المقاصد العملية للتربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي
د.عبد الكريم عكيوي1
إن الناظر في سيرة بديع الزمان سعيد النورسي والمتأمل في أيامه وحياته، ليستوقف نظره ويثير انتباهه ما كان عليه هذا الرجل من علو هِمًّة وتجرد لخدمة غاية جعلها هدفا لحياته، وانقطاع تام لنشر أفكار خبر صحتها وفائدتها. فقد علا رحمة الله عليه بهمته وسعة فكره وبعد نظره وقوة إيمانه على أهل زمانه، وخلص عقله وقلبه من أسر عصره ومحن أوانه وإبانه. فقد رأى العالم الإسلامي يضطرب بناؤه وتهتز أركانه بسبب رياح عاتية هبت عليه من كل جانب تثير نقعا يدخل الحزن والأسى على القلوب فيزين لها الإلحاد والزندقة، ويحرك فيها نوازع الشر والتمرد على الخير. فاضطربت الأفكار وطاشت العقول وزاغت الأبصار، إلا القليل النادر ممن رحم الله. وزاد الأمر إدبارا وشدة لما تولى أمور المسلمين أهل الإلحاد والزندقة فحملوا معاول الهدم وجردوا سيوفهم لقطع دابر الخير واقتلاع جذور الإيمان والصلاح من القلوب.
ومن يطالع رسائله يلفه معبرا أمينا وناطقا صادقا عن أقوال أمته وأهل زمانه. ثم إنه قد اكتوى بنار الفساد والإلحاد وناله من الأذى والبلاء ما قل نظيره في عصره وزمانه. وكانت ظروف وحدته في السجون والمنافي وآلام غربته في غيابات الأصقاع النائية، وأحزانه في القفار الخالية في أرجاء البلاد التركية وغيرها من الأمصار السيبيرية (نسبة إلى سيبيريا) الروسية، (كانت) فتحا لعقله وبصيرته ومثيرا لفكره وأنوار قلبه.
وإن المرء ليعجب كيف اخترق هذا الرجل كل الأسوار المنيعة والحواجز المحكمة التي وضعها أهل الفساد والإلحاد وهم يحسبون أنهم قد ألجأوا أهل الخير والصلاح إلى ركن قصي، فليس لهم من حيلة إلا الخضوع لسلطان المدنية الحديثة التي لا تعرف الإيمان والخير، ومن أبى فليس أمامه إلا الموت حسرة وألما.
ومن ينظر بميزان الحقائق المادية، ير أن بديع الزمان النورسي ليس له مال ولا سلطان، ولا قوة ولا منعة، فمثل حاله لا يحمل صاحبه إلا على التسليم لقدره والاستسلام لواقع حاله من غير تردد ولا مقاومة ولا مغالبة، وما كان خصومه يجدون صعوبة في إذايته وتعذيبه، لأنه ليس له من القدرة المادية والسلطة الدنيوية ما يردعهم. ولهذا فقد ذاق رحمة الله عليه جميع أصناف العذاب الدنيوي، من الفقر والحاجة، والسجن والأسر وما فيهما من آلام فراق الأهل والأحبة، والنفي والإقامة تحت حراسة الشرطة وعيون الحكام لكن ضعفه هذا ما لبث أن تحول إلى قوة لا تعبأ بمعاناة السجون وآلام الغربة وأحزان المنافي، فلا تزيده خطوب الدهر وآلامه إلا إقداما على الخير وقوة على الصلاح والإصلاح، فيجد اللذة في أحضان العذاب، فتسمو نفسه في مراتب الكمالات البشرية، فتتحول آلام جسده إلى لذات غامرة يسمو بها على النكبات والمحن. فكان كلما أحاطت به المحنة من كل جانب وأسرت جسده قوة الظالمين وأنـزلت عليه العذاب والآلام، وجد الأنس والسلوان، وذاق لذة تنسيه عذاب جسده. لنستمع إليه رحمة الله عليه في مقام المحنة والشدة يعاني آلام الوحدة وغصة الوحشة، وقد فارق كل صديق ونأى عن كل قريب: "بينما كنت وحيدا بلا معين في ‘بارلا' تلك الناحية التابعة لمحافظة ‘اسبارطة' أعاني الأسر المعذب المسمى بالنفي، ممنوعا من الاختلاط بالناس، بل حتى المراسلة مع أي كان، فوق ما كنت فيه من المرض والشيخوخة والغربة، فبينما كنت اضطرب من هذه الحالة وأقاسي الحزن المرير، إذا بنور مشع من الأسرار اللطيفة للقرآن الكريم ومن نكاته الدقيقة، يتفضل الحق سبحانه به علي برحمته الكاملة الواسعة، فكنت أعمل جاهدا بذلك النور لتناسي ما أنا فيه من الحالة المؤلمة المحزنة حتى استطعت نسيان بلدتي وأحبتي وأقاربي"2 وكان من آلامه في النفي بلوغه نبأ وفاة ابن أخيه وتلميذه عبد الرحمن، قال رحمه الله: "وبعد مضي حوالي شهرين وأنا أعيش في ذلك الأمل… إذا بي أفاجأ بنبأ وفاته، فيا أسفاه ويا حسرتاه، لقد هزني هذا الخبر هزا عنيفا… وأورثني حزنا شديدا وألما عميقا… كنت أقول إن نصف دنياي الخاصة قد انهد بوفاة أمي، بيد أني رأيت أن النصف الآخر قد توفي أيضا بوفاة عبد الرحمن، فلم تبق لي إذن علاقة مع الدنيا… فضياع مثل هذا الضياع -باعتبار الإنسانية- لهو ضياع محرق مؤلم لأمثالي. ورغم أنني كنت أبذل الوسع لأتصبر وأتحمل ما كنت أعانيه من الآلام، إلا أنه كانت هناك عاصفة قوية جدا تعصف أحيانا بأقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض علي أحيانا، لما كان لمثلي أن يتحمل أو يثبت".3
ولنستمع إليه أيضا يحكي آلام النفي في "بارلا": "كنت أذهب وأسرح في وديان بارلا"… حاملا تلك الهموم والآلام المحزنة، فكانت تمر من أمامي لوحات الحياة السعيدة ومناظرها اللطيفة التي كنت قد قضيتها مع طلابي… فكلما كانت تمر تلك اللوحات أمام خيالي، كانت تسلب من شدة مقاومتي وتفت في عضدي، فضلا عما أنا فيه من الشعور المرهف وسرعة التأثر النابعة من الشيخوخة والغربة. ولكن على حين غرة انكشف سر من أسرار الآية الكريمة: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.القصص:88 انكشف سر هذه الآية انكشافا بينا بحيث جعلني أردد مرتين: "يا باقي أنت الباقي يا باقي أنت الباقي"، وبه أخذت السلوان الحقيقي. أجل. رأيت نفسي بسر هذه الآية الكريمة، وعبر تلك الوديان الخالية، ومع تلك الحالة المؤلمة، رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبرى…
الأولى: رأيت نفسي كشاهد قبر يضم خمسا وخمسين سعيدا ماتوا وفنوا في حياتي وضمن عمري الذي يناهز الخامسة والخمسين سنة.
الثانية: رأيت نفسي كالكائن الصغير جدا، بل كالنملة تدب على وجه هذا العصر الذي هو بمثابة قبر للجنازة العظمى لمن هو بنو جنسي ونوعي، والذين دفنوا في قبر الماضي منذ زمن آدم عليه السلام.
أما الثالثة: فقد تجسمت أمام خيالي بسر "الآية الكريمة" موت هذه الدنيا الضخمة مثلما يموت الإنسان، ومثلما تموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة، وهكذا فقد أغاثني المعنى الإشاري للآية الكريمة: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّٰهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾التوبة:129 وأمدني بنور لا يخبو فبدد ما كنت أعانيه من الحزن… واهبا لي التسري والتسلي الحقيقي. نعم لقد علمتني هذه الآية الكريمة أنه ما دام الله سبحانه وتعالى موجودا فهو الوكيل وهو البديل عن كل شئ، وما دام باقيا فهو كاف عبده، حيث إن تجليا من تجليات نوره العميم، يمنح تلك الجنائز الثلاث حياة معنوية -أيما حياة- بحيث تظهر أنها ليست جنائز، بل ممن انهوا مهامهم ووظائفهم على هذه الأرض فارتحلوا إلى عالم آخر".4
وإن هذه المواقف العظيمة وغيرها، لتدل على أن هذا الرجل كان له ميزان لا كغيره من موازين عامة الناس في عصره وزمانه، وأنه رحمة الله عليه قد وضع أمامه غاية كبرى وهدفا ساميا يهون دونهما كل متاع الدنيا الفانية.
فقد وقف نفسه وعمره على إبراز حقائق القرآن وإظهار نور الإيمان لينال بذلك رضوان الله تعالى والنعيم المقيم في الدار الآخرة.
ولكن ما حيلته لبلوغ غايته، وقد وقف دونه ركام من المعوقات وأوصدت في وجهه الأبواب ومنعت أمامه السبل والمسالك، واجتمعت قوى الشر على حربه، وسيطرت الغفلة على أهل الحق فلا تناصر بينهم ولا تعاون!
وكيف يخلص إلى غايته وخصومه قد جمعوا العدد والعدة وأحكموا قبضتهم على البلاد والعباد، وجردوا حملاتهم لتزيين الباطل في النفوس، ونصبوا المحاكم والمشانق لمن خالف سبيلهم أو رام دعوة الناس إلى الخير وإصلاح البلاد وإرشاد العباد!
فإذا كان إنقاذ الإيمان غايته، وإظهار حقائق القرآن سبيله، فإن إذاية خصومه تناله لا محالة، فكيف تحتمل نفس إنسان ضعيف القوة إذاية خصوم كثيري العدد والعدة؟ ولما كان الأمر كذلك، فقد اختط رحمه الله لنفسه ولأصحابه ولكل من كان حاله مثل حاله، ممن يروم إنقاذ الإيمان ونشر الفضيلة، طريقا سالكا، جمع معالمه وأوضح مسالكه في رسائله وسار عليه طول حياته. فهو طريق سالك إلى مرضاة الله عز وجل، يعين صاحبه على احتمال خطوب الدهر والصبر على معاناة مسالك الحياة الوعرة، ويجد فيه العزاء والسلوان وهو يواجه المحن والمصائب الدنيوية، إنه طريق السلوك والسير نحو مراتب الكمالات الإنسانية، ولم يكن الشيخ بديع الزمان النورسي بدعا في هذا الطريق وإنما كان له فضل تجديده والتعبير الدقيق الواضح عن معالمه ومسالكه، وتقويمه وتصحيحه فلا يخرج عن قواعد الشريعة وأصول الملة. قال رحمه الله في التعبير عن هذا الطريق: "هناك تحت عناوين ‘التصوف' و ‘الطريقة' و ‘الولاية' و ‘السير' و ‘السلوك' حقيقة روحانية نورانية مقدسة، طافحة باللذة والنشوة، أعلن عنها كثير من علماء أرباب الكشف والأذواق وتناولوها بالدرس والتمحيص والتعريف، فكتبوا آلاف المجلدات حولها فأخبروا الأمة وأخبرونا بها، جزاهم الله خيرا كثيرا. ونحن هنا سنبين بضع رشحات في ضوء ما تلجئنا إليه الأحوال الحاضرة، فهي بمثابة بضع قطرات من بحر تلك الحقيقة الزاخر".5 فبين رحمه الله هنا أن طريقته في السلوك راعى فيها أحوال عصره وزمانه وأمانة إنقاذ الإيمان ونشر الفضيلة في الحياة الدنيا وبلوغ مرضاة الله عز وجل في الدار الآخرة. فالسلوك عنده ليس لاتقاء شر الناس واعتزال الحياة واتقاء فتنها، والترويح عن النفس من مفاسدها وشرورها، وإنما السلوك عنده له مقاصد عملية يبتغي منه حمل نفسه على السير في طريق التكليف داعيا إلى الخير من غير أن يصده عن ذلك مكايد الشيطان وأعوانه، ومن غير أن تنال من عزمه محن الدنيا وعذابها، حتى يدركه الموت وهو صابر محتسب مجاهد عامل في الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر والفساد. فطريقة السلوك غايتها التزام العمل بالشريعة والقيام بالتكاليف وأداء الوظائف والأعمال وعمارة الدنيا والدعوة إلى الإصلاح والخير، واكتساب القوة على مواجهة التحديات واقتحام حواجز الشر. وقد نص على الغاية العملية في الجملة لطريقة السلوك فقال رحمة الله عليه: "لا ينبغي أن تتحول الطريقة والحقيقة لدى الصوفيين من كونهما وسيلتين، فيصيران غايتين، لأنه بذلك تنحسر الأعمال الدنيوية الشرعية المحكمة وآداب السنة السنية العملية إلى الدرجة الثانية من اهتمام السالك وتصبح صورية وشكلية"6 ولهذا نبه رحمه الله في أكثر من موضع من رسائله إلى أن طريقة السلوك يجب أن توافق قواعد الشريعة وأصولها الواضحة في الكتاب والسنة. يقول رحمه الله: "إن اتباع السنة النبوية المطهرة هو أجمل وألمع طريق موصلة إلى مرتبة الولاية من بين جميع الطرق، بل أقومها وأغناها، والاتباع يعني تحري المسلم السنة السنية وتقليدها في جميع تصرفاته وأعماله… فضلا عن أن اتباع السنة وتحري شرع الله في شؤون المؤمن جميعها يجعله في صحوة دائمة، وتذكر للشرع مستمر، وتذكر الشرع هذا يؤدي إلى تذكر صاحب الشرع الذي يؤدي إلى تذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر الله سبب لسكينة القلب واطمئنانه".7
ولما عرض رحمة الله عليه لمذهب "وحدة الوجود" الذي يحتج له أصحابه بأن الموجود الحق هو "واجب الوجود" سبحانه وأن سائر الموجودات ظلال باهتة وأوهام زائفة لا تستحق صفة الوجود، عقب على ذلك بقوله: "أن هناك محاذير ومخاطر عدة لهذا المشرب (وحدة الوجود)، أولها وأهمها: أن أركان الإيمان ستة: فهناك، عدا ركن الإيمان بالله، أركان أخرى كالإيمان بالآخرة، فهذه الأركان تستدعي وجود الممكنات، أي أن هذه الأركان المحكمة لا يمكن أن تقوم على أساس خيالي"8 وذكر رحمه الله وجوها كثيرة من الانحراف في طريقة السلوك من ذلك مثلا قوله عن طائفة من السالكين: "فهم المنجذبون لنشوة الأذواق البراقة للطريقة والحقيقة، فلا يبالون بالحقائق الشرعية التي هي أرقى من مستوى مذاقهم، ويعتبرها أحدهم غير ذات مذاق لعجزه عن بلوغها، فيؤديها صورية شكلية، وهكذا يبلغ به الأمر تدريجيا إلى أن يظن أن الشريعة مجرد قشر ظاهري، وإن ما وجده من الحقيقة هو الأساس والغاية والقصد، فيقول: حسبي ما وجدته، فيقوم بأفعال مخالفة لما يأمر به الشرع".9 فطريقة السلوك التي تحمل السالك على ترك العمل واعتزال حياة التكليف ليست طريقة، فالتربية السلوكية وسيلة إلى غاية، وطريق إلى هدف ومقصد. فهذا أساس التربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي ومنطلقها على جهة العموم والإجمال. وأما على جهة التفصيل فإن التربية السلوكية لهم مقصد أصلي عام، وتفرعت عنه مقاصد جزئية تبعية.
"المقصد الأصلي للتربية السلوكية"
إن المقصد الأسمى والهدف الأعلى لطريق السلوك هو الحصول على نعيم الآخرة الذي يتوقف على بلوغ مرضاة الله عز وجل. وفي سعي السالك لبلوغ هذا المقصد تحصل له مقاصد أخرى عن طريق التبعية واللزوم.
فبلوغ مرضاة الله عز وجل يحصل منها محبة الله تعالى وهي قمة اللذات ورأسها. ومحبة الله تعالى يحصل منها الرقي المعنوي والسمو في درجات الإيمان والعلو في مراتب اليقين، والرقي في درجات الإيمان يحصل به الأنس المعنوي في الحياة الدنيا، والأنس المعنوي في الدنيا يحصل منه لذة الحياة الدنيا. وكل مقصد من هذه المقاصد التبعية تلازمه فوائد أخرى عظيمة ومقاصد جليلة، تجتمع كلها في مصلحة الدارين.
ونقف من هذه المقاصد التبعية على أصولها الجامعة:
1– محبة الله عز وجل وما يلازمها من لذة الحياة الدنيا:
لقد كان للشيخ بديع الزمان النورسي في هذه المسألة نظر دقيق عميق، سار فيه على خلاف المألوف المشهور عند أهل السلوك. فإذا كان الأصل المقرر عندهم أن محبة الدنيا وطلب اللذة من نعيمها مناف للسلوك، فإن بديع الزمان النورسي قد خالف ذلك، وذهب إلى أن محبة الدنيا وطلب لذاتها يلازم محبة الله عز وجل وأن محبة الدنيا طريق من طرق السلوك إلى الله تعالى وكسب نعيم الآخرة بعد نعيم الدنيا. لكن هذه المحبة التي يتوجه بها السالك إلى الدنيا ولذاتها، محبة خاصة وعلى وجه خاص. فهذه المحبة أساسها وسببها اجتماع الذكر والتفكر، أي ذكر الله تعالى والتفكر في آلائه ونعمه وخلقه، ولا يجوز أن ينفصل أحدهما عن الآخر، فمن اقتصر على الذكر دون التفكر لم تحصل له لذة الحياة ونعيم الدنيا، ومن اقتصر على التفكر دون الذكر أوشك أن يخرج إلى طرق الإلحاد والزندقة بالمرة. يقول رحمة الله عليه: "إن مفاتيح هذا السير والسلوك القلبي ووسائل التحرك الروحاني إن هي إلا ‘الذكر' و ‘التفكر' فمحاسن الذكر وفضائل التفكر لا تحصى… إن أي إنسان كان لا بد أن يبحث عن سلوان… يخفف عنه ثقل هذه الحياة" وحيث إن ما يهيئه المجتمع الحضاري من الوسائل المسلية والأنس بالآخرين قد تمنح واحدا أو اثنين من عشرة من الناس أنسا مؤقتا، بل ذا غفلة وذهول، والثمانين بالمائة من الناس إما أنهم يحيون منفردين… أو ساقتهم هموم العيش إلى أماكن نائية موحشة أو ابتلوا بالمصائب… فالسلوان الكامل لأمثال هؤلاء، والأنس الخالص لهم ليس إلا في تشغيل القلب بوسائل الذكر والتفكر… في الأصقاع النائية وبين شعاب الجبال وعبر مهاوي الوديان يتوجه إلى قلبه مرددا ‘الله، الله' مستأنسا بهذا الذكر ومتفكرا فيما حوله من الأشياء التي يتوجس منها خيفة وتوحي إليه بالوحشة، فإذا بالذكر يضفي عليها الأنس والمودة، وإذا بالذكر يقول: إن لخالقي الذي أذكره عبادا لا حد لهم منتشرين في جميع الأرجاء… إذن فأنا لست وحيدا، فلا داعي للاستيحاش ولا معنى له، وبذلك يذوق معنى الأنس في هذه الحياة الإيمانية، ويلمس سعادة الحياة فيزداد شكره لربه".10 فالغاية التي ينتهي إليها السالك والمقصد الذي يحصله هو لذة الدنيا والاستمتاع بنعمها وخيراتها وتذوق محاسنها وجمالها مع الشكر عليها، ومن لوازمه محبة المنعم الجواد مع ما يصاحبها من لذة عظيمة.
وسمى بديع الزمان النورسي مسلك الذكر ومسلك التفكر "السير الأنفسي" و"السير الأفاقي" قال رحمه الله: "فالسير الأنفسي يبدأ من النفس، ويصرف صاحب هذا السير نظره عن الخارج ويحدق في القلب مخترقا أنانيته، ثم ينفذ منها ويفتح في القلب ومن القلب سبيلا إلى الحقيقة. ومن هنا ينفذ إلى الآفاق الكونية… أما النهج الثاني ‘وهو ما سماه السير الآفاقي' فيبدأ من الآفاق، ويشاهد صاحب هذا النهج تجليات أسماء الله الحسنى، وصفاته الجليلة في مظاهر تلك الدائرة الآفاقية الكونية الواسعة… فيصل إلى مقصوده ومنتهى أمله".11 ومن أصول هذه المسألة في السنة النبوية ما ورد في الحديث: "أمرني ربي عز وجل بتسع: خشية الله في السر والعلن، والعدل في الغضب والرضا، والشكر في الفقر والغنى، وأن أعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرة" وفي هذا يقول أيضا: "إن السالك المنشغل بمراقبة قلبه، يفتح بهذا التفكر آفاقا واسعة أمام نظره وقلبه، فيشاهد ويراقب بفؤاده ولطائفه كافة الكائنات بكل عظمتها، ابتداء من الذرات إلى السيارات، ويرى بكل وجد في تلك العوالم تجليات أسماء الله تعالى وصفاته الجليلة بألف تجل وتجل، وبهذا يرى ويحس بعلم اليقين وعين اليقين بل بحق اليقين أنه في مسجد لا منتهى له، يدخله ما لا تستوعبه الأرقام من الجماعات، الذاكرين خالقهم بكل خشوع وشوق وود ونشوة. ويرددون بصوت واحد تتخلله الألحان العذبة والأنغام المنسجمة والإيحاءات المتناسقة بشتى اللغات معا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".12
ومن وجوه مقصد محبة الله وحصول لذة الحياة الدنيا وزينتها، أن العادات اليومية التي ترتبط بحاجات النفس وشهوات الجسد لا تضيع من السالك وإنما يلازمها لما يجد فيها من لذة زائدة على لذتها الأصلية، لأن الذكر مع التفكر يزيدها بهاء وجمالا ويلبسها صفة العبادة والقربة، فتجتمع لذة الدنيا بلذة العبادة، يقول رحمه الله وهو يذكر فوائد الطريقة والتربية السلوكية: "جعل الإنسان عاداته اليومية بحكم العبادات، وأعماله الدنيوية بمثابة أعمال أخروية، والإحسان في استغلال رأسمال عمره من الحياة بدقائقها، وجعلها بذورا تتفتح على زهرات الحياة الأخروية وسنابلها. وذلك بدوام الذكر القلبي والتأمل العقلي، مع الحضور القلبي الدائم والاطمئنان، ودوام شحذ الإرادة والنية الصافية…"13 وفي هذا المعنى ورد في الحديث: "وفي بضع أحدكم صدقة" الحديث. "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم."
ويزيد رحمة الله عليه هذا الأمر تفصيلا ليثبت أن التربية السلوكية من ثمراتها حصول نعيم الدنيا ولذة الحياة في أعلى مراتبها وأبهى صورها، وحصول لذة العبادة والطاعة لله عز وجل. يقول في هذا المعنى أيضا: "إن الحياة التي وهبها الله للإنسان هي رأسمال عظيم يستطيع أن يكسب به الحياة الأخروية الباقية. وهي كنـز عظيم يحوي أجهزة وكمالات خالدة، ومن هنا فالمحافظة على الحياة الدنيا ومحبتها من هذه الزاوية وتسخيرها في سبيل الله عز وجل يجعلها تعود إلى الله سبحانه. إذ أن محبتها والشغف بها على هذه الصورة ينقلب إلى محبة لوجه الله تعالى، إذ هي في هذه الحالة تكون مزرعة للآخرة ومرآة لأسماء الله الحسنى، ورسائل ربانية إلى الوجود ودار ضيافة مؤقتة. فاجعل حبك للدنيا وما فيها من مخلوقات بالمعنى الحرفي وليس بالمعنى الإسمي، أي لمعنى ما فيها وليس لذاتها، ولا تقل لشيء "ما اجمل هذا" بل قل "ما أجمله خلقا" وإياك أن تترك ثغرة يدخل منها حب لغير الله في قلبك. وهكذا فإن جميع ما ذكرناه من أنواع المحبة إن وجهت الوجهة الصائبة على الصورة المذكورة آنفا… فإنها تورث لذة حقيقية بلا ألم، وتكون وصالا مشروعاً، وشكراً لله في اللذة نفسها وفكر في آلائه بالمحبة عينها"،14 ويقول أيضا: "اجعل عينيك للحياة في سبيل الله ولوجهه الكريم. فالتلذذ بالأطعمة الشهية وتذوق الفواكه الطيبة مع التذكر بأنها إحسان من الله سبحانه وإنعام من الرحمن الرحيم يعني المحبة لاسم الرحمن واسم المنعم من الأسماء الحسنى… أما محبة الزوجة وهي رفيقة حياتك، فعليك بمحبتها على أنها هدية أنيسة لطيفة من هدايا الرحمة الإلهية… فمن هذه الزاوية تصبح هذه المحبة لله".15
فانظر كيف اجتمعت محبة متاع الدنيا بمحبة الله عز وجل، وكيف تجتمع للسالك لذة الدنيا الشهية بلذة محبة الله تعالى وطاعته ونيل رضوانه. وكلما زاد السالك في تناول لذات الدنيا زادت محبته لخالق الدنيا والمنعم بخيراتها. "وإذا تناول الإنسان نعمة لذيذة ثم أدى شكره عليها، فإن تلك النعمة تصبح -بواسطة ذلك الشكر- نورا وضّاءً له وتغدو ثمرة من ثمار الجنة الأخروية، وفضلا عما تمنحه من لذة، فإن التفكر في أنها أثر من آثار التفات رحمة الله الواسعة وتكرمة منه سبحانه وتعالى يمنح تلك النعمة لذة عظيمة دائمة وذوقا ساميا لا حد له… لكن إن لم يشكر المنعم عليه ربه على النعمة واستنكف عنها فإن تلك اللذة المؤقتة تترك بزوالها ألما وأسفا وتتحول هي نفسها إلى قاذورات. فالأرزاق الزائلة تثمر بالشكر لذائذ دائمة… أما النعم الخالية من الشكر فإنها تنقلب من صورتها السامية الجميلة الزاهية إلى صورة دنيئة قبيحة ذميمة، ذلك لأن الغافل يظن أن مآل الرزق بعد اقتطاف اللذة المؤقتة منه هو الفضلات".16 وهذا وجه ولوع الشيخ بديع الزمان النورسي في رسائله وتأملاته بالطبيعة والكون، وما فيهما من أصناف الخلائق والنعم والخيرات، لأنه يجد فيه لذة التمتع بجمالها ولذة محبة خالقها وبارئها عز وجل. لقد تلذذ رحمة الله عليه بجمال المخلوقات كبيرها وصغيرها، من الأجرام والكواكب والسماوات، والنجوم والأرضيين، إلى الثمار والخضر والذرات، وكل ما خلق الله عز وجل.
ولنستمع إليه في بعض تأملاته في الكون من حوله لندرك معه لذة محبة الخلق الممتزجة بلذة حب الخالق عز وجل.
يقول رحمه الله: "في إحدى الليالي كنت على ارتفاع عظيم في وكر منصوب على قمة شجرة القطران المرتفعة على قمة من قمم جبل "جام" نظرت من هناك إلى وجه السماء الأنيس الجميل بمصابيح النجوم، فرأيت أن في القسم الوارد في الآية الكريمة: ﴿فَلَا اُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾التكوير:15-16 نورا ساميا من أنوار الإعجاز، وشاهدت فيه سرا بليغا لامعا من أسرار البلاغة.17
ويقول: "لقد بقيت منذ شهرين أو ثلاثة وحيدا فريدا، وربما يأتيني ضيف في كل عشرين يوما أو ما يقرب من ذلك، فأظل وحيدا في سائر الأوقات، ففي هذه الجبال الموحية بالغربة، وعندما يرخي الليل سدوله، فلا صوت ولا صدى إلا حفيف الأشجار الحزين، رأيتني، وقد غمرتني خمسة ألوان من الغربة."18
ويقول: "كنت جالسا ذات يوم في الطابق العلوي من فندق شهر عقب إطلاق سراحنا من سجن "دنيزلي" أتأمل فيما حولي من أشجار الحور والصفصاف الكثيرة في الحدائق الغناء والبساتين الجميلة، رأيتها جذلى بحركاتها الراقصة الجذابة تتمايل بجذوعها وأغصانها وتهتز أوراقها بأدنى لمسة من نسيم فبدت أمامي بأبهى صورها وأحلاها وكأنها تسبح لله في حلقات ذكر وتهليل. مست هذه الحركات اللطيفة أوتار قلبي المحزون من فراق إخواني، وأنا مغموم لانفرادي وبقائي وحيدا، فخطر على البال فجأة موسما الخريف والشتاء وانتابتني غفلة إذ ستتناثر الأوراق وسيذهب الرواء والجمال، وبدأت أتألم على تلك الصور الجميلة، وأتحسر على سائر الأحياء التي تتجلى فيها تلك النشوة الفائقة تألما شديدا حتى اغرورقت عيناي واحتشدت على رأسي أحزان تدفقت من الزوال والفراق تملأ هذا الستار المزركش البهيج للكائنات".19
ويقول: "بينما كنت على قمة جبل "بارلا" أيام منفاي، أسرح النظر في أشجار الصنوبر والقطران التي تغطي الجهات، وأتأمل في هيبة أوضاعها وروعة أشكالها وصورها إذ هب نسيم رقيق حول ذلك الموضع المهيب الرائع إلى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة، واهتزازات نشوة وتهليل، إذا بذلك المشهد البهيج السار يعتصر عبرا أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع، وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لأحمد الجزري ترجمتها:
"لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك، إنهم بجمالك يتغنجون ويدللون، وتعبيرا عن معاني العبرة بكى قلبي على هذه الصورة يا رب إن كل حي يتطلع من كل مكان، فينظرون معا إلى حسنك، ويتأملونه في روائع الأرض التي هي معرض صنعك، فهم كالدعاة الأدلاء ينادون من كل مكان من الأرض ومن السماوات العلى إلى جمالك."20
ويقول في الكلمات: "كنت سارحا في رفقة غربتي أسرح مع الفكر، وأجول مع الخيال والتأمل فقادتني قدماي إلى سفح رابية مزدانة بالخضرة فرنت إليّ على استحياء من وسط هذا البساط الأخضر زهرة صفراء ساطعة النضرة وألوت جيدها إليّ تناغيني بود ومحبة، فأثارت مشاعري وأشواقي إلى زهرات مثلها التقيتها في ربوع بلدتي "وان" وفي سائر المدن الأخرى التي كانت تحتضن غربتي مرة بعد أخرى فانهال هذا المعنى فجأة على قلبي."21
ويقول: "إن تجدد المصنوعات الجميلة، وتبدل المخلوقات اللطيفة ضمن الغروب والشروق، وباختلاف الليل والنهار، وبتحول الشتاء والصيف، وتبدل العصور والدهور، كما أنها تدل على وجود ذي جمال سرمدي رفيع الدرجات دائم التجلي، وعلى بقائه سبحانه ووحدته، فإن موت تلك المصنوعات وزوالها بأسبابها الظاهرة يبين تفاهة تلك الأسباب وعجزها وكونها ستارا وحجابا ليس إلا، فيثبت لنا هذا الوضع إثباتا قاطعا أن هذه الخلقة والصنعة وهذه النقوش والتجليات إنما هي مصنوعات ومخلوقات متجددة للخالق جل جلاله الذي جميع أسمائه حسنى مقدسة بل هي نقوشه المتحولة ومراياه المتحركة، وأختامه المتبدلة بحكمة."22
ويقول: "لو أن جيشا عظيما يضم تحت لوائه أربعمائة ألف نوع من الشعوب والأمم لكل نوع جنس طعامه المستقل عن الآخر، ونمط تدريباته وتعليماته يباين الآخر، ومدة عمله وفترة رخصته هي غير المدة للآخر… فقائد هذا الجيش الذي يزودهم وحده بالأرزاق المختلفة والأسلحة المتباينة والألبسة المتغايرة دون نسيانه أيا منها ولا التباس ولا حيرة لهو قائد ذو خوارق بلا ريب، فكما أن هذا المعسكر العجيب يرينا بداهة ذلك القائد الخارق، بل يحببه إلينا بكل تقدير وإعجاب كذلك معسكر الأرض، ففي كل ربيع يجند مجددا جيشا سبحانيا عظيما مكونا من أربعمائة ألف نوع من شعوب النباتات وأمم الحيوانات ويمنح لكل نوع ألبسته وأرزاقه وأسلحته ورخصه الخاصة به من لدن قائد عظيم واحد جل وعلا بلا نسيان ولا اختلاط ولا تحير، وفي منتهى الكمال وغاية الانتظام."23
ويقول: "إن عقارب الساعة التي تعد الثواني والدقائق والساعات والأيام كل منها يناظر الآخر، ويأخذ منها حكم الآخر، كذلك في عالم الدنيا الذي هو ساعة إلهية كبرى، فإن دوران الليل والنهار الذي هو بحكم الثواني للساعة والسنوات التي تعد الدقائق، وطبقات عمر الإنسان التي تعد الساعات، وأدوار عمر العالم التي تعد الأيام كل منها يناظر الآخر ويماثله ويذكّر كل منها الآخر ويأخذ حكمه.
ووقت الفجر إلى طلوع الشمس يشبه ويذكر ببداية الربيع وأوله، وبأوان سقوط الإنسان في رحم الأم. وأما وقت الظهر فهو يشبه ويشير إلى منتصف الصيف وإلى عنفوان الشباب وإلى فترة خلق الإنسان في عمر الدنيا.
وأما وقت العصر فهو يشبه موسم الخريف وزمن الشيخوخة.
وأما وقت المغرب فإنه يذكر بغروب أغلب المخلوقات وأفولها نهاية الخريف ويذكر أيضا بوفاة الإنسان.
وأما وقت العشاء فيذكر بغشيان عالم الظلام وستره آثار عالم النهار بكفنه الأسود.
وأما وقت الليل فإنه يذكر بالشتاء وبالقبر وبعالم البرزخ فضلا على أنه يذكر روح الإنسان بمدى حاجتها إلى رحمة الرحمان.
وأما التهجد في الليل فإنه يذكر بضرورة ضياء ليل القبر، وظلمات عالم البرزخ وينبه ويذكر بنعم غير متناهية للمنعم الحقيقي عبر هذه الانقلابات، ويعلن عن مدى أهلية المنعم الحقيقي للحمد والثناء.
وأما الصباح الثاني فإنه يذكر بصباح الحشر، نعم كما أن مجيء الصباح بعد هذا الليل ومجيء الربيع لهذا الشتاء معقول وضروري وحتمي، فإن مدى صباح الحشر وربيع البرزخ هو بنفس القطعية والثبوت."24
ويقول في الكلمات: "لقد أحصيت ذات يوم عناقيد ساق نحيفة لعنب متسلق بغلظ إصبعين، تلك العناقيد التي هي معجزات الرحيم ذي الجمال، في بستان كرمه، فكانت مائة وخمسين عنقودا، وأحصيت حبات عنقود واحد منها فكانت مائة وعشرين فتأملت وقلت: لو كانت الساق الهزيلة خزانة ماء معسل وكانت تعطي باستمرار لما كانت تكفي أمام لفح الحرارة ما ترضعه لمئات الحبات المملوءة من شراب سكر الرحمة، والحال أنها قد لا تنال إلا رطوبة ضئيلة، فليزم أن يكون القائم بهذا العمل قادرا عن كل شئ فسبحان من تحير في صنعه العقول."25
فهذه كلها شواهد وأدلة من كلام النورسي ومن سلوكه اليومي العملي، على أن من المقاصد المرجوة من التربية السلوكية أن يذوق السالك لذة الحياة الدنيا وزينتها، وفي ذلك يشعر بالقرب من الله عز وجل وطاعته وعبادته فيزيده ذلك لذة إلى لذة.
ومعنى هذا أن التربية السلوكية عند هذا الرجل لا تنفصل عن الحياة الدنيا. ويتفرع عن هذا مقصد آخر هو مقصد عمارة الدنيا.
2– مقصد عمارة الدنيا ومواجهة التحديات:
إن التربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي ليس من مقاصدها العزلة عن الناس بحجة أصل اتقاء الفتن والبعد عن مواطن التهم. وإنما القصد من السلوك عمارة الدنيا والسعي في وجوه الخير وسبل الرشاد. يقول رحمة الله عليه: "ينبغي ألا تتحول الطريقة والحقيقة لدى الصوفيين من كونهما وسيلتين فيصيران غايتين، لأنه بذلك تنحسر الأعمال الدنيوية الشرعية المحكمة وآداب السنة السنية العملية إلى الدرجة الثانية من اهتمام السالك وتصبح صورية وشكلية."26
وواضح جدا من كلامه هذا أن طريقة السلوك إنما هي وسيلة إلى غاية، هي العمل في الحياة وعمارة الدنيا. فالتربية السلوكية هي التي تحمل المرء على الجد في العمل والاجتهاد في نشر الفضيلة والعناية بشؤون مجتمعه وأحوال أمته.
وهذا على خلاف المقرر عند عامة الصوفية من الانصراف عن أحوال الدنيا وهموم الناس. وقد روي أن رجلا من المحدثين سأل رجلا من الصوفية لماذا لم تشتهر تراجم الصوفية وأخبارهم كما اشتهرت أخبار المحدثين وتراجمهم، فأجابه بقوله:
وزاهد قد بات من ليلاه في شغل ولم يزعج بشكواه إنسان
ومعنى هذا أن المتصوف الزاهد الذي يحمل نفسه على العزلة والفراغ من مشاغل الحياة وهموم الدنيا، لا يعرفه أحد لأنه لا يخالط الناس ولا يهتم بقضايا المجتمع وأحوال الناس في معايشهم وهمومهم.
وبالنسبة للشيخ بديع الزمان النورسي فإن طريقته وسلوكه لا تستجيز له الغفلة عن الأحوال العامة لمجتمعه وهموم الناس في عصره. ومن ينظر في أخبار حياته يجده وقف عمره كله وجهده لخدمة هموم مجتمعه وعمارة البلاد وإرشاد العباد. ولما كان أمر ضمور الإيمان وظهور الإلحاد والشر معضلة عصره وزمانه وأصل المشكلات، فقد جعل حياته كلها وصرف جهده كله لإنقاذ الإيمان، فسعى في الأرض طول عمره عاملا مجتهدا محتملا المحن والشدائد. يقول: "إن هذه الدنيا دار حكمة وعلم، وليست دار جزاء وثواب. ولذا فلا تطلب فيها اللذائذ والأذواق ولا تقصد فيها الكرامات، وإنما ينبغي فيها الالتزام بالشريعة لأن الحقيقة والطريقة وسيلتان لخدمة الشريعة" فلا بد من ضبط أمور الحياة بقواعدها وسننها وقوانينها. وقد عرف عن بديع الزمان النورسي كراهية التعلق بالكرامات والخوارق، حتى إنه ذكر مرة لأصحابه أنه كان مرة مهموما مشغولا لأن شخصا أساء إليه وظلمه، فخشي رحمه الله إن نـزلت مصيبة بهذا الرجل أو حل به بلاء -كما يحل بسائر البشر- أن ينسب ذلك إليه على انه من كراماته، ولهذا كان يدعو الله عز وجل ألا يصاب ذلك الرجل وقد أساء إليه وظلمه، بشر وأذى.
ومعنى ذلك أن المطلوب عمارة الأرض والسعي فيها بالتزام سنن الكون والحياة كما خلقها الله عز وجل. وإن عمارة الدنيا والسعي في خير البلاد والعباد يحتاج إلى علو همة ورباطة جأش وقوة شخصية وصبر وتحمل. ولهذا فإن من المقاصد المرجوة أيضا من التربية السلوكية حصول الأنس المعنوي والرقي في درجات الإيمان والعلو في مراتب اليقين.
3– مقصد الأنس والرقي المعنوي:
يقول رحمه الله وهو يبين فوائد السلوك وغاية التربية السلوكية: "التخلص من وحشة الانفراد والوحدة في السير والسلوك، والشعور بالأنس المعنوي في الحياة الدنيا والبرزخ... فتندفع الأوهام والشبه عن النفس"27 فمن فوائد السلوك أن يرتقي السالك درجات الإيمان ويعلو في مراتب اليقين. وتحت هذا الأصل أدخل الشيخ بديع الزمان النورسي معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "فمعراج الرسول هو سيره وسلوكه، وهو عنوان ولايته، إذ كما يعرج الأولياء إلى درجة حق اليقين من درجات الإيمان رقيا معنويا بالسير والسلوك الروحاني بدءا من أربعين يوما إلى أربعين سنة، كذلك الرسول وهو سلطان جميع الأولياء وسيدهم عرج بجسمه وحواسه ولطائفه جميعا لا بقلبه وروحه وحدهما... حتى بلغ أعلى المراتب وأسماها.. ورقي إلى العرش بسلم المعراج وشاهد ببصره بعين اليقين-في مقام قاب قوسين أو أدنى- أعظم حقائق الإيمان، وهو الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، ودخل الجنة وشاهد السعادة الأبدية، وفتح باب الجادة الكبرى وتركه مفتوحا ليمضي جميع أولياء أمته بالسير والسلوك الروحاني، أي بسير روحاني وقلبي في ظل ذلك المعراج كل حسب درجته."28
ومعنى هذا أن المعراج النبوي هو التشخيص العملي لطريق السلوك والسير نحو منازل القرب. فالنبي قد ارتقى في المعراج إلى أعلى مقام لن يبلغه أحد بعده، لأن سلوكه وسيره سلوك مادي ومعنوي وحصل له الارتقاء المعنوي والمادي، ولهذا فهو سيد الأولياء وإمام المتقين وقدوة العارفين والسالكين. والاقتداء به في السلوك يقتصر على السلوك المعنوي الذي يحصل به الارتقاء المعنوي لعله يقترب من مقام رسول الله، أما بلوغه فإنه متعذر لأن الله تعالى خصه بالسلوك المادي والمعنوي، وأما غيره فليس له إلا السلوك المعنوي. فالرقي المعنوي سلوان للنفس وقوة لها فيرتفع السالك إلى المقام الإيماني الذي يكسبه لذة وقوة على احتمال المحن الدنيوية فيهون كل عذاب الدنيا أمامه فيتحقق فيه المثل القائل: "من عرف ما قصد هان عليه ما وجد". وهذا المقام هو مرتبة الكمال البشري المرجوة من السلوك. يقول رحمه الله عن هذه الفائدة: "العمل للوصول إلى مرتبة الإنسان الكامل، وذلك بالتوجه القلبي إلى الله طوال سيره وسلوكه، وأثناء معاناته الروحية التي تسمو بحياته المعنوية، أي الوصول إلى مرتبة المؤمن الحق والمسلم الصادق، أي نيل حقيقة الإيمان والإسلام لا صورتيهما، ثم إن يكون الإنسان عبداً خالصاً لرب العالمين، وموضع خطابه الجليل، وممثلاً عن الكائنات من جهة، وولياً لله وخليلاً له، حتى كأنه مرآة لتجلياته سبحانه، وفي احسن تقويم حقاً فيقيم الحجة على أفضلية بني آدم على الملائكة.
وهكذا يطير بجناحي الإيمان والعمل بالشريعة إلى المقامات العليا والتطلع من هذه الدنيا إلى السعادة الأبدية بل الدخول فيها".29
4– مقصد اتقاء أمراض القلوب ونوازع النفس:
لقد كانت للشيخ بديع الزمان النورسي وقفات عميقة مطولة مع النفس الإنسانية وصفاتها وخصائصها وما أودع الله عز وجل فيها. وكانت له وقفات خاصة مع أمراض القلوب وأدوائها. وخلاصة ذلك أن النفس بحكم ما أودع فيها من الشهوات تميل إلى الشر واللهو والعبث كما قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ…﴾آل عمران:14 وقد فصل بديع الزمان النورسي هذه المسألة في مناسبات كثيرة من رسائله، وخاصة في كلامه على أصل التعاون بين أهل الحق والإيمان، فذكر أن من أسباب العداوة بين المسلمين، الغفلة عن حقيقة النفس وصفاتها وعدم تعهدها بالتهذيب والرعاية والتزكية والصيانة. فقد يغتر العالم بعلمه وصاحب الحق بكونه على حق، فيزين له أنه قد استغنى عن التربية والسلوك وتهذيب النفس وتزكيتها، فيفتح الباب لغرائز النفس وطبائعها لتعمل عملها، وهي مفضية لا محالة إلى الشر، من العداوة والحسد والغرور والأنانية. يقول: "وإذا كان ثمة غرور وأنانية في النفس يتوهم المرء نفسه محقا ومخالفيه على باطل، فيقع الاختلاف والمنافسة بدل الاتفاق والمحبة وعندها يفوته الإخلاص ويحبط عمله ويكون أثرا بعد عين."30
ولهذا فإن من مقاصد التربية السلوكية اتقاء هذه الأمراض التي تعرض للقلوب فتشوش على الإيمان والأعمال والتصرفات والمعاملات. فلما كانت النفس على هذه الصفة من الميل إلى الشر، فإن السلوك حاجة وضرورة. وأصل هذه المسألة حديث: "وإن في الجسد مضغة الحديث." ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْاَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾الحج:46 ويترتب عن هذا المقصد مقصد آخر:
5– مقصد سلامة العقل وصفاء العلم:
إن من النظرات الدقيقة عند بديع الزمان النورسي، أن طاقة العقل قد تتعطل وينحرف في عمله، بسبب أمراض القلوب وغلبة الهوى عليها. ولهذا كان من مسالكه في التربية والتعليم تآلف العقل والقلب، فكل منهما يحتاج إلى تزكية وتربية، فتنمية العقل تكون بالعلوم المختلفة، وتنمية القلب بالتربية السلوكية. وان من أسباب انحراف البشر مع وجود العلوم المادية والإنسانية عدم الجمع في التربية بين العقل والقلب. ذلك أن أمراض القلب قد تشوش على أعمال العقل فتغلبه فيكون المرء تابعا لنفسه وهواه مخالفا مقتضيات عقله، كما قال تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ اَنَّمَا يَتَّبِعُونَ اَهْوَاءهُمْ﴾".القصص:50 يقول رحمه الله: "إن الإيمان لا يحصل بالعلم وحده، لذا إن هناك لطائف كثيرة للإنسان لها حظها من الإيمان. فكما أن الأكل إذا ما دخل المعدة ينقسم ويتوزع إلى مختلف العروق حسب كل عضو من الأعضاء، كذلك المسائل الإيمانية الآتية عن طريق العلم، إذا ما دخلت معدة العقل والفهم، فإن كل لطيفة من لطائف الجسم كالروح والقلب والسر والنفس وأمثالها تأخذ منها وتمصها حسب درجاتها. فإن فقدت لطيفة من اللطائف غذاءها المناسب، فالمعرفة إذن ناقصة مبتورة، وتظل تلك اللطيفة محرومة منها."31
ويقول: "إن نور الفكر ظلام يفجر ظلاما ما لم يتوهج بضياء القلب ويمتزج به فكما إذا لم يمتزج نهار العين الأبيض غير المنور بليلها الأسود فلا تكون بصرا، كذلك لا بصيرة لفكرة بيضاء لا توجد فيها سويداء القلب إذا لم يكن في العلم إذعان القلب فهو جهل، لأن الالتزام شيء والاعتقاد شيء آخر."32
وإن التربية السلوكية تعمل على تحريك قلب الإنسان الذي يعتبر مركزا لجسمه ولولبا لحركته وتوجيهه إلى الله فيندفع بهذا كثير من اللطائف الإنسانية إلى الحركة والظهور فتتحقق حقيقة الإنسان".33
* * *الهوامش: 1 د.عبد الكريم عكيوي: كلية الآداب، أكادير - المغرب. 2 اللمعات، ص 373. 3 اللمعات، ص 374. 4 اللمعات، ص 376. 5 المكتوبات ص 571 6 المكتوبات ص: 584 7 المكتوبات ص: 581 8 المكتوبات ص: 579 9 المكتوبات ص: 586 10 المكتوبات ص: 572-573 11 المكتوبات ص: 575 12 سيرة ذاتية ص: 31-32 13 المكتوبات 592 14 النورسي: أنوار لا تغيب، محمد التهامي (ط 1418: 1-1998 مطبعة المدني ونقله عن الكلمة الثانية والثلاثين من ص: 765 وما بعدها. 15 الكلمات ص: 221-223 16 المكتوبات ص: 472-473 17 انظر الكلمات 1/246 والمكتوبات 2/18 18 المكتوبات 2/29 19 الكلمات 1/538-539 20 اللمعات 1/242 21 الكلمات، ص 822. 22 الكلمات، ص 342. 23 الكلمات، ص 176. 24 الكلمات، ص 39-42. 25 الكلمات ص: 1/337 26 المكتوبات ص 548 27 المكتوبات ص: 591 28 المكتوبات ص: 395-396 29 المكتوبات ص: 593 30 اللمعات ص: 227 31 المكتوبات ص: 426 32 المكتوبات ص: 603 33 المكتوبات ص: 591
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | December 1, 2011 |
Published in Issue | Year 2011 Volume: 4 Issue: 4 |