الحكمة وفصل الخطاب في منهج التربية عند النورسي
د. خالد الصمدي1
لماذا الحكمة وفصل الخطاب؟
أما الحكمة فمصطلح تكرر استعماله من قبِل الشيخ بديع الزمان النورسي في غير ما موضع من الرسائل مقترنا بالقرآن كقوله "موازنة بين حكمة القرآن وحكمة الفلسفة" و "ثروة حكمة القرآن وغناها" و "حكمة القرآن وفلسفة الإنسان" و "حكمة تلاميذ القرآن وحكمة القرآن نفسه".
والناظر في مصطلح الحكمة في رسائل النور واقترانها بالقرآن "كخطاب" والإنسان "كمخاطب" يدرك سر العلاقة القائمة بينهما في فكر الشيخ سعيد، فالقرآن خطاب أساسه التربية موجه للعالمين غايته الإصلاح، ومحوره ومقصده هذا الكائن العاقل المكلف وفق ما نزلت به الرسالة، المتأثر -سواء في عصر النورسي أو قبله أو بعده- بمؤثرات اقتصادية واجتماعية وسياسية، تقتضي هدايته "من حيث الأسلوب" خطابا حكيما تمتزج فيه سلاسة العبارة وتدرج وقعها على السامع بحسب الأحوال والأمكنة والأزمنة "ومن حيث الجانب العلمي والمعرفي "سهولة الإقناع وسيادة منطق المناظرة والحجاج ومخاطبة الناس على قدر عقولهم "ومن حيث الجانب النفسي والتربوي" الدخول إلى الأعماق الغامضة الكامنة في النفس الإنسانية التي لا يعلم مكوناتها ومكنوناتها إلا خالقها من أجل إعادة بناء قواها ونفي الدرن عنها "ومن حيث الجانب الواقعي" النزول على حاجات الناس واهتماماتهم ومعالجة مشاكلهم بالنظر إلى ظروفهم المتغيرة.
ولن يكون هذا الخطاب إلا إلهيا، ولن تكون تلك إلا الحكمة، قال تعالى: ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ اُوْلُواْ الاَلْبَابِ﴾.البقرة:268
ولذلك لخص النورسي هذه المعاني حين صدر الكلمة الثانية عشر بهذه الآية حيث قال: "هذه الكلمة تشير إلى موازنة إجمالية بين حكمة القرآن الكريم المقدسة وحكمة الفلسفة، وتشير أيضا إلى خلاصة مختصرة لما تلقنه حكمة القرآن من تربية الإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية، فضلا على أنها تضم إشارة إلى جهة ترجح القرآن الكريم وأفضليته على سائر الكلام الإلهي وسموه على الأقوال قاطبة."
وأما فصل الخطاب: فأقصد بها تلك الطريقة التي تبرز للعالم خصائص الخطاب القرآني من حيث لفظه وإعجازه وتفسيره وترجمته وفهم مشكلاته والعناية به وبمقاصده وعالميته ومنهجه وأسراره ودفع الشبهات عنه، وهذا لا يتأتى إلا لمن أتاه الله بسطة في العلم والفهم فامتلك فصل الخطاب.
وهذه القضايا أخذت من الرسائل الحظ الوافر، فقد كانت حاضرة كهواجس يومية في فكر النورسي، وقد آتاه الله من بلاغة القول وقوة الحجة ما جعله يبسط كل قضية ويفصلها بما يقنع ويمتع.
وقد امتلكتني هاتان القضيتان "الحكمة ‘كمفهوم تربوي' وفصل الخطاب ‘كأسلوب لإبراز مكانة القرآن في بناء المعرفة' وأنا أقرأ فقرات رسائل النور بأجزائها التسعة، مستقرئا المادة العلمية التي تمكنني من مقاربة البعد التربوي للقرآن في شقه الفردي والجماعي كما بناه الفكر التربوي الإصلاحي لبديع الزمان النورسي، وسميت ما توصلت اليه بـ "الحكمة وفصل الخطاب في منهج التربية عند النورسي بكلام منزل الكتاب".
وسأحاول أن أقارب هذا الموضوع في محاور ثلاثة هي التالي:
1– التربية بالقرآن وتكوين شخصية النورسي.
2– الحكمة في الفكر التربوي النورسي وبناءها من خلال القرآن.
3– فصل الخطاب في الفكر التربوي النورسي للدفاع عن الكتاب.
ثم خاتمة.
1– التربية بالقرآن وتكوين شخصية النورسي:
لقد قرأت الخلاصة الجامعة التي كتبها الإمام سعيد في ملحق "أميرداغ" تحت عنوان "الحقيقة القرآنية في الرسائل" وقد اعتبرت هذه الفقرة جماع ما كان يقصد النورسي في تجربته الإصلاحية ملخصا محررا، وقد فضلت الانطلاق منها لأنها أثر لتكوين النورسي، وهو مقصدي للتفصيل في هذا المحور الأول من عرضي.
قال الإمام بديع الزمان: "إن أجزاء رسائل النور، قد حلت أكثر من مائة من أسرار الدين والشريعة والقرآن الكريم، ووضحتها وكشفتها، وألجمت أعتى المعاندين الملحدين وأفحمتهم، وأوضحت بوضوح كوضوح الشمس ما كان يظن بعيدا عن العقل من حقائق القرآن كحقائق المعراج والحشر الجسماني، أثبتها لأشد المعاندين والمتمردين من الفلاسفة والزنادقة حتى أدخلت بعضهم حظيرة الإيمان، فرسائل هذا شأنها لابد أن العالم وما حوله بأجمعه سيكون ذا علاقة بها، ولا جرم أنها حقيقة قرآنية تشغل هذا العصر والمستقبل، وتأخذ جل اهتمامه، وأنها سيف ألماسي بتار في قبضة أهل الإيمان".2
إن هذه النتيجة لها مقدمات، فكيف أثر القرآن تربويا في فكر النورسي حتى أبدع ما أبدع وصنف ما صنف وقاوم الابتلاء؟
إن قراءة متمعنة فاحصة في السيرة الذاتية لبديع الزمان النورسي في مختلف مراحلها، تؤكد حضور القرآن في مختلف مراحلها من النشأة وزمن الطلب، إلى فكرة مدرسة الزهراء، إلى المشاركة في الحرب والنفي والسجن والفرار منه والعودة إلى إستانبول، وظلم ذوي القربى برفع الدعاوى ضده، إلى نفي جثته.
ففي كل هذه المراحل كان التوجيه التربوي القرآني حاضرا، قال بديع الزمان تحت عنوان "حياتي بذرة لخدمة القرآن": "لقد تحقق لدي يقينا أن أكثر أحداث حياتي قد جرت خارجة عن طرق اقتداري وشعوري وتدبيري إذ أعطي لها سير معين، ووجهت وجهة غريبة لتنتج هذه الأنواع من الرسائل التي تخدم القرآن الكريم، بل إن كأن حياتي العلمية جميعها بمثابة مقدمات تمهيدية لبيان إعجاز القرآن بالكلمات ‘أي كليات رسائل النور' حتى لأنه في غضون هذه السنوات السبع من حياة النفي والاغتراب، ونفيي عن الناس دون سبب أو مبرر، وبما يخالف رغبتي، أمضي أياما من حياتي في قرية نائية خلافا لمشربي، وعازفا عن كثير من الروابط الاجتماعية التي ألفتها سابقا، كل ذلك ولد لدي قناعة تامة لا يداخلها شك من أنه تهيئة وتحضير لي للقيام بخدمة القرآن وحده خدمة صافية لا شائبة فيها، بل أنني على قناعة تامة من أن المضايقات التي يضايقونني بها في أغلب الأوقات، والعنت الذي أرزح تحته ظلما إنما لدفعي بيد عناية خفية رحيمة إلى حصر النظر في أسرار القرآن دون سواها، وعدم تشتيت النظر وصرفه هنا وهناك، وعلى الرغم من أنني كنت مغرما بالمطالعة، فقد وهبت لروحي مجانبة وإعراضا عن أي كتاب آخر سوى القرآن الكريم، فأدركت أن الذي دفعني إلى المطالعة التي كانت تسليتي الوحيدة في مثل هذه الغربة ليس إلا كون الآيات القرآنية وحدها أستاذا مطلقا لي".3
وكان الإمام سعيد قد اتخذ هذا القرار بعد أن تمكن من علوم الآلة المعينة على فهم القرآن، حيث أتقن اللغة العربية وحفظ مئات المتون وناظر كبار العلماء من خلال التطواف والترحال إليهم في مراكز العلم حتى سلموا بقوة ذاكرته وحفظه ولقب ببديع الزمان
ومن المفيد أن يعرف قارئ هذا البحث صورا من معايشة النورسي للقرآن في محطات مختلفة من حياته، لأنها محطات يمتزج فيها التكوين بالتربية، بالأبعاد النفسية، بالمعاناة المعرفية، بالاشتغال بهموم الأمة ومستقبلها، وهذا ما يمكن أن يستفيد منه خدام القرآن بعد عصر النورسي، لأن خدمة القرآن رسالة خالدة، ومن جهة أخرى فهذه الصور التي تمتلئ بها رسائل النور تؤكد معادلة امتزاج القرآن بواقع الناس ويكشف منهجا في بناء التصورات الإصلاحية من القرآن نظريا وتطبيقيا لأنه يحرك مكامن القوة فيها.
أثر القرآن في تربية النورسي أول الطلب:
منذ أن تتلمذ سعيد على أخيه الكبير الملا عبد الله، بدأ يتنقل بين الأساتذة والمدارس في القرى والمدن يتلقى بدءا علوم اللغة العربية نحوا وصرفا، والتي هي مفتاح دراسة العلوم الإسلامية، فتوقد ذكاءه، واتسعت ذاكرته وحفظه، فجلس أول الأمر للإقراء والتدريس بالمسجد الجامع بمدينة "ماردين" حيث بدأ يجيب على أسئلة الناس "فوشي به إلى الوالي، فأصدر أمرا بإخراجه وسيق إلى ‘بتليس' فلما عرف واليها حقيقة هذا الشاب العالم ألح عليه أن يقيم معه، وهناك وجد الفرصة سانحة لمطالعة الكتب العلمية لا سيما علم الكلام والمنطق وكتب التفسير والحديث الشريف والفقه والنحو حتى بلغ محفوظه نحو ثمانين متنا".4
واتسعت مطالب النورسي من العلوم حتى كانت الحيرة تنتابه أحيانا في ترتيب الأولويات نظرا لولعه وشغفه بكل العلوم تلقيا عن الشيوخ، وللخروج من هذه الحيرة كان يقتطع لنفسه سويعات من التفكير والتأمل وفي هذا يقول: "وحينما كنت أتفكر في هذه الحيرة الشديدة إذ بخاطر رحماني من الله سبحانه وتعالى يخطر على بالي ويهتف بي: إن بداية هذه الطرق جميعها ومنبع هذه الجداول كلها وشمس هذه المواكب السيارة، إنما هو القرآن الكريم، فتوحيد القبلة الحقيقي إذن لا يكون إلا في القرآن، فالقرآن هو أسمى مرشد وأقدس أستاذ على الإطلاق، ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه".5
التربية القرآنية والمحنة في حياة بديع الزمان
إن هذا الاستمداد وهذا الاعتصام بالقرآن جعلا بديع الزمان أكثر صلابة في مواجهة الصعاب وخاصة منها ظروف الأسر والنفي بعد الحرب العالمية الأولى، فتجد في الرسائل مشاهد يصف فيها الإمام ضيق نفسه وسوء حاله لولا فسحة الأمل التي ادخرها من تكوينه التربوي المتين بالقرآن وعلومه، ومنها قوله على سبيل المثال: "تلك الليالي الطويلة الحزينة، وفي ذلك الجو الغامر بأسى الغربة ومن واقعي المؤلم، جثم على صدري يأس ثقيل نحو حياتي وموطني فكلما التفت إلى عجزي وانفرادي انقطع رجائي وأملي، وإذ أنا في تلك الحالة جاءني المدد من القرآن الكريم فردد لساني ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾آل عمران:173 فأصبح عجزي وضعفي في تلك الليالي المحزنة الطويلة والحالكة بالفرقة والغربة وسيلتين للتقرب إلى عتبة الرحمة الإلهية، وشفيعين لدى الحضرة الإلهية حتى إنني لا أزال مندهشا كيف استطعت الفرار بعد أيام قليلة، وأقطع بصورة غير متوقعة مسافة لا يمكن قطعها مشيا على الأقدام إلا في عام كامل".6
وفي موضع آخر من المكتوبات قال: "وفكرت كيف يمكن أن تقاوم كل هذه الظلمات المتراكمة، وأنواع الغربة المتداخلة، فاستغاث قلبي قائلا: يارب أنا غريب وحيد ضعيف غير قادر عليل، عاجز شيخ لا خيار لي فأقول الغوث الغوث، أرجو العفو وأستمد القوة من بابك يا إلهي، وإذا بنور الأمان وفيض القرآن ولطف الرحمان يمدني من القوة ما يحول تلك الأنواع الخمسة من الغربة إلى خمس دوائر نورانية من دوائر الأنس والسرور، فبدأ لساني يردد ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾آل عمران:173 وتلا قلبي الآية الكريمة ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّٰهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ...﴾".التوبة:129 7
لم يكن بديع الزمان ينقل هذه الصور من واقع حياته كما يكتب الأدباء سيرهم الذاتية، ولكنه كان يرسل رسائل إلى المجاهدين والمرابطين في كل وقت وكل مكان وزمان أن اركنوا إلى القرآن تسلوا قلوبكم وتتقوى عزائمكم ففي كل عبارة من سيرته عبرة تربوية من عبر ورثة الأنبياء الصالحين المصلحين، فهل من معتبر بعزة القرآن وعظمته؟ هذا لسان حاله وهو يسطر عبارات الأمل بعد الكلل، وكأنه يردد قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾الإنشراح:6 وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.الطلاق:2-3
2– الحكمة في الفكر التربوي النورسي كما بناها من خلال القرآن الكريم:
إن هذا التكوين العلمي والتربوي، وهذا المحك الواقعي أثناء المحنة أورثا بديع الزمان حكمة تجلت في فكره التربوي نظرا وتطبيقا.فحين صنفت ما جمعت من نصوص مرتبطة ببيان الحكمة التربوية كما بناها النورسي من خلال القرآن الكريم، أظنني أستطيع أن أصنفها في المحاور الآتية:
– الحكمة في بناء التصور من خلال الموازنة بين حكمة القرآن وحكمة الفلسفة.
– الحكمة في تربية النفس والوجدان وتزكيتهما من خلا ل القرآن.
– الحكمة في التربية المعرفية أو (تعلم فصل الخطاب للدفاع عن الكتاب): وإليك التفصيل بعد الإجمال:
الحكمة في بناء التصور من خلال الموازنة بين حكمة القرآن وحكمة الفلسفة:
إن عناية النورسي بالإصلاح من خلال القرآن جعله يفكر في التي هي أقوم، لأن القرآن يهدي إليها، إلا أن طبيعة المخاطبين من المسلمين وغيرهم، تقتضي الحكمة لفت نظرهم إلى عظمة القرآن، عن طريق الموازنة بين مسلك القرآن ومسلك الفلسفة أو الفلسفات السائدة في تربية الإنسان، ولذلك صدر الكلمة الثانية عشرة بقوله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً﴾البقرة:269 ثم لخص محتواها بقوله: "هذه الكلمة تشير إلى موازنة إجمالية بين حكمة القرآن الكريم المقدسة وحكمة الفلسفة، وتشير إلى خلاصة مختصرة لما تلقنه حكمة القرآن من تربية الإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية، فضلا عن أنها تضم إشارة جهة ترجح القرآن الكريم وأفضليته على سائر الكلام الإلهي، وسموه على الأقوال قاطبة".8 وقد ذكر النورسي أسُسا أربعة تفصل بين حكمة القرآن وحكمة الفلسفة:
– القرآن ينظر إلى الجوهر والفلسفة تنظر إلى المنظر.
– تربية القرآن للفرد روحية، وتربية الفلسفة نفعية.
– تربية القرآن للجماعة تربية على الحق والتعاون لنيل رضا الله، وتربية الفلسفة تربية على المنفعة والصراع والتزاحم.
– سمو القرآن على سائر الكلام الإلهي لأن القرآن كلام الله والباقي كلمات إلهية
والجميل في تفصيل بديع الزمان لهذه الأسس الأربعة، كونه يستمد من القرآن منهجه في ضرب المثل، ثم يستنتج من ذلك قاعدة بارعة، أو حكمة صامتة تنطق حينما تقرأ، قال بديع الزمان: "إذا أردت أن تعقد موازنة ومقارنة بين حكمة القرآن الحكيم والعلوم الفلسفية... فإن القرآن الكريم ببياناته القوية النافذة، إنما يمزق غطاء الألفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة... أما معجزات الفلسفة فهي تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية تحت غطاء الألفة والعادة".9 وبعد أن ضرب الأمثال قال: "فشاهد في ضوء هذه الأمثلة ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة، وإفلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجلي.
لا يهمنا في هذا المقام أن نكرر كلام بديع الزمان، فهو مسطر مبسوط في الكلمات خاصة والكليات عموما، لكن الذي يهمنا هنا هو القاعدة التي يعتمدها الرجل في بناء معرفة متكاملة عن القرآن، إذ أن منهج الموازنة والمقارنة هو المنهج الأمثل لعصر ساد فيه بريق الفلسفة المادية وخبا فيه نور القرآن، وهو الأسلوب الأنجع للتذكير والبيان حتى توتي الكلمة الطيبة أكلها بإذن ربها، والحالة هذه أن الرجل يعايش عالما تتأرجح كفتاه بالفلسفة المادية الخارجة للتو في قوة وعنفوان، مدعمة ماديا وحتى عسكريا، وجيل القرآن الذي وإن بقي في القلوب فإنه غشيها درن، والسبيل لصقله إبداع منهج جديد لفقه القرآن، وإعادة اكتشاف ما تجدد من أسراره، ولذلك كثرت مواضيع هذه الموازنات بين حكمة القرآن وحكمة الفلسفة في غير ما موضع من الكلمات بما يشعرك أن الرجل يصنع نموذجا، ثم ينظر إليه بإمعان، ثم يسارع إن ظهر اعوجاج إلى مزيد من السبك والصقل، حتى يبدو هذا الصنيع في أبدع صورة، ولذلك نجد الرجل يعود إلى هذا الموضوع كلما عايش المجتمع واستمع إلى أفكاره ونظر إلى واقعه، فإذا وجد ما يستدعي التذكير ذكر، وخلاصة ذلك قوله في الكلمة الخامسة والعشرين، حين وازن بين الحكمتين في النظر إلى الدنيا، فحكمة القرآن تنظر إليها أنها عابرة سيالة، وحكمة الفلسفة البشرية تنظر إليها أنها ثابتة.
لقد قدر للنورسي أن يعيش حياة يختبر فيها هذا الذي ذكره نظريا، وكأن الله أراد لفكرته الإصلاحية أن تحتك بالواقع حتى توتي أكلها، وكانت له مراجعات مع نفسه تتجاذبها الحكمتان في كل حين، قال في بعضها: "بينما كنت في هذه الحالة إذا بحكمة القرآن تسعفني رحمة من العلي القدير، وفضلا وكرما من عنده سبحانه، فغسلت أدران تلك المسائل الفلسفية وطهرت روحي منها، كما هو مبين في كثير من الرسائل، إذ كان الظلام الروحي المنبثق من العلوم الفلسفية يغرق روحي ويطمسها في الكائنات، فأينما كنت أتوجه بنظري في تلك المسائل فلا أدري نورا ولا أجد قبسا، ولم أتـمكن من التنفس والانشراح حتى جاء نور التوحيد النابع من القرآن الكريم الذي يلقن لا إله إلا هو، فمزق ذلك الظلام وبدده وانشرح صدري وتنفس بكل راحة واطمئنان".10
العجيب في حياة النورسي أن إنتاجه التربوي النظري كان نتيجة معاناة وتفكير، وهما معا كانا نتيجة هذا الإنتاج النظري، وهكذا البذرة لا تنمو حتى يحفر لها وتطمر، فإذا سقاها ماء الجهاد والمعاناة اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وهذا هو الفرق بين حكمة القرآن التي لها جذور عميقة في النفوس بحكم الفطرة، وحكمة الفلسفة التي لا أصل لها إلا نزعات ظرفية شهوانية مادية ﴿اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّٰهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّٰهُ مَا يَشَاء﴾.إبراهيم:26-27
الحكمة في تربية النفس والوجدان وتزكيتهما من خلال القرآن:
حين تأملت كلام النورسي عن رسالة القرآن ومقاصده في التربية النفسية وتنمية الوجدان، وبعد حصر الفقرات المتعلقة بهذا أستطيع أن أخلص إلى أن هناك مقصدين مركزيين استنبطهما النورسي من القرآن يتعلقان بالموضوع:
– علاج الأدواء النفسية بالتربية القرآنية.
– دور التربية القرآنية في تنمية الوجدان وتقوية الجنان.
أ– علاج الأدواء النفسية بالتربية القرآنية:
إن المتصفح لرسائل النور يجد المؤلف يلخص كلامه في قواعد تربوية جامعة، يشخص فيها الداء ويأخذ من القرآن الكريم وصفة مستخلصة من عباراته وألفاظه وأحكامه ومقاصده، "ففي القرآن الكريم علاج للمبتلين بالوسوسة"، "والقرآن حجة على الشيطان وحزبه"، "وبشارة القرآن تعود إلى وجدان الدواء في الداء نفسه"، "وتحول الحزن إلى سرور بنور القرآن"، "والتحذير من ختم القلب من خلال القرآن"، "والقرآن علاج للأدواء بالصبر والسلوان" هذه مقتطفات من عناوين في التربية النفسية بالقرآن، تضم تفاصيل ممتعة من الفكر التربوي للإمام سعيد في رسائله.
والحق أقول أن المطلع على الكتابات الحديثة في علم النفس التربوي والمشتغل به من وجهة نظر إسلامية لا يستنكف أن يؤكد على أثر الصبر في الشفاء، وإبراز دور الإيمان في العلاج وبناء الصحة النفسية، وأثر الدعاء عند الابتلاء في تجاوز الأزمات، وعلاج حالات الاكتئاب، وغيرها من المباحث المهمة.
ولا يخفى أن المحن التي مرت ببديع الزمان من نفي وسجن وتغريب وملاحقة واضطهاد، جعلت الرجل يخبر الأدواء ويجرب ذلكم الدواء "تربية النفس بالقرآن" فحقق من النتائج الباهرة في قوة النفس على المواجهة، ما جعله يبسط صورا في رسائله عبرة لمن بعده، وليؤكد للعالمين بالملموس معنى قوله تعالى: ﴿اَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.الرعد:27 فقد قسم الصبر على سبيل المثال في المكتوب الثالث والعشرين إلى أنواع ثلاثة "صبر على المعصية، فهذا الصبر هو التقوى ويجعل صاحبه محظيا بسر قوله تعالى: ﴿اَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾التوبة:123 وصبر على المصيبة، وهذا هو التوكل، مما يدفع صاحبه الى التشرف بقوله تعالى: ﴿ِاِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾،آل عمران:159 ﴿وَاللّٰهُ يُحِبُّ الصَّابِر۪ينَ﴾،آل عمران:146 أما عدم الصبر فهو يتضمن الشكوى من الله، الذي ينتج انتقاد أفعاله، واتهام رحمته، ورفض حكمته... ولكن يجب أن تكون الشكوى إليه كما قال سيدنا يعقوب عليه السلام: ﴿إِنَّمَا اَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّٰهِ وَاَعْلَمُ مِنَ اللّٰهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.يوسف:86 والصبر الثالث: الصبر على العبادة، الذي يمكن صاحبه من أن يبلغ مقام المحبوبية فيساق إلى حيث العبودية الكاملة التي هي أعلى مقام".
هكذا تجد الرجل يستعرض لحظات من حياته وسيرته، سواء في أسره، أو في تأملاته الذاتية على أطراف إستانبول بعد عودته من الأسر وتوليه عضوية دار الحكمة الإسلامية، أو أثناء خلوته بعد ذلك، فينطلق لسانه بما يختلج في نفسه من تحسر على واقع الناس، وتصورهم للحياة واستشراء مرض الغفلة عن الآخرة بينهم، يصور كل ذلك بعبارات تأسر اللب ثم لا يلبث أن ينتشلك من كل ذلك بالرجوع إلى القرآن أصل كل دواء.
وفي اعتقادي أن أحسن ما كتب في علاج الأدواء النفسية م، ما كتب النورسي في اللمعة الخامسة والعشرين، وهي خمسة وعشرون دواء صدرها بقوله: "هي عيادة للمريض، وبلسم للمرضى، ومرهم تسلية لهم، ووصفة معنوية، وقد كتبت بمثابة القول المأثور ‘ذهب البأس والحمد لله على السلامة' ومنطلقها قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا اَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّٰهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾،البقرة:156 وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾"،الشعراء:79-80 ويختم ذلك بقوله في الدواء الخامس والعشرين: "أيها الاخوة المرضى، إذا كنتم تشعرون بحاجة إلى علاج قدسي نافع جدا، وإلى دواء لكل داء، يحوي لذة حقيقية، فمدوا إيمانكم بالقوة واصقلوه بالتوبة والاستغفار والصلاة والعبادة والعلاج القدسي المتمثل في الإيمان".
ب– دور القرآن في تنمية الوجدان وتقوية الجنان:
وهنا نجد بديع الزمان يكتب عن الصراط المستقيم وقوي الإنسان، وأدب وفائدة الاستماع إلى القرآن، ويصف قبسات من رياض القرآن، ويسرد بعضا من صور هداية القرآن، وصفات الذين هم على هدى من ربهم، ووصف لشعاع القرآن، وغيرها من المباحث التي قصد منها تربية الوجدان وتهذيب طاقات الإنسان وقواه.
ففي إشارات الإعجاز قال: "اعلم أن الصراط هو العدل الذي هو ملخص الحكمة والعفة والشجاعة التي هي أوساط للمراتب الثلاث للقوى الثلاث، توضيحه أن الله عز وجل لما أسكن الروح في البدن المتحول المحتاج، المعروض للمهالك أودع لإدامتها فيه قوى ثلاث:
– القوة الشهوية البهيمية الجاذبة للمنافع.
– القوة الغضبية السبعية الدافعة للمضرات والمخربات.
– القوة العقلية الملكية المميزة بين النفع والضرر.
لكنه تعالى بحكمته المقتضية لتكمل البشر بسر المسابقة، لم يحدد بالفطرة تلك القوى كما حدد قوى سائر الحيوانات، وإن حددها بالشريعة لأنها تنهى عن الإفراط والتفريط وتأمر بالوسط، يصدع بهذا قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا اُمِرْتَ﴾.هود:112 وبعدم التحديد الفطري تحصل مراتب ثلاث، مرتبة النقصان وهي التفريط، والزيادة وهي الإفراط، والوسط وهي العدل."11
ولقارئ الرسائل أن يتتبع دررا من هذا في تفسير سورة الفاتحة وآي من سورة البقرة، وقد خصص بديع الزمان أيضا في المثنوي الذي يعد مشتل رسائل النور وغراسهاـ كما قال الأستاذ إحسان قاسم الصالحي في مقدمة تحقيقه للكتاب فصولا كلها تقصد تقوية الوجدان بنور القرآن، وترشيد استخدام طاقات الإنسان المحدودة، في ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
3– فصل الخطاب في الفكر التربوي النورسي للدفاع عن الكتاب:
إن ملكة الفهم والإدراك والتفكير، تحتاج إلى تربية، ولن تكون رسالة الإصلاح حين تكون إلا بعد بناء التصورات السليمة عن طريق الحكمة في التعبير وحسن الفهم والتفكير، وقد قرر القرآن الكريم هذا قواعد في أساليب الخطاب والحوار والإقناع قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾،آل عمران:159 وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا اَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾،آل عمران:64 وقال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا اَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ اَحْسَنُ﴾،العنكبوت:46 ودعا القرآن الكريم أكثر من غيره إلى إعمال الفكر والبصيرة والنظر في الكون المنظور والمسطور.
والإمام بديع الزمان يعلم من خلال الصراع الفكري في واقعه، أنه محتاج إلى إبراز نور القرآن بأساليب وطرق تجعله ظاهرا على غيره، وقصده من ذلك أمران:
1– بناء قناعة أبناء القرآن المؤمنين به على أساس صلب.
2– نفي الشبهات والأباطيل عن القرآن والتي يثيرها الخصوم حتى يحجبوا نوره عن الناس.
إن تحقيق هذين المقصدين، يحتاج إلى بناء حس معرفي عند أبناء أمة الدعوة، وهذا لن يكون إلا بتربية ملكات الفهم والتفكير والتحليل والتعليل والنقد والتعزيز وتوظيف الوسائل المناسبة، وهو ما أسميته" بالتربية المعرفية" وقد أودع الله القرآن من أسرار المعرفة وأدوات فصل الخطاب دررا وعبرا.
إن الناظر في رسائل النور يجد الإمام بديع الزمان يتحدث عن أربعة جوانب في بناء المعرفة من خلال القرآن:
1– قراءة في بنية القرآن من الداخل:
وفي هذا تجده يبسط الكلام عن حكمة الإطلاق في القرآن، وحكمة التكرار في القرآن، والمشكلات القرآنية، والحروف القرآنية، ودلالة القرآن وبيان عظمتها، وتأملات في آيات بينات، ورحمة القرآن في مراعاة أفهام العوام.
2– قراءة في بنية القرآن من حيث تنزيله:
وفيه تجد الكلام مبسوطا عن التعريف بالقرآن، وهداية القرآن، والقرآن والرسول، ورياض القرآن، ودليل الاختراع في القرآن، وهيمنة القرآن على الرسالات السماوية السابقة.
3– قراءة في مقاصد القرآن:
وفيه تجد بسط الكلام عن مقاصد القرآن الأربعة، وحكمة القرآن، وبيان نظائر الحقائق القرآنية، وثروة حكمة القرآن وغناها، وذكر القرآن لبعض الغايات.
4– قراءة في منهج القرآن وكيفية التعامل معه:
وتجد في هذا مباحث مثل: منهج القرآن كعصا موسى، والسورة الواحدة قرآن، وشمولية القرآن وموازينه، وجامعية القرآن، ومهمة المفسر ونهج القرآن، وكتاب الكون تفسير للقرآن، ودفع الشبهات عن القرآن، ومحاولة لترجمة القرآن.
إن هذه التقسيمات الأربعة التي تشكل قراءة غنية لبنية القرآن كفيلة بأن تحقق التربية المعرفية لجيل الدعوة الإصلاحية كما يصورها مشروع بديع الزمان النورسي، ففي فهم تنزلات القرآن يقين بمصدره، وفي فهم خطابه وأسلوبه استلهام لحكمته، وفي بيان مقاصده توسيع لأبعاده وإشعاعه، وفي معرفة منهجه وكيفية التعامل معه أدب وحسن استنباط، وتلك أسس لا تمتلكها مصادر الخطاب الأخرى الوضعية الموجهة للإنسان.
قال بديع الزمان في بيان مقاصد القرآن الأربعة: "إن المقاصد الأساسية من القرآن وعناصره الأساسية أربعة: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة... وكما تتراءى هذه المقاصد الأربعة في كله، كذلك قد تتجلى في سورة من سوره، بل قد يلمع بها في كلام كلام، بل قد برمز إليها في كل كلمة كلمة... إن قلت أرني هذه المقاصد الأربعة في باسم الله والحمد لله قلت: لما أنزل ﴿باسم الله﴾ لتعليم العباد كان "قل" مقدرا فيه، وهو الأم في تقدير الأقوال القرآنية، فعلى هذا يكون في "قل" إشارة إلى الرسالة، وفي ﴿باسم الله﴾ رمز إلى الألوهية، وفي تقديم الباء تلويح إلى التوحيد، وفي ﴿الرحمن﴾ تلميح إلى نظام العدالة والإحسان، وفي ﴿الرَّحِيم﴾ إيماء إلى الحشر".12
وبهذا المنهج المعرفي استطاع بديع الزمان أن يبني نسقا علميا متميزا في التعامل مع التراث الإسلامي كله يلخصه قوله: "إن أركان الدين وأحكامه الضرورية نابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية المفسرة له وهي تشمل سبعين في المائة من الدين، أما المسائل الخلافية التي تحتمل الاجتهاد فلا تتجاوز العشرة منه."13 ثم يدعو إلى اعتماد هذا المنهج في التربية والتعليم والتوجيه المعرفي في قوله: "فلو وجهت حاجات المسلمين الدينية كافة شطر القرآن الكريم مباشرة، لنال ذلك الكتاب المبني على الرغبة والتوجيه، الناشئة الحاجة إليه، أضعاف أضعاف ما هو مشتت الآن من الرغبات نحو الألوف من الكتب، بل لكان القرآن مهيمنا هيمنة واضحة على النفوس، ولكانت أوامره الجليلة منفذة كليا، وما كان يظل كتابا مباركا يتبرك به فحسب."14
كتبت هذه الفقرة في سياق حديث النورسي عن كيفية التعامل مع القرآن وكتب الحديث والفقه كموطأ مالك والفقه الأكبر لأبي حنيفة وغيرهما، إذ يعتبر هذه الأصول مغنية عن الفروع، وإن تشتيت أذهان الناس بالقضايا الفرعية التي هي جداول العلم، تصرفهم عن الأنهار والبحار التي لا تكدرها الدلاء.
ويتذكر الباحثون المختصون في الغرب الإسلامي دعوة مماثلة لأمير الموحدين أبي يعقوب يوسف المنصور (1184-1199م) الذي دعا إلى إحراق كتب الفروع، ينقل صورتها الفقيه ابن الجد في قوله: "لما دخلت على أمير المسلمين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال لي: يا أبا بكر انظر في هذه الآثار المتشعبة التي أحدثت في دين الله، أرأيت يا أبا عبد الله المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر، فأي هذه الأقوال هو الحق؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي -وقاطع كلامي-، يا أبا بكر ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف، أو هذا وأشار إلى سنن أبي داود." الإحالة
ينطبق هذا تماما مع توجهات النورسي الإصلاحية في المجال التعليمي والتربوي حين قال: "هذا وإن هناك خطرا عظيما في مزج الضروريات الدينية مع الجزئيات الفرعية الخلافية وجعلها كأنها تابعة لها".
وهكذا توحد تشخيص هذا الداء المعرفي في جسم الأمة الإسلامية منذ زمن أبي يعقوب المنصور الموحدي في القرن السادس الهجري غربا، وبديع الزمان النورسي في القرن الرابع عشر الهجري شرقا، غير أن أبا يعقوب كان يملك قوة السلطان التي لم يملكها بديع الزمان، ومهما اختلفت وسائل نشر الفكرة فإن المصلحين ينظرون من مشكاة واحدة وإن تباعدت الأزمان.
فإذا نظرت إلى هذا ومثله في رسائل النور، علمت ما أوتي الرجل فصل الخطاب وهو ينظر إلى القرآن بنفس العالم المجرب المحتك بواقعه، المنزل للآيات على ملابسات الناس وحاجاتهم وفق مقاصد القرآن وغاياته، والرجل وقد امتلك هذا النفس، يريد أن يصنع بمنهج القرآن وأسلوبه من يفكر، ويفهم، ويعلم، ويدعو، بهذا المنهج.
القرآن الكريم والمشروع التربوي التعليمي لبديع الزمان (فكرة مدرسة الزهراء):
إن هذا النضج المعرفي والمنهجي كوّن لدى الإمام سعيد قوة دفع إصلاحية بالقرآن وللقرآن، فاصطبغ بصبغته وصقلت به فطرته ورسم في ضوئه مستقبل تفكيره في إصلاح واقع الأمة انطلاقا من ميدان التربية والتعليم، فقرر أن يخرج مشروعه إلى الوجود بإنشاء مدرسة لتلقين هذا النهج، فكانت فكرة إنشاء مدرسة الزهراء،
ولئن كانت حادثة مجلس العموم البريطاني من الأسباب التي حفزت الإمام الى إنشاء موقع علمي للدفاع عن القرآن ونشره، فإن أساس الفكرة الأصيل هو هذا البناء المعرفي القرآني الذي ترسخ في وجدان الإمام ووعيه فأراد أن ينشره بوسائل العصر، وعلية تكون أسباب دعوة النورسي إلى إنشاء مدرسة الزهراء مرتبة كما يأتي:
1– هيمنة فكرة الدعوة القرآنية على التوجه المعرفي والوجداني لبديع الزمان وسعيه إلى إيجاد أتباع و "مريدين" لهذه الفكرة.
2– تقويمه لوضعية تدريس العلوم الدينية المنتشرة في أنحاء الدولة، فهناك اضطراب في تصنيف العلوم، وقصور في بناء المناهج، يقول بديع الزمان: "إن السبب المهم الذي أدى إلى تدني علوم المدارس الدينية وصرفها عن مجراها الطبيعي هو أن العلوم الدينية لما أدرجت في عداد العلوم المقصودة أصاب الإهمال العلوم العالية، إذ سيطر على الأذهان حل العبارة العربية التي لباسها في حكم معناها، وظل العلم الذي هو أصل القصد تبعا، زد على ذلك أن الكتب التي أصبحت في سلسلة التحصيل العلمي رسمية وعباراتها متداولة إلى حد أن هذه الكتب حصرت الأوقات والأفكار في نفسها ولم تفسح المجال للخروج منها".15
3– وعيه التام بالمؤامرات التي يحيكها الخصوم للقرآن الكريم يقول: "قبل خمسة وستين عاما أخبرني وال من الولاة أنه قرأ في الصحف بأن وزير المستعمرات البريطاني خطب وبيده نسخة من المصحف الشريف قائلا: ‘إننا لا نستطيع أن نحكم المسلمين ما دام هذا الكتاب بين أيديهم، فلا مناص لنا أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به' وهكذا دأبت المنظمات المفسدة الرهيبة على تحقيق هتين الخطتين: إسقاط شأن القرآن الكريم من أعين الناس، وفصلهم عنه، فسعوا في هذا المضمار سعيا حثيثا، إضرارا بهذه الأمة المنكوبة البريئة المضحية. وقد قررت قبل خمس وستين سنة أن أجابه هذه المؤامرات الخطرة مستمدا القوة من القرآن العظيم، فألهمني قلبي طريقا قصيرا إلى الحقيقة وإنشاء جامعة ضخمة".16
4– كما كان الشأن بالنسبة لقاسم بن أصبغ البياني محدث الأندلس المتوفى سنة 340هـ والذي ألف كتابا في الحديث على نحو كتاب المنتقى لابن الجارود لأنه لم يكتب له اللقاء به وفاته السماع منه لأنه وجده قد مات، فإن إنشاء جامعة الزهراء كانت رغبة دفينة في نفسية بديع الزمان، لأنه أراد الذهاب إلى الأزهر فلم يكتب له ذلك، فقرر إنشاء جامعة على غراره في المشرق الإسلامي، يشع منه نور الإسلام على كل آسيا.
وهكذا كان ديدن العلماء، إذ يجعلون من كل قدر قدرا، فهم من قدر الله إلى قدره، منشغلين بما يحقق صلاح الأمة، قال بديع الزمان: "قبل خمس وستين سنة أردت الذهاب إلى الجامع الأزهر باعتباره مدرسة العالم الإسلامي لأنهل فيه من العلوم، ولكن لم يكتب لي فيه نصيب، فهداني الله إلى فكرة وهي: أن الجامع الأزهر مدرسة عامة في قارة إفريقيا فمن الضروري إنشاء جامعة في آسيا على غراره، بل أوسع منه بنسبة سعة آسيا إلى إفريقيا."17
الإبداع التربوي والتعليمي للنورسي في صياغة المشروع:
ومن نبوغه التربوي والتعليمي أنه لم يقترح المشروع نظريا بل كان يملك تفاصيله من حيث الأهداف والمناهج والوسائل والآفاق.
– تحديد الأهداف:
كانت المقاصد والأهداف الكبرى للمشروع محددة وواضحة لدى بديع الزمان وكانت خدمة القرآن ورسالته محورها، وقد صاغها كما يأتي:
أ– قوية الأخوة الإسلامية وتمتين رابطتها إذ يقول: "وذلك لئلا تفسد العنصرية الأقوام في البلدان العربية والهند وإيران والقفقاز وتركستان وكردستان، وذلك لأجل إنماء الروح الإسلامية التي هي القومية الحقيقية الصائبة السامية الشاملة، فتنال شرف الامتثال للدستور القرآني ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾".الحجرات:10 18
ب– تصالح العلوم النابعة من الفلسفة مع الدين وتصالح الحضارة الأوربية مع حقائق الإسلام مصالحة تامة
ج– التصالح بين أهل المدرسة الدينية والمدرسة الحديثة، وأهل الزوايا وجعلهم يتحدون على الأقل في المقصد.
د– توحيد المدارس الدينية وإصلاحها.
هـ– إنقاذ الإسلام من الأساطير والإسرائيليات والتعصب الممقوت.
والناظر في طبيعة الأزمة التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية في هذا الزمان يقر بواقعية هذه الأهداف المسطرة وانسجامها مع متطلبات الإصلاح، وكثيرا ما فشلت التجارب الإصلاحية، إما لكون أهدافها غير محددة بوضوح، أو بعيدة عن الواقع ومثالية أكثر من اللازم، بحيث تبقى نظرية ولا تجد طريقها للتنفيذ.
صياغة البرامج والمناهج الدراسية:
ولتحقيق هذه الأهداف الكبرى حدد الإمام بديع الزمان خطوطا عريضة للبرامج والمناهج الدراسية ورسم توجيهات حتى في طرق التدريس وأهمها:
– مزج العلوم الكونية الحديثة ودمجها مع العلوم الدينية.
– جعل اللغة العربية واجبة، والكردية جائزة، والتركية لازمة.
– الاستشارة باستعداد الأكراد وقابليتهم، وجعل صباوتهم وبساطتهم نصب العين وتعليم الأطفال قد يكون بالقسر أو بمداعبة ميولهم.
– فتح باب لنشر محاسن المشروطية والحرية والاستفادة منها.
– جعل امتحانات هذه المدارس كامتحانات المدارس الحديثة دون تركها عقيمة ضمانا لتقدم الخريجين واستفاضتهم وتقدمهم وتساويهم مع خريجي المدارس العليا
توجيهات في هيكلة نظام المؤسسة:
– أن تسمى باسم المدرسة لأنه مألوف ومأنوس وجذاب.
– تطبيق قاعدة تقسيم الأعمال بحذافيرها حتى يتخرج من كل شعبة متخصصون مهرة مع أن مداخل ومخارج بعضها ببعض "وهو ما يسمى في النظام التربوي والتعليمي المعاصر بمسالك التكوين ومد الجسور بينها".
– اتخاذ دار للمعلمين مؤقتا ركيزة للمدرسة ودمجها معها ليسري الانتظام والاستفادة من العلم.
مصادر التمويل:
إن مشروعا تعليميا وتربويا كهذا المشروع الطموح، لم يكن ليعزب عن بال صاحبه أن يبحث له عن مصادر التمويل، لذلك لما سئل بديع الزمان في المناظرات التي عقدها مع السلطات حول المشروع "ما وارداتها؟" أجاب: "الأوقاف لو انتظمت تنظيما حقيقيا، ثم الزكاة فإذا أبدت مدرسة الزهراء بعد حين خدماتها للإسلام، فلا ريب أن يتوجه إليها قسم من الزكاة، ثم النذور والصدقات التي هي من جملة التكافل الاجتماعي في الإسلام، ثم الإعارة من المؤسسات المماثلة مؤقتا إلى حين الاستغناء ثم ترد بعد ذلك لأهلها."19
إن نضجا كهذا في الرؤية التربوية والتعليمية كفيل بأن يجعلنا نستنتج أن الرجل استلهم من القرآن رؤيته المعرفية الإصلاحية، وجعل من الواقع وحاجة الناس معمل اختبار، وناظر من أجل إنجاز فكرته فجمع في مشروعه بين النظر والتطبيق، ولعمري إن مفاتيح هذا الميدان لتنوء بالعصبة أولي القوة.
خلاصة:
إن هذا التكوين التربوي والعلمي من خلال القرآن لبديع الزمان، وهذه التجربة الثرة، الذي ارتشفنا من بحرها قطرات، وهذا الأنس بالقرآن في ساعات الوحشة والعبرات، هو الذي تجلى بوضوح ولخص ما أنتجه أثناء الأسر وبعده من زلال العلم وفيض الحكمة في رسائله التي لخصها في قوله عن البداية: "وأول آية كريمة التمعت لعقلي وقلبي، وشغلت فكري هي ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ...﴾النور:35 وأكثر ما حل مشكلاتي في الحقائق الإلهية هو اسم "النور" من الأسماء الحسنى، ولشدة شوقي نحو القرآن وانحصار خدمتي فيه، فإن إمامي الخاص هو سيدنا عثمان ذو النورين رضي الله عنه".20
وقوله عن النهاية: "إن الحقائق الموجودة في الكلمات ليست من بنات أفكاري، ولا تعود إلي أبدا وإنما للقرآن وحده، فقد ترشحت من زلال القرآن حتى إن الكلمة الحادية عشرة ‘رسالة الحشر' ما هي إلا قطرات ترشحت من مئات الآيات القرآنية الجليلة، وكذا الأمر في سائر رسائل النور".
وهكذا فالرسائل في خدمة القرآن، وبديع الزمان لم يرض لنفسه لقبا سوى "خادم القرآن"، وقد سعيت لأبرز بعض الدرر التربوية للرسائل كما استنبطها النورسي من خلال القرآن المصدر الرئيسي لفكره الإصلاحي، وإن كنت أعترف أنها بعض من كل وغيض من فيض، والله المستعان.
* * *
الهوامش: 1 د. خالد الصمدي: رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية. 2 الملاحق، ملحق أميرداغ، ص: 248. 3 السيرة الذاتية، ص: 10. 4 المصدر نفسه. 5 السيرة الذاتية، ص: 162. 6 اللمعة السادسة والعشرون، ص: 360. 7 المكتوب السادس، ص: 30. 8 الكلمة الثانية عشرة، ص: 141. 9 صيقل الإسلام، المحاكمات، ص: 64. 10 السيرة الذاتية، ص: 152. 11 إشارات الإعجاز، ص: 132. 12 إشارات الإعجاز، ص: 24. 13 صيقل الإسلام / السانحات، ص: 347. 14 صيقل الإسلام / السانحات، ص: 349. 15 صيقل الإسلام/محاكمات، ص: 67. 16 السيرة الذاتية، ص: 499. 17 السيرة الذاتية، ص: 500. 18 السيرة الذاتية، ص: 500. 19 السيرة الذاتية، ص: 504 بتصرف. 20 سيرة ذاتية، ص: 236.
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | December 1, 2011 |
Published in Issue | Year 2011 Volume: 4 Issue: 4 |