الرؤية الحضارية من خلال رسالة الإقتصاد
أ. د. صباح الدين زعيم1
قام الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي طوال حياته بوظيفة إنقاذ الإيمان، ونشر الإسلام، وجعل صدره درعاً لصد جميع المضايقات ودفع الأذى عن الإسلام، مؤكّدا بهذا التصرف ما يجب أن يتحلى به الإنسان المسلم المؤمن من الناحية السلوكية، وحاول في الوقت نفسه التنبيه إلى العناصر اللازمة لصياغة المجتمع حسب الأسس الإسلامية.
وتحقيقا منه لمسعى استجلاب العناصر اللازمة لصياغة المجتمع وفق الأسس الإسلامية، ربى ما اجتمع حوله من رعيل مخلص، وعمل على نشرهم في كلّ الأصقاع التي يمكن أن يبلغوها، فكانوا بمثابة شتلات في ثنايا المجتمع، سعوا جهدهم لتحقيق هذا الغرض. وبدأت هذه الشتلات المزروعة بالانتشار فيما بعد في كافة ربوع البلاد التركية، ثم انتقلوا إلى سائر مكونات المعمورة، فانتشرت رسائل النور في العالم بفضل الله، ثم بفضل جهود هؤلاء المخلصين، ولم تتوقف الجهود عند هذا الحد، بل جاوزتها بنقل رسائله إلى الإنسانية بمختلف اللغات.
يستند الأستاذ النورسي في أفكاره ونشاطاته كافة إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة. وبعبارة أخرى سعى الأستاذ النورسي إلى تفسير القرآن الكريم والسنة المطهرة حسبما يدركه أهل العصر الحالي، وبحسب استعداداتهم، ووفق النمط والشكل الذي يُسْتَوْعَب.
يتناول موضوع المقالة بيان الرؤية الحضارية كما تتجلى في رسالة الإتصاد للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي. وقبل الخوض في تحليل وإيضاح هذه الرسالة يجدر بنا الإشارة إلى أن الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي مثلما أسند جميع إيضاحاته إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة، قام أيضاً بتدقيق المواضيع الإقتصادية بحسب المصادر نفسها، وأسند استنتاجاته وأفكاره إلى هذه الأسس، تمّ كلّ ذلك في ظل ظروف يعمل فيها على استئصال الدين من المجتمع، فكانت جهوده بمثابة إرهاصات لما ظهر في أيامنا من خوض في المواضيع الإقتصادية شرحاً وإيضاحاً وتحليلاً بالاستناد إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد قدّم هذا العمل المنجز بعنوان "الإقتصاد الإسلامي". وبهذا تعتبر الأفكار التي بيّنها الأستاذ النورسي في المواضيع الإقتصادية ضمن إطار تدقيق وتحليل الإقتصاد الإسلامي. وبتناولنا الموضوع بهذا المعنى تكون "رسالة الإقتصاد" قد بينت دراسة وبحثاً لقسم من الإقتصاد الإسلامي، وهو منهج سلوك المستهلك في الإسلام. وقد تطرق الأستاذ النورسي في رسائله الأخرى إلى مختلف المواضيع المتعلقة بالإقتصاد الإسلامي، وقدم فيها تفسيرات وإيضاحات مؤسسة ومؤصّل لها بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
تتركز رسالة الإقتصاد أساساً على حكمة حرمة الإسراف ضمن سلوك المستهلك، وإيضاح تأثيراته الإيجابية والسلبية، وفق الآية الكريمة: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.الأعراف:31 بل يشكل هذا الموضوع في أساسه مسألة أساسية من مسائل الإنسانية في يومنا هذا.
فالإسراف في سلوك المستهلك، يزعزع موازنة الإدخار والاستهلاك لدى الفرد، فينتهي به هذا التصرّف إلى التأثير السلبي على الإقتصاد، إذ به يتدنى الإنسان والإقتصاد إلى أدنى قيمة له، كما يؤثر على توزيع المصادر، ونسب الادخار والاستهلاك الإقتصادي، فيخلص به الإسراف إلى أدنى قيمة له أيضاً، وينتهي إلى اختلال موازنات الموارد على الساحة العالمية.
واليوم يحكم في العالم الإقتصاد الإسرافي، حيث الناس يُحفَّزون دوماً إلى الاستهلاك، فيتوجهون إلى الاستهلاك فوق حاجتهم، فيزداد الاستهلاك الرفاهي، حيث يدفع إليه عن طريق الإعلانات للاحتياجات المصطنعة، وترجّح الرغبة عن المستلزمات ذات الجودة العالية التي يمكن تعميرها بعد العطب، إلى الأشياء التي تستخدم ثم تُرمى مباشرة بعد استعمالها. ونتيجة استعمال المواد البلاستيكية بحجة شعار "استعمل ثم ارم" تتلوث البيئة من ناحية ومن ناحية أخرى تنفد المصادر أيضاً. وما نعانيه اليوم من مشكلة تلوث البيئة مردّه بالأساس إلى الإسراف في الاستهلاك.
ونتيجة اختلال موازانات الموارد من جراء تضخم الإيراد الربوي، وقلة الزكاة، تزداد ميول طبقة الأغنياء نحو الرفاهية والإسراف أيضاً، وتساق المصادر الإنتاجية نحو تلبية طلباتهم، وعليه يجري العرض الإنتاجي.
ويقابل هذا أيضاً عدم تخصيص المصادر لإنتاج السلع التي تلبي الحاجات الضرورية للمجتمعات البشرية ذات الوارد القليل أو الكثير، فتختل في هذه السلع موازنة العرض والطلب، وتزداد الأسعار لعدم كفاية المنتجات الطلب. وذلك لانخفاض مرونة الطلب في السلع الضرورية. وعلى الرغم من هذا لا تلبى حاجتهم الضرورية الأولية. بينما يُصْنَع شوق الاستهلاك المستمر من خلال زيادة سعة مجالات الإعلانات، وقروض الإعتماد، وبطاقات (كروت) المصارف وغيرها، فتختل ميزانية الأسر بسبب الواردات في المجتمعات الإنسانية لاستهلاك أكثر وأرقى وأحدث السلع، وجرّاء ذلك يقوم الأفراد والدول بأخذ القروض، ويفقدون نتيجة ذلك حريتهم الإقتصادية أيضاً.
والذين يخضعون للضغوط النفسانية للميول الاستهلاكية يضطرون إلى التنازل عن عزتهم، وإن اقتضى الأمر عن شرفهم، وينتهي بهم الأمر إلى التنازل عن مشاعرهم الدينية والمعنوية، ولهذا يزداد الربا، والتوسل للآخرين، والرشوة، والزنا، فتفسد الأسس التي تقوم عليها الأسرة، وما سبق بيانه، يؤكّد بما لايدع مجالا للشك، وجوب البحث في تأثيرات سوء التصرف المشار إليه على ما أصاب العالم من التضخم المالي، والعجز في التجارة الخارجية.
وقد أثر هذا التخلخل على الإيديولوجيات؛ فأدت إلى ظهور الأفكار الإشتراكية والماركسية. وقد انقسم العالم إلى قسمين، أولهما القسم المائل إلى الرأسمالية، والثاني اسلم نفسه للاشتراكية، وتنافسا تنافساً شديداً، ولم يستطع كلا النظامين الوقوف حيال الإسراف لعدم تغير قاعدة خط الحركة العام في سلوك الرجل الإقتصادي والمستهلك. ففي النظام الإشتراكي تمت محاولة ضبط الموازنة بنشر الترف والرفاهية والإسراف بالتدابير الإجبارية، فلم يوفقوا هذه المرة أيضاً في ضبط الموازنة على الرغم من التخطيط الجاري في المجتمع كافةً على أدنى حد، وذلك لفشلهم الإنتاجي.
والخلاصة: إن العامل الأساس في استمرار هذه التخلخلات هو إدمان الإسراف، وفقدان الشكر والقناعة.
تسعى الضوابط التي جاء بها الإسلام لتنظيم سلوك المستهلك مستنداً إلى قواعد القرآن الكريم والسنة المطهرة، فتقدم الأنموذج الأمثل للإنسان المسلم. وقد أورد الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي هذه الضوابط في رسالة الإقتصاد بعبارات موجزة مركّزة، متناولاً الموضوع وموضحاً إياه وفق المسلك الآتي:
الإنسان موظف بالشكر، إِبَّان استخدامه واستهلاكه النعم التي وهبها إياه خالقه الكريم. وعلى الإنسان الشاكر أن يستخدم ما وهبه خالقه من النعم حسب حاجته وبقدر احتياجه ويقدرها حق قدرها، مفكراً ببني جنسه من الناس، مرتبا الاستفادة والإفادة من النعم بحسب حاجة الإنسانية إليها، فالنعم ليست من رتبة واحدة، لهذا يحسن التوقّف عند أقسام ما يحتاجه الإنسان من سلع.
أقسام الفعالية الإنتاجية عند الإمام أبي حامد الغزالي:
تنقسم الفعالية الانتاجية بحسب تصنيف حجة الإسلام إلى ثلاثة أقسام، الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.
1- "الضروريات" إنتاج السلع الإحتياجية الضرورية:
تحافظ هذه السلع على خمس مزايا من الميزات الأساسية للإنسان، وتحيط بإنتاج خدماته وممتلكاته كافة. والمزايا الخمس الأساسية للإنسان هي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
"الحاجيات" نشاطات إنتاجية لتسهيل الحياة وتأمين الراحة:
لا يعتبر هذا النوع من الإنتاج شرطاً للمحافظة على الميزات الخمس المذكورة آنفاً واستمراريتها، إلا أنه نشاطات تخفف مشقة الحياة وتزيل المصاعب وتزيد من وسائل الراحة.
2- "التحسينات أو الكماليات" نشاطات إنتاجية لزيادة الترف والأناقة:
تعتبر هذه رغبة خارج حدود تأمين الراحة أيضاً، وذلك لتطمين أحاسيس الجمال والظرافة والأناقة، وتتعلق بإنتاج المال.
تصنيف آخر لأقسام الفعالية الانتاجية:
ويمكن تصنيف الإحتياجات بوجه آخر إلى سبعة أقسام:
1- الغذاء. 2- الملبس. 3- المصروفات. 4- الصحة والسلامة. 5- التربية. 6- الأمن "الأمن الإجتماعي والإقتصادي والإداري". 7 - المواصلات.
يحاول الأفراد تأمين الأقسام الثلاثة الأولى عن طريق محاولتهم وسعيهم الخاص. أما الأقسام الأربعة الأخيرة فيتكلف بها الجهات المسئولة عن نظام المجتمع، فهي الموكول بها تأمينها. ولا يمكن حصر هؤلاء في الحكومة فقط، بل يمكن أن يكون منها، كما يمكن أن يكونوا من الإدارات المحلية، والمؤسسات العمومية المختلفة، كما يمكن أن يكونوا من الأوقاف التي وهبت نفسها لخدمة المجتمع في سبيل الله تعالى. حيث تسمى هذه الأوقاف إلى جانب تسميتها بالقطاع الخاص والعام بالقطاع الثالث أيضاً، ويمكن تأمين تكلفة هذه الوظائف من قبل الفرد عن طريق الزكاة، والصدقات، أو عن طريق الضريبة والزكاة من قبل المؤسسات الإجتماعية أيضاً.
وبهذا ينبغي على الأغنياء المؤمنين والموحدين حيثما كانوا أنْ يحصلوا على حاجاتهم ضمن مقاييس معلومة، أن يقدموا ما يتبقى من الحاجة الزائدة لفائدة من يفتقر إليها من بنى جنسهم، وهو ما تؤكّده الشريعة في أجلى نصوصها، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"2 وهناك كثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المتعلقة بهذا الجانب. ولنذكر هنا بعضا منها:
الآيات الكريمة:
1- ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.البقرة:265
2- ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾.البقرة:272
3- ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.البقرة:273
4- ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.البقرة: 274
5- ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾.البقرة:276
6- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.البقرة:254
7- ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.البقرة:261
8- ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.المائدة:2
الأحاديث الشريفة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"3
عند توجيه مصادر مجتمع ما نحو الإنتاج ينبغي اجتناب تأمين الحاجات ذات الدرجة الثانية أو الثالثة في حالة عدم تأمين الحاجات الضرورية للناس كاملة. واليوم يموت مئات الآلاف من الناس في العالم جوعاً في كل يوم لعدم تأمينهم الحاجات الضرورية لحياتهم، فلا يتحرك الشبعان من الناس لإطعام جاره الجائع، فترى غنيا مصابا بأمراض التخمة وجاره يتضوّر من ألم الجوع، كل ذلك مع أنّ رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول "ليس منا من بات شبعان وجاره جائع"4 وفي إيضاح هذه الخاصية قال الأستاذ بديع الزمان:
"إن الألم الذي ينتاب ذوي الوجدان من حيث العاطفة الإنسانية -بما يرونه من آلام يقاسيها المحتاجون البائسون في هذا الزمان الذي خيّم عليه الفقر والحاجة- يشوّب لذتَهم التي يحصلونها بأموال غير مشروعة، وتزداد مرارتها إن كانت لهم ضمائر. إنه ينبغي في هذا الزمان العجيب الإكتفاء بحدّ الضرورة في الأموال المريبة، لأنه حسب قاعدة ‘الضرورة تقدر بقدرها' يمكن أن يؤخذ باضطرارٍ من المال الحرام حدَّ الضرورة وليس أكثر من ذلك. وليس للمضطر أن يأكل من الميتة إلى حدّ الشبع، بل له أن يأكل بمقدار ما يحول بينه وبين الموت. وكذا لا يؤكل الطعام بشراهة أمام مائة من الجائعين."5
ولهذا السبب كان المؤمنون والموحدون من الناس قديماً لا يأكلون شيئاً علناً في الأسواق ليحولوا دون تحريك شهية الآخرين، وكانوا لا ينقلون المواد الغذائية مكشوفة، بل يسترونها بغطاء، فانطلاقاً من هذه الفكرة القيمة ينبغي لمثل هؤلاء العباد السعداء الذين يملكون الوسع في تأمين حاجاتهم أن يعرفوا قيمة النعم ويشكروا خالقهم الكريم دائماً.
ويكون أداء شكر تأمين حاجاتنا الأساسية اليومية حسب تعبير الأستاذ بديع الزمان بـ "توقيرٌ مربح إزاء النعمة".6
ويسمي هذا الإقتصاد. والذي لا يراعي الإقتصاد يتخبط في الإسراف، والإسراف منافٍ للشكر وهذا "استخفاف خاسر وخيم تجاه النعمة".7
وعليه يجب أن نفكر بما نشتريه من الخبز ونأتي به إلى بيوتنا ابتداءً بمرحلة زرع حبات هذه النعمة في التراب وحصادها، واستخراج الحبات من السنابل، وجعلها على شكل دقيق بعد الطحن، وخبزها في الأفران، ونقلها إلى البيوت، وهذا يتحقق بعد تعاون كثير من الناس، وتقسيم الأعمال فيما بينهم، ونأكل هذه النعمة ضمن هذا الشعور ونتوجه إلى الله تعالى على لطفه هذا بـ "بتوقير مربح" حسب تعبير الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي. أي ألاّ نهدره ونستخفّ به ونترك نصفاً منه في الأطباق ثم نلقيه في سلة المهملات وهو "استخفاف خاسر".
عالم اليوم عجيب، يموت آلاف ناس جوعاً، ونرى ونسمع ونقرأ في المجتمعات ذات الحالة الإقتصادية المتوسطة مثلنا ناهيك عن المجتمعات الغنية الراقية إسراف آلافٍ من أرغفة الخبز كل يوم، وترك الأكل في الأطباق ورميه في سلة المهملات. وهذا الإسراف هو "استخفاف خاسر وخيم تجاه النعمة"، يجب علينا في حالة استحقاقنا هذه النعم أن نقابلها بـ "توقير مربح".
أجدادنا المؤمنون الموحدون الذين كانوا يعلمون مثل هذا التوقير كانوا يرفعون ما يسقط من الخبز على الأرض ويقبّلونها ثم يضعونها على رؤوسهم احتراماً للنعمة، وكانوا يعتنون كل العناية لمنع تساقط فتات الخبز من السفرة على الأرض.
وحسب إفادة الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي يطلق على مثل هذا التصرف بـ "الإقتصاد". وكما يتراءى أن معنى الإقتصاد المتطور الراقي يستند إلى هذا الأساس، ولهذا السبب لو تذكرنا أن تعريف الإقتصاد في الكتب الإقتصادية هو "كيفية تسديد المصادر المحدودة لحاجات غير محدودة للإنسان بأحسن شكل ممكن" عندها نفهم بشكل جلي عمق وصواب تعريف بديع الزمان للاقتصاد، وكلّما تعمّقنا في تحليله ازدادت قناعتنا أكثر فأكثر بأهمية دراسة مسألة الإقتصاد في رسائل النور.
ولو قسمنا الإقتصاد الذي يفيد -كما ذكر في رسالة الإقتصاد- من "توقير مربح" إزاء النعم التي هي من لطفه سبحانه إيانا، إلى عناصره نرى أنه يحوى على ست عناصر مهمة:
1- "الإقتصاد شكر معنوي"
بما أن الإنسان ليس جسدا فحسب، فيجب عليه اجتناب الإسراف، وأن يراعي الإقتصاد بانبعاث النشوة وذوق معنوي من أعماق روحه لأداء شكر تجاه ما يوهب له من النعم لسد حاجاته اليومية وعلى رأسها حاجته إلى الغذاء.
2- "الإقتصاد توقير للرحمة الإلهية الكامنة في النعم والإحسان":
ينبغي على الإنسان أن يعدّ ما تقدم له من النعم رحمة إلهية ويعرف قيمتها ضمن شعوره وإدراكه أن الكون قد خلق له، وما فيه من المخلوقات قد سخرها خالقها الكريم للإنسان. وذلك أن الله تعالى قد تكفل برزق العباد، فرزق من شاء، وأمسكه عمّن شاء. والذي يشعر بهذا من المفروض أن يعد ما ينال من النعم أنها رحمة إلهية، ويعرف قيمتها.
3- "الإقتصاد سبب حاسم للبركة والاستكثار:
إن الذي يراعي الإقتصاد في حياته، يزيده الله تعالى نعماً فوق ما وهبه سابقا من النعم ويباركها بما يظهر منها في الخدمة الإيمانية وفق قاعدة الرحمة الإلهية، ويؤدي من الشكر إزاء نعمه تعالى، ويرفع البركة عمّن لا يراعي الإقتصاد ويلج في الإسراف.
قال الأستاذ النورسي في إحدى ذكرياته المتعلقة بهذا الموضوع:
"جئت إلى مدينة مباركة -قبل تسع سنوات- كان الموسم شتاءً فلم أتمكن من رؤية منابع الثروة وجوانب الإنتاج في تلك المدينة، قال لي مُفتيها رحمه الله: إن أهالينا فقراء مساكين. أعاد قوله هذا مراراً. أثّر فيّ هذا القول تأثيراً بالغاً مما أجاش عطفي، فبت استرحم وأتألم لأهالي تلك المدينة فيما يقرب من ست سنوات. وبعد ثماني سنوات عدتُ إليها وهي في أجواء الصيف، وأجلت نظري في بساتينها فتذكرت قول المفتي رحمه الله فقلت متعجباً:
- سبحان الله! إن محاصيل هذه البساتين وغلاتها تفوق حاجة المدينة بأسرها كثيراً، وكان حرياً بأهاليها أن يكونوا أثرياء جداً! بقيت في حيرة من هذا الأمر.. ولكن أدركت بحقيقة لم تخدعني عنها المظاهر، فهي حقيقة أسترشد بها في إدراك الحقائق، وهي: أن البركة قد رفعت من هذه المدينة بسبب الإسراف وعدم الإقتصاد. مما حدا بالمفتي رحمه الله إلى القول: إن أهالينا فقراء ومساكين، برغم هذا القدر الواسع من منابع الثروة وكنوز الموارد.
نعم، إنه ثابت بالتجربة وبالرجوع إلى وقائع لا تحد بأن دفعَ الزكاة، والأخذ بالإقتصاد سببان للبركة والاستزادة. بينما الإسراف ومنع الزكاة يرفعان البركة."8
واليوم يشبه حال العالم الإسلامي هذا الحال عامة، إنهم يتجرعون الفقر ضمن الغنى، والعالم الإسلامي على الرغم من امتلاكه مصادر مهمة يستدين من أراذل الناس جراء عدم إظهار فقرائه الشكر والقناعة، وأغنيائه التعاون والإشتراك في الأعمال ضمن تقسيمها بسبب الإسراف والخسة.
اليوم في العالم الإسلامي دولا من أغنى الدول في العالم ولكنّه يضم في الوقت نفسه دولا من أفقر الدول، وقد وقع أغنياؤه وفقراؤه معاً في ذلّ الدَّين. وذلك أن الذين كان ينبغي أن تكون الأخوة والتآزر فيما بينهم، أصبح البغض وتسلّح كل منهم ضد أخيه مشروعهم، وبدأوا بشراء هذه الأسلحة من الآخرين دَيناً لعدم إمكانهم من القيام بإنتاجها بأنفسهم، ففقدوا عزتهم في أيدي تجار الأسلحة وسقطوا في مهاوي الذل والاستحقار.
4- مراعاة الإقتصاد في تسديد الحاجة إلى الغذاء لها تأثير صحي من حيث الطب والمداواة إلى جانب فوائده المعنوية والتجارية. ذلك أن الغذاء المتناول بالقدر اللازم المعقول يساعد على تكامل الجسم. بينما يكون أثره سلبيا على الجسم إذا تناوله بشكل زائد. فالإكثار من الغذاء يجبر الجسم ويتعبه، فالرعاية للاقتصاد "مدار صحة الجسد كالحمية".
وذكر الأستاذ في السياق المشار إليه، أبياتا لـ "ابن سينا"، وهو أفلاطون فلاسفة المسلمين وشيخ الأطباء وأستاذ الفلاسفة، فسّر فيها قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا﴾الأعراف:31 من الناحية الطبية، فذكرالآبيات الآتية:
جمعتُ الطبَّ في بيتين جَمعاً وحُسن القول في قِصَر الكلام
فقلل إن أكلتَ وبعد أكل تَجنّب، والشفاءُ في الانهضام
وليس على النفوس أشدُّ حالاً من إدخال الطعام على الطعام.
أي إن أضر شيء للجسم هو عدم إعطاء مهلة بين وجبات الطعام تتراوح بين أربع أو خمس ساعات، أو إملاء المعدة بإدخال الطعام بالتعاقب لأجل التلذذ."9
ولو أخذنا بنظر الاعتبار ما يتبعه البعض منا -أو أكثريتنا- من نظام التغذية اليوم، نرى أننا نتناول الأغذية بمقادير يضطر الجسم إلى حملها أكثر من أن تحمل هي الجسم، وأن الجسم يخزن تلك الأغذية دون أن يهضمها، ويجبر أخيراً على حملها.
ولو تذكرنا أن زيادة هذه الأغذية -أي الولوج في الإسراف بتناولها- تؤدي إلى تكوين الدهون وأمثالها من المخزون الناجم من كثرة الأغذية أمثال السكريات والكولسترول والبروتينات والدهنيات التي تسبب أمراضاً مختلفة، عندها نفهم الفضيلة الرابعة وأهمية الرعاية بالإقتصاد واجتناب الإسراف في التغذية.
5- ننتقل إلى الفضيلة الخامسة: عبّر عنها الأستاذ بقوله بأنّ "الإقتصاد هو سبيل إلى العزة بالابتعاد عن ذلّ الاستجداء المعنوي"، إن المقتصد لا يعاني فاقة العائلة وعوزها كما هو مفهوم الحديث الشريف "ما عال من اقتصد".10 أجل هناك من الأدلة القاطعة التي لا يحصرها العدّ بأن الإقتصاد سبب جازم لإنزال البركة، وأساس متين للعيش الأفضل. أذكر منها ما رأيته في نفسي وبشهادة الذين عاونوني في خدمتي وصادقوني بإخلاص فأقول: "لقد حصلتُ أحياناً وحصل أصدقائي على عشرة أضعاف من البركة بسبب الإقتصاد. حتى إنه قبل تسع سنوات عندما أصرّ عليّ قسم من رؤساء العشائر المنفيين معي إلى ‘بوردور' على قبول زكاتهم كي يحولوا بيني وبين وقوعي في الذلة والحاجة لقلة ما كانت عندي من النقود، فقلت لأولئك الرؤساء الأثرياء: برغم أن نقودي قليلة جداً إلاّ أنني أملك الإقتصاد، وقد تعودت على القناعة، فأنا أغنى منكم بكثير. فرفضتُ تكليفهم المتكرر الملح... ومن الجدير بالملاحظة أن قسماً من أولئك الذين عرضوا عليّ زكاتهم قد غلبهم الدَّين بعد سنتين، لعدم التزامهم بالإقتصاد، إلاّ أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني -ولله الحمد- ببركة الإقتصاد إلى ما بعد سبع سنوات، فلم تُرق مني ماء الوجه، ولم تدفعني لعرض حاجتي إلى الناس، ولم تفسد عليّ ما اتخذته دستوراً لحياتي وهو "الاستغناء عن الناس".
نعم إن من لا يقتصد، مدعوّ للسقوط في مهاوي الذلّة، ومعرض للإنزلاق إلى الاستجداء والهوان معنىً.
إن المال الذي يستعمل في الإسراف في زماننا هذا لهو مال غالٍ وباهظ جداً، حيث تدفع أحياناً الكرامة والشرف ثمناً ورشوة له، بل قد تُسلب المقدسات الدينية، ثم يُعطى نقوداً منحوسة مشؤومة، أي يقبض بضعة قروش من نقود مادية، على حساب مئات الليرات من النقود المعنوية."11
ولو أمعنا النظر اليوم في حال الأمم الفقيرة أو التي تحس نفسها فقيرة والتي دخلت تحت عبء الديون الثقيلة لتبين أنها قد فقدت شيئاً كثيراً عن حقوق حاكميتها، وعزتها الملية، وأجبرت على دفع الديون بصورة مستمرة، حتى أصبحت مصابة بداء الذل والتوسل المعنوي. ويرجع سبب ذلك إلى فقدان القناعة وعدم مراعاة الإقتصاد والوقوع في الإسراف من قبل أفراد تلك الأمة وبالأخص من قبل القائمين على تسيير شئون ذلك المجتمع.
أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يرفع يديه مناجيا ربه، قائلا:"اللّهم أعوذ بك من المأثم والمغرم"12 والذي نراه هنا هو اقتران الاستدانة -في غير حاجة- بارتكاب الذنوب. لذا ينبغي على المؤمنين والموحدين من الناس يسلكوا ما يوافق الكتاب والسنة في الاستهلاك، ويراعوا الأسس الآتية:
1- عدم صرف الواردات في المجالات غير المشروعة، أما مجالات الصرف فهي تتوضح ضمن إطار المشروعية التي بينها الإسلام. والله يأمرنا في الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾البقرة:172 ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾البقرة:168 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾المائدة:87-88 ﴿وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.الأنعام:146
2- يجب الابتعاد عن استهلاك المصاريف الباهظة الراقية الجالبة للأنظار والله تعالى يقول في الآية الكريمة ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾النساء:38 ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾.البقرة:270
على المسلم المتواضع أن يعيش حسب مستوى حياة المجتمع الذي يعيش فيه، وأن لا يستهلك رئاءً ليهيج حسد الفقير ويحرك حسده وبغضه له.
3- حصر مقدار الاستهلاك في الساحات المشروعة حسب الحاجات الضرورية، وبذل الجهد لحفظ النعمة حتى آخر حبة منها وعدم الإسراف فيها، وذلك ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.
4- وكما يجب الاجتناب عن الإسراف في الاستهلاك ينبغي عدم الدخول تحت ثقل الديون فيما لا ضرورة فيه أيضاً.
5- مراعاة الإقتصاد سبب إحساس اللذات الموجودة في النعم: يذكر الأستاذ بديع الزمان مثالاً ويشبّه فيه حاسة الذوق بالحارس، والمعدة بسيدة الجسد وحاكمته. "فلو بلغت قيمة هدية تُقدَّم إلى حاكم القصر مائة درجة فإن خمساً منها فقط يجوز أن يعطى هبةً للحارس لا أكثر".
يشير الأستاذ النورسي هنا إلى ما اشتهر من قانون نقصان الفائدة لعلم الإقتصاد، فلو راعينا الإقتصاد في الاستهلاك عندها تزداد فائدة نسبة وحدة الاستهلاك، ولو أسرفنا بزيادة الاستهلاك قلت فائدة نسبة وحدة الاستهلاك حسب قانون نقصان الفائدة، وبزيادة الإسراف تهبط نحو الصفر، حتى تصبح سالباً.
ويستمر الأستاذ النورسي في كلامه قائلاً:
"بينما لو اقتصر الإنسان على الحاجات الضرورية واختصرها وحصر همّه فيها، فسيجد رزقاً يكفل عيشه من حيث لا يحتسب وذلك بمضمون الآية الكريمة:
﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾الذاريات:58 وأن صراحة الآية الكريمة:
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾هود:6 "تتعهد بذلك تعهداً قاطعاً."
وحسب تعبير الأستاذ النورسي: "إن من كمال كرم الله سبحانه وتعالى، أنه يُذيقُ لذّة نِعمه لأفقر الناس، كما يذيقها أغناهم، فالفقير يستشعر اللذة ويتذوقها كالسلطان. نعم إن اللذة التي ينالها فقير من كسرة خبز اسود يابس بسبب الجوع والإقتصاد تفوق ما يناله السلطان أو الثري من أكله الحلوى الفاخرة بالملل وعدم الشهية النابعين من الإسراف."
ولهذا السبب يتناسب الرزق تناسباً عكسياً مع الواردات في الذين لا يعيشون حسب الضوابط الإسلامية. فكلما زادت الواردات زاد الرزق. وقد تعهد الله تعالى في كتابه القرآن الكريم رزق ما خلق من المخلوقات، يجيب الأستاذ النورسي هنا على سؤال مقدرٍ ويفسر الآية الكريمة. أي ما دام الله تعالى قد تعهد برزق المخلوقات وتكفله، فلماذا يموت مئات الألوف من الناس جوعاً؟
يجيب الأستاذ النورسي على هذا السؤال كما يلي:
"نعم، إن الرزق قسمان:
القسم الأول: وهو الرزق الحقيقي الذي تتوقف عليه حياة المرء، وهو تحت التعهد الرباني بحكم هذه الآية الكريمة، يستطيع المرء الحصول على ذلك الرزق الضروري مهما كانت الأحوال، إن لم يتدخل سوء اختياره، دون أن يضطر إلى فداء دينه ولا التضحية بشرفه وعزته.
القسم الثاني: هو الرزق المجازي، فالذي يسئ استعماله لا يستطيع أن يتخلّى عن الحاجات غير الضرورية، التي غدت ضرورية عنده نتيجة الابتلاء ببلاء التقليد. وثمن الحصول على هذا الرزق باهظ جداً ولاسيما في هذا الزمان، حيث لا يدخل ضمن التعهد الرباني، إذ قد يتقاضى ذلك المال لقاء تضحيته بعزته سلفاً راضياً بالذل، بل قد يصل به حد السقوط في هاوية الاستجداء المعنوي، والتنازل إلى تقبيل أقدام أناس منحطين وضيعين، لا بل قد يحصل على ذلك المال المنحوس الممحوق بالتضحية بمقدساته الدينية التي هي نور حياته الخالدة."
فالمصائب التي يتعرض لها الفقراء من الناس اليوم تتولد من جراء إسقاط حاجاتهم الضرورية إلى مستوى الرزق المجازي، أو عن ظنهم الرزق المجازي احتياجاً ضرورياً. واليوم ما تستورد من المواد من الخارج للدول المتخلفة الكثيرة ومن ضمنها تركيا، والتي تسبب تقاضي ديوناً كبيرة هي أموال تنتمي إلى مجموعة الرزق المجازي أكثر من كونها من فصيلة الرزق الحقيقي.
إننا نستورد المواد التي تسهل أساساً المعيشة، للترف والظرافة بسبب الإعلام، والتقليد، وعدم القناعة، بينما طاقتنا الإنتاجية الحقيقية أي وارداتنا لا تكفي لشراء مثل هذه الأشياء، إننا نشتريها بما نتقاضى من الديون لعدم قناعتنا، وبتقاضي الديون نهوي في مستنقع الربا الآسن ونفقر أكثر فأكثر.
وقد سيق الإداريون -ولو نسبياً- في كثير من الدول المتخلفة من قبل المستعمرين لخوض الحصول على الرزق الكاذب بالقوة. فمثلاً: وجّه بعض الدول الأفريقية الصالحة أراضيها لزراعة الغذاء الضروري كالقمح والذرة اللازمة، إلى زراعة الكاكاو وغيرها من المواد الغير الضرورية كي تكون شعوبها محتاجة في تأمين رزقها إلى المستعمرين.
وينبغي الوقوف على فرق مهم من بحث الإقتصاد ألا وهو الفرق بين الإقتصاد والخسة.
6- الفرق بين الإقتصاد والخسة: إن الله لا يحب الإسراف والخسة، وحسب تعبير الأستاذ النورسي:
"ومن العجب حقاً أن يجرؤ بعض المسرفين والمبذّرين على اتهام المقتصدين بالخسّة..حاشَ لله، بل الإقتصاد هو العزة والكرم بعينه، بينما الخسة والذلة هما حقيقة ما يقوم به المسرفون والمبذرون من سخاء ظاهري."
الابتعاد عن الإسراف يفتح السبيل إلى الإقتصاد، والإقتصاد يحول بيننا وبين الوقوع في الاحتياج عند الضرورة.
والله تعالى يأمر في الآية الكريمة: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.البقرة: 268
"دخل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو أكبر أبناء الفاروق الأعظم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد العبادلة السبعة المشهورين ومن البارزين بين علماء الصحابة الأجلاء، دخل هذا الصحابي الجليل يوماً في مناقشة حادة لدى تعامله في السوق على شئ لا يساوي قرشاً واحداً، حفاظاً على الإقتصاد وصوناً للأمانة والاستقامة اللتين تدور عليهما التجارة. في هذه الأثناء رآه صحابي آخر، فظنّ فيه شيئاً من خسّة فاستعظمها منه، إذ كيف يصدر هذا الأمر من ابن أمير المؤمنين وخليفة الأرض. فتبعه إلى بيته ليفهم شيئاً من أحواله، فوجد أنه قضى بعض الوقت مع فقير عند الباب وتبادلا حديثاً في لطف ومودة، ثم خرج من الباب الثاني وتجاذب أطراف الحديث مع فقير آخر هناك. أثار هذا الأمر لهفة ذلك الصحابي فأسرع إلى الفقيرين للاستفسار منهما:
- هلاّ تفهماني ماذا فعل ابن عمر حينما وقف معكما؟
- لقد أعطى كلاً منا قطعة ذهب.
فراعه الأمر وقال شدهاً: يا سبحان الله... ما أعجب هذا الأمر، إنه يخوض في السوق في نقاش شديد لأجل قرش واحد، ثم ها هو ذا يغدق في بيته بمئات أضعافه على محتاجَين اثنين عن رضىً دون أن يشعر به أحد، فسار نحو ابن عمر رضي الله عنهما ليسأله:
- أيها الإمام: ألا تحل لي معضلتي هذه؟ لقد فعلتَ في السوق كذا وكذا وفي البيت كذا وكذا؟! فردّ عليه قائلاً:
- إن ما حدث في السوق هو نتيجة الإقتصاد والحصافة، فعلتُه صوناً للأمانة وحفظاً للصدق اللذين هما أساس المبايعة وروحها وهو ليس بخسّةٍ ولا ببخل، وإن ما بدر مني في البيت نابع من رأفة القلب ورقّته ومن سمو الروح واكتمالها... فلا ذاك خسّة ولا هذا إسراف.
وإشارةً إلى هذا السرّ قال الإمام الأعظم "أبو حنيفة النعمان" رضي الله عنه: "لا إسراف في الخير كما لا خير في الإسراف أي كما لا إسراف في الخير والإحسان لمن يستحقه كذلك لا خير في الإسراف قط."
نتيجة الإسراف: تهييج الحرص.
7- الإسراف ينتج الحرص، والحرص يوَلد ثلاث نتائج:
1- عدم القناعة.
2- الخيبة والخسران.
3- إتلافه الإخلاص وإفساده العمل الأخروي.
أولاها: عدم القناعة أي الطمع يُخبت وهج الشوق والتطلع إلى العمل ويقذف بالإنسان إلى التقاعس والكسل.
وحسب تعبير الأستاذ النورسي: "وعدم القناعة هذا يُثنى الشوقَ عن السعي وعن العمل، بما يبثّ في نفس الحريص من الشكوى بدلاً من الشكر، قاذفاً به إلى أحضان الكسل، فيترك المال الزهيد النابع من الكسب الحلال ويبادر بالبحث عما لا مشقة ولا تكليف فيه من مال غير مشروع، فيهدر في هذه السبيل عزتَه بل كرامته."
لذا حرم الإسلام لعب اليانصيب والقمار وغيرها، ومنع طرق الولوج إلى الربح بدون تعب وسعي بالخداع وإغفال الآخرين والصعود إلى القمة رأساً دون تعب.
النتيجة الثانية للحرص: الخيبة والخسران:
"إن الرزق الحلال يأتي حسب العجز والافتقار لا بالاقتدار والاختيار. بل هو يتناسب تناسباً عكسياً مع الاقتدار والاختيار. ذلك أن أرزاق الأطفال تتضاءل وتبتعد ويصعب الوصول إليها كلما ازدادوا اختياراً وإرادةً واقتداراً.
نعم، إن القناعة كنز للعيش الهنيء الرغيد ومبعث الراحة في الحياة، بينما الحرص معدن الخسران والسفالة كما يتبين ذلك من الحديث الشريف: "القناعة كنز لا يفنى".13
النتيجة الثالثة: "إن الحرص يتلف الإخلاص ويفسد العمل الأخروي؛ لأنه لو وُجد حرص في مؤمن تقي لرغب في توجه الناس وإقبالهم إليه، ومن يرقب توجه الناس وينتظره لا يبلغ الإخلاص التام قطعاً ولا يمكنه الحصول عليه. فهذه النتيجة ذات أهمية عظمى جديرة بالدقة والملاحظة."
"أما الإقتصاد فإنه يثمر القناعة، والقناعة تنتج العزة، إستناداً إلى الحديث الشريف: ‘عزّ مَن قنع وذلّ مَن طمع'. كما أنه يشحذ الشوق بالسعي والعمل ويحث عليهما ويسوق سوقاً إلى الكدّ وبذل الجهد فيهما؛ لأنه إذا ما سعى المرء في يوم ما وتقاضى أجره مساءً فسيسعى في اليوم التالي له بسر القناعة التي توافرت لديه. أما المسرف فإنه لا يسعى في يومه الثاني لعدم قناعته وحتى إذا سعى فإنه يسعى دون شوق.
وهكذا فإن القناعة المستفيضة من الإقتصاد تفتح باب الشكر وتوصد باب الشكوى، فيظل الإنسان في شكر وحمدٍ مدى حياته. وبالقناعة لا يتلفت إلى توجه الناس إليه لاستغنائه عنهم، فينفتح أمامه باب الإخلاص وينغلق باب الرياء."
* * *
الهوامش:
1 ا.د. صباح الدين زعيم: ولد سنة 1926 في اشتيب، وتخرج من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة سنة "1947" ومن كلية الحقوق بجامعة انقرة سنة "1950" وعمل أستاذاً في كلية الإقتصاد بجامعة استانبول "1953- 1989" وفي كثير من الجامعات "جامعة ملك عبدالعزيز 1980-1982، وجامعة كونيل الأمريكية 1955-1957" واصبح عضواً في لجنة تقييم وتعيين الإداريين ببنك التنمية الإسلامية "1977-1978"، وعمل مشاوراً في المؤتمر الإسلامي حول البنك الإسلامي، وعمل عضواً تعليمياً في نقابة عمال الأتراك "1965- 1976" وعضواً في اللجنة الاستشارية العليا بجامعة ملك عبدالعزيز في مجال الإقتصاد الإسلامي العالمي "1978- 1982" وعضواً في هيئة إدارة جامعة الشرق الأوسط للتكنولوجيا في انقرة "1977-1979". ومنذ سنة 1985 يعمل في هيئة إدارة جامعة إسلام آباد "باكستان" العالمية، ويعمل في عضوية جمعية العلاقات الصناعة العالمية، وعضوية جمعية الصداقة التركية الليبيا، وعضوية جمعية الصداقة التركية السعودية. وقد جلب الأنظار على الأكثر بكتبه ومقالاته وابحاثه حول الإقتصاد الإسلامي، والعمل الإقتصادي المشترك بين البلدان الإسلامية. صدر له: تركيا والسوق الأوروبية المشتركة "1970" مسئلة النفوس في تركيا "1970" نظرة الإسلام الإقتصادية "1987" الإسلام والإنسان والإقتصادي "1992" تجديد بناء تركيا والعالم الإسلامي "1993"،وله أبحاث وتحقيقات حول الإقتصاد.
2 أخرجه الإمام مسلم.
3 وتمام الحديث فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ اللهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَادَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ".
4 وتمام الحديث فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ اللهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَادَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ".
5 اللمعات، ص: 216
6 اللمعات، اللمعة التاسعة عشرة، ص: 212
7 اللمعات، اللمعة التاسعة عشرة، ص: 212
8 اللمعات: 223
9 اللمعات: 223
10 أخرجه أحمد في مسنده.
11 اللمعات، اللمعة التاسعة عشرة، ص: 215
12 رواه البخاري في كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام.
13 كشف الخفاء 1: 102؛ وتمييز الطيب ص 118.
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | June 1, 2012 |
Published in Issue | Year 2012 Issue: 5 |