمن والسلامة فتحصل الغفلة عن المآل وينسى المستقبل. فعن المرض والصحة قال مخاطبا المريض: "فحاول التجمل بالصبر والثبات أمام هذا المرض، حتى تتحقق لك الإفاقة والصحوة؛ إذ بعد أن ينهي المرض مهامه سيشفيك الخالق الرحيم إن شاء"... "إن قسماً من أمثالك يزعزعون حياتهم الأبدية بل يهدمونها مقابل متاع ظاهري لساعة من حياة دنيوية، وذلك لمضيّهم سادرين في الغفلة الناشئة من بلاء الصحة، هاجرين الصلاة ناسين الموت وغافلين عن الله U. أما أنت فترى بعين المرض القبرَ الذي هو منزلك الذي لا مناص من الذهاب إليه، وترى كذلك ما وراءه من المنازل الأخروية الأخرى، ومن ثم تتحرك وتتصرف على وفق ذلك. فمرضك إذاً إنما هو بمثابة صحةٍ لك، والصحة التي يتمتع بها قسم من أمثالك إنما هي بمثابة مرضٍ لهم"15 فعلى هذا المشرب فالصحة مرض والمرض صحة.
وبهذا المشرب الخاص أيضا فإن الموت –وهو أكبر المصائب– يغدو ذا وجه منور جميل، وما ذلك إلا باستحضار مآله وما يعقبه. إن الموت –باعتبار المآل– ليس فناء نهائيا ولا فراقا سرمديا، وإنما هو تسريح من مهمة، وإعلان عن إنهاء وظيفة التكليف في الدنيا، واستبدال دار بدار وحياة بحياة، وتسريح من سجن الدنيا، واستراحة من أعباء الحياة وتخلص من بلائها، ووصال مع الأحبة ممن رحل إلى عالم البرزخ، من الأجداد والآباء، والصالحين من عباد الله، ويكفي من هذا الوصال الوصال مع سيد البشر ورأس الأحبة عند المسلم محمد رسول رب العالمين r، وأعظم من هذا كله أنه دخول في رعاية الله تعالى الودود. فالموت في ظاهره زوال وفناء، لكن باعتبار مآله طريق البقاء وسبيل الوصال مع أعظم الأحبة، وعبور نحو الجمال الباقي في كنف رحمة الخالق العظيم ورؤية وجه الجليل الجميل حيث قمة السعادة وغاية اللذة،16 وهذا كله مجموع بإيجاز وإعجاز في قول الرسول r: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه".17
* * *
ومن آثار هذا المسلك أيضا عند النورسي أن نعيم الدنيا ولذاتها ليس مقصودا لذاته، لأنه ليس جمالا حقيقيا وإنما هو لذة متوهمة، ودليل ذلك أنه ليس نعيما خالصا وإنما مشوب بمشقة العيش وخطوب الحياة، ولأنه زائل فان وحقيقة الجمال تقتضي البقاء وليس الزوال. ومعنى هذا أن نعيم الدنيا ليس مقصودا في الحال لأنه غير خالص، ثم لأنه قد يورث عذابا غامرا وشقاء سرمديا مثل نزوة يقضي بها لذة عابرة تورث أمراضا جسدية ونفسية وعقلية، وتؤول إلى عذاب في الآخرة. وليس من الجمال واللذة شهوة يسيرة عابرة تؤول إلى شقاء عظيم دائم. فلم يبق لنعيم الدنيا من مقصد في الحال إنما المقصد منه المآل. فالإنسان في الدنيا يرشح نفسه ويعدها لكمال الجمال وتمام السعادة عند رؤية الله تعالى الجليل الجميل في بحبوحة الجنة، ومن رحمة الله به أن جعل له لذة الدنيا بمنزلة قبس يسير وظل حقير من اللذة من أجل التذكير وفتح الشهية إلى هذا المقام.18 وهذا هو الوجه المحبوب شرعا من الدنيا لأنه يجعل لذات الدنيا طريقا سالكا إلى مرضاة الله تعالى ويجعل الدنيا معرضا لتجليات أسماء الله الحسنى وإظهار آثارها الجميلة. قال النورسي: "أما محبتك للدنيا محبةً مشروعة، أي محبتك لها مع التأمل والتفكر في وجهيَها الجميلين اللذين هما: مزرعة الآخرة ومرآة التجليات للأسماء الحسنى فإن نتيجتها الأخروية هي أنه: سيَهَب لك جنة تسع الدنيا كلها، ولكنها لا تزول مثلها، بل هي خالدة دائمة. وستظهر لك في مرايا تلك الجنة تجليات الأسماء الحسنى بأزهى شعشعتها وبهائها، تلك التي رأيت بعض ظلالها الضعيفة في الدنيا. ثم إن محبة الدنيا في وجهها الذي هو مزرعة للآخرة، أي باعتبار الدنيا مشتلاً صغيراً جداً لاستنبات البذور لتتسنبل في الآخرة وتثمر هناك، فإنّ نتيجتها هي: أثمار جنة واسعة تسع الدنيا كلها... ولما كانت محبتك للدنيا ليست لذلك الوجه المذموم الذي هو رأس كل خطيئة، وإنّما هي محبة متوجهة إلى وجهَيها الآخرين أي إلى الأسماء الحسنى والآخرة، وقد عقدت –لأجلهما– أواصر المحبة معها وعمّرت ذينك الوجهين على نية العبادة، حتى كأنك قمت بالعبادة بدنياك كلها... فلابد أن الثواب الحاصل من هذه المحبة يكون ثواباً أوسع من الدنيا كلها، وهذا هو مقتضى الرحمة الإلهية وحكمتها".19
ولعل قائلا يقول أليس التفكر في هذا المآل له مفاسد لأن فيه شؤما من الحياة والمطلوب التفاؤل وتحريك قوى الإبداع والعمل في الدنيا؟ إن النورسي يسعف في الجواب فيبين أن هذا المشرب وحده هو الذي يورث التفاؤل واللذة ويمنح القوة المعنوية الكافية للحياة. ويكفي من ذلك أن النورسي نفسه بعد أن سلك هذا المسلك كانت حياته كلها حياة جد وعمل وصبر ومصابرة على تحمل للمعاناة، مع لذة نفسية وروحية غامرة. فلنستمع إليه وهو يصف الفائدة التي حصلت له من اعتبار هذا المآل. فبعد أن وجد نفسه وحيدا منفيا في بارلا، ممنوعا من التواصل مع الناس، يعاني آلام المرض والشيخوخة والغربة، يذهب ويجيء في وديان بارلا حزينا وحيدا، إذا بنور من أنوار القرآن الكريم يعلو قلبه لما قرأ قول الله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.القصص:88 ففكر في مآله ومآل الدنيا كلها فوجد اللذة والسلوان قال رحمه الله:
"أجل!.. رأيت نفسي بسرّ هذه الآية الكريمة، وعبر تلك الوديان الخالية، ومع تلك الحالة المؤلمة، رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبرى... الأولى: رأيت نفسي كشاهد قبر يضم خمساً وخمسين سعيداً ماتوا ودفنوا في حياتي، وضمن عمري الذي يناهز الخامسة والخمسين سنة. الثانية: رأيت نفسي كالكائن الحي الصغير جداً –كالنملة– يدب على وجهه في هذا العصر الذي هو بمثابة شاهد قبر للجنازة العظمى لمن هم بنو جنسي ونوعي، والذين دفنوا في قبر الماضي منذ زمن آدم u. أما الثالثة: فقد تجسّمت أمام خيالي –بسرّ هذه الآية الكريمة– موت هذه الدنيا الضخمة، مثلما تموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة كما يموت الإنسان.. وهكذا فقد أغاثني المعنى الإشاري للآية الكريمة: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾،"التوبة:129 "وأمدني بنور لا يخبو، فبدد ما كنت أعانيه من الحزن... واهباً لي التسريَ والتسلي الحقيقي. نعم لقد علمتني هذه الآية الكريمة أنه مادام الله سبحانه وتعالى موجوداً فهو البديل عن كل شيء، وما دام باقياً فهو كافٍ عبده، حيث إن تجلياً واحداً من تجليات عنايته سبحانه يعدل العالم كله، وإن تجلياً من تجليات نوره العميم يمنح تلك الجنائز الثلاث حياة معنوية أيما حياة، بحيث تظهر أنها ليست جنائز، بل ممن أنهوا مهامهم ووظائفهم على هذه الأرض فارتحلوا إلى عالم آخر".20 فقد منحه هذا المآل قوة معنوية عظيمة يعلو بها على الدنيا ويقوى بها على كل ما يلتبس بها من المشاق والمعاناة. ويزيد في الإفصاح عن هذه الفائدة فيقول: "ليرحل مَن يرحل يا إلهي فأنت الباقي وأنت الكافي، وما دمتَ باقياً فَلَتجلٍّ من تجليات رحمتك كافٍ لكل شيء يزول، ومادمتَ موجوداً فكلّ شيء إذاً موجود لمن يدرك معنى انتسابه إليك بالإيمان بوجودك ويتحرك على وفق ذلك الانتساب بسر الإسلام، فليس الفناء والزوال ولا الموت والعدم إلاّ ستائر للتجديد، وإلاّ وسيلة للتجول في منازل مختلفة والسير فيها... فانقلبتْ بهذا التفكير تلك الحالة الروحية المحرقة الحزينة، وتلك الحالة المظلمة المرعبة إلى حالة مسرّة بهيجة ولذيذة، وإلى حالة منورة محبوبة مؤنسة، فأصبح لساني وقلبي بل كل ذرّة من ذرات جسمي، يردد بلسان الحال قائلاً: الحمد للّٰه. ولقد تجلى جزء من ألف جزء من ذلك التجلّي للرحمة بهذه الصورة".21
استشراف المستقبل
ومن منهج النورسي أيضا استشراف المستقبل عن طريق التدبر في أحوال الحاضر وتحكيم سنن الاجتماع وقوانين المعاش، ومحاولة الاهتداء إلى ما تؤول إليه الأحوال. ففي غمرة التحولات التي حصلت في الدولة العثمانية نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين من إعلان الدستور ورفع شعار الحرية، كان للنورسي نظر دقيق إذ انتهي إلى أن هذا التحول إنما هو سير نحو العلمانية لأن الحرية في ظل تلك الظروف لا تعني سوى شيئا واحدا هو التحلل من الدين. ولهذا أعلن عن نتيجة نظره فقال مستشرفا مستقبل العالم الإسلامي ومستقبل أوروبا بالنسبة لعصره:
"كان سعيد القديم يخبر طلابه –في مؤلفاته القديمة... ويقول لهم مكرراً: ستحدث زلزلة اجتماعية بشرية عظيمة، زلزلة مادية ومعنويةً... حتى إنه في السنة الأولى من عهد الحرية سأل الشيخ بخيت –مفتى الديار المصرية– سعيداً القديم: ما تقول في حق هذه الحرية العثمانية والمدنية الأوربائية؟ فأجابه سعيد: إن الدولة العثمانية حاملة بدولة أوروبائية وستلد يوماً ما، وإن أوروبا حاملة بالإسلام وستلد يوماً ما".22 وبالنسبة لحركة الإصلاح في العالم الإسلامي فإنه من خلال نظرة فاحصة يحكمها الإنصاف والتجرد عن العواطف، رأى أن الركود الفكري والعلمي والسياسي والاقتصادي في العالم الإسلامي في عصره أكبر من أن يتم إصلاحه في ظرف وجيز، فخلص إلى أن التغيير المنشود لن تكتحل عينه برؤيته وشهوده، فخبر حال عصره، ووضع نفسه موضعها، وجعل غايته أن يبذر بذور الربيع، أما نموها واستواؤها فذلك ليس له وليس مما ينال في زمنه أو قريب منه، لكنه آت، لأن زمانه زمان الغرس وسيأتي الحصاد في زمانه، لكن لا حصاد من غير غرس، لأنه كما قيل:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ندمت على التفريط في زمن البذر
وكما قيل أيضا:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وقد عبّر النورسي عن هذه الحقيقة وهو يحاور نفسه وهي تعاني الألم والحسرة من هذه الحقيقة المرة فقال: "ماذا أفعل؟ إن قدري دفعني إلى هذه الدنيا في زمان غير زماني... إنه شتاء الإسلام الكابي الحزين، لا حيلة لي إلا أن أبذر بذور الربيع القادم الذي لا يريد أن يبصره هذا العصر. وحين تنبت هذه الزهور وتتسنبل ويأتي ربيعها أكون قد فارقت الدنيا، لكني سوف أتنسم نسمات ربيع الإسلام وأنا راقد في قبري. فاستشراف مستقبل الإسلام هو عزائي وسلوتي في غربتي. "فكأنه هنا يستعمل معنى إشاريا لحديث النبوي: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لايَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ".23
ومن حكمة النورسي وعمله بمنهج المقاصد والغايات، استشرافه لمستقبل دعوته ومآل فكره ورسائله التي تفانى في نشرها هو وطلبته. فقد خبر رحمه الله طلبته فرأى شدة محبتهم له وقوة تعلقهم برسائل النور بسبب ما وجدوا فيها من السلوان الفكري والروحي، وآنس منهم حسن الخلق وعلو الهمة والتفاني في أنوار الهداية القرآنية التي أشربتها قلوبهم من خلال رسائل النور، ورغبتهم الشديدة في نشرها وتبليغا، ومن خلال كل ذلك تصور مآل دعوته ورسائله بعد موته وهو ما عبر عنه بقوله: "أما من حيث العمل للقرآن فلقد وهب لي الله سبحانه وتعالى إخوانا ميامين في العمل للقرآن والإيمان، وستؤدى تلك الخدمة الإيمانية عند مماتي في مراكز كثيرة بدلا من مركز واحد. ولو أسكت الموت لساني فستنطلق ألسنة قوية بالنطق بدلا عني وتديم تلك الخدمة... فآمل أن يكون موتي كذلك وسيلة لخدمة القرآن أكثر من حياتي".24
هذه بعض معالم اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند النورسي، في مجال فهم الخطاب الشرعي وتنزيله على محله، وفي مجال التربية وترسيخ السلوك، وفي مجال السياسة وعلم المستقبليات.
* * *
وأختم هذا العرض بموقف روحي رقيق للنورسي، في لحظة تأمل وتفكر، وقد رأى ملامح وجهه وجسده يسري فيها الزمان وتقدم العمر، فجعل يستحضر مآله المحتوم، فرحل بعقله وقلبه وخياله إلى بعض محطات مستقبل حياته ووجوده، في مناجاة رقيقة في منازل القربى إلى ربه تبارك وتعالى. وفي سبب كتابته لتضرعه هذا قال: "إني قد أكتب تضرّع قلبي إلى ربّي مع أن من شأنه أن يُستَر ولا يُسطَر، رجاءً من رحمته تعالى أن يقبل نُطق كتابي بدلاً عني إذ أسكت الموت لساني... نعم، لا تسع توبة لساني في عمري القصير كفارة لذنوبي الكثيرة، فنطقُ الكتاب الثابت الدائم أوفى لها. فقبل ثلاث عشرة سنة وأثناء اضطراب روحي عارم وفي غمرة تحول ضحكات "سعيد القديم" إلى بكاء "سعيد الجديد" أفقت من ليل الشباب على صبح المشيب فسطرت هذه المناجاة باللغة العربية". فقال رحمه الله:
يا ربي الرحيم ويا إلهي الكريم!
قد ضاع بسوء اختياري عمري وشبابي، وما بقي من ثمراتها في يدي إلاّ آثام مؤلمة مُذلّة، وآلام مضرّة مُضلّة، ووساوسٌ مزعجة معجزة، وأنا بهذا الحمل الثقيل، والقلب العليل، والوجه الخجيل متقربٌ –بالمشاهدة، بكمال السرعة بلا انحراف وبلا اختيار كآبائي وأحبابي وأقاربي وأقراني– إلى باب القبر، بيت الوحدة والانفراد في طريق آبد الآباد، للفراق الأبدي من هذه الدار الفانية الهالكة باليقين، والآفلة الراحلة بالمشاهدة، ولا سيما الغدارة المكارة لمثلي ذي النفس الأمارة.
فيا ربي الرحيم ويا ربي الكريم!
أراني عن قريب لبستُ كفني وركبت تابوتي، وودعت أحبابي، وتوجهت إلى باب قبري، فأنادي في باب رحمتك: الأمان الأمان يا حنان يا منّان، نجني من خجالة العصيان.
آهٍ.. كفني على عنقي، وأنا قائم عند رأس قبري، أرفع رأسي إلى باب رحمتك أنادي: الأمان الأمان يا رحمن يا حنّان، خلصني من ثقل حمل العصيان.
آهٍ... أنا ملتف بكفني وساكن في قبري وتركني المشيعون، وأنا منتظر لعفوك ورحمتك... ومشاهدٌ بأن لا ملجأ ولا منجأ إلاّ اليك، وأُنادي: الأمان الأمانَ من ضيق المكان، ومن وحشة العصيان، ومن قبح وجه الآثام. يا رحمن يا حنان... يا منّان... ويا ديان نجني من رفاقة الذنوب والعصيان..
إلهي! رحمتك ملجئي ووسيلتي، وإليك أرفع بثي وحزني وشكايتي.
يا خالقي الكريم، ويا ربي الرحيم، ويا سيدي، ويا مولاي.. مخلوقك، ومصنوعك وعبدك العاصي العاجز، الغافل الجاهل، العليل الذليل، المسيء المسن، الشقي الآبق، قد عاد بعد أربعين سنة إلى بابك ملتجأً إلى رحمتك، معترفاً بالذنوب والخطيئات مبتلى بالأوهام والأسقام، متضرعاً إليك... فإن تقبل وتغفر وترحم فأنت لذاك أهلٌ وأنت أرحم الراحمين وإلاّ فأيّ بابٍ يُقصد غير بابك... وأنت الرّبُ المقصود والحق المعبود. ولا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك... آخر الكلام في الدنيا وأول الكلام في الآخرة وفي القبر: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله."25
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
الهوامش:
1 كلية الآداب –أكادير- المغرب.
2 الموافقات 4/110. "تحقيق الخضر حسن – حسنين مخلوف. دار إحياء الكتب العربية. بيروت. بدون تاريخ."
3 نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي "أحمد الريسوني ص: 353." ط1، 1991 م. "هيرندن، فيرجينيا. المعهد العالمي للفكر الإسلامي".
4 "الموافقات" 3/47.
5 الموافقات 1/128 "تحقيق عبد الله دراز. دار المعرفة بيروت. بدون تاريخ".
6 ينظر: "الموافقات 1/85. " "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" ص: 165166.
7 ينظر: "نظرية التقعيد الفقهي" د. محمد الروكي ص: 145149. "ط:1 – 1994م. منشورات كلية الآداب بالرباط. مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء".
8 كليات رسائل النور: الملاحق / ملحق أميرداغ/2، ص: 401.
9 ذهب الخطيب البغدادي إلى كراهة الزواج لمن سيشغله عن العلم. وصنف الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كتابا في "العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج".
10 كليات رسائل النور: الملاحق ملحق أميرداغ/2، ص: 402.
11 كليات رسائل النور: الملاحق/ ملحق أميرداغ/2 ص:402 – 403.
12 كليات رسائل النور: الكلمات، ص: 23.
13 كليات رسائل النور: الشعاعات، ص: 247.
14 كليات رسائل النور: اللمعات، ص: 446.
15 كليات رسائل النور: اللمعات، ص: 319.
16 ينظر: "نحو نظرية إسلامية للجمال من خلال رسائل النور" د. عبد الكريم عكيوي. ضمن أعمال ندوة الجمالية في الفكر الإسلامي المعاصر: النورسي نموذجا" ص: 75 – 76.
17 صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
18 ينظر: "نحو نظرية إسلامية للجمال" ضمن أعمال ندوة: "الجمالية في الفكر الإسلامي المعاصر" ص: 51 – 52.
19 كليات رسائل النور: الكلمات، ص: 777 – 778.
20 كليات رسائل النور: اللمعات، 375 – 376.
21 كليات رسائل النور: اللمعات، ص: 376 – 377.
22 كليات رسائل النور: الملاحق ملحق أميرداغ/2، ص: 386
23 مسند أحمد، مسند أنس بن مالك.
24 كليات رسائل النور: المكتوبات، ص: 549.
25 كليات رسائل النور: اللمعات، ص: 196 – 198.

Year 2013, Volume: 8 Issue: 8, - , 01.12.2013

Abstract

Year 2013, Volume: 8 Issue: 8, - , 01.12.2013

Abstract

There are 0 citations in total.

Details

Primary Language Arabic
Journal Section ARTICLES
Authors

أ.د. عبد الكريم عكيوي This is me

Publication Date December 1, 2013
Published in Issue Year 2013 Volume: 8 Issue: 8

Cite

APA عكيوي أ. ع. ا. (2013). اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, 8(8).
AMA عكيوي أعا. اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. December 2013;8(8).
Chicago عكيوي أ.د. عبد الكريم. “اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 8, no. 8 (December 2013).
EndNote عكيوي أعا (December 1, 2013) اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 8 8
IEEE عكيوي أ. ع. ا., “اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي”, النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, vol. 8, no. 8, 2013.
ISNAD عكيوي أ.د. عبد الكريم. “اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 8/8 (December 2013).
JAMA عكيوي أعا. اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2013;8.
MLA عكيوي أ.د. عبد الكريم. “اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, vol. 8, no. 8, 2013.
Vancouver عكيوي أعا. اعتبار المآل واستشراف المستقبل عند بديع الزمان النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2013;8(8).