منهج النورسى في شرح أسماء الله ا
منهج النورسى في شرح أسماء الله الحسنى
أ.د. الشفيع الماحي أحمد1
يطلق لفظ الذات في العادة ويراد به صلاحية الحكم على شيء ما، بالوجود إذا كان موجوداً، وبالعدم إذا استحال وجوده، وقد يطلق اللفظ نفسه من زاوية أُخرى ويراد به حقيقة الشيء، أو قيامه بذاته، أو ما يخصه وتمييزه عن غيره،2 ويرد معنى ذات الشيء سابقاً سبقاً ذهنياً على وجوده، فتتقدم الذاتية في الذهن ويتأخر وجودها تأخراً يدفعها لتحتل المقام الثاني في العلم والمعرفة وفي الإخبار عنها، وفي كل الأحوال يطلق لفظ الذات ليعبَّر به عن الشيء مجرداً عمن سواه من الأشياء.
ويطلق لفظ الذات بهذا المفهوم على الله ويراد به الوجود المطلق، وهو إطلاق يكشف عن مرتبة لم يكن الحق عز وجل فيها محل علم ولا معرفة لأحد من العالمين، ثم أعلمَ تعالى عن ذاته، فَعُرف باسم "الله" فأَصبح الاسم عبارة عن ذاته ونفسه التي هو بها موجود وجوداً لا يعطى من خلال مدلول الذاتية معنى التجسيد ولا التجريد المطلق، ولفظ الذات والنفس يعبران هنا عن حقيقة وجوده تعالى بلا زيادة في المعنى، أما الاسم "الله" فهو اسم عَلَم للذات الإلهية، وهي التي استحقت ما عُرف في مرحلة تالية على اسم العَلَم بالأَسماء الحسنى.
والله تعالى قد سمّى نفسه وذاته العليا بأسماء كثيرة، لا لمجرد التعريف والإعلام، بل لما توجبه تلك الأسماء من آثار وما تقتضيه من لوازم ومظاهر في الوجود، مما يعنى أن الأسماء تحتل وعلى المستوى العلمي والمعرفي المرتبة نفسها التي للاسم، وفيها التعبير المباشر عن حقيقة الوجود والذات، ولكنها دالة على نسبة إلى غير الذات، ويتوقف فهم تلك النسبة وإدراكها بل وتعقلها على الوجود والذات معاً.
واصطلح على تلك النسبة وذلك التأثير في علم الكلام والعقيدة الاسلامية اسم التعلق، بمعنى طلب الاسم3 أَو بتعبير آخر اقتضاؤه واستلزامه أَمراً زائداً على ذاته يصلح له، إذ أن كل اسم مقتضى لأَثره، ولا يحصل بدون لوازمه، فعد التعلق بناء عليه نسبة مخصوصة، وإضافة مخصوصة بين الاسم ومقتضياته، وسماه المتكلمون التعلق بالفعل، والتعلق التنجيزي الحادث، لأَن التعلق –كما يرون– بحكم طبيعته لا يكون إلا تعلقاً بما هو موجود بالفعل.
وفي مقابل ذلك الاصطلاح استخدم سعيد النورسي صيغة التجلي ليعبر من خلالها عن تلك النسبة المخصوصة بحقائقها المختلفة والمتنوعة، لأَن الكلمة من دلالتها الجامعة ومفهومها المميز تعنى هي الأُخرى ظهور وانكشاف مقتضيات الأَسماء الإلهية، وتحقق معانيها على صفحة الوجود الخارجية، تماماً كما تتراءى حقائق الأشياء وتنعكس على المرآة الصافية، بحيث تتجلى معانيها، وتنكشف حقائقها، فتظهر للعيان مستقلة في وجودها عن الذات الإلهية، ومتميزة بمقاصد وغايات مخصوصة.
والنورسي في عرضه وشرحه لما عرض وشرح من أسماء الله الحسنى عوَّل على هذه الصيغة وحدها، فأَعطى للأسماء من المعاني مالا تفهم معه بمعزل عن مقتضياتها وآثارها، إذ لولا ذلك التجلي الفريد لما ظهر على صفحة الوجود اسم للّٰه ولا صفة، ولا تحقق للاسم معنى يشار إليه، ولم يكن هناك علم ولا معرفة، ولاستحال الوجود إلى حالة غير تلك التي هو عليها الآن.
وسنحاول فيما يلي تحليلاً لبعض أسماء الله الحسنى، مركزين على إبراز هذا المعنى وحده دون غيره من المعاني الكثيرة والمتعددة التي تتضمنها أسماء الله الحسنى، وهو ما حرص عليه النورسي وأولاه أهمية خاصة، لدلالته البينة على مقتضى الاسم الإلهي من جهة، ولاستناد حقائق الموجودات والكائنات عليه من جهة أُخرى.
الفرد:
يفيد اسمه تعالى أحداً وواحداً ودون الدخول في تفسيراته المتعددة معنى الذاتية "ذات الله"، وفي تطابق وانسجام يجعل من الذات والاسم في منزلة واحدة حكماً ومعنى، وذلك لأن كلا من الأحدية والواحدية يتحدان مع الوجود المطلق، ويعدان حقيقة من جملة حقائق الوجود الإلهي، وبهذا الاعتبار عدت أحدية الله وواحديته ووحدانيته من جهة الحكم والمعنى إثبات محض لذات الله تعالى، وعندما نبّه الحق عز وجل على ذاته، فعرَّف باسم الله، تقيدت الذاتية في قمة ظهورها المعرفي بالأحدية والواحدية كحكم له خصوصية مطلقة بالله تعالى.
والنتيجة المترتبة على هذا الاتحاد الفريد هو تجرد الأحدية والواحدية عن التجلي والظهور بمقتضيات الاسم، فترد دوماً كأخص مظهر من مظاهر الذات الإلهية ومتقدمة في الاعتبار على الاسم، ومرجع ذلك كله إلى أن مدلول الأحدية لم ينفصل عن الذات انفصالاً يحقق لها نسبة بها تظهر على مرآة الوجود، بل اتحدت مع الذات اتحاداً نالت بموجبه ما للذات من أحكام، واكتسبت المعاني نفسها التي للأُلوهية كاستغنائه تعالى عن الكل، واحتياج الكل إليه، وتفرده عن غيره ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً، وانفراده عن المثل والنظير والشبيه إلى غيرها من المعاني التي عرّف الله تعالى بها ذاته للخلق.
بيد أن الحكم على الذات بالأحدية والواحدية والوحدانية هو في حد ذاته نسبة، ولكنها نسبة تتجلى وتظهر على الوجود والمخلوقات بمقتضى كونه أحداً وواحداً، وحين تنعكس حقائق الأُلوهية بذلك الحكم الأحدي، وتتجلى على مرآة الوجود الخارجي تظهر باسم الفرد، وهو الاسم الذي يرى فيه النورسي أنه "يتضمن اسم الأحد والواحد"4 وله نسبة ومقتضى كسائر أسماء الله الحسنى.
لأجل ذلك يذهب النورسي5 إلى أن تجلى الفردية هو وحده الذي طبع الوجود كله بطابع الأحدية والواحدية والوحدانية، بدءاً من الكون الكبير إلى أقل جزء منه، وظهرت بصمات الفردية على كل نوع فيه، وعلى كل فرد فيه، فتحول الكون كله بحكم الكل الذي لا يقبل التجزئة مطلقاً، بحيث إن من لا يقدر على أن يتصرف في الكون كله لا يكون مالكاً ملكاً حقيقياً لأي جزء منه، ومن لم يكن مالكاً لجميع ما في الكون لا يمكنه أن يتصرف بنوع منه أو عنصر فيه تصرفاً حقيقياً.
وتجلّى الفردية على الوجود فوق كونه واضحاً وضوحاً مطلقاً هو أيضاً فطرى وبسيط ومقبول إلى حد السهولة المطلقة، ومستساغ عقلاً ومنطقاً إلى حد الوجوب، وعلى النقيض منه تماماً الشرك المنافي لذلك التجلي الفريد، لأن الشرك من الأمور المعقدة إلى أقصى حدود التعقيد، وغير منطقي إطلاقاً، وبعيد جداً عن المعقول إلى حد الامتناع والمحال.
وتتجلى الفردية في أنصع صورها وأشكالها، وتظهر بأسمى معانيها في سهولة خلق الموجودات، واليسر المتناهي في إيجادها، فتخرج إلى الوجود من دون صعوبة، وبلا عناء أو تكلف، وعلى أكمل صورة وأتمها، أمّا إذا فُوّض أمر الخلق والإيجاد إلى غير الفردية والوحدانية، وأسند إلى الأسباب العمياء أو الطبيعة الهوجاء، والصدفة العشوائية، فستتعقد الأمور وتتشابك، وتتكشف على صفحة الوجود أمور ليست معقولة ولا منطقية، وعندئذ كما يقول النورسي:
"يلزم لخلق ذبابة واحدة مسح وتفتيش سطح الأرض وغربلة عناصرها وذراتها جميعاً، ثم وزنها بميزان دقيق حساس، لوضع كل ذرة في موضعها المخصص لها، حسب قوالب مادية بعدد أجهزتها وأعضائها المتقنة، وذلك لكي يأخذ كل شيء مكانه اللائق به، فضلاً عن جلب المشاعر والأحاسيس الروحية الدقيقة واللطائف المعنوية والروحية بعد وزنها أيضاً بميزان دقيق حسب حاجة الذبابة".6
فمن الأُمور السهلة والهيئة إذن على قدرة الله الواحد الأحد "خلق أعظم جرم، وخلق أصغر شيء على حد سواء، فهو تعالى يخلق الربيع الشاسع بيسر خلق زهرة واحدة، ويحدث في كل ربيع بسهولة بالغة آلافاً من نماذج الحشر والنشور، ويراعى شجرة ضخمة باسقة بيسر مراعاة فاكهة صغيرة".7
ويضفي تجلى الفردية على الكون والمخلوقات من النجوم والنباتات والحيوانات والأرض وحتى الجزئيات والذرات نظاماً متقناً وكمالاً فريداً وانسجاماً بديعاً، ولو كان هناك أي تدخل لما سوى الله لفسد هذا النظام الدقيق ولأختل ذلك التوزان المحكم، ولظهرت بادية للعيان. وقوله تعالى ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾الْمُلْك:3 يكشف بجلاء هذا النظام والتوازن. فيقول النورسي:
"إن الذي يتأمل في هذا الكون في ضوء سر الفردية يرى الكون واحداً يستعصي على التجزئة مطلقاً، وليس هذا فحسب بل هو كليّ لا يقبل الانقسام والاشتراك والتجزئة وتدخّل الأيدي المتعددة قط، فأي تدخل فيه مما سوى الواحد الأحد محال ممتنع، إذ إن كل جزء فيه بحكم جزئي وفردي، والكون هو بحكم الكلي، فليس فيه موضع للاشتراك في أية جهة كانت".8
ويساوق النظام المتقن والانتظام الرائع والموازنة الدقيقة التدبير والإدارة، لأن من لا يدبر المخلوقات كافة، ولا يدير شؤونها وأحوالها، لا يمكنه التدخل المباشر في أمر من أُمورها ناهيك عن خلقها وإيجادها، يقول النورسي لافتاً النظر إلى هذا الأمر:
"تأمل في هذه البُسُط المفروشة على الأرض التي لُحمتها وسَداها مئتا ألف طائفة ونوع من أنواع الحيوانات وطوائف النباتات بأفرادها المتنوعة التي لا يعد ولا تحصى والتي تضفي الزينة وتنشر البهجة على نسيج الحياة على سطح الأرض، تأملها جيداً وأدِم النظر فيها، فإنها مع اختلاف أشكالها، وتباين وظائفها، وتنوع أجهزتها، وامتزاجها بعضها مع البعض الآخر تشاهد:
أَنَّ رزق كل ذي حياة يأتيه رغداً من كل مكان ومن حيث لا يحتسب بلا سهو ولا نسيان. بلا انشغال ولا ارتباك، بلا خطأ ولا التباس، فيعطى بميزان دقيق حساس كل ما يحتاجه الفرد، في وقته المناسب، من دون تكلّف ولا تكليف، مع تمييز لكل منها".9
وتجلى الفردية كما يظهر إجمالاً يظهر أيضاً تفصيلياً، لا سيما في السمات والعلامات الفارقة والمرسومة بدقة متناهية على وجوه البشر، صيانة لحقوق الناس، ومنعاً للالتباس فيما بينهم، يقول النورسي موضحاً هذه المعجزة الإلهية:
"… فالذي لا يستطيع أن يضع تلك العلامات في كل وجه، ولا يكون مطلعاً على جميع الوجوه السابقة واللاحقة منذ آدم u إلى يوم القيامة، لا يمكنه أن يمد يده من حيث الخلق والإيجاد ليضع تلك الفوارق المميزة الهائلة في ذلك الوجه الصغير.
نعم إن الذي وضع في وجه الإنسان ذلك الطابع المميز وتلك الآية الجلية بتلك العلامات الفارقة، لابد أَنَّ أفراد البشر كافة هم تحت نظره وشهوده، وضمن مباشرة علمه حتى يضع ختم الفردية والأَحدية في ذلك الوجه، بحيث إنه مع التشابه الظاهر بين الأَعضاء الأساس كالعيون والأُنوف وغيرها من الأَعضاء، لا تتشابه تشابهاً تاماً، بسبب علامات فارقة في كل منها".10
ومهما يكن من أمر فإن الفردية التي تطبع الوجود كله بطابع واحد لو كانت قاصرة على الخلق والإيجاد وما يرتبط بالخلق والإيجاد من أُمور لازمة، لانفكت المخلوقات عن خالقها، ولاستقلت في حركتها عنه، ومن ثم يضمحل دور الفردية وتتلاشى آثارها. ولأجل ذلك يرى النورسي11 أن أثر الفردية لا ينحصر على هذا الأمر وحده. بل للفردية تأثير آخر وتجلى أكبر بحيث تجعل كل مخلوق يستند إلى خالقه في كل شأن من شؤونه. فيكتسب بهذا الاستناد والانتساب قوة لا حد لها. حتى يمكنه أن ينجز من الأعمال ما يفوق قوته الذاتية بألوف المرات.
ويستدل النورسي على سر ذلك الاستناد والانتساب الذي في الفردية بقوله "فقوة الاستناد هي التي تجعل النملة الصغيرة تقدم على إهلاك فرعون عنيد، وتجعل البعوضة الرقيقة تجهز على نمرود طاغية، وتجعل الميكروب البسيط يدمر باغياً أثيماً، كما تمد البذرة الصغيرة لتحمل على ظهرها شجرة صنوبر باسقة شاهقة، كل ذلك باسم ذلك الانتساب وبسر ذلك الاستناد".12
ويشبه النورسي انتساب واستناد الإنسان إلى ربه بانتساب واستناد الجندي إلى قائد عظيم "فيصبح له هذا الانتساب بمثابة قوة ممدّة لا تنفد، فلا يضطر إلى حمل ذخيرته وعتاده معه، لذا قد يقدم على أسر قائد جيش العدو مع آلاف ممن معه، بينما السائب الذي لم ينخرط في الجندية، فإنه مضطر إلى حمل ذخيرته وعتاده معه، ومهما بلغ من الشجاعة فلا يستطيع أن يقاوم إلا بضعة أفراد من العدو، وقد لا يثبت أمامهم إلاّ لفترة قليلة".13
وانتساب واستناد الإنسان إلى الله تعالى عند النورسي هو الإيمان14 به إلهاً ورباً للعالمين. وبإرادة حرة واختيار تام، وبالإيمان يوحّد الانسان خالقه، وبهذا التوحيد تتجلَّى على المؤمن أعظم تجليات الفردية، بحيث يطمئن إلى جميع رغباته. ورغبات الإنسان كما يصفها النورسي كثيرة جداً. وكلها ممتدة إلى غير نهاية معلومة، ومتشعبة في ثنايا الكائنات جميعاً، وهذه الرغبات جميعها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحقيقة التوحيد، ومشددة مع سر الفردية، إذ لا تجد اطمئنانها وسكونها لدى الذي لا يؤمن بالتوحيد وانفراد الله تعالى، لذا تبقى لديه هذه الرغبات عقيمة دون نتائج، قاصرة عن بلوغ مداها، مبتورة منكمشة.15
الحي:
قيل في معنى الحياة إنه ما تصير به جملة الحركة والإدراك والحس كالشيء الواحد من جواز تعلق الصفات به.16 وذلك في مقابل الموت والذي لا تصير به الجملة كالشيء الواحد، وعلى هذا فالحياة كمال للحي والموت نقص له، ومن ثم يصبح كل حيّ كاملاً في حدود حياته التي هو بها حياً. وفي حين تختلف كيفيات الحياة بين حيّ وآخر، يظل معنى الحياة راسخاً لا يتحول ولا يتبدل ولا يطلق إلا على أكمل أحوال الحي.
والكمال الذي أوجبته الحياة للحيَّ هو في حقيقة أمره كمال إضافي، أو بتعبير آخر كمال حياة بالإضافة. تفريقاً بينه وبين كمال حياة الله والذي هو له بالذات، ومن هنا صح قول من قال إن الحياة بالإضافة هي التي يلحق بها العدم والفناء، أَمَّا الحياة التي هي بالذات فهي الحياة التامة لا يعتريها فناء ولا يلحق بها عدم.
ولا شك في أن تميز الحيَّ بالحركة والحس والإدراك هو الذي منحه حياة حقيقة تختلف عن غيرها من الحيوان. ولكن المعنى نفسه لما فيه من معنى الشعور والانفعال يستحيل على الله تعالى، لا لانتفاء الحياة بمدلولها المألوف عنه، بل لأَن حياته تعالى هي حياة على التقدير لا على الحقيقة.17 وهو المعنى الذي أوجبه للّٰه تعالى الإدراك المطلق أبداً وأزلاً، وهو بالضرورة كمال لذاته. وإذا لم يوجب له، عد ناقصاً، وعلى ضوء ذلك صح وصفه تعالى بالحياة وسمى باعتبار ذلك حياً.
وصفات الإدراك –كما هو معروف– هي الصفات الثبوتية الواجبة للّٰه تعالى. وأبرزها العلم والإرادة والقدرة والكلام ثم السمع والبصر، وصفة الحياة متقدمة عليها جميعاً لامتناع تصور موجود عالم قادر مريد ولا حياة له. وبالحياة كمل الوجود، واكتملت الحياة بالإدراك.
ومظاهر الحياة الإلهية المختلفة من علم وإرادة وقدرة هي التي اقتضت في الوجود حياة لها نفس المظاهر، حتى يمكن على حد تعبير النورسي18 "مشاهدة نور الحياة على الأَحياء كافة. فالحياة إذن هي نور الوجود وكاشفة للموجودات وسبب لظهورها، وهي التي تجعل كل شيء مالكاً لكل كائن حي، وتجعل الشيء الحيَّ الواحد بحكم المالك لجميع الاشياء، وهي التي تمكنه من القول: إن هذه الأشياء ملكي، والدنيا مسكني، والكائنات كلها ملك أعطانيه له مالكي".
ومعنى جليل كهذا لا تفهم حقيقته ولا يسبر غوره إلا بمقارنة بسيطة بين جسم كبير كالجبل وجسم صغير كالنملة، فيقول النورسي "انظر إلى الجبل وليكن جبلاً شاهقاً، تراه غريباً يتيماً وحيداً، إذ تنحصر علاقته وصلته بمكانه وما يتصل به من أشياء فقط، وما يوجد من الكائنات الأُخرى معدوم بالنسبة إليه. وذلك لأَنه ليس له حياة حتى يتصل بها. ولا شعور حتى يتعلق به.
ثم انظر إلى جسم صغير حيَّ كالنحل مثلاً: ففي الوقت الذي تدخل فيه الحياة فإنه يقيم عقداً وصلة مع جميع الكائنات والموجودات. وخاصة مع نباتات الأرض وأزهارها بحيث يمكنه القول: إن جميع الأرض هي حديقتي ومتجري. فالحياة وحدها هي التي أعطت للنحل فرصة التعرف وإمكانية الأُنس والتبادل مع أكثر الموجودات في الدنيا".19
ولعل هذا هو ما دفع بالنورسي20 ليؤكد على أَنَّ الحياة هي أَعظم تجل لاسم الله الحي، وأَروع معجزات القدرة الإلهية، والصنعة الإلهية الخارقة، وأَسطع برهان وأَثبته وأَكمله على وجوب وجوده تعالى، وأعجوبة الخلقة الربانية، وأَلطف تجليات اسم الرحمن والرحيم والرزاق والكريم والحكيم وأَمثالها من الأَسماء الحسنى، ولها من المراتب والوظائف والصفات والمرايا ما يحتاج بيانه وتفصيله إلى أُلوف الصفحات لتفي بكل هذه الخصائص.
فلو أَخذنا وجهي الحياة الظاهر والباطن لوجدناهما صافيين كاملين مبرأين من النقص والتقصير، وليس فيهما ما يستدعي الشكوى أو الاعتراض، وما ينافي نزاهة القدرة من دنس مستهجن أَو قبح ظاهر، ورغم هذا تضع القدرةُ الإلهيةُ أَسباباً ظاهرة لتصرفاتها فيهما، فما السر في ذلك، يجيبنا النورسي بقوله:
"إِنَّ كل شيء في الكون ينطوي على خير، وفيه جمال وحسن، أَمَّا الشر والقبح فهما جزئيان جداً، وليسا أصيلين، وهما بحكم وحدتين قياسيتين، أَي أَنَّهما وُجِدَا لإظهار ما في الخير والقبح حُسناً من هذه الزاوية، أَي من زاوية كونهما وسائل لإبراز المراتب والحقائق.
ولكن على الرغم من أَنَّ الخير والجمال أَصيلان في كل شيء في الكون، فإن ما يبدو لذوى الشعور من مظاهر القبح والشر والبلاء والمصائب قد تدفعهم إلى السخط والشكوى والامتعاض، فوضعت الأَسباب الظاهرة ستاراً لتصرف القدرة الإلهية، لئلا تتوجه تلك الشكاوى الظالمة والسخط الباطل إلى الحي عز وجل.
زد على ذلك فإِن العقل أيضاً بنظره الظاهري القاصر، قد يرى منافاة بين أَمور يراها خسيسة خبيثة قبيحة، وبين مباشرة يد القدرة المنزهة المقدسة، فوضعت الأَسباب الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الربانية لتُنَّزه عزة القدرة الإلهية عن تلك المنافاة الظاهرية".21
ويقال الشيء نفسه عن خاصية أُخرى تعد بالقياس إلى غيرها النتيجة الطبيعية للحياة، وسبب الخلق، وعلة الوجود، وهي العبادة والشكر. فيقول النورسي في شرحه لها:
"إِنَّ خالق الكون سبحانه وتعالى إذ يعرَّف نفسه لذوي الحياة ويحببها إليهم بنعمه التي لا تعد ولا تحصى يطلب منهم شكرهم تجاه تلك النعم، ومحبتهم إِزاء تلك المحبة، وثناءهم واستحسانهم مقابل بدائع صنعة، وطاعتهم وعبوديتهم تجاه أَوامره الربانية، فيكون الشكر والعبادة أعظم غاية لجميع أنواع الحياة.
إِن العبادة خاصة للّٰه وحده، وإِن الشكر والحمد لا يليقان حقاً إلاّ به سبحانه، وإِن ما في الحياة من شؤون وأُمور هي في قبضة تصرفه وحده. فينفى بهذا الوسائط والأَسباب مسلماً الحياة بما فيها إلى يد القدرة الإلهية. نعم إن الذي يدعو إلى الشكر والحمد والامتنان، والذي يثير الشعور إلى المحبة والثناء بعد نعمة الحياة، إنما هو الرزق والشفاء والغيث. وأمثالها من دواعي الشكر والحمد".22
فاذا كانت تلك وغيرها من خصائص الحياة ونتائجها. فإن حقيقة الحياة –كما رأى النورسي– مهما علت وعظمت لا تنحصر في هذه الدنيا قصيرة الأجل، والتي يكتنفها النقص والأَلم من كل ناحية، بل لابد من حياة أخرى سعيدة لا شقاءَ فيها مطلقاً، ونعيمها دائم لا يزول أَبداً. ولو لم يكن الأَمر هكذا لأصبحت الحياة الدنيا ولا سيما بالنسبة للإنسان دون ثمرة ولا فائدة ولا حقيقة. ولظل الإنسان شقياً وذليلاً، وأَحط من العصفور بعشرين درجة، مع أنه أسمى مخلوق، وأكرم ذوى الحياة، وأرفع من العصفور بعشرين درجة، من حيث الأجهزة وراس مال الحياة.
ويصبح العقل الذي هو أثمن نعمة بلاءً ومصيبة على الإنسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل فيعذّب قلب الانسان دائماً معكراً صفو لذة واحدة بتسعة آلام، ولا شك أن هذا باطل. فما دامت في الدنيا حياة، فهناك أيضاً في الآخرة حياة باقية في دار باقية، وفي جنة باقية.23
القيوم:
يفيد قيام الله تعالى بنفسه في المعنى استغناءه وعدم افتقاره لما سواه. وذلك لأن الله لايحتاج إلى سواه البتة، وكل ما سواه محتاج إليه، ومفتقر إليه في ذاته وصفاته، ومن هنا روعي في قيومية الله تعالى قوامه بذاته وقوام كل شيء به.
ولم يتجاوز النورسي في شرحه لمعنى الاسم ما سقناه آنفاً. فانتهى إلى أَنَّ "الله قائم بذاته، دائم بذاته، باق بذاته، وجميع الأَشياء والموجودات قائمة به، تدوم به، تبقى في الوجود به، وتجد البقاء به، فلو انقطع هذا الانتساب للقيومية من الكون بأقل من طرفة عين يمحى الكون كله".24
واسم القيوم يلي في المرتبة اسم الحي، وتجليه عند النورسي يأتي كذلك في المرتبة الثانية، فإذا كان تجلى اسم الحي قد جعل الموجودات كافة منوّرة بنور الحياة، فإن تجلى اسم القيوم هو الذي تكفل بحفظها ومراعاتها والاعتناء بها ما دامت أَبدانها معمورة بالحياة.
وتأسياً على معنى فإنَّ كل ما في الوجود وعلى حد تعبير النورسي يشير بقوة إلى تجلى اسم الله القيوم. فقيام الأَجرام السماوية في هذا الكون ودوامها وبقاؤها إنما هو مشدود بسر القيومية. "فلو صرف نور القيومية وتجليه وجهه، ولو لأقل من دقيقة، لتبعثرت تلك الأَجرام التي تفوق فخامتها الكرة الأَرضية بأُلوف المرات. ولانتثرت ملايين الأجرام في فضاء غير متناهٍ، ولاصطدم بعضها ببعض، ولهوت إلى سحيق العدم".25
وأوضح النورسي هذه الآية المتضمنة في حقيقة ذلك التجلي البديع بقوله:
"إننا مثلما نفهم قدرة قيومية من يُسيّر طائرات ضخمة في السماء بمقدار ثبات تلك الكتل الهائلة التي في السماء ودوامها. وبمدى انتظام دورانها انقيادها في جريها، نفهم أيضاً تجلى اسم القيوم، من منح القيوم ذي الجلال قياماً وبقاءً ودواماً لأَجرام سماوية لا حد لها في أثير الفضاء الواسع وجريانها في منتهى الانقياد والنظام والتقدير، وإسنادها وإدارتها وإبقائها دون عمد ولا سند.
وكما أن ذلك يمكن أن يكون مثالاً قياسياً للتجلي الأعظم لاسم القيوم، كذلك ذرات كل موجود، فإنها قائمة أيضاً بسر القيومية، وتجد دوامها وبقاءها بذلك السر، فبقاء ذرات جسم كل كائن حي دون أن تتبعثر وتجمّعها على هيئة معينة وتركيب معين حسب ما يناسب كل عضو من أعضائه. علاوة على احتفاظها بكيانها وهيئتها أمام سيل العناصر الجارفة دون أن تتشتت، واستمرارها على نظامها المتقن، كل ذلك لا ينشأ من الذرات نفسها، بل هو من سر القيومية الإلهية التي ينقاد لها كل فرد حي انقياد الطابور في الجيش، ويخضع لها كل نوع من أنواع الأحياء خضوع الجيش المنظم".26
ويمتد تجلى القيومية – كما يعقب النورسي على معنى إلى أحوال الموجودات وأوضاعها وكيفياتها "إذ لولا استناد كل شيء إلى تلك النقطة النورانية، لنتج ما هو محال من أُلوف الدور والتسلسل، وذلك لأن الحفظ أو الوجود أو الرزق أو ما شابهه من أي شيء كان، إنما يستند –من جهة– إلى شيء آخر، وهذا يستند إلى آخر، وهذا إلى آخر وهكذا، فلا بد من نهاية له، إذ لا يعقل ألاّ ينتهى بشيء. فمنتهى أمثال هذه السلاسل كلها إنما هو في سر القيومية".27
إنَّ تجلى اسم القيومية كما اتضح يكمن في النسبة الاستنادية والتي ترتبط فيها المخلوقات بخالقها ارتباطاً وثيقاً ومباشراً، وتجعل كل مخلوق يفتقر دوماً إلى بارئه تعالى. ومقتضى القيومية يطلب هذه النسبة ويحتمها، ولولاها لتلاشت الحياة والموجودات ولتساوى الكل في المعنى بالعدم.
الباقي:
إذا كان القدم في حقه تعالى يعنى استمرار الوجود في الماضي إلى غير نهاية، فبقاؤه تعالى يعنى استمرار وجوده في المستقبل إلى غير نهاية، وتلك خاصية جعلت معنى البقاء أشمل في المعنى من القدم، بل ويحتوي في داخله معنى القدم، وذلك لأن البقاء يعنى ثبات الله ثبوتاً أَزلياً وأبدياً. في حين ينحصر القدم على ناحية واحدة من الوجود البقاء فيها سابق، وهي عدم الأولية.
ويتميز البقاء فوق ذلك بميزة تعد –بلا أدنى شك– من الخواص الذاتية للّٰه تعالى وهي أن اسم القديم إذا أُطلق على الله فلا يفيد أكثر من التقدم في الوجود وعلى سبيل المبالغة، أَمَّا إِطلاق اسم الباقي فيعنى الموجود لا عن حدوث،28 وهو معنى يصعب توهمه فضلا عن تخيله.
إِن الثبات المطلق والذي يستحيل عليه الفناء لمعنى البقاء قد نبّه النورسي على زمانية خاصة لتجلى اسم الباقي لا يدخل فيها عنصري التغير والحركة. ولا التجدد والانقسام، ومن ثم فبمقتضى الاسم ونسبته منحى ذو وجهين:
- الأول تجلى فيه الاسم للمخلوقات كافة بحكم نسبتها الإستنادية للّٰه تعالى فصارت بموجب ذلك التجلي باقية لا يعتريها فناء، ولا يلحقها عدم بدءاً من أَبسط المخلوقات وأَضعفها كالزهرة. انتهاءً بالإنسان والملائكة.
- الثاني تجل يحدث على مقدار توجه المخلوق إلى اسم الباقي، وهو تجل خاص بالإنسان، ويشاركه فيه من شاركه في صفة المكلَّف كالجن والملائكة، والتوجه هنا توجه حركي يأخذ الطابع التعبدي.
وينفرد الإنسان في توجهه لاسم الباقي بخاصية لا نظير لها عند غيره من المكلفين. وهي أن الإنسان لما يحمله من مركب النقص والضعف أَشدهم حاجة لتجليات اسم الباقي، وفي هذا يقول النورسي:
"إن الإنسان بما أَودع الله فيه من ماهية جامعة يرتبط مع أَغلب الموجودات بأَوامر ووشائج شتى، ففي تلك الماهية الجامعة من الاستعداد غير المحدود للمحبة ما يجعله يكنّ حباً عميقاً تجاه الموجودات عامة، فيحب الدنيا العظيمة كما يحب بيته، ويحب الجنة الخالدة كما يحب حديقته. بينما الموجودات –التي وجّه الانسانُ حبه نحوها– لا تدوم، بل لا تلبث أن تزول، لذا يذوق الانسان دائماً عذاب ألم الفراق. فتصبح تلك المحبة التي لا منتهى لها. مبعث عذاب معنوي لا منتهى له.
فالآلام التي يتجرعها ناشئة من تقصيره هو، حيث لم يودع فيه ذلك الاستعداد إلا ليوجهه إلى محبة من له جمال خالد مطلق، بينما الإنسان لم يحسن استعمال محبته فوجهها إلى موجودات فانية زائلة، فيذوق وبال أمره بآلام الفراق".29
ولكن الإنسان عندما يدعو ربه قائلا يا باقي يعنى كما يذهب النورسي30 البراءة الكاملة من هذا التقصير، وقطع العلاقات مع تلك المحبوبات الفانية والتخلي عنها كلياً قبل أن تتخلى هي عنه، ثم تسديد النظر في المحبوب الباقي وهو الله تعالى، أي كأنه يقول: "لا باقي بقاءً حقيقياً إلا أَنت يا إلهي. فما سواك فانٍ زائل. والزائل غير جدير بالمحبة الباقية ولا العشق الدائم ولا بأن يشد معه أواصر قلب أَحد من الخلق أَصلاً، وحيث إن الموجودات فانية وستتركني ذاهبة إلى شأنها فسأتركها أَنا قبل أن تتركني بترديدي يا باقي أَنت الباقي. أي: أُومن وأعتقد يقيناً أَنه لا باقي إلا أَنت يا إلهي، وبقاء الموجودات موكول بإبقائك إياها، فلا يوجه إليها المحبة إذاً إلا من خلال نور محبتك وضمن مرضاتك، لآنها غير جديرة بربط القلب بها".
ويرى النورسي من بعد هذا كله "أن الإنسان لا يدعو بمثل هذا الدعاء إلا لعشقه الشديد نحو البقاء. حتى إنه يتوهم نوعاً من البقاء في كل ما يحبه، بل لا يحب شيئاً إلا بعد توهمه البقاء فيه، ولكن حالما يتذكر زواله أو يشاهد فناءه يطلق عليه الزفرات والحسرات من الأعماق، نعم إن جميع الآهات الناشئة من أَنواع الفراق، إنما هي تعابير حزينة تنطلق من عشق البقاء ولولا توهم البقاء لما أحب الإنسان شيئاً".31
ولأَجل هذا فقد نبّه النورسي على "أَن أَلزم شيء لهذا الإنسان، وأَجل وظيفة له هي شد الأواصر وربط العلاقات مع ذلك الباقي، وحيث إن عمر الإنسان الفاني يتضمن حياة قلبية وروحية هي معرفة الله ومحبته وعبادته وفق مرضاته. فإنه يتضمن إذاً عمراً باقياً، وثانية واحدة يقضيها الإنسان في سبيل الله الباقي تعد سنة كاملة بل أكثر، بل هي باقية دائمة لا ترى الفناء، بينما سنة من العمر إن لم تكن مصروفة في سبيله فهي زائلة حتماً: وهي في حكم لحظة خاطفة".32
القدوس:
انتقل اسم القدوس عند النورسي من دلالته البيّنة على تنزه الله تعالى عن ضروب العيوب والنقائص والأضداد والأنداد والصاحبة والولد، ليتجلى بهذه المعاني مجتمعة على الوجود، فيحظى بالطهر والنقاء والصفاء والبهاء، وقد شوهدت كلها على صفحة الوجود، لتشير في النهاية إلى أن فعل التنظيف والتطهير إنما هي تجل من تجليات اسم الله القدوس وتطهير العالم ووفقاً لمقتضى الاسم دائم لا ينقطع، يقول النورسي:
"فلولا المراقبة المستديمة للنظافة والعناية المستمرة بالطهر، لكانت تختنق على سطح الأرض مئات الآلاف من الأحياء خلال سنة، ولولا تلك المراقبة الدقيقة والعناية الفائقة في أرجاء الفضاء الزاخرة بالكواكب والنجوم والتوابع المعرّضة للموت والاندثار، لكانت أنقاضها المتطايرة في الفضاء تحطم رؤوسنا ورؤوس الأحياء الأُخرى، بل رأس الدنيا، ولكانت تمطر علينا كتلا هائلة بحجم الجبال.
ولولا التنظيف الدائب والتطهير الدائم في سطح الأرض، لكانت الأنقاض والأوساخ والأشلاء الناتجة من تعاقب الموت والحياة اللذين يصيبان مئات الأُلوف من أمم الأحياء، تملأ البر والبحر معاً، ولكانت القذارة تصل إلى حد ينفر كل من له شعور أن ينظر إلى وجه الأرض الدميم".33
فالعالم إذن وكما يؤكد النورسي قد حظي بتجلٍ من تجليات اسم الله القدوس، حتى إنه عندما "تصدر الأوامر الإلهية الخاصة بالتطهير والتنظيف لا تصدر للحيوانات البحرية الكبيرة المفترسة، والصقور البرية الجارحة وحدها، بل يستمع لها حتى أنواع الديدان والحشرات والنمل التي يقوم كل منها بمهمة موظفي الصحة العامة والراعين لها في هذا العالم، بل تستمع لهذه الأوامر حتى الكريات الحمراء والبيضاء الجارية في الدم، فتقوم بمهمة التنظيف والتنقية في حجيرات البدن، كما يقوم التنفس بتصفية الدم، بل حتى الأجفان الرقيقة تؤمر بالنظافة فتطهر العين باستمرار، بل حتى الذباب يستمع لها فيقوم بتنظيف أجنحته دائماً".34
"ومثلما يستمع كل ما ذكر سابقاً لتلك الأوامر الصادرة بالتطهير والتنظيف، تستمع لها أيضاً الرياح الهوج والسحاب الثقال، فتلك تطهر الأرض من النفايات، والأُخرى ترش روضتها بالماء الطاهر، فتسكن الغبار والتراب، ثم تنسب بسرعة ونظام حاملة أدواتها ليعود الجمال الساطع إلى وجه الأرض والسماء".35
ومثلما تصدر الأوامر التطهير والتنظيف إلى من نسبتهم إلى الله تعالى قهرية وجبرية، تصدر أيضاً إلى من نسبتهم إلى الله اختيارية كالإنس والجن، وذلك لما يتطلبه اسم القدوس من مقتضيات الطهر والنقاء والصفاء، لأَجل هذا عد النورسي الآية الكريمة ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾البَقَرَة:222 من الدلائل المشيرة إلى أن الطهر مدعاة إلى المحبة الإلهية ومدار لها.
العدل:
على الرغم من مظاهر التخريب والتعمير والاضطراب، ومظاهر الاصلاح والفساد التي تسود العالم بأكمله، إلاّ أن المتأمل الناظر يشهد موازنة عامة وميزاناً حساساً وعملية وزان دقيق تسيطر على أرجاء العالم وتهيمن عليه هيمنة محيرة للعقول، بحيث تدل بداهة: أن ما يحدث ضمن هذه الموجودات التي لا يحصرها العد من تحولات وما يلج فيها وما يخرج منها لا يمكن أن يكون إلا بعملية وزن وكيل، وميزان من يرى أنحاء الوجود كلها في آن واحد، ومن تجرى الموجودان جميعها أمام نظر مراقبته في كل حين.
وإلا فلو فوض أمر الموازنة العامة إلى الأسباب المادية السائبة والساعية إلى اختلال التوازن، أو أُسند إلى المصادفة العشواء أو القوة العمياء أو الطبيعة المظلمة، لكانت بويضات سمكة واحدة والتي تزيد على الألف تخل بتلك الموازنة، بل بذيرات زهرة واحدة والتي تزيد على العشرين ألف تخل بها. ناهيك عن تدفق العناصر الجارية كالسيل والانقلابات الهائلة والتحولات الضخمة التي تحدث في الكون.
فكل واحد منها قمين بأن يخل بتلك الموازنة الدقيقة المنصوبة بين الموجودات، وتفسد التوازن الكامل بين أجزاء الكائنات، ولكنت ترى العالم خلال سنة واحدة، بل خلال يوم واحد قد حل فيه الهرج والمرج، وتعرض للاضطراب والفساد. فالبحار تمتلئ بالأنقاض والجثث، والهواء يتسمم بالغازات المضرة الخانقة ويفسد، والأرض تصبح مزبلة وتغدو مستنقعاً آسناً لا تطاق فيه الحياة.
ولكن الأمر على النقيض من هذا كله، فلا تفاوت ولا اختلال في الموجودات كلها، ابتداء من حجيرات الجسم إلى الكريات الحمراء والبيضاء في الدم، ومن تحولات الذرات إلى التناسب والانسجام بين أجهزة الجسم. ومن واردات البحار ومصاريفها إلى موارد المياه الجوفية، ومن تولدات الحيوانات والنباتات ووفياتها إلى تخريبات الخريف وتعميرات الربيع، ومن وظائف العناصر، وحركات النجوم إلى تبدل الموت والحياة، ومن تصادم النور والظلام، إلى تعارض الحرارة والبرودة وما شابهها من أمور.
وعلى هذا فالكل يوزن ويقدر بميزان خارق الحساسية، وأن الجميع يُكتال بمكيال غاية في الدقة، بحيث يعجز عقل الإنسان أن يرى إسرافاً حقيقياً في مكان، وعبثاً في جزء، بل يحس ويشاهد أكمل نظام وأتقنه في كل شيء، ويرى أروع توازن وأبدعه في كل موجود.36
إن هذه الموازنة الدقيقة هي عند النورسي التجلي الأعظم لاسم الله تعالى العدل. والمقتضى اللازم من مقتضياته، فتظهر حركة الوجود دائرة على نظام ومساقة بترتيب يدق على الفهم، ومرتبة ترتيباً يضع كل موجود في موقعه اللائق به والمناسب لطبيعته وأحواله على نحو لا يشذ منه شيء، بحيث يمنع منعاً باتاً تصور ما هو نقيض له. وكل تصور عكس ذلك يدحض في العدالة الإلهية دحضاً لا يبقى معه إمكان لوجود أي علم أو إرادة أو قدرة للّٰه تعالى في العالم.
يقول النورسي شارحاً ذلك التجلي البديع:
"تأمل في الأرض، هذه السفينة الجارية السابحة في الفضاء والتي تجول في سنة واحدة مسافة يقدّر طولها بأربع وعشرين ألف سنة، ومع هذه السرعة المذهلة لا تبعثر المواد المنسقة على سطحها ولا تفرق العناصر المخزونة في باطنها ولا تطلقها إلى الفضاء، فلو زيد شيء قليل في سرعتها أو أنقص منها لكانت تقذف بقاطنيها إلى الفضاء، ولو أخلّت بموازينها لثانية واحدة لتعثرت في سيرها واضطربت، ولربما اصطدمت بغيرها من السيارات ولقامت القيامة.
ثم تأمل في حجيرات الجسم، وأوعية الدم. وفي الكريات السابحة في الدم. وفي ذرات تلك الكريات. تجد من الموازنة الخارقة البديعة ما يثبت إثباتاً قاطعاً أنه لا تحصل هذه الموازنة الرائعة ولا هذه التربية الحكيمة إلا بميزان حساس، وبقانون نافذ، وبنظام صارم للخالق الواحد الأحد العدل الحكيم، الذي بيده ناصية كل شيء، وعنده مفاتيح كل شيء، لا يحجب عنه شيء ولا يعزب، يدير كل شيء بسهولة إدارة شيء واحد".37
وكما اقتضت عدالة الله تلك الموازنة البديعة في الكون والحياة، فهي كذلك تقتضى إقامة الحياة الأخرى، وتستلزم الحشر، إذ لا يمكن –كما يؤكد النورسي– أن تنقلب الحقائق المهيمنة على الموجودات والمحيطة بالكون الى أضدادها بعدم مجيء الحشر وبعدم اقامة الآخرة، أي أن تنقلب الرحمةُ إلى ضدها وهو الظلم، وتنقلب الحكمةُ أو الاقتصاد إلى ضدهما وهو العبث والإسراف، وينقلب الطُهر إلى ضده وهو العبث والفساد. حاشَ للّٰه.38
وما أراد النورسي سوقه هنا أن معاني الكمال الإلهي قد تنقلب إلى أضدادها، فالرحمة تنقلب إلى ضدها وهو الظلم، وتنقلب الحكمة إلى ضدها وهو البعث، وينقلب الطهر إلى ضده وهو العبث والفساد.39
الحفيظ:
إن وجود الموجودات وحده على ماهي عليه، وثباتها في أداء وظائفها، ليس لها من حيث هي موجودة، فاقتضى الإيجاد ما يديم لها البقاء مدة تطول وتقصر حسب ما تؤديه من وظائف، وفي حدود ما هي مخلوقة له. والمعنى الذي يفيد الثبات وإدامة البقاء هو ما يعرف بالحفظ، وعلى الضد منه الإعدام.
وحفظ الموجودات مدة بقائها في الوجود هو أحد تجليات اسمه الحفيظ، حيث نشاهد كما يحدثنا النورسي حفيظية مهيبة بادية للعيان تحكم كل شيء حي، وتهيمن على كل حادث، تحفظ صوره الكثيرة، وتسجل أعمال وظيفته الفطرية.40
وكعادة النورسي فالمثل الذي يضربه لتجلى الاسم يعبر عن تلك الحفيظية بدقة متناهية فيقول:
"خذ غرفة بقبضتك من أشتات البذور والأزهار والأشجار، تلك البذيرات المختلطة والحبات المختلفة الأجناس والأنواع، وهي المتشابهة في الأشكال والأجرام، ادفن هذه البذيرات في ظلمات تراب بسيط جامد، ثم اسقها بالماء الذي لا ميزان له، ولا يميز بين الأشياء، ثم عد إليها عند الربيع الذي هو ميدان الحشر السنوي وانظر وتأمل ماذا ترى؟
فأنت ترى أن تلك البذيرات التي هي في منتهى الاختلاط والامتزاج مع غاية التشابه تمتثل تحت أنواع تجلى اسم الحفيظ امتثالاً تاماً بلا خطأ الأوامر الآتية من بارئها الحكيم، فتلائم أعمالها، وتوافق حركاتها مع تلك الأوامر بحيث تستشف منها لمعان كمال الحكمة والعلم والإرادة والقصد والشعور.
ألا ترى أن تلك البذيرات المتماثلة كيف تتمايز ويفترق بعضها عن البعض الآخر، فهذه البذيرة قد صارت شجرة تين تنشر نعم الفاطر الحكيم فوق رؤوسها وتنثرها عليها، وتمدها إلينا بأيدي أغصانها، وهاتان البذيرتان المتشابهتان بها قد صارتا زهرة الشمس وزهرة البنفسج. وأمثالها كثير من الأزهار الجميلة التي تتزين لأجلنا وتواجهنا بوجه طليق مبتسم متوددة إلينا".41
ويربط النورسي في ثنايا عرضه بين تلك الحفيظية المشهودة، وبين حقيقة الحشر التي تتضمنها الآية الكريمة ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾التَّكْوير:10 فيقول:
"إن ميلاد الزهور والنباتات يعلن الأمثلة والدلائل ما يؤكد على أن الأشياء جميعها ولا سيما الأحياء لم تخلق لتنتهي إلى الفناء، ولا لتهوى إلى العدم، ولا لتمحى إلى غير شيء، بل خلقوا للمعنى قدماً إلى البقاء، وللدخول بتزكية أنفسهم إلى عالم الحياة الخالدة".42
والحفيظ الذي يفعل هذا الحفظ المعجز يشير كما يقول النورسي إلى إظهار التجلي الأكبر للحفيظية يوم الحشر الأعظم والقيامة الكبرى، وذلك لأن كمال الحفظ والعناية في مثل هذه الأمور الزائلة التافهة من دون قصور لهو حجة بالغة على محافظة ومحاسبة ماله أهمية عظيمة وتأثير أبدي، كأفعال خلفاء الله في الأرض، وأعمال حملة الأمانة وأقوالهم، وحسنات عبد الواحد الأحد وسيئاتهم.43
تجلى الاسماء الحسنى على الإنسان:
إن النسبة الظاهرة بين اسم الله تعالى ومقتضاه هي التي أخرجت الموجودات إلى الوجود، وحددت لها وظائفها. وخصصت كل موجود بما يشار إليه إما إشارة عينية أو معرفية حسب رتبة الموجود ومنزلته وأهميته، وكما جعلت تلك النسبة كل موجود مستقل بذاته في الخلق، جعلته أيضاً يتفاوت من حيث الخلق والخلقة بتفاوت مقتضى الاسم وأثره.
ويتبين هذا الأمر في أرفع صوره وأسماها في أعلى الخلق مرتبة بين المخلوقات، وهم المكلفون من الملائكة والإنس والجن، ثم هو أوضح ما يكون عند الإنس خاصة، أفضل الخلق قاطبة وأعلاهم منزلة وتكليفاً، ومقارنة بسيطة بين خلق هؤلاء المكلفين وخلق سواهم ممن هم دونهم تكشف لنا عن تلك الحقيقة، وترينا في الوقت نفسه سمو وعلو منزلة الإنس على سائر خلق الله.
فالله تعالى وكما يقول ابن عربي عندما خلق سائر خلقه من غير المكلفين خلقهم بأسماء وصفات الجبروت والكبرياء والعظمة والقهر والعزة، فكان لهذه الأسماء والصفات أثر مشهدي في ذواتهم، فخرجوا أذلاء تحت القهر الإلهي، وتعرف إليهم بهذه الأسماء والصفات، فلم يجد منهم أحد في نفسه طمعاً للكبرياء على أحد من خلق الله، كيف وقد أشهدهم الله أنهم في قبضته وتحت قهره، وشهدوا بأن نواصيهم بيده، فقال تعالى ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾هُود:56 والأخذ بالناصية كناية عن القهر، لأن من أخذ بناصية غيره فقد قهره وأذلّه.
أما الملائكة والجن والإنس فقد خلقوا بأسماء وصفات اللطف والحنان والرأفة والعطف والمنة، وعندما خرجوا للوجود لم يروا عظمة ولا عزاً ولا كبرياء، ورأوا أنفسهم مستندة في وجودها إلى رحمة الله وعطفه، ولم يبد الله لهم من جلاله وكبريائه وعظمته حين تجلى لهم ما يشغلهم عن نفوسهم، فأقروا له بالربوبية، لأنهم في قبضته ولو شهدوا أن نواصيهم بيد الله شهادة عين ما عصوا الله طرفة عين، وكانوا مثل سائر المخلوقات يسبحون الليل والنهار ولا يفترون.44
ومن بين هؤلاء خص الله تعالى الإنسان بخلقة جعلت منه صنعته الخارقة، ومعجزته الرائعة، ثم جعله مظهراً لجميع تجليات أسمائه وصفاته، وصيره مثالاً مصغراً ونموذجاً للمخلوقات بأسرها، كيف لا، وهو كما يقول النورسي "أعظم مقصد من المقاصد الإلهية. المؤهل لإدراك الخطاب الإلهي، والمصطفى المختار من جميع خلقه ليخلف الله تعالى في أرضه، وبالخلافة سيّده على العالم سيادة استمد منها الوجود كل ماله من أهمية. وكل ماله من تناسق وجمال".45
والنورسي يرد سر امتياز الإنسان وتميزه إلى أنه أكمل مظهر من مظاهر تجليات الأسماء الحسنى، وهي التي جعلت منه عموداً سائداً للكائنات كلها، ومركزاً للكون ومحوراً له، ومسخراً من أجله. فعلى سبيل المثال هو وحده الذي يمكنه إدراك جميع الأسماء الإلهية ويتذوقها بما أودع الله فيه من مزايا وحقائق جامعة، فهو يدرك كثيراً من معاني تلك الأسماء لما يتذوق من لذائذ الأرزاق المنهمرة عليه، بينما لا يبلغ الملائكة إلى إدراك معانى الأسماء بتلك الأذواق الرزقية لافتقارهم إلى مثل ما عند الإنسان من حواس.46
أما حكمة تجلى أسماء الله الحسنى على الإنسان فترجع كما يقرر النورسي إلى الوظائف المهمة الثلاث التي أُنيطت بالإنسان وهي:
الأُولى: تنظيم جميع أنواع النعم المبثوثة في الكائنات بالإنسان وربطها بأواصر المنافع التي تخص الإنسان، كما تنظّم خرز المسبحة بالخيط، فيكون الإنسان بما يشبه فهرساً لأنواع ما في الخزائن الإلهية ونموذجاً لمحتوياتها.
الثانية: قيام الإنسان بمهمة الداعي إلى الله والدال عليه، بما أودع الله فيه من خصائص جامعة أهّلته ليكون موضع وحيه تعالى، ومقدّراً لبدائع صنائعه ومعجباً لها، لينهض بتقديم آلاء الشكر والثناء الشعوري التام على ما بسط أمامه من أنواع النعم والآلاء العميمة.
الثالثة: قيام الإنسان بحياته بمهمة مرآة عاكسة لشؤون أسماء الله وصفاته، وذلك بثلاثة وجوه:
الأول: شعور الإنسان بقدرة خالقه المطلقة ودرجاتها غير المحدودة، بما هو عليه من عجز مطلق، فيدرك مراتب القدرة المطلقة بما يحمل من درجات العجز، ويدرك كذلك رحمة خالقه الواسعة ودرجاتها بما لديه من فقر، ويفهم أيضاً قوة خالقه العظيمة بما يكمن فيه من ضعف… وهكذا.
وبذلك يكون الإنسان مؤدياً مهمة مرآة قياسية صغيرة لإدراك صفات خالقه الكاملة، وذلك بما يملك من صفات قاصرة ناقصة إذ كما أن الظلام كلما اشتد سطع النور أكثر، فيؤدي هذا الظلام مهمة إراءة المصابيح، فالإنسان أيضاً نراه يؤدى مهمة إراءة كمالات صفات بارئه وأسمائه بما لديه من صفات ناقصة مظلمة.
الثاني: إن ما لدى الإنسان من إرادة جزئية وعلم قليل وقدرة ضئيلة وتملّك في ظاهر الحال وقابلية على إعمار بيته بنفسه يجعله يدرك بهذه الصفات الجزئية خالق الكون العظيم، ويفهم مدى مالكيته الواسعة وعظيم إتقانه، وسعة إرادته، وهيمنة قدرته وإحاطة علمه. فيدرك أن كلا من تلك الصفات إنما هي صفات مطلقة وعظيمة، لا حد لها ولا نهاية، وبهذا يكون الإنسان مؤدياً مهمة مرآة صغيرة لإظهار تلك الصفات وإدراكها.
الثالث: قيام الإنسان بمهمة مرآة عاكسة لكمالات الأسماء الإلهية، من ذلك مثلاً إظهاره بدائع الأسماء الإلهية المتنوعة وتجلياتها المختلفة في ذاته، لأن الإنسان بمثابة فهرس مصغر للكون كله بما يملك من صفات جامعة، فكأنه مثاله المصغر، لذا فتجليات الأسماء الإلهية في الكون نراها تتجلى في الإنسان بمقياس مصغر.
كما يؤدى الإنسان في الوقت نفسه مهمة المرآة العاكسة للأسماء الإلهية، فإنه بوساطة كونه مخلوقاً يبين ويكشف عن اسم الخالق الصانع. ويشير بحياته إلى حياة الحي القيوم. ويظهر بحسن تقويمه وجمال صورته ودقة صنعه اسم الرحمن الرحيم، ويدل بكيفية تربيته ولطف رعايته اسم اللطيف واسم الكريم وهكذا.47
ومثلما أن الإنسان وحدة قياس مصغرة لمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته. وفهرس لتجلى اسمائه الحسنى، ومرآة ذات شعور بجهات عدة إلى ذات الله، هو أيضاً وحدة قياس لمعرفة حقائق الكون، وفهرس ومقياس وميزان له، والأمثلة التي أوردها النورسي لهذه المقايسة خير شاهد فيقول:
"إن الدليل القاطع على وجود اللوح المحفوظ في الكون يمثل في نموذجه المصغر، وهو القوة الحافظة لدى الإنسان، والدليل القاطع على وجود عالم المثال نلمسه في نموذجه المصغر وهو قوة الخيال لدى الإنسان، والدليل القاطع على وجود الروحانيات في الكون ندركه ضمن نموذجها المصغر وهو لطائف الإنسان وقواه.
وكما تشير تلك إلى ما سلف من حقائق، فإن جوارح الإنسان وأعضاءه وعناصره تشير هي الأخرى إلى حقائق كونية أرضية، فعظامه تنبئ عن أحجار الكون وصخوره، وأشعاره توحى إلى نباتات الأرض وأشجارها، والدم الجاري في جسمه، والسوائل المختلفة المترشحة من عيونه وأنفه تخبر عن عيون الأرض وينابيعها ومياهها المعدنية، وغير ذلك كثير".48
تلك هي إذاً مقتضيات الأسماء الحسنى وآثارها على الإنسان التي جعلت منه عالماً صغيراً لجمعه أغلب ما في العالم الكبير، ومن حيث المعنى عالم أكبر، ولب الوجود، ونسخة العالم المصغرة، وأصل العالم ومبدئه، وغيرها من
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | December 1, 2013 |
Published in Issue | Year 2013 Volume: 8 Issue: 8 |