منهجية النورسي في الاستدلال على الحياة الآخرة
أ.د. عبد المجيد النجار1
تمهيد
يحتلّ الإيمان باليوم الآخر موقعا أساسيا في العقيدة الإسلامية، فهو ركن من أركانها، إذا ما داخله شكّ أو جحود انهدم الإيمان بالدين كلّه. وإذا كانت ديانات سماوية سابقة، وبعض الفلسفات الإلهية قد جعلت للبعث بعد الموت موقعا فيها، فإنّ ما جاء في العقيدة الإسلامية متعلّقا بالبعث من وضوح في الصورة، ومن تفاصيل في المشاهد لم يرد مثله في أيّ دين أو فلسفة أخرى.
وبالرغم من أنّ فكرة البعث بعد الموت كانت فكرة معروفة في الثقافة الإنسانية القديمة إلاّ أنّ التصوّر الذي جاء به الإسلام في وضوحه وتفاصيله من حين الموت إلى حين الاستقرار في دار الجزاء ثوابا وعقابا قُوبل من أهل الجاهلية بإنكار شديد، إذ لم تستوعب العقول بعث الإنسان حيا بعد موته، وحسابه على أقوال وأعمال قد طوتها دهور من الزمن، وهو ما رواه القرآن الكريم في عدد كبير من آياته، وذلك مثل ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾،الواقعة:47 وفي قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.سبأ:7
وبالنظر إلى هذا الإنكار الشديد الذي قُوبلت به عقيدة البعث من قِبل المدعوّين إليها فإنّ القرآن الكريم قد جابه هذا الإنكار ببيانات وافية تبسط الشرح في هذه العقيدة، وتستدلّ عليها باستدلالات متنوّعة، حتى لقد أخذت هذه البيانات حجما في القرآن الكريم لعلّه يفوق ما خُصّص لأي عقيدة من المعتقدات الأخرى من حجم في البيان القرآني، ولا غرو فإنّ أيّا من تلك المعتقدات لا تتوقّف العقول في تصوّرها مثلما تتوقّف في تصوّر أنّ هذا الإنسان بعدما يطويه الموت بأزمان طويلة يُبعث حيا كما كان ليُحاسب على ما قدّمت يداه في حياته الأولى.
وبالرغم مما انتهت إليه العقيدة الإسلامية بما فيها عقيدة البعث من تسليم من قِبل المؤمنين، وما آلت إليه من استقرار في الضمير الإيماني للأمّة، إلاّ أنّه ظلّت تظهر بين الحين والآخر تأويلات تتعلّق بحقيقة البعث، يثيرها بعض المؤمنين من داخل الدائرة الإسلامية، أو بعض المناوئين من خارجها، وكانت مثارا لجدل ديني واستدلالات متقابلة عمرت بها مدوّنات علم العقيدة الإسلامية، فكانت هذه المسألة من أهمّ المسائل المطروحة فيه، ولنذكر في ذلك على سبيل المثال ما تأوّله الفلاسفة المسلمون من قصرهم الإيمان بالبعث على بعث الأرواح دون الأجسام، وما قوبل به ذلك التأويل من اعتراض واسع من قِبل المتكلّمين، وما جوبه به من استدلالات لنقضه وإثبات ضدّه.2
وكلّما نشط الفكر المادّي في عصر من العصور نشط معه السجال في قضية البعث؛ ذلك أنّ هذا الفكر لا يؤمن إلاّ بما هو تجريبي محسوس، وإذ كان البعث غير قابل للتجربة الحسّية، وليست له شواهد في التاريخ الماضي فإنّه عندهم أمر منكر في العقل، غير متّصف بإمكان الوقوع، ذلك ما ذهب إليه الدهريون قديما، وهو ما نشط القول به في الفلسفة المادّية الحديثة، ومن المسلمين من كان له تأثّر بتلك الفلسفة، فانخرط بشكل أو بآخر في ذلك الإنكار. وكان هذا الأمر أحد الدواعي التي جعلت الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر، والاستدلال عليه محورا مهمّا من محاور الاستدلال العقدي في المدوّنات الحديثة لعلم العقيدة، حتى لا يكاد يخلو أيّ منها من بسط استدلالي على عقيدة البعث. وفي هذا الإطار يتنزّل ما جاء في مؤلّفات النورسي من احتفال واسع بهذه العقيدة التي كان يسمّيها في الغالب بالحشر، شرحا واستدلالا.
ـ الاستدلال على الآخرة في التراث العقدي.
جريا على التوجّه القرآني في تكثيف الاستدلال على اليوم الآخر، وتصدّيا للمعارضات التي ووجهت بها عقيدة البعث، والتأويلات التي تناولته بالشرح، فإن علم العقيدة قد خُصّصت فيه مساحة واسعة لشرح هذه العقيدة والاستدلال عليها، فكلّ المصادر المعتبرة تجعل من هذا المبحث قسيما لبحثين آخرين هما: الألوهية والنبوة، وتدرج سائر المسائل العقدية ضمن هذه المباحث الثلاثة، وعلى هذا النحو جرى التأليف في علم العقيدة طيلة تاريخه.
وبما أنّ اليوم الآخر هو مسألة سمعية، ليس للعقل أن يعلم تفاصيلها من ذات نفسه، وليس له بالتالي أن يقيم عليها الأدلّة العقلية، وإنما تُعرف تلك التفاصيل من طريق الوحي المسموع، فإنّ الاستدلالات العقلية على هذه العقيدة كانت مساحتها محدودة إذا ما قورنت بالاستدلالات العقلية التي وردت في ثبوت الألوهية، وثبوت النبوة، وإنما اتّجه الاستدلال فيها بصفة مكثّفة إلى الشواهد النصية التي تثبت المشاهد والمقامات التي يتضمّنها الإيمان باليوم الآخر من حشر ونشر وميزان وصراط وحساب وثواب وعقاب.
ولكنّ مسألة واحدة من مسائل اليوم الآخر هي التي حظيت باستدلال عقلي واسع، إذ قد توقّفت فيها عقول كثير من المخاطَبين بالدعوة على أوّل عهدها، والتي عارضها المعارضون وتأوّلها المتأوّلون، وهي مسألة البعث، أي بعث الناس أحياء بعد موتهم حينما تنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الآخرة، فهذه المسألة أطنب في الاستدلال عليها المتكلّمون استدلالا عقليا. وربما وقع أيضا تناول مسألة الحساب وما يترتّب عليه من جزاء ببعض الاستدلالات العقلية من حيث ما يقتضيه ذلك من دليل عقلي على ضرورته قياسا على ما تجري به الحياة الدنيا.3 وقد اتّصفت جملة الاستدلالات على البعث التي حفلت بها مدوّنات علم العقيدة بثلاث صفات أساسية.
أولاها أنّ هذه الاستدلالات كانت متجهة في عمومها إن لم يكن في جميعها إلى إثبات الإمكان العقلي لبعث الإنسان حيا بعد موته، بروحه وجسمه معا، فقد تواردت الأدلّة على هذا المعنى مستخلصة مما ورد في القرآن الكريم منها، ومضافا إليها أدلّة أخرى ذات طابع فلسفي، استجابة في ذلك لتحدّي منكري البعث جملة، أو لمنكري بعث الأجساد، بناء على ما ذهب إليه هؤلاء المنكرون من استحالة هذا وذاك في العقل. وقد تركّز الاستدلال لإثبات إمكان البعث على إثبات إمكان إعادة المعدوم، وإثبات إعادة الأجسام، وردّ آراء المنكرين لهذا وذاك. وأمّا ما يتجاوز إثبات الإمكان إلى الاستدلال على ضرورة البعث ضرورة عقلية كانت أو غيرها فلم يحظ باهتمام مقدّر، كما بدأ يميل إليه الاستدلال العقدي في العهد الحديث.4
والثانية أنّ الاستدلالات على البعث في التراث العقدي كانت على وجه العموم تتّجه إلى الملكة العقلية فيه دون سائر ملكاته، إذ قد صيغت في مجملها صياغات منطقية تميل إلى الحسم بالأقيسة التي تترتب فيها النتائج على المقدمات في صياغات جافة يقتضيها الجدل الفلسفي، ومثال ذلك ما جاء في مواقف الإيجي وشرحه، وهو المعبّر عن روح هذا الاستدلال في التراث العقدي من قوله تأييدا لجواز بعث الأجساد: "أما الجواز فلأن جمع الأجزاء على ما كانت عليه وإعادة التأليف المخصوص فيها أمر ممكن لذاته كما مرّ؛ وذلك لأن الأجزاء المتفرقة المختلطة بغيرها قابلة للجمع بلا ريب، وإن فُرض أنها عُدمت جاز إعادتها ثم جمعها، وإعادة ذلك التأليف فيها لما عرفت من جواز إعادة المعدوم".5 إنه إذن منهج استدلالي صارم لا يمسّ من الكيان الإنساني إلا ملكته العقلية المنطقية دون سائر ملكاته الروحية والعاطفية، وذلك هو المنهج الغالب، والاستثناءات فيه قليلة.
والثالثة أنّ الاستدلالات التراثية على البعث لم تستثمر الاستثمار الكامل ما ورد في القرآن الكريم من الأدلّة على البعث، فقد جاء في القرآن مجموعة واسعة من الأدلّة على إمكان بعث الناس أحياء بعد الموت، وهي أدلّة متنوّعة، منها ما هو ذو طابع عقلي يخاطب في الإنسان ملكاته المنطقية، مثل قوله تعالى: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.الإسراء:51 ومنها ما هو ذو طابع نفسي روحاني يخاطب عواطف الخوف والرجاء مثل قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾.يونس:46
إنّ هذه الأدلّة القرآنية المتنوّعة لا نجد لها صدى واسعا في الاستدلال التراثي على البعث، وإن كان لا يخلو من بعضها، وإنما وقع التركيز على الأدلّة العقلية المنطقية، التي تقتبس من الأفكار الفلسفية. وربما كان السبب في ذلك أنّ الجدل في هذا الشأن كان أكثره جاريا في مواجهة المنكرين للبعث من خارج الدائرة الإسلامية، ومواجهة المتأوّلين فيه المتأثّرين بالفلسفة اليونانية مثل ابن سينا وغيره، وهؤلاء جميعا لا يناسبهم في الجدل إلا الأدلّة المنطقية الفلسفية التي على نسقها أوردوا اعتراضاتهم وتأويلاتهم. وأما سائر المسلمين فإنهم في غنى عن هذه الأدلّة، ويكفي في تذكيرهم ووعظهم ما جاء في البعث من أدلّة سمعية في القرآن والسنّة.
2 ـ اهتمام النورسي بعقيدة الآخرة
كان للإيمان بالآخرة اهتمام كبير عند النورسي، لا باعتبار أنّ ذلك الإيمان ركن أساسي من أركان الدين، فذلك أمر معلوم من الدين بالضرورة لا يحتاج إلى واسع بيان، ولكن من حيث ما أولى هذه العقيدة من شرح، وما توسّع فيه من دعوة إليها، وما استجمع في شأنها من أدلّة، وما نوّع في بناء تلك الأدلّة، فقد بلغ ذلك في مؤلّفاته وفي مواعظه وتوجيهاته مبلغا يلفت انتباه الدارس لتراثه، إذ ما خصّصه في ذلك من حجم البيانات والاستدلالات فاق ما خصّصه لسائر مسائل العقيدة الأخرى.
ومن ذلك على سبيل المثال أنّ النورسي خصّص لهذه الشروح والاستدلالات المتعلّقة باليوم الآخر تحت مسمّى الحشر ما يفوق ثمانين صفحة من كتاب الكلمات في موضع واحد، وذلك بالإضافة إلى مواضع أخرى كثيرة يستغرق كلّ منها عددا من الصفحات،7 ومع ذلك لا يخلو مؤلّف من مؤلّفاته الأخرى من إيراد لعقيدة البعث،8 إما في مقام شرح وبيان، أو في مورد نصرة واستدلال، أو في موضع إرشاد وموعظة، أو في سياق تفنيد لشبه واعتراضات واردة، بحيث يتأكّد من كلّ ذلك أنّ هذه العقيدة كانت تحتلّ في تفكيره العقدي مكانة مرموقة قد لا تضاهيها أيّة مسألة عقدية أخرى.
وربما كان من أسباب هذا الاهتمام الكبير بعقيدة البعث، وإفرادها بهذا الحجم من البيان ما كان فاشيا في عصره وفي البيئة التي يعيش فيها من نزعة مادّية متنامية، فقد كانت تلك الظروف تتطرّق فيها إلى البلاد الإسلامية بصفة عامّة، والبلاد التركية بصفة خاصّة الثقافة المادّية آتية من الحضارة الغربية المتاخمة وقد كانت سوقها نافقة فيها، ومن تجلّيات ذلك أو مما ساعد عليه قيام كمال أتاتورك بهدم الخلافة الإسلامية، واستدعائه للنظم الأوروبية في مختلف مناحي الحياة، وهو الأمر الذي صنع المناخ الملائم لفشوّ الفكرة المادية التي تنكر العالم الغيبي بما فيه الحياة الأخرى.
وقد كان النورسي مستشعرا لهذه الهجمة المادّية، باثا شكواه منها في مناسبات عديدة، وكان يدرك أنها نزعة تصيب أوّل ما تصيب من معتقدات المسلم إيمانه بالآخرة، إذ بعث الأموات أحياء هو الأقرب إلى أن تناله المادّية بالعطب؛ ولذلك فإنّه تصدّى لهذه الهجمة تصدّي الواعي الجسور بأن ركّز تركيزا شديدا على عقيدة البعث بالبيان والاستدلال للحيلولة دون أن تتأثّر قليلا أو كثيرا بالنزعة المادّية الغازية، وذلك ما أشار إليه في مناسبات عدّة منها قوله بصدد التمهيد لإثبات الحياة الآخرة: "إنّ الفكر المادّي في عصرنا قد أسكر كثيرا من الناس، فأوغل الوهم والشبهة في أبسط الأمور البديهية، فلأجل إزالة هذه الأوهام والوساوس سنشير إلى أربعة منابع فقط من بين تلك المنابع الغزيرة للحدس القلبي والإذعان العقلي"،9 فهذا إذن أحد أسباب اهتمام النورسي بعقيدة البعث على هذا النحو من التوسّع.
ولعلّ من بين تلك الأسباب في اهتمام النورسي بعقيدة البعث هذا الاهتمام ما وجد في هذه العقيدة من طاقة دعوية كبيرة استثمرها في تنفيذ خطّته لإحياء الإيمان في المسلمين وقد تناوشتهم أسباب الضعف من جهات متعدّدة، فمن بين سائر المعتقدات الإسلامية تبدو عقيدة البعث تحمل القدر الأكبر من التأثير في النفوس، وذلك بما تتضمّنه من مشاهد ومقامات تثير عواطف الخوف والرجاء، وترقّق المشاعر، وتدعو إلى الأوبة إلى رحاب الله كلّ من زلّت بالإنسان القدم، أو تناسى العهد في زحمة الحياة وغواية الملذّات، فيكون التذكير باليوم الآخر واستجلاب الشواهد عليه مدعاة لتلبية هذه الدعوة إلى الأوبة بما تستحضر النفوس من هول المقامات الأخروية، وجلالة الجزاء ثوابا وعقابا.
وإذ قد استشرت في البلاد الإسلامية عامّة وفي تركية خاصّة على عهد النورسي نزعة الخلود إلى المادّة وفتنها الكثيرة تأثّرا بالغزو الثقافي الغربي، وإذ قد اختار النورسي في مشروعه الإصلاحي المنهج الذي يستجمع استنهاض الروح بالرقائق واستنهاض العقل بالحجّة معا، فإنه وجد في عقيدة البعث ما يتلاءم مع هذا المنهج، فأدرج بياناته لهذه العقيدة، واستدلالاته عليها بهذا الحجم ضمن خطّته الدعوية لما رأى فيها من المؤهّلات التي تخدم تلك الخطّة.
3 ـ الأسس المنهجية لاستدلال النورسي على الآخرة
يبدو أنّ النورسي قد كان يورد شروحه وبياناته واستدلالاته في خصوص عقيدة الآخرة ضمن خطّة منهجية مصنوعة، ولم يكن يورد ذلك بصفة تقليدية كما هو مستقرّ عند سائر المؤلّفين في العقيدة الإسلامية، وإذا كانت عقيدة البعث كما غيرها من المفردات العقدية غير مجموعة في سفر خاصّ بها من بين مؤلّفات النورسي على حدّ علمنا مما تظهر به جلية خصائص المنهجية التي اعتمدها، وإنما كانت مبثوثة في سائر مؤلّفاته وتوجيهاته، إلاّ أنّ المتأمّل في مجموع ما تضمّنته تلك المؤلّفات والتوجيهات من عروض تتعلّق بعقيدة البعث يتبيّن أنّها مبنية على أصول منهجية واضحة لعلّ من أهمّها ما يلي:
أ ـ السياق الدعوي
أشرنا آنفا إلى أنّ النورسي أدرج بياناته في عقيدة البعث ضمن سياق دعوي، إذ لم يكن هدفه من هذه البيانات مجرّد التعليم لمفردات هذه العقيدة، أو مجرّد الردّ على الخصوم المنكرين للبعث والمناوئين فيه، كما هو معهود في سائر المؤلّفات العقدية، وإنما كان هدفه الأساسي هو أن يتّخذ من عرضه لعقيدة البعث سبيلا للإحياء الإيماني الشامل في نفوس المسلمين، بحيث تعمل تلك البيانات على استنهاض الضمير الديني، وإفاقته من غفوته التي سبّبتها تراكمات عهود التخلّف، وضاعفت منها الهجمة الثقافية الغربية، فكان هذا السياق الدعوي أساسا منهجيا في عرض الاستدلال على عقيدة البعث.
وقد كان لهذا الأساس المنهجي في الاستدلالات على الآخرة أثر على بناء هذا الاستدلال وعلى ترتيبه وأسلوب عرضه، فقد جاءت هذه الاستدلالات معروضة على نحو علاجي وليس حجاجيا، إنها تعمد إلى مخاطبة النفوس خطاب الطبيب الذي يأخذ بيد المريض من أجل شفائه من مرضه، وأما الخطاب الحجاجي الذي يندرج ضمن منطق المقارعة من أجل الغلبة والظهور فهو خطاب تكاد تكون استلالات النورسي خلواً منه. ولمّا كان من مقتضيات الدعوة الترفّق بالمدعوّ للوصول به إلى الأخذ بما يُدعى إليه، فإنّ النورسي لما أدرج استدلاله على الآخرة في سياق دعوي اقتضى منه ذلك أن يكون هذا الاستدلال في عمومه وعظيا لا حجاجيا، ومن مظاهر ذلك أنّ النورسي كثيرا ما كان يمهّد لاستدلالاته بإيراد قصص وحكايات رمزية، ومنها يأخذ في بناء أدلّته على أساس هذا المنهج الدعوي.10
ب ـ مخاطبة مجموع الكيان الإنساني
أشرنا سابقا إلى أنّ الاستدلال العقدي كما جرت عليه مدوّنات علم العقيدة كان في مجمله ينتهج منهج الاستدلال العقلي الذي يخاطب في الإنسان مداركه المنطقية، ويكاد يقتصر في هذا الخطاب على التوجّه إلى القوّة العاقلة فيه، ليقنعه من خلال تلك القوّة بحقائق العقيدة، أو ليردّ عنه الشبه الواردة عليها، وذلك في أسلوب حجاجي يقوم على الأقيسة المنطقية الصارمة. وقد ظلّ هذا المنهج هو المنهج السائد في علم العقيدة، وربّما زاد استفحالا لما اختلط هذا العلم بمفاهيم فلسفية، واستعان بعلم المنطق.
أما النورسي فإنه لم يكتف في الاستدلال على عقيدة البعث بمخاطبة هذا البعد العقلي في الإنسان، وإنما خاطب فيه كلّ القوى التي من شأنها أن يكون لها مدخل في الاقتناع بهذه العقيدة المخاطَب بها، فبالإضافة إلى مخاطبة العقل بالدليل القائم على الحجّة المنطقية، فإنه يخاطب في الإنسان حواسّه التي تلتقط من آفاق الكون مشاهد تدلّ على البعث، وهي وإن كانت وسائل للعقل يبني عليها الاستدلال إلاّ أنّ لها الدور الكبير في بناء ذلك الاستدلال، وهو منهج القرآن الكريم في توجيهه إلى النظر في المشاهد الكونية من أجل الوصول منها إلى القناعات العقلية؛ ولذلك فإنّنا نجد النورسي دائم التوجيه في استدلالاته إلى النظر في تلك المشاهد من أرض ونبات وحيوان وإنسان وأفلاك.
كما أنّ النورسي يتوجّه بالخطاب الاستدلالي في شأن عقيدة البعث إلى مشاعر الإنسان وعواطفه وغرائزه ليتّخذ منها مدخلا يدخل منها اليقين بهذه العقيدة، إذ لمّا كان المقصود هو أن يؤمن الإنسان الإيمان الجازم بالمعاد والحساب فإنّ هذا الإيمان قد يحصل عند بعض الناس وفي بعض الأحوال من باب غير باب العقل، وهو باب المشاعر، فينبغي إذن أن يستثمر ذلك الباب في الاستدلال، ومما يؤكّد ذلك أنّ عقيدة الآخرة بما تتضمّنه من مشاهد الحشر والحساب والثواب والعقاب، لها أثر بالغ في استثارة مشاعر الإنسان وعواطفه، من خوف ورجاء، وخشية من العذاب وشوق إلى اللقاء؛ ولذلك فقد كان النورسي دائم الطرق على هذه الأبواب من أجل أن يدخل منها اليقين بعقيدة المعاد إلى الألباب، فقد بُني منهج هذا الاستدلال إذن على مخاطبة الإنسان كلاّ متكاملا في قواه الإدراكية عقلا وحسّا ومشاعر وعواطف.
جـ ـ التكامل الاستدلالي
العقيدة الإسلامية لئن كانت مفردات متعدّدة ألوهية ونبوّة وبعثا وقدرا وغيرها من المفردات التي تشكّل حقيقة الإيمان، إلاّ أنّها في معرض تعدّدها مفردات تمثّل وحدة متكاملة، لا من حيث إنّ الإيمان لا يكتمل إلاّ بها جميعا، ولكن من حيث كون حقائقها يفضي بعضها إلى بعض، ويكمّل بعضها بعضا، فإذا كان الإيمان بالله هو أساس الإيمان، فإنّ الإيمان بالنبوّة لا يكون له معنى إلاّ بالإيمان بالله الذي يرسل الرسل، والإيمان بالمعاد لا يكون له معنى إلاّ بالإيمان بالرسل الذين يخبرون بهذا المعاد، وهكذا فإنّ العقيدة الإسلامية وحدة متكاملة يتداخل بعضها مع بعض، ويتوقّف بعضها على بعض.
وبناء على ذلك فإنّ الاستدلال على مفردات العقيدة ينبغي أن يكون هو أيضا استدلالا متكاملا مهما اختصّ بعض منه ببعض تلك المفردات، بحيث تكون الحلقة الاستدلالية على مجمل مفردات العقيدة مترابطة متكاملة، يؤيّد بعضها بعضا، ويستمدّ بعضها من بعض، فبعض من الاستدلالات على الألوهية يمهّد للاستدلال على النبوّة، وبعض من الاستدلال على النبوّة يمهّد للاستدلال على البعث، وهكذا في كلّ مفردات العقيدة، إذ كلّ هذه المفردات تشترك في ذات الطبيعة وهي الطبيعة الغيبية.
ولم يكن هذا المعنى قائما على قدر من الوضوح في مدوّنات علم العقيدة، بل كان التقسيم في الاستدلال بتقسيم مفردات العقيدة ينحو منحى الحدّية والمفاصلة، فكان لكلّ مفردة استدلالاتها المستقلّة بها، وكان التواصل بينها محدودا، وربّما كان من أسباب ذلك الصفة التعليمية التي صُنّفت على أساسها تلك المدوّنات، وهذه الصفة تقتضي التمييز والتفصيل من أجل الإفهام، وذلك ما هو رائج في كلّ العلوم حينما يقع التأليف فيها بغاية تعليمية.
ولكنّ النورسي لم يكن كذلك في استدلالاته على عقيدة البعث، ولا غرو فقد أشرنا آنفا إلى أنّ النورسي لم تكن صياغته التأليفية صياغة تعليمية، وإنما كانت صياغة دعوية، وهو ما جعله في استدلالاته ينتهج منهج التواصل والتكامل بين الأدلّة على مختلف مفردات العقيدة، فهو ينطلق أحيانا في الاستدلال على البعث من استدلاله على صفات الله تعالى، فيقول في ذلك مثلا بعدما يثبت لله تعالى صفة الرحمة: "إنّ رحمة خالق الكون وهو الرحمن الرحيم تدلّ على السعادة الأبدية، نعم إن التي جعلت النعمة نعمة فعلا، وأنقذتها من النقمة، ونجّت الموجودات من نحيب الفراق الأبدي هي السعادة الخالدة ودار الخلود، وهي من شأن تلك الرحمة التي لا تحرم البشر منها".11 وعلى هذا النحو من تواصل الاستدلال صاغ النورسي مجمل استدلالاته حتى صار هذا التواصل أساسا من أسسه المنهجية في الاستدلال.
د ـ الاستدلال بالآفاق الكونية
لئن انتهى الاستدلال في مدوّنات علم العقيدة في مراحله المتأخّرة على وجه الخصوص إلى نزعة عقلية مجرّدة تأثّرا في الغالب بالمنطق حينما داخل العلوم الإسلامية، فإن النورسي يمكن أن نعدّه من طلائع المجدّدين من علماء العقيدة الذين عادوا بالاستدلال إلى منهجه القرآني الذي يدعو إلى جعل مشاهد الأنفس وآفاق الكون منطلقا أساسيا من منطلقات الاستدلال، إذ تتجلّى في هذه المشاهد وهذه الآفاق الآيات الدالّة على حقائق العقيدة بمفرداتها المختلفة، وهو ما جاء في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.فصلت: 53
ولذلك فقد كان النورسي في استدلاله على البعث كثيرا ما يستمدّ أدلّته من واقع النفس الإنسانية، ومن مشاهد الطبيعة الكونية، استفادة في ذلك من المكتشفات العلمية الحديثة لقوانين النفس والكون، ليوظّفها كمقدّمات يبني عليها إثباتاته لعقيدة الآخرة في مقاماتها المختلفة، فكثيرا ما كان يحلّل أغوار النفس البشرية فيما تنطوي عليه من أشواق وآمال غير متناهية ليستدلّ بها على امتداد الوجود في يوم آخر،12 وكثيرا ما كان يستقرئ مشاهد الطبيعة في أدقّ خصائصها التي كشف عنها العلم الحديث مثل ما بُنيت عليه من قانون النظام والغائية ليصوغ من ذلك دليلا على استمرارية الوجود لينتهي إلى غاية أخرى وإن كانت تخالف الغاية المشهودة، وتلك هي الحياة الأخرى،13 وسنعرض لاحقا نماذج من هذه الاستدلالات بشيء من التفصيل، وهو ما يتبيّن معه أنّ النورسي جعل من هذا المسلك أساسا منهجيا للاستدلال.
4 ـ مسالك الاستدلال على اليوم الآخر عند النورسي
إنّ هذه المبادئ المنهجية وربما غيرها مما قد يسفر عنه التقصّي في مؤلّفات النورسي هي التي اتّخذها مبادئ أساسية للاستدلال على مجمل المفردات العقدية بصفة عامّة، وعلى عقيدة البعث بصفة خاصّة، والمتتبّع لمؤلّفاته وبياناته وتوجيهاته يجد أنّ مجمل ما بناه من استدلال على العقيدة يقوم على هذه الأسس المنهجية بصورة أو بأخرى. ولكنّ هذا الاستدلال وإن كان يتأسّس على هذه الأسس إلاّ أنّه يتنوّع صورا مختلفة، ويسلك مسالك متعدّدة، تتضافر جميعا لتنتهي إلى نفس الغاية، وهي إثبات عقيدة البعث، فالناس المخاطَبين يختلفون في استعداداتهم للقَبول، لاختلاف طبائعهم، أو ثقافاتهم، أو أزمانهم، فيكون لكلٍّ مدخل يدخل منه اليقين، وتلك هي الداعية التي دعت النورسي إلى التنويع في مسالك الاستدلال على عقيدة البعث، ومن أهمّ تلك المسالك نورد ما يلي:
أ ـ مسلك الأنفس
استجابة للدعوة القرآنية التي توجّه إلى أن تكون النفس الإنسانية منطلقا للاستدلال على حقائق العقيدة، فإنّ النورسي كان دائم الرجوع إلى هذه النفس للتأمّل فيها، والتعمّق في أغوارها، ليتّخذ من مشاهدها مقدّمات استدلالية على حقيقة البعث، مستضيئا في ذلك بالبيانات القرآنية في حقيقة النفس الإنسانية حينا، ومستعينا حينا آخر بالمكتشفات العلمية المسجّلة في علم النفس، ومستكشفا حينا ثالثا أحوال النفس بتجربة استبطان ذاتي، وهو في كلّ ذلك يسلك مسلكا واحدا يبتغي فيه إثبات عقيدة البعث، وهو مسلك الأنفس كما جاء في التعبير القرآني. وممّا بناه من الأدلّة في سلوكه هذا المسلك ما يلي:
أولا ـ دليل الاستعدادات الإنسانية
إنّ المتأمّل في البنية النفسية للإنسان يجد أنّه وإن كان هذا الكائن محدودا في طاقاته وقدراته الجسمية، إلاّ أنّه في طاقاته واستعداداته النفسية غير محدود، فهو يحمل من الآمال والتصوّرات، ومن الميول والرغبات، ومن القدرات والاستعدادات أقدارا غير متناهية، وفي ذلك يقول النورسي: "يرى العلماء المحقّقون أنّ أفكار البشر وتصوّراته الإنسانية التي لا تتناهى، المتولّدة من آماله غير المتناهية، الحاصلة من ميوله التي لا تحدّ، الناشئة من قابلياته غير المحدودة، المدرجة في جوهر روحه كلّ منها تمدّ أصابعها فتشير وتحدّق ببصرها فتتوجّه إلى عالم السعادة الأبدية وراء عالم الشهادة هذا".14
وما ذلك إلاّ لأنّ هذه الحياة الدنيا القصيرة المدى غير كافية لأن تتحقّق فيها تلك الميول والآمال والرغبات، وغير كافية لأن تمتدّ فيها تلك القدرات والاستعدادات لتنفيذ متطلّباتها، إذ "جميع لذائذ الدنيا لا تشبع الخيال الذي هو أحد خدّام الماهية الإنسانية،"15 وإذ قد تبيّن بالدرس أنّ الكون كلّه خلق على غير إسراف، فما من موجود كوني إلاّ وقدّرت طاقاته بما يستوفيها في حياته، وهذا القانون الكوني قانون "عدم الإسراف الثابت حسب علم وظائف الأعضاء في الفطرة جميعها ومنها الإنسان لَيبيّن لنا أنّه لا يمكن أن تذهب هباء فيكون إسرافا جميع الاستعدادات المعنوية والاستعدادات غير النهائية والأفكار والميول"؛16 ولذلك فإنّ هذه الآمال والطاقات الإنسانية التي لا يمكن أن تتحقّق في الحياة الدنيا لا بدّ أنّه قد هُيّئ لها وجود آخر تستكمل فيه آمالها واستعداداتها توافقا مع قانون عدم الإسراف، وتلك هي الدار الآخرة التي تتحقّق فيها كلّ آمال الإنسان وقدراته واستعداداته ورغباته.
ثانيا ـ دليل الشوق إلى الأبدية
في فطرة الإنسان حبّ شديد للبقاء، وشوق جارف إلى السعادة الأبدية "حتى إنّه يتوهّم نوعا من البقاء في كلّ ما يحبّه، بل لا يحبّ شيئا إلا بعد توهّمه البقاء فيه... ولولا توهّم البقاء لما أحبّ الإنسان شيئا"،17 وكلّ فطرة إنسانية يقابلها واقع موجود، ففطرة الجوع والعطش يقابلها وجود الطعام والماء، وفطرة الخوف يقابلها وجود الأعداء، وفطرة المحبّة يقابلها وجود من يُحبّ، ولو لم يكن الماء موجودا ما وجدت في الإنسان فطرة العطش، وكذلك الأمر في كلّ مكوّنات الفطرة الإنسانية، فهل يكون الأمر كذلك في كلّ مكوّنات هذه الفطرة، ويتخلّف في فطرة حبّ البقاء وعشق الأبدية؟
إن الاستنتاج العقلي يقضي بأنّ ذلك غير ممكن، وأنّه إذا امتدّت كلّ فطرة في الإنسان إلى ما يقابلها في الوجود، فإنّ فطرة حبّ البقاء يقابلها أيضا امتداد الإنسان في البقاء في حياة أخرى بعد هذه الحياة، وأنّ في ذلك الامتداد تُشبع الأشواق إلى السعادة الأبدية، وهو ما عبّر عنه النورسي في قوله: "الفطرة التي لا تكذب أبدا والتي فيها ما فيها من ميل شديد قطعي لا يتزحزح إلى السعادة الأخروية الخالدة تعطي للوجدان حدسا قطعيا على تحقّق الحياة الأخرى، والسعادة الأبدية"،18 وهو ما عبّر عنه أيضا في موضع آخر بقوله: "إنّ دار الدنيا القصيرة هذه لا تكفي ـكما أنّها ليست ظرفاـ لإظهار ما لا يحدّ من الاستعدادات المندمجة في روح الإنسان وإثمارها، فلا بدّ أن يرسل هذا الإنسان إلى عالم آخر، نعم إن جوهر الإنسان عظيم، لذا فهو رمز للأبدية ومرشح لها".19
لقد كانت الأنفس مسلكا للاستدلال على حقائق العقيدة عند علماء العقيدة، وهو ما تضمّنته مؤلّفاتهم عبر العصور، استجابة في ذلك للقرآن الكريم، ولكنّ الاستدلالات في هذا الخصوص كان معظمها يتعلّق بالاستدلال على الألوهية،20 ولكنّ الاستدلال بالأنفس لإثبات المعاد لم يكن له رواج في التراث العقدي إلاّ أن تكون إشارات متناثرة واردة في سياقات مختلفة. أما النورسي فقد أورد الاستدلال بالأنفس على المعاد في مواضع عديدة من مؤلّفاته حتى غدا ذلك مسلكا أساسيا من مسالك استدلاله على عقيدة الآخرة.
ب ـ مسلك الآفاق
لعلّ هذا المسلك في الاستدلال على البعث هو أوسع المسالك التي دخل منها النورسي ليثبت هذه العقيدة، وليوجّه المخاطَبين إليها كي تكون مداخل اليقين بالآخرة إليهم، وبالإضافة إلى أدلّة كثيرة بناها بصفة أساسية على مشاهد الآفاق، فإنّ أدلّة كثيرة مما أدرجه ضمن مسالك أخرى كانت لها صلة على نحو أو آخر بآفاق الكون، استثمارا في ذلك للمكتشفات العلمية الحديثة، أو توجيها لها توجيها فلسفيا يوظّفه في استدلاله العقدي. وقد أدرج النورسي ضمن هذا المسار جملة كبيرة من الأدلّة نذكر منها على سبيل التمثيل ما يلي:
أولا ـ دليل الانهيار الكوني
إنما يتمّ البعث بعد انهيار هذا النظام الكوني الذي يحيا فيه الإنسان الحياة الدنيا، فهذا الانهيار هو إذن مقدّمة من مقدّمات الحياة الأخرى، أو هو جزء من أجزائها؛ ولذلك فإنّ الاستدلال على عقيدة الآخرة يتوقّف بالضرورة على ثبوت أنّ هذا النظام الكوني آيل إلى الزوال، وإن لم يثبت ذلك أو ثبت عكسه فإنّ كلّ الاستدلالات على عقيدة الآخرة سوف لن يكون لها معنى.
وإذا كانت نصوص الوحي تخبر بأنّ نظام الكون آيل إلى انهيار كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾التكوير:1-3 فإنّ هذه النصوص لا تقنع إلا مؤمنا، أما غير المؤمن فيحتاج إلى أدلّة أخرى من العقل الفلسفي أو من القوانين العلمية، وهو ما سعى فيه النورسي ببيان أنّ الموجودات الكونية إذا نُظر إليها أفرادا وُجد كلّ فرد منها مفطورا على عمر مقدّر ينتهي بعده إلى زوال في نظامه الذي يكون عليه، فالكون في جملته يكون كذلك أيضا، بحيث سينتهي بعد عمر محدّد إلى الانهيار. وتلك هي بداية اليوم الآخر.
لقد شرح النورسي هذا المعنى في قوله: "هناك [في الكون] نشوء ونماء، وإن النشوء والنماء هذا يعني أنّ له عمرا فطريا في كلّ حالة، وأن العمر الفطري يعني أنّ له على كلّ حالة أجلا فطريا، وهذا يعني أنّ جميع الأشياء لا يمكن أن تنجو من الموت، وهذا ثابت بالاستقراء العام والتتبّع الواسع، نعم فكما أنّ الإنسان هو عالم مصغر لا خلاص له من الانهيار، كذلك العالم فإنه إنسان كبير لا فكاك له من قبضة الموت."21 وإذا كان هذا الانهيار الكوني لم يحدث بعد فإنّه بالحساب العلمي قادم لا محالة، وذلك ما شرحه في قوله: "لئن لم تحدث للدنيا قبل أجلها الفطري وبإذن إلهي حادثة مدمّرة أو مرض خارجي، أو لم يخلّ بنظامها خالقها الحكيم فلا شكّ بحساب علمي أن سيأتي يوم يتردّد فيه صدى ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ...﴾ عندئذ تظهر معاني هذه الآيات وأسرارها"،22 ولعلّه يقصد بهذا الحساب العلمي ما اكتُشف من قانون التناقص الحراري الذي سينتهي النظام الكوني بمقتضاه إلى الانهيار.23
ثانيا ـ دليل الاستمرار
إذا كان البعث تستصعب تصوّره بعض العقول، فإن ذلك إنما هو بسبب ما يستصعبه العقل من استمرارية بقاء الإنسان حيا بعد موته المشهود للعيان، وذلك من أجل أن يتمّ حسابه ثم جزاؤه، فهذه الاستمرارية في حقيقة الإنسان التي سيتمّ في مرحلتها الثانية الحساب بالرغم من زوال مظاهره هي التي كانت مناط الإنكار من قِبل أكثر المنكرين للبعث؛ ولذلك فقد كرّس النورسي جهدا كبيرا للاستدلال على أنّ استمرارية الحقائق مع زوال المظاهر أمر ممكن تشهد به مظاهر كثيرة من مشاهد الكون.
إنّ موجودات كثيرة من موجودات الكون تقضي مدّة من وجودها لتقوم بدورها على كيفية مشهودة، ثم تختفي ليُظنّ أنها قد انقطعت عن الوجود وعن القيام بأيّ دور، ولكنّها في الحقيقة وإن تكن قد اختفت في الظاهر فما زال لها نوع من البقاء تقوم فيه بدور وإن يكن دورا غير ظاهر للعيان، ولكنه مؤثّر في الواقع، دالّ على استمرارية البقاء في حياة من نوع آخر غير نوع الحياة الأولى، وإذا كان ذلك ممكنا بل واقعا في هذه المشاهد الكونية، فإن استمرارية الإنسان في حياة أخرى بعد هذه الحياة ليقوم بدور آخر غير الدور الذي يقوم به في هذه المرحلة من الحياة الدنيا هو أمر ممكن أيضا.
ولشرح ذلك، ولبيان كيف أنّ الشيء يفنى من جهة إلا أنه يبقى من جهات كثيرة يقول النورسي: "تأمّل في هذه الزهرة وهي كلمة من كلمات القدرة الإلهية، إنها تنظر إلينا مبتسمة لنا في فترة قصيرة، ثم تختفي وراء ستار الفناء، فهي كالكلمة التي نتفوّه بها، التي تودع آلافا من مثيلاتها في الآذان، وتبقى معانيها بعدد العقول المنصتة لها، وتمضي بعد أن أدّت وظيفتها، وهي إفادة المعنى، فالزهرة أيضا ترحل بعد أن تودع في ذاكرة كلّ من شاهد صورتها الظاهرة، وبعد أن تودع في بذيراتها ماهيتها المعنوية، فكانت كلّ ذاكرة وكلّ بذرة بمثابة صور فوتوغرافية لحفظ جمالها وصورتها وزينتها ومحلّ إدامة بقائها"،24 وإذن فإنّ الصورة قد تزول، ولكنّ نوعا من وجودها يكون له بقاء.
ولو نظرت إلى الموجودات النباتية والحيوانية فإنّك سوف تجد كلّ خلية من خلاياها تحمل في ذاتها استمرارا لوجودها، حتى إذا ظننت أنّ تلك الموجودات قد زالت فإذا بتلك الشفرة الوراثية تنبعث بها من جديد ليستمرّ لها وجود في ظرف آخر من ظروف البقاء، فلماذا إذن لا يكون الإنسان كذلك، فينبعث من جديد بعد الموت كما تنبعث النبتة من البذرة بعد موت النبتة السابقة، فمثلا "إذا ماتت شجرة تين وتبعثرت فإن قانون تركيبها ونشأتها الذي هو بمثابة روحها يبقى حيا في بذرتها المتناهية في الصغر، أي أن وحدة تلك القوانين لا تفسد ولا تتأثّر ضمن جميع التغيرات والتقلبات، وطالما أنّ أبسط الأوامر القانونية السارية وأضعفها مرتبطة بالدوام والبقاء، فيلزم أنّ الروح الإنسانية لا ترتبط مع البقاء فحسب، بل مع أبد الآبدين".25
وليس نشر الأعمال للحساب في يوم آخر غير هذا اليوم الدنيوي بأمر مستغرب، إذ شواهده قائمة في هذه الحياة الدنيا، وهي شواهد دالّة على إمكانه، فلو تأمّلت في هذا الكون فإنك سوف تجد بقانون الوراثة نفسه أنّه "لكلّ ثمر ولكلّ عشب ولكلّ شجر أعمال، وله أفعال، وله وظائف، وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تظهر به الأسماء الإلهية الحسنى، فجميع هذه الأعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها، وستظهر جميعها في ربيع آخر ومكان آخر، أي أنّه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمال أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر فإنه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الأغصان وتفتّح الأوراق والإثمار"،26 وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان، فإنه وإن قد زالت صورته الظاهرة فسيكون له يوم تنشر فيه أعماله كما نشرت أعمال النبتة بفعل بذرة البقاء.
ج ـ مسلك الإيمان بالله
أشرنا سابقا إلى أنّ النورسي كان منهجه في الاستدلال على العقيدة هو منهج الوصل بين الأدلّة على مفرداتها المختلفة؛ ولذلك فإننا نجده في الاستدلال على حقيقة البعث كثيرا ما يستثمر أدلّة قد تقرّرت في مفردات عقدية أخرى، وخاصّة منها تلك الأدلّة التي انتهت إلى إثبات عقيدة الألوهية، وبالأخصّ منها ما تعلّق بإثبات الصفات الإلهية، فانطلاقا من تلك الأدلّة وما انتهت إليه من إثباتات في شأن تلك الصفات ينطلق لبناء أدلّة تثبت حقيقة البعث، وقد تكرّر ذلك كثيرا في مؤلّفاته، وتحصّلت منه جملة من الأدلّة نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
أولا ـ دليل القدرة الإلهية
وهو دليل مستخرج من القرآن الكريم، وكان واسع الانتشار في مدوّنات التراث العقدي، ولكنّ النورسي استخدمه بتوسّع، مع إضافات في الشروح وفي ضرب الأمثلة، ومقتضاه أنّ كلّ من يؤمن بإله يتّصف بصفة القدرة فإنّ إيمانه هذا من شأنه أن يقوم له مقام الدليل على إمكان البعث؛ ذلك لأنّ هذه القدرة التي تبدّت آثارها جلية في المخلوقات الكونية العظيمة فإنّ بعث الإنسان حيا ليُحاسب ويجازى ثوابا أو عقابا سيكون داخلا في مجال تلك القدرة، فيثبت إذن إمكان هذا البعث لوقوع ما هو أعظم منه بفعل القدرة الإلهية.
وعلى سبيل المثال فإنّ قدرة الله تعالى خلقت الإنسان خلقا ابتدائيا، وهو الأمر المسلّم به، وذات هذه القدرة يمكن بها إعادة الإنسان بعد موته، بل ذلك أهون كما جاء في القرآن الكريم: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾الأنبياء:104 "وحيث إنّه ليست هناك مراتب قط في القدرة الإلهية الأزلية، لذا فالمقدّرات هي حتما واحدة بالنسبة إلى تلك القدرة، فيتساوى العظيم جدا مع المتناهي في الصغر، وتتماثل النجوم مع الذرات، وحشر جميع البشر كبعث نفس واحدة.. وكذا خلق الربيع كخلق زهرة واحدة سهل هيّن أمام تلك القدرة".27
وإذا كانت هذه القدرة الإلهية في هذا العالم المشهود تصنع النقيض من نقيضه كما جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا﴾،يس:80 فإنها يمكن أن تصنع من الموت حياة فيكون البعث، وبهذا المعنى يقول النورسي للمخاطَبين لإقناعهم بإمكان البعث: "إنكم ترون إحياء واخضرار الأشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟". إنّ من يؤمن بقدرة الله إذن يترتّب عليه أن يؤمن بإمكان بعث الأموات أحياء، كما يرى بشهادة الحواسّ أنّ القدرة الإلهية تحيي الإنسان ابتداء، وتخرج الحيّ من الميّت والميّت من الحيّ.
ثانيا ـ دليل الحكمة والعدل.
لقد خلق الله تعالى هذا الكون على أساس من العدل والحكمة، فكلّ شيء فيه قائم على حكمة، ومبني على توازن، وهي حكمة لا يشوبها خلل، وتوازن لا يداخله تفاوت، وهذا النظام البديع في الكون شاهد على ذلك، سواء في تركيب الموجودات، أو في حركاتها، أو في علاقاتها ببعضها، وما زالت العلوم الكونية تكشف عن ذلك يوما بعد يوم، حتى أصبح هذا الأمر أمرا مسلّما من قِبل جميع الناس، بل إنّ هذه المظاهر من الحكمة والعدل التي يتقوّم بها الوجود الكوني من أصغر الموجودات إلى أعظمها ما زالت يوما بعد يوم تجتذب العلماء المحقّقين في أسرار الطبيعة إلى دائرة الإيمان بالله تعالى، وذلك من خلال الوقوف على مظاهر حكمته وعدله.28
ولكن بالنسبة للإنسان الذي خُلق على حرية في الاختيار، وحُمّل أمانة التكليف، فإننا نرى حياته بمقتضى هذه الحرية لا يتحقّق فيها العدل والحكمة، إذ كثيرا ما نرى ظالمين مجرمين يعيشون في الدنيا عيشة هنيئة، ولا يلقون في حياتهم عقابا على ظلمهم وإجرامهم، ونرى آخرين مظلومين ومحسنين ولكنّهم يعيشون حياة صعبة، ويتعرّضون لابتلاءات شديدة، ولا ينالون في مقابل إحسانهم جزاء، ولا مقابل مظلوميتهم عدلا، وذلك ما هو مشاهد في الحياة الاجتماعية.
ولو انتهى أمر الحياة على هذا النحو، فيذهب الظالم بظلمه دون عقاب، ويذهب المحسن بإحسانه دون ثواب، لكان ذلك خرقا لما بُني عليه الكون من الحكمة والعدل، ولما كان الله تعالى متّصفا بهما، والحال أنّ ألوهيته تقتضي الاتّصاف بهذه الصفات، فالإيمان بهذه الصفات يقتضي إذن أن تكون حياة الإنسان ممتدّة إلى مدى أبعد من هذا المدى الدنيوي، وهو مدى أخروي يتمّ فيه العقاب للظالم المعتدي، والثواب للمحسن المظلوم، وحينئذ يتمّ التوازن والعدل، وتتحقّق الحكمة.
لقد ردّد النورسي هذه المعاني في مواقع متعدّدة، ومن ذلك قوله: "يظلّ الإنسان دون جزاء في هذه الدنيا لما يرتكبه من وقائع الظلم، وما يقترفه من إنكار وكفر وعصيان تجاه مولاه الذي أنعم عليه ورباه برأفة كاملة وشفقة تامّة، مما ينافي نظام الكون المنسّق، ويخالف العدالة والموازنة الكاملة التي فيها، ويخالف جماله وحسنه، إذ يقضي الظالم القاسي حياته براحة، بينما المظلوم البائس يقضيها بشظف من العيش، فلا شكّ أنّ ماهية تلك العدالة المطلقة التي يُشاهد آثارها في الكائنات لا تقبل أبدا ولا ترضى مطلقا عدم بعث الظالمين العتاة مع المظلومين البائسين الذين يتساوون معا أمام الموت"،29 وإذن فإنّ الإيمان بعدالة الله تعالى وحكمته يمكن أن يُستدلّ بها على ضرورة البعث في اليوم الآخر.
د ـ مسلك المنفعة
كثيرا ما كان القرآن الكريم يعرض العقيدة الإسلامية في سياق الدعوة إلى الإيمان بها عرضا استدلاليا ببيان ما تحقّقه تلك العقيدة للإنسان من نفع في حياته الدنيا قبل حياته الأخرى، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾،الرعد:28 وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾،طه:124 ففي الآيتين دعوة إلى الإيمان بالله في سياق استدلالي ببيان ما يؤدّي إليه ذلك الإيمان من منفعة اطمئنان القلوب، وما يؤدي إليه عدم الإيمان من شقاء المعيشة، ولا غرو فإنّ الدين كلّه والعقيدة على رأسه لم يكن إلا من أجل تحقيق النفع للإنسان.
وقد كان النورسي مقتفيا لهذا المنهج القرآني في استدلاله على الآخرة، إذ كثيرا ما كان يعرض هذه العقيدة لإقناع المخاطَبين في سياق الاستدلال عليها بما تحقّقه من نفع دنيوي، فاتّخذ إذن من المنفعة الحاصلة من الإيمان بالبعث دليلا على أن هذه العقيدة جدير بالإنسان أن يؤمن بها، وإذا كان هذا الضرب من الاستدلال يتّجه إلى إقناع المخاطَب بالإيمان بالبعث بما هو خارج عن حقيقته الذاتية وهو المنفعة التي تحصل منه، وليس بما هو متعلّق بذات تلك الحقيقة، فإنّه استدلال مشروع، لأنّه يفضي إلى ذات النتيجة، إذ ما تتحقّق به منفعة حقيقية للإنسان لا يمكن أن يكون إلا حقا في ذاته، فتثبت إذن أحقّيته الذاتية من خلال نتائجه؛ ولذلك فقد صاغ النورسي جملة من الأدلّة على عقيدة البعث من خلال ما تحققه من منافع، ومن بين تلك الأدلّة ما يلي:
أولا ـ دليل المنفعة الفردية
بيّن النورسي في مقامات عديدة من مؤلّفاته كيف أنّ الإيمان باليوم الآخر تترتّب عليه منفعة نفسية بالغة الأهمّية، وتنبثق منه للمؤمن سعادة غامرة، وتكسبه صفات حميدة ترشّد أداءه فيما قُدّر له من وظيفة خلق من أجلها، وكذلك تزول به أمراض كثيرة تغشى النفوس وتسبّب لها آلاما قد تبلغ بها مبلغ اليأس والقنوط، بل قد تبلغ درجة السعي للتخلّص من الحياة، أو تحدث فيها قصورا وعاهات تقعد بها عن أداء المهامّ المطلوب من الإنسان أداؤها في مجمل حياته أو في تصرّفاته اليومية.
ومن ذلك على سبيل المثال أنّ "ما يقلق الإنسان دوما وينغّص حياته هو تفكيره الدائم في مصيره، وكيفية دخوله القبر، مثلما انتهى إليه مصير أحبّته وأقاربه فتوهّم الإنسان.. أنّ آلافا بل ملايين الملايين من إخوانه البشر ينتهون إلى العدم بالموت ذلك الفراق الأبدي الذي لا لقاء بعده سيذيقه هذا التصوّر ألما شديدا [ولكن حينما يؤمن بالآخرة فإنه] يكسب لذة روحية عميقة تنبئ بلذّة الجنة، بما يشاهده من نجاة أحبته وخلاصهم جميعا من الموت النهائي والفناء والبلى والاندثار، ومن بقائهم خالدين في عالم النور الأبدي منتظرين قدومه إليهم"،30 إنّ عقيدة تحقّق هذه المنفعة العظيمة لا يمكن إلا أن تكون حقا جديرة بأن يؤمن بها الإنسان.
وعلى سبيل المثال أيضا فإن الإنسان في خريف العمر وقد وهنت قواه، وانقطع عطاؤه، قد يشيع فيه ذلك الشعور بأنّه أصبح عالة على أهله ومجتمعه، وبأنّ حياته قد استنفدت أغراضها، وذلك ما من شأنه أن يجعله في حال من اليأس والقنوط والقلق النفسي البالغ، فتضيق عليه الدنيا بما رحبت، وتنقلب الحياة إلى عذاب أليم، وليس من منقذ من ذلك سوى الإيمان باليوم الآخر الذي يجعله يشعر بأنه مقبل قريبا على سعادة أبدية ولقاء بالأحبّة، وكلّما تقدّم به العمر اقترب من ذلك المصير السعيد، فتزداد نفسه قوّة يغذّيها الأمل، وسعادة يصنعها الشوق إلى المصير السعيد.31
ومما يثمره الإيمان بالآخرة من منفعة من شأنها أن تقنع به العقول، أو أن تقوّيه في النفوس ما يحدثه هذا الإيمان في النفس من الصبر وقوّة التحمّل، إذ لمّا تصيب الإنسان المصائب، وتلمّ به الخطوب فإنّ الإيمان بالآخرة هو الذي يقوّي من عزمه، ويشدّ من أزره، إذ يعتقد أنّ ما أصابه يمكن أن يكون له ذخرا في دار الجزاء، ولا يمكن بحال أن يذهب سدى. وفي هذا الصدد يضرب النورسي مثلا بتجربته الشخصية فيما حصل له من مصائب بتعرّضه للسجن والقهر والإهانة والاعتداء على ممتلكاته وبالأخص منها مؤلفاته، ويقول في ذلك: "أتحمّل كلّ هذا الحزن والأسى بذلك الإيمان بالآخرة، رغم أنني ما كنت أتحمّل أية إهانة وتحكّم من أيّ أحد مهما كان.. إن نور الإيمان بالآخرة وقوته قد منحني صبرا وجلدا وعزاء وتسلية وصلابة وشوقا للفوز بثواب جهاد عظيم"،32 ومثل هذا يحصل بالنسبة لكلّ مكروب، وكلّ مضطهد ومظلوم، وكلّ مصاب بإحدى مصائب الدنيا، فهؤلاء جميعا "ما إن يمدّهم الإيمان بالآخرة بالعزاء والسلوان إلا وينشرحون فورا ويتنفّسون الصعداء لما يزيل عنهم من الضيق واليأس والقلق والاضطراب".33
ثانيا ـ دليل المنفعة الاجتماعية
كما يكون للإيمان بالآخرة منفعة للفرد مثلما وصفنا بعضا منها، فإنه تحصل منه أيضا منفعة اجتماعية عظيمة تتعلّق بالروابط بين أفراد المجتمع، والرو
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | June 1, 2013 |
Published in Issue | Year 2013 Volume: 7 Issue: 7 |