مظاهر الجمالية في المحن والابتلا
مظاهر الجمالية في المحن والابتلاءات من خلال سيرة بديع الزمان سعيد النورسي
أ.د. عبد الله البخاري1
تمهيد:
عندما نتحدث عن الجمالية في المحن ونحاول تجْليَتها من خلال سيرة الأستاذ النورسي، فإن ذلك لا يعني أن كل الناس سيفهمون خطابنا ويستوعبونه، وإنما الذي سيفهمه هو المؤمن الذي آمن بالغيب، وآمن بالقدر خيره وشره، وبدون لغة الإيمان فلن يفهم عنا أحد.
وبما أن جمالية المحن المتمثلة في العواقب الحسنة للمحن، ربما كان بعضها لا صلة له بالآخرة، كمن يأخذ بأسباب النصر والتقدم الحضاري الدنيوي للوصول إلى أهداف معينة، وقد يلاقي في طريقه أنواعاً من المحن والمصائب الحسية والمعنوية، فهذا الجانب الدنيوي المحض قد يدركه بعض طلاب الدنيا، ولكن هذا القدر من الجمالية لا يساوي شيئاً بالنسبة للجمالية التي يدركها المؤمنون في الدنيا والآخرة.
وهناك سبب آخر يمنع حتى بعض المسلمين من فهم هذا الخطاب وهو اختلاف التصورات والمدارك والأذهان والأفكار والعقول، فما يراه زيد جميلاً قد يراه عمرو قبيحاً والشيطان له دور كبير في تزيين القبيح وسيئ الأعمال، قال تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً﴾،فَاطِر:8 وقال عز وجل: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾،العَنْكَبوت:38 فالقاتل وآكل الربا وشارب الخمر والسارق والعاق لوالديه والكذاب، وكل من يفعل كبيرة من الكبائر، فإنه لا يفعل شيئاً من ذلك إلا بعد أن تُزَيَّنَ له من قبل الشيطان.
وقد قص الله علينا خبر قوم لوط عندما قالوا للنبي المرسل إليهم من قبل الله: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾،النَّمْل:56 وذكر عنهم أنهم كانوا يعملون الخبائث: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ﴾،الأَنْبِيَاء:74 ولكن القوم عندما انتكست عقولهم واختلت تصوراتهم، وطاشت أحلامهم، أصبحوا يجرّمون من يتجنب الخبائث، ويدعو إلى الطهارة.
فاختلاف التصورات بسبب اتباع الشهوات، أو بسبب مخلفات ثقافية معينة، أو بسبب غزو فكري معين من أعظم موانع الفهم، وبهذا يعلم أننا نخاطب أصحاب الفطر السليمة، التي لم تتلوث بما يغيرها.
وهذه الجماليات التي سنتحدث عنها تتجلى في أمور كثيرة، ومتنوعة، بعضها علمناه وبعضها علمنا بعضه، والمقام لا يتسع لذكر جميعها، ولذلك فإننا سنقتصر على بعضها، وما سنذكره وإن كان قليلاً بالنسبة لما لم نذكره، فإنه كاف في إضاءة الطريق أمامنا، وفتح آفاق جديدة لطرق أبواب كثيرة في هذا المجال، الذي تظهر من خلاله حكمة الحكيم المنان، وتنطوي تحته رحمة الرحيم الرحمن.
1- جمالية تجليات أسماء الله الحسنى بسبب المحن والمصائب.
كل متأمل في آيات الله المتلوّة والمنظورة، يدرك حكمة الله الباهرة في أفعاله غير المتناهية، إلا أن إدراك هذه الحكم يختلف الناس فيها.
ومن أفعاله سبحانه وتعالى التي يفعلها لحكم متعددة، ابتلاء الناس بأنواع المحن والمصائب، وكثير من هذه المحن تكون سبباً في تجلي أسماء الله وصفاته، فمتى يعرف العبد أن له رباً يغفر الذنوب، ويعفو عن الزلات، إذا لم تكن له ذنوب تغفر، ومتى يعرف العبد أن له رباً يكشف الضر إذا لم ينزل بالعبد ضرراً، وهكذا تتجلى أسماء الله تعالى وتظهر بوجود مقتضياتها، فالغني يقتضي الفقر، والقوي يقتضي الضعف، وهكذا اسم "الشافي" يستدعي المرض، واسم الرزاق أو الرازق يقتضي الجوع.2
فالمظلوم الذي يبتليه الله عز وجل بضياع بعض حقوقه، يدرك الحقائق التي يتضمنها اسم "الحق" وتجلياته في الوجود أكثر من الذي ضمنت له كل حقوقه،3 وعلى هذا فلتقس كل أسماء الله تعالى.
2- جمالية تجلي العدالة الإلهية بسبب الظلم.
"لقد أثبتت رسائل النور أنه قد تنبثق عدالة من بين طيات الظلم، أي قد يتعرض أحدهم إلى الظلم وإلى الحيف فتصيبه نكبة، وقد يحكم عليه بالحبس، ويرمى به في غياهب السجون، لاشك أن مثل هذا الحكم ظلم واضح، ولكنه قد يكون سبباً لتجلي العدالة وظهورها، ذلك لأن القدر الإلهي قد يستخدم الظالم لتوجيه العقوبة إلى شخص استحقها بسبب آخر، وهذا نوع من أنواع تجلي العدالة الإلهية".4
بلغ الأستاذ مرتبة عالية من الإحساس العميق، والخواطر الإلهامية التي قلّ أن يجدها الإنسان العادي، فلربما تحدث عن ارتكابه ذنباً أو ذنوباً نحن لا نراها كذلك، ولكنه كما قال بعض السلف: "حسنات الأبرار سيئات المقربين" ولا يبلغ الإنسان درجة التقوى حتى يدع ما لا بأس به خوفاً من الوقوع فيما به بأس.
ثم إن الأستاذ رحمه الله كثيراً ما يجعل نفسه محلاً للحدث، فيمثل بنفسه بدل أن يبحث في عيوب الآخرين وذنوبهم.
يتساءل الأستاذ: "لِم أساق من محكمة إلى محكمة، ومن ولاية إلى ولاية، ومن مدينة إلى أخرى طوال ثمانية وعشرين عاماً، وما التهمة الموجهة إليّ من قبل من ارتضوا لأنفسهم معاملتي بكل هذا التعذيب الظالم؟ أليست هي استغلال الدين في سبيل السياسة؟ ولكن لا تستطيعون إثبات ذلك… فهذه محكمة تقضي الشهور والسنوات في محاولة الحصول على دليل يدينني فلا تستطيع، وهكذا ثانية وثالثة، وأنا أنتقل من مصيبة إلى أخرى ومن نكبة إلى أخرى، لقد انقضى ثمان وعشرون سنة من عمري على هذا المنوال، وأخيراً أيقنوا من عدم صحة التهم المنسوبة إلي…فما السبب في إصرارهم على اقتراف هذا الظلم في حقي؟ ولماذا بقيت معرضاً على الدوام لهذا الظلم والتعذيب مع كوني بريئاً ودون أي ذنب؟…"5
يجيب الأستاذ عن نفسه بنفسه "إن ذنبي هو اتخاذي خدماتي القرآنية وسيلة للترقي المعنوي، والكمالات الروحية، والآن بدأت أفهم هذا وأحسه تماماً…لقد أذهلتني هذه الأحاسيس الداخلية العميقة… فللّٰه الشكر ألوف ألوف المرات، ففي طي تهمة القيام باستغلال الدين في السياسة قام القدر الإلهي الذي هو العدل المحض طوال ثمان وعشرين سنة بمنعي من جعل الدين آلة لأي غرض شخصي، وذلك باستخدام الأيدي الظالمة للبشر في توجيه الصفعات لي وفي تذكيري وتنبيهي، هذه الصفعات التي كانت عدلاً محضاً تحذرني قائلة: إياك إياك أن تجعل الحقائق الإيمانية آلة لشخصك، وذلك لكي يعلم المحتاجون إلى الحقائق أن الحقائق وحدها هي التي تتكلم، ولكي لا تبقى هناك أوهام النفس ودسائس الشيطان بل لتخرص وتصمت".6
•أنواع الظلم تتحول إلى أنواع من الفضل والرحمة والأمن والاطمئنان والإخلاص
لا بد من التذكير بأن هذه الفضائل والرحمات والسعادة والاطمئنان، الذي أصبح الأستاذ يتقلب فيها بين الفينة والأخرى، هي بسبب تحقيق عبودية الأستاذ وإخلاصه للّٰه، وصبره الجميل، ونجاحه في الامتحانات المتكررة التي مرّ بها لسنوات طويلة، ولهذا أصبح يحس بأنه في سعادة غامرة، حتى أثناء وقوع الظلم عليه ولذلك نجده يكثر من حمد الله حمداً لا نهاية له على ما حصل عليه من فضل ورحمة بسبب الظلم النازل به، قال رحمه الله: "إني أحمد الله تعالى حمداً لا أحصيه إذ حوّل أنواع الظلم والمكاره التي جابهني بها أهل الدنيا إلى أنواع من الفضل والرحمة، وإليكم البيان؛ يقول الأستاذ: بينما كنت معزولاً في مغارة في أحد الجبال، وقد طلّقت السياسة وتجرّدت عن الدنيا منشغلاً بأمور آخرتي، أخرجني أهل الدنيا من هناك ونفَوني ظلماً وعدواناً، فجعل الخالق الرحيم الحكيم هذا المنفى لي رحمة، إذ حوّل ذلك الانزواء إلى خلوة يحيط بها الأمن والاطمئنان والإخلاص".7
وقال في موطن آخر وهو يتحدث عن الظلم النازل به: "فارتكبوا الظلم في حقي، ولكن ربي الرحيم وخالقي الحكيم بدل لي ذلك الظلم إلى رحمة، إذ أدخلني في خلوة مرغوبة، وعزلة مقبولة… فالحمد للّٰه على كل حال".8
3- جمالية الغربة الغريبة والعزلة العجيبة
لقد تعرض الأستاذ إلى عزلة وغربة استمرت عقوداً من الزمن، تحدث عنها في أكثر من موضع في كتبه، مصوراً لها تصويراً أدبياً يجعل القارئ يتأثر تأثيراً بالغاً، وفي غالب الأحيان يذكرها الأستاذ في سياق التحدث بنعم الله عليه أو مذكراً بمجيء العناية الإلهية إليه.
وكانت لهذه الغربة الغريبة جماليات كثيرة نقتصر على ذكر بعضها:
• الأنس بالله
حينما كان الأستاذ في منفى بارلا قال عن نفسه: "بقيت وحدي منفرداً منعزلاً عن الناس على قمة جبل… كنت أبحث عن نور في تلك العزلة، وذات ليلة في تلك الغرفة الصغيرة غير المسقفة، المنصوبة على شجرة صنوبر عالية على قمة ذلك المرتفع… حيث لا أثر ولا صوت سوى ذلك الصدى الحزين لحفيف الأشجار وهمهمتها… ففي هذه الغربة المكتنفة بالحزن… بدأت أبحث عن نور وعن قبس أمل وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء الإيمان بالله لنجدتي وشد أزري، ومنحني أنساً عظيماً، بحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي أضعافاً مضاعفة، لكان ذلك الأنس كافياً لإزالتها، فما دام لنا خالق رحيم فلا غربة لنا إذاً أبداً، وما دام سبحانه موجوداً فكل شيء لنا موجود إذن".9
وهكذا ينسى الأستاذ كل آلام الغربة وأحزانها بسبب جمالية الأنس بالله.
• الأنس بمخلوقات من غير جنس الإنسان.
الاستئناس بالله يفتح للمؤمن آفاقاً جديدة تجعله يستأنس بكل من حوله من المخلوقات، وهذا ما أدركه وشعر به الأستاذ النورسي، وترجمه بقوله: "ما دام الله موجوداً وملائكته موجودة فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولا حسيس، وهذه الجبال الخاوية، وتلك الصحاري المقفرة، كلها عامرة ومأهولة بعباد الله المكرمين، بالملائكة الكرام، نعم إن نور الإيمان بالله سبحانه والنظرة إلى الكون لأجله يجعل الأشجار بل حتى الأحجار كأنها أصدقاء ومؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من عباده حيث يمكن لتلك الموجودات أن تتكلم معنا بلسان الحال بما يسلينا ويروح عنا".10
• الغربة وسيلة إلى خدمة القرآن وصفاء الذهن.
في مرة من المرات أُخلي سبيل المجرمين من السجون، وخرج الجميع، وبقي الأستاذ وحده هناك ظلماً وعدواناً، قال الأستاذ عن هذه المرحلة: "ولكن ربي الرحيم شاء أن يبقيني في هذه الغربة ليستخدمني في خدمة القرآن أكثر، وليجعلني أكتب هذه الأنوار القرآنية، التي سميتها الكلمات أكثر فأكثر، فإبقائي في هذه الغربة بلا ضجة ولا ضوضاء حولها إلى رحمة سابغة… فرضوا علي حياة العزلة ظلماً وعدواناً وأرسلوني إلى قرية صغيرة، ولم يسمحوا لأقاربي ولا لأهل بلدتي –باستثناء واحد أو اثنين– بزيارتي، فقلب خالقي الرحيم هذه العزلة إلى رحمة عامرة بالنسبة لي، إذ جعل هذه العزلة وسيلة لصفاء ذهني وتخليصه من توافه الأمور وتوجيهه للاستفاضة من القرآن الحكيم على صفائه ونقائه".11
• من جمالية الغربة انبعاث نور الإيمان وفيض القرآن ولطف الرحمن.
يتحدث الأستاذ عن حالته عندما بقي ثلاثة أشهر وحيداً فريداً في الجبال الموحية بالغربة، خاصة في الليل البهيم حيث لا صوت ولا صدى إلا حفيف الأشجار الحزين، ثم يصف خمسة أنواع من الغربة متداخلة وهي بمثابة ظلمات متراكبة، ممزوجة بالبعد عن الأقران والأحباب والأصحاب، وما يحدثه ذلك من ألم الفراق والبعد عن موطنه، فهو لا يرى إلا الجبال الشاخصة بالنهار، وظلمة الليل البهيم عندما تغيب الشمس، وبعد شعوره بغربة غير معتادة يقول فجأة: "سبحان الله، يا رب أنا غريب وحيد ضعيف غير قادر عليل عاجز شيخ لا خيار لي… الغوث الغوث أرجو العفو واستمد القوة من بابك يا إلهي، وإذا بنور الإيمان، وفيض القرآن، ولطف الرحمن، يمدني من القوة ما يحوّل تلك الأنواع الخمسة من الغربة المظلمة إلى خمس دوائر نورانية من دوائر الأنس والسرور، فبدأ لساني يردد: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾،آلِ عِمْرَان:173 وتلا قلبي الآية الكريمة: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾."التَّوْبِة:129 12
4- جمالية العناية الربانية بعد المطالبة بإعدام الأستاذ.
كلما كانت المصيبة كبيرة، كانت لذة الفرج أكبر، وهذا أمر يعرف من الواقع المعيش، عندما نشط أبطال مدرسة الزهراء في استنساخ الرسائل ونشرها وكان لهذا النشاط أثراً كبيراً داخل السجن وخارجه، رفع من يسمون بالخبراء تقريراً سطحياً كان سبباً في توزيع بيان شديد اللهجة، وشنّ وزير التربية هجوماً عنيفاً وطالب البعض بإعدام الأستاذ وسعوا في ذلك.
قال الأستاذ: "وفي هذا الوقت العصيب بالذات، جاءتنا العناية الربانية فأسعفتنا، إذ بينما ننتظر انتقادات لاذعة عنيفة من خبراء أنقرة، إذا بتقاريرهم المتضمنة للإعجاب والتقدير لرسائل النور".13
5- جمالية تحويل السجن الرهيب إلى مدرسة نوريه وتبديل الضجر والمصائب والأحزان إلى أفراح ورحمات.
قال الأستاذ: "ساقونا إلى سجن'دنيزلي‘وزجّوني في ردهة كبيرة ذات عفونة ورطوبة شديدتين، فوق ما فيها من برودة شديدة فاعتراني حزن وألم شديدان من جراء ابتلاء أصدقائي الأبرياء، كل ذلك جعلني أتقلب في ضجر وسأم حتى أغاثتني العناية الربانية فحوّلت ذلك السجن الرهيب إلى مدرسة نوريه، فحقاً إن السجن مدرسة يوسفية، وبدأت رسائل النور في الانتشار والتوسع… فكانت تلك النسخ سبباً للفتوحات في السجن وفي خارجه، فحوّل الله ضررنا في تلك المصيبة إلى منافع وبدل ضجرنا وحزننا إلى أفراح".14
وقال في موطن آخر: "إن المصائب الدنيوية الزائلة تنتهي بالأفراح والخيرات على الأكثر"،15 وقال أيضاً: "إن هذه المصائب وأمثالها ينطوي تحتها نوع من الرحمة والمجازاة".16 وقال: "يا من تضيقون عليّ الخناق، اعملوا ما شئتم، واقضوا ما أنتم قاضون، فلا أهمية لعملكم، كل المصائب التي تنزل بنا هينة تافهة، بل إنها عناية إلهية محضة، ورحمتها بعينها".17
6- جمالية الوصول إلى الأهداف تنسي كل المتاعب وتجعل المصيبة كأن لم تكن.
كان الأستاذ مهتماً كثيراً برسائل النور، ونظراً للحصار المحكم الذي وضعه أعداء الدين، وأعداء الحرية، فإنه كان يرى أن المتنفس الوحيد لنشر دعوته هي تلك الرسائل، فكان يوجهها لجميع الجهات والفئات، حتى الذين يخططون للقضاء عليه يرسل إليهم رسائل النور، ومرة أرسل عدة رسائل للدوائر الرسمية، تعرض فيها لأهل الضلال، وشدد عليهم الخطاب، وبينما هو ينتظر التعنيف وإذا بالأمر يأتي بعكس ما كان يتوقع فعلم أن "حقائق رسائل النور بفضل العناية الإلهية وكرامتها قد غلبتهم وانتصرت عليهم حتى جعلتهم يقرءونها ويسترشدون بها، وحولت تلك الدوائر الرسمية الواسعة إلى ما يشبه المدارس النورية، وأنقذت كثيراً من الحيارى والمترددين، وشدّت من إيمانهم مما ملأنا بهجة وسروراً هو أضعاف أضعاف ما كنا نعانيه من ضيق وضجر"18 "… لو تضاعفت متاعب السجن كلها مائة ضعف فقد أدت هذه الرسالة 'الثمرة‘ أضعافها من الوظائف، إذ تستقرئ نفسها في شتى الأوساط العامة، وتسوق إلى الإيمان حتى المتعنتين".19
وفي مرّة من المرات خبّأ الأستاذ بعض الرسائل الخاصة والمجموعات المهمة التي ظن أن وقت نشرها لم يحن بعد، ولعلها تنشر بعد موته، فوضعها تحت أكوام من الحطب والفحم، وكان مطمئناً على عمله هذا، "ولكن ما إن داهم موظفو التحريات ومعاون المدعي العام البيت وأخرجوا تلك الرسائل المهمة المخبوءة من تحت أكوام الفحم والحطب ساقوني إلى سجن إسبارطة وأنا أعاني من اعتلال صحتي ما أعاني، وبينما كنت متألماً بالغ الألم ومستغرقاً في التفكير حول ما أصاب رسائل النور من أضرار، إذا بالعناية تأتي لإغاثتنا جميعاً، حيث بدءوا بدراستها بكل اهتمام ولهفة، فتحوّلت تلك المحافل الرسمية إلى ما يشبه المدارس النورية، إذ انقلب النقد والجرح عندهم إلى نظرة الإعجاب والتقدير، حتى إنه في 'دنيزلي‘ قرأ الكثيرون سواء من المسؤولين أو غيرهم –دون علمنا– رسالة 'الآية الكبرى‘ المطبوعة بسريّة تامة فازدادوا إيماناً وأصبحوا سبباً لجعل مصيبتنا كأن لم تكن".20
7- جمالية السجن
دخول السجن يكون لحكم كثيرة، بعضها ندركه، وأكثرها يستأثر الله بعلمه، وقد نعلم بعضها بعد حين، أو يستفاد منه بعد قرن أو قرون، فقد يكون القدر قد كتب لنا أرزاقاً داخل السجن، وقد نكون قد أُدخلنا السجن لتعليم مسجونين معينين، وقد تظهر لنا أسرار بعض الآيات القرآنية، وقد نكون في حاجة إلى تربية من نوع خاص، وقد يريد الله أن يبعدنا عن مكروه خارج السجن في ديننا أو دنيانا إلى حكم كثيرة لا نعلمها. ومن أجل ذلك نجد الأستاذ النورسي يدرك بعض هذه الحكم فيهنئ الداخلين إلى السجن بدل أن يعزيهم أو يواسيهم، فيقول رحمه الله مخاطباً طلابه: "إخواني الأعزاء لا أعزيكم بل أهنئكم، إذ ما دام القدر الإلهي قد ساقنا إلى هذه المدرسة اليوسفية الثالثة لحكمة اقتضاها، وأنه سيطعمنا قسماً من أرزاقناً دعتنا إلى هنا، وما دامت تجاربنا القاطعة قد علمتنا أن العناية الإلهية لطيفة بنا، وقد جعلتنا ننال سر الآية الكريمة ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾،البَقَرَة:216 وإن إخواننا الحديثي العهد في المدرسة اليوسفية هم أحوج الناس إلى السلوان الذي تورثه رسائل النور… وأن كل ساعة فانية هنا في السجن تصبح بمثابة ساعات من العبادة الباقية، ينبغي لنا… أن نتجمل بالصبر والثبات شاكرين خالقنا مستبشرين إزاء هذه الحادثة".21
8- جمالية توبة أكثر من مائتي سجين وحاجة المسجونين والموظفين إلى رسائل النور.
"فما أن دخل طلاب النور ورسالة الثمرة التي كتبت للمسجونين حتى تاب أكثر من مائتي سجين، وتحلّوا بالطاعة والصلاح… حتى إن قاتلاً لأكثر من ثلاثة أشخاص كان يتحاشى أن يقتل بقة الفراش، فلم يعد عضواً لا يضر بل أصبح نافعاً رحيماً بالبلاد"،22 "إن حكمة واحدة لعدالة القدر الإلهي في سوقنا إلى المدرسة اليوسفية لـ 'دينزلي‘ هو حاجة المسجونين فيها وأهاليها وربما موظفيها ومأموري دائرة العدل إلى رسائل النور وإلى طلابها أكثر من أي مكان آخر".23
9- الجمالية في عدم الإفراج عن النورسي من السجن.
كلما كان الإنسان بعيداً عن الدنيا ومشاغلها كان أكثر استفادة من عبادته، فعبادة الليل الهادئ ليست كعبادة النهار، وكل ما يفعله العبد المؤمن من تأمل وتفكر وذكر للّٰه وقراءة القرآن بتدبر في خلوة، أو في مكان منعزل عن الناس فإنه يجد له لذة وطعماً غير ما يجده في القيام بها في جو الهرج والمرج، وخاصة إذا كانت هذه العبادة في شهر رمضان المبارك، وأفضل من يتحدث عن هذه اللذة والسعادة رجل عاشها وذاق طعمها حتى أصبح يفضل البقاء في السجن من أجلها، "نبارك من كل قلوبنا وأرواحنا شهر رمضان المبارك، ونسأله تعالى أن يجعل ليلة القدر لكم خيراً من ألف شهر… إنني أعتقد أن بقاءنا هنا إلى العيد فيه خير كثير، وفوائد جمة، إذ لو أفرج عنا لحرمنا من خيرات هذه المدرسة اليوسفية، فضلاً عن أننا سنشتغل بأمور دنيوية في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان الذي هو شهر أخروي بحث… إذن فالخير فيما اختاره الله، وستكون إن شاء الله أفراح كثيرة، وخيرات أكثر".24
10- جمالية التحمل العجيب والصبر الجميل والاستغناء عن الناس بعد الحصار المحكم.
أشار الأستاذ إلى مجموعة من المحن والمصائب التي تعرض لها من قِبل أعداء الإسلام ثم اتبعها قائلاً: "ولكن رغم كل هذا فقد منحني الحفيظ العليم، وشملني بعنايته الواسعة، وأعطاني تحملاً عجيباً، وصبراً جميلاً، ولم يجعلني مضطراً إلى التوسّل بهم قطعاً رغم المضايقات الشديدة".25
11- الجمالية في اكتشاف سر بعض الآيات.
القرآن معجزة الله الخالدة، وهو كتاب هداية وتذكير، من تمسك به نجى ومن أعرض عنه هلك ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾.الإِسْرَاء:9
والعلماء من عهد الصحابة y، إلى يومنا هذا يتفاوتون في فهم كتاب الله والاستفادة منه، وفي استخراج كنوزه وأسراره، وقوة الاستنباط لها أسبابها: فمنها العلم بلغة القرآن، ومعرفة علوم الآلة التي لها صلة به، وإلى هنا قد يتساوى الكثير في الحصول على هذه العلوم، لكن الذي لا يمكن التساوي فيه هو العلم بالله وخشيته، والتضحية من أجل إعلاء كلمة الله، بالجهاد في سبيله بالنفس والمال، والصدق والإخلاص، والانطراح بين يديه، فهؤلاء الصادقون المخلصون لقوة تعلقهم بالله، وتدبرهم لكتابه يفتح الله عليهم، بما يعدونه اكتشافاً من الناحية العلمية، عندما يمتحنون، وهذا الاكتشاف يظهر في الغالب بعد تذكير وتنبيه، وربما بصفعات متتالية، كما عبّر عنها الأستاذ النورسي؛ لأن من الناس من لا ينتبه إلا بالصفع، والصفع من الحبيب تشريف، وقد وقع مثل هذا الاكتشاف لعمر بن الخطاب t، عندما صفع بموت الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى جاء أبوبكر الصديق t وتلا عليه الآية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾،آلِ عِمْرَان:144 قال عمر t: "والله ما هو إلا أن سمعت أبابكر تلاها فعرقت حتى ما تُقِلُّني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض"، وفي رواية: "فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبوبكر، فتلاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلى يتلوها".26
فالأستاذ النورسي كان يحفظ كتاب الله، ويتلوه دائماً ولكن ظهور سر من أسرار بعض الآيات، يظهر أحياناً لسبب من الأسباب.
فمن ذلك: كان الأستاذ يشتغل بالقرآن وأسراره ونكته، محاولاً بذلك التغلب على الآلام والأحزان التي كان يعيشها بسبب النفي، وعزله عن الناس كلياً، ومفارقة بلدته وأحبابه وأصدقائه، ولكنه مع ذلك لم يستطع نسيان ابن أخيه، بل ابنه المعنوي وتلميذه المخلص، وصديقه الشجاع عبد الرحمن، وبعد أن تحدث الأستاذ عن حياته المليئة بالجد والاجتهاد والتضحية والتفاني في خدمة رسائل النور، وكان أمله الوحيد في خدمته ورعايته والتعاون معه، وبعد مراسلة بينهما قال الأستاذ: "لقد أبكتني تلك المراسلة كثيراً ولا زالت تبكيني"، وبينما كان يعيش أمل تلك الحياة الدنيوية، ليعيشا معاً في خدمة الدين، وإذا به يفاجأ بوفاته، قال الأستاذ: "فيا أسفاه ويا حسرتاه، لقد هزني هذا الخبر هزاً عنيفاً حتى أنني لا أزال تحت تأثيره منذ خمس سنوات، وأورثني حزناً شديداً وألماً عميقاً للفراق المؤلم يفوق ما كنت أعانيه من ألم الأسر المعذب، وألم الانفراد والغربة الموحشة، وألم الشيخوخة والمرض، كنت أقول: إن نصف دنياي الخاصة قد انهد بوفاة أمي، بيد أني رأيت أن نصفي الآخر قد توفي أيضاً بوفاة عبد الرحمن… ولكن على حين غرة انكشف سر الآية الكريمة: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾،القَصَص:88 انكشافاً بيناً بحيث جعلني أردد يا باقي أنت الباقي، وبه أخذت السلوان الحقيقي… وهكذا فقد أغاثني المعنى الإشاري للآية الكريمة: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾،التَّوْبة:129 وأمدني بنور لا يخبو، فبدد ما كنت أعانيه من الحزن النابع من وفاة عبد الرحمن واهباً لي التسري والتسلي الحقيقي. نعم لقد علمتني هذه الآية الكريمة أنه ما دام الله موجوداً فهو البديل عن كل شيء… ليرحل من يرحل يا إلهي، فأنت الباقي وأنت الكافي، وما دمت باقياً فلتجل من تجليات رحمتك كاف لكل شيء يزول".27
وينبغي أن يعلم أن هذا النوع من الفهم للقرآن الكريم ليس فهماً نظرياً يدركه الإنسان بالتدبر والقراءة المجردة، وإنما هو فهم تطبيقي وإحساس شعوري خاص يكرم الله تعالى به من شاء من عباده بعد اختبار عسير وامتحان غير يسير.
وبعد أن تحدث عن فوائد كثيرة حصلت له ولرسائل النور بسبب دخولهم السجن، والمحن التي أصابتهم من جراء ذلك، قال: "لو رفع الحجاب لحملتكم تلك الفوائد على القول: يا رب لك الحمد والشكر حقاً، إن هذا البلاء النازل بنا عناية بحقنا، وأنا مطمئن من هذا ومقتنع به، لا تعاتبوا –يا اخوتي– الذين أصبحوا السبب في وقوع الحادثة، إن هذه الخطة الرهيبة الواسعة، قد حيكت منذ مدة مديدة إلا أنها جاءت مخففة معنى، وستزول بسرعة بإذن الله فلا تتألموا بل استرشدوا بالآية الكريمة: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾."البَقَرَة:216 28
وقال في موضع آخر: "فالآية الكريمة ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ تلقن درس حقيقة يقينية".29
وقال رحمه الله لإخوانه وأعزائه الأوفياء: "لا أعزيكم بل أهنئكم، إذ ما دام القدر الإلهي قد ساقنا إلى هذه المدرسة اليوسفية الثالثة، لحكمة اقتضاها، وأنه سيطعمنا من أرزاق دعتنا إلى هنا، وما دامت تجاربنا القاطعة قد علمتنا –لحد الآن– أن العناية الإلهية لطيفة بنا، وقد جعلتنا ننال سر الآية الكريمة ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾."البَقَرَة:216 30
12- جمالية العفو عند الأستاذ النورسي
من أسماء الله "العفو الغفور" وهو سبحانه وتعالى يحب العفو كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا"،31 وقد أمر الله بالعفو وأرشد الناس إليه وحببه إليهم بطرق كثيرة، قال تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾،الْمَائِدَة:13 وقال: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾،النُّور:22 وقال: ﴿وَأَنْ تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾،البَقَرَة:237 وقال: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.الشُّورَى:43
وفي صحيح البخاري كتاب المظالم، باب عفو المظلوم. وقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في العفو، وذلك في مقامات كثيرة منها في فتح مكة "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وعندما خرج إلى الطائف وآذوه وجاءه جبريل معه ملك الجبال وخيره في إهلاكهم، فقال: "أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً"، وعندما كان راجعاً من غزاة ونام تحت شجرة علق سيفه فيها، فجاءه مشرك وأخذ السيف وقال: يا محمد من يمنعك مني الآن، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله، فسقط السيف من يد المشرك، وأخذه الرسول، وقال له: وأنت من يمنعك مني الآن، فقال المشرك: كن خير آخذ، فعفا عنه وخلى سبيله.32
وهكذا كان الأئمة والمجاهدون والمصلحون عبر التاريخ الإسلامي يتحلون بهذه الصفة العظيمة التي يحبها الله.
أما الأستاذ النورسي رحمه الله، فإن له في العفو حديثاً عجباً، ذلك أن الحقد مغيب عنده تماماً حتى على أعدائه المعاندين الذين ظلموه عن علم وقصد، فهو يتأسف لحالهم بدل الحقد عليهم، ويحيلهم على المحكمة الكبرى يوم القيامة، قال رحمه الله: "ولما كانت الدنيا ومشقاتها فانية وماضية عابرة بسرعة فإن المظالم التي ينزلها بنا أعداؤنا المستترون سننتقم منهم، ونأخذ ثأرنا بأضعاف أضعافها، بل بمائة ضعف، وذلك في المحكمة الكبرى وجزء منها في الدنيا، فنحن بدلاً من الحقد والغضب عليهم نأسف على حالهم".33
وفي نظرة أخرى وهو يحكي عن تأثير رسائل النور في القلوب العطشى، وكأنه وصل إلى أقصى أمانيه، وكشُكرٍ للّٰه تعالى على بلوغه أمنيته التي هي أغلى أمانيه يخرج نفسه من المعادلة، ويبرهن على إخلاصه ويعفو عن الجميع، وكأنه وصل إلى الفتح الأعظم، وقال لأعداء الأمس: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
قال رحمه الله: "وما دامت رسائل النور تؤثر في القلوب العطشى إلى الإيمان وإلى نور الحقائق، إذن لا يفدى بـ 'سعيد‘ واحد، بل بألف 'سعيد وسعيد‘ وليكن كل ما قاسيته في غضون ثمان وعشرين سنة من الأذى والمصائب حلالاً زلالاً.. أما الذين ظلموني وجرجروني من مدينة إلى أخرى، والذين أرادوا أن يوصموني بمختلف التهم والإهانات، وأفردوا لي أماكن في الزنزانات، فقد غفرت لهم وتنازلت عن حقوقي تجاههم".34
وليس هذا فحسب بل إنه يوصي طلابه أيضاً بهذه الصفة العظيمة، صفة العفو، فقال: "إن الكثيرين من طلابي قد ابتلوا بشتى أنواع البلايا والمصائب، وتعرضوا لصنوف العذاب والمتاعب، واجتازوا امتحانات عسيرة بفضل الله: إنني أطلب منهم أن يتجاوزوا مثلي عمن اقترف تلك المظالم وهضم الحقوق؛ لأن أولئك قد ارتكبوا تلك الأمور عن جهل منهم، والذين آذونا وعذبونا ساعدوا على نشر تلك الحقائق الإيمانية، دون أن يدركوا تجليات أسرار القدر الإلهي… ووظيفتنا تجاه هؤلاء هي التمني لهم بالهداية.
أوصي طلابي ألا يحمل أحد منهم شيئاً من روح الانتقام في قلبه، ولو بمقدار ذرة، وأن يسعوا سعياً جاداً لنشر رسائل النور، وليرتبطوا بها ارتباطاً وثيقاً، إنني مريض جداً لا طاقة لي لا في الكتابة ولا في الحديث، وقد يكون هذا آخر أقوالي".35
ونحن بدورنا أيضاً سنكون قد انتهينا من تحرير هذا الموضوع المهم في حياة الإنسانية بصفة عامة، وحياة المسلمين بصفة خاصة.
ولكني قبل أن أضع القلم أوصي وبإلحاح شديد بقراءة اللمعة الثانية،36 التي هي بعنوان: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾،الأَنْبِيَاء:83 وكذلك اللمعة الخامسة والعشرون،37 وهي رسالة المرضى.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يشفي أمراضنا جميعاً، ويلهمنا الصبر على الضراء، والرضى به، والشكر على السراء والقناعة به.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد إمام الصابرين، وسيد الشاكرين وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار ما تعاقب الليل والنهار.
* * *
الهوامش:
1 كلية الآداب، جامعة ابن زهر –أكادير- المغرب.
2 النورسي، بديع الزمان سعيد، اللمعات ص12، ترجمة إحسان قاسم الصالحي. سوزلر، إسطنبول 1993.
3 التربية السلوكية عند بديع الزمان ص95.
4 النورسي، بديع الزمان سعيد، الملاحق ص368، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1995.
5 اللمعات ص368-369, النورسي، بديع الزمان سعيد، سيرة ذاتية ص441، إعداد وترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1995.
6 اللمعات ص369-370, السيرة الذاتية ص: 442-443
7 النورسي، بديع الزمان سعيد، المكتوبات ص56، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1992.
8 المكتوبات ص57.
9 اللمعات ص: 349-350.
10اللمعات ص: 350.
11 المكتوبات ص: 57.
12 المكتوبات ص: 29-30.
13اللمعات ص: 404-405.
14 اللمعات ص: 404-405.
15 النورسي، بديع الزمان سعيد، الشعاعات ص367، ترجمة إحسان قاسم الصالحي. سوزلر، إسطنبول 1993.
16 النورسي، بديع الزمان سعيد، الملاحق ص147، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1995.
17 الملاحق ص239.
18 اللمعات ص: 405.
19 الملاحق ص: 238.
20اللمعات ص: 404.
21 الشعاعات ص: 524.
22 اللمعات ص: 400.
23 الشعاعات ص: 361.
24 الشعاعات ص: 557.
25 السيرة الذاتية ص: 361.
26 تفسير ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية (1/409).
27 اللمعات ص: 373-376، السيرة الذاتية ص225.
28 السيرة الذاتية ص: 347.
29 الملاحق ص290، السيرة الذاتية ص: 373.
30 الشعاعات ص524، السيرة الذاتية ص: 417.
31 سنن ابن ماجه رقم 3850.
32 صحيح البخاري رقم 2913.
33 الشعاعات ص: 557-السيرة الذاتية ص: 427.
34 الملاحق ص: 371.
35 الملاحق ص: 371-372.
36 اللمعات ص: 10.
37 اللمعات ص: 315.
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | December 1, 2013 |
Published in Issue | Year 2013 Volume: 8 Issue: 8 |