القرآن العظيم مصدراً للتربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي
أ.د. فريد الأنصاري1
[وفاء لمن نذر حياته لخدمة الدين والأمة، الرجل الذي كان فريدا في بذله وعطائه ونصحه وحرقته على حاضر الأمة ومستقبلها، ننشر دراسته التي شاركنا بها في مؤتمر علمي عقد بالمغرب وبالتحديد في أكادير، وقد غادرنا الأستاذ الشيخ فريد الأنصاري إلى عالم الخلد رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه بتاريخ 17 من ذي القعدة 1430هـ الموافق لـ 5 من نوفمبر 2009م. ]
1 - مفهوم القرآن في اللغة:
تكاد تجمع معاجم اللغة على أن الأصل الدلالي لمادتي: "قرأ" و "قري" إنما هو معنى الجمع والإجتماع، وما تفرع عنه. سواء همزت آخره أم لم تهمزه، فهو في ذلك سواء. ومنه سمي "القرآن" قرآنا؛ لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص والعبر، أو لاجتماع آيه وسوره وتألفها. قال ابن فارس: "القاف والراء والحرف المعتل: أصل صحيح يدل على جمع واجتماع. من ذلك القرية؛ سميت قرية لاجتماع الناس فيها. ويقولون: قَرَيْتُ الماءَ في المقراة: جمعته (...) وإذا هُمِز هذا الباب كان هو والأول سواء (...) قالوا: ومنه القرآن، كأنه سمي بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص وغير ذلك."2
وقال صاحب مختار الصحاح: "قرأ الكتابَ قراءة وقُرآنا بالضم. وقرأ الشيء قُرآنا بالضم أيضا: جمعه وضمه. ومنه سمي ‘القرآنُ'؛ لأنه يجمع السور ويضمها."3
وذلك ما نجده لدى ابن منظور، رغم ما أورده من كثرة الإستعمالات للمادة اللغوية، ودلالاتها. قال رحمه الله: "قَرَأَهُ يَقْرَؤُه ويَقْرُؤُه (...) قَرْءاً وقِراءَةً وقُرْآنا (...) يسمى كلام الله تعالى الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابا وقرآنا وفرقانا. ومعنى القرآن: معنى الجمع. وسمي قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾القيامة:17 أي جمعه وقراءته. ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾القيامة:18 أي قراءته (...) وقال بعضهم: قرأتُ: تفقهتُ. ويقال: أَقْرَتُ في الشعر، وهذا الشعر على قَرْء هذا الشعر: أي على طريقته ومثاله (...) والقَرْءُ: الوقت. قال الشاعر:
إذا ما السماء لم تَغِمْ ثم أخْلَفَتْ قُروءَ الثُّريَّا أنْ يكون لها قَطْرُ."
يريد وقت نوئها الذي يمطر فيه الناس.
"... والقَرْء والقُرْء: الحيض، والطهر ضد. وذلك أن القرء الوقت، فقد يكون للحيض والطهر."4
وربما كان الأصل -من حيث الوضع اللغوي- لمادة "قرأ" دالا على الجمع، فكانت "القراءة" –بمعنى: تلاوة الحروف- من فروعه، من حيث إن القارئ يجمع الحروف ويضم بعضها إلى بعض عند التلاوة؛ إلا أن الإشكال هنا هو: هل إسم "القرآن" من الجمع بمعنى الوضع الأول، أم بمعنى القراءة والتلاوة التي هي فرع إستعمالي؟
فرغم أن أغلب كتب اللغة -كما رأيت- مالت إلى ترجيح الأول فإن أبا جعفر الطبري (المتوفى سنة: 310 هـ) مال في تفسيره -وهو من الأصول اللغوية أيضا- إلى ترجيح الثاني. أي إن "القرآن" -عنده- إنما سمي كذلك؛ لأنه يقرأ بمعنى: يتلى، وليس بمعنى يُجمع. قال رحمه الله: "فأما القرآن: فإن المفسرين اختلفوا في تأويله. والواجب أن يكون تأويله على قول ابن عباس، من التلاوة والقراءة. وأن يكون مصدرا، من قول القائل: قرأت القرآن، كقولك الخسران من خسرت، والغفران من غفر الله لك (...) وأما على قول قتادة، فإن الواجب أن يكون مصدرا، من قول القائل: قرأت الشيء إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض. كقولك ما قرأت هذه الناقة سلاً قط: تريد بذلك أنها لم تضم رحما على ولد (...)
ولكلا القولين، أعني قول ابن عباس وقول قتادة اللذين حكيناهما وجه صحيح في كلام العرب. غير أن أولى قوليهما بتأويل قول الله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾القيامة:17-18 قول ابن عباس؛ لأن الله جل ثناؤه أمر نبيه في غير آية من تنزيله باتباع ما أوحي إليه، ولم يرخص له في ترك اتباع شيء من أمره إلى وقت تأليفه القرآن!"5
والراجح -والله تعالى أعلم- أن يكون المعنيان معا مقصودين في دلالته اللغوية؛ وذلك بغض النظر عن خصوص دلالة آية سورة القيامة، مما أورده أبو جعفر رحمه الله، فلا يمنع ورود المعنى الجزئي أن يكون الكلي -وهو أشمل منه طبعا- مقصودا أيضا. فيكون "القرآن" قد سمي بذلك؛ لجمعه المعاني كلها. وهو معنى وجيه جدا. قال عز وجل: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾الأنعام:38 ولأنه مؤلف مجموع متناسق، ثم لأنه إنما أنزل ليقرأ ويتلى. وكل ذلك حسن جدا في معنى "القرآن" لغة. فلا تزاحم بين هذه المعاني جميعها، ولا تعارض.
وهذا ما يفهم أيضا مما أورده الراغب الأصفهاني (ت: 502 هـ) -من قبل- في كتابه القيم "المفردات في غريب القرآن". قال رحمه الله: القراءة: ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل (...) قال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآنا من بين كتب الله: لكونه جامعا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم! كما أشار إليه بقوله: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ﴾يوسف:111 وقوله: ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾.النحل:89" 6
ولعل هذا المسلك التوفيقي بين الدلالتين اللغويتين، هو الأقرب إلى تفسير بديع الزمان النورسي لمفهوم القرآن الكريم، من حيث هو اصطلاح، كما سترى بحول الله.
2- مفهوم القرآن في الإصطلاح التربوي عند بديع الزمان النورسي:
هذا، وأما تعريف "القرآن" عند النورسي من حيث هو مصطلح، وُضِع للدلالة العَلَمية على "كلام الله رب العالمين، المنزل على رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا بالتواتر" على حد تعبير علماء القرآن؛ فقد كانت له فيه صياغة لطيفة خاصة. إلا أنها كانت من مخاض المعاناة الوجدانية، والتجربة التفكرية.
فالنورسي رحمه الله ملمّ طبعا بتعريفات المفسرين وعلماء القرآن، لكنه لم يكن يقصد في بيان "مفهوم القرآن"؛ إلى صياغة تعريف رسمي أو حدّي -على طريقة المناطقة- غايته حصر العقول في معنى "القرآن" من حيث هو "مصحف مكتوب"، بما لا يدع مجالا للخلط بينه وبين غيره، أو تحريفه بالزيادة والنقصان، فتلك غاية تكفل الله بها سبحانه، إذ قال عز وجل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.﴾الحجر:9 وعلماء القرآن والمفسرون ثم حفاظ الأمة من ورائهم، هم الذين سخرهم الله جل جلاله؛ لتنفيذ هذه المهمة العظيمة. إلا أن بديع الزمان ما كان يسعى إلى هذا، بقدر ما كان يسعى إلى محاولة تعريف "القرآن" من حيث هو "كلام رب العالمين" المتوجه برسالته إلى الإنسان حامل الأمانة! فكأنه رحمه الله كان يروم تعريف "القرآن" من حيث هو مضمون، ومقاصد، لا أحرف ورسوم. بمعنى أنه كان يحاول تعريف القرآن من حيث هو رسالة ربانية، تحدد غاية الوجود البشري في الكون، وتلخص قصة التكوين، وترسم للإنسان مدار فلكه الذي ينبغي له أن يسلكه إلى ربه.
وهنا مكمن الصعوبة، أو قل المغامرة؛ وذلك راجع إلى الطبيعة "المطلقة" لهذا المصطلح من جهة، فهو كلام الله جل جلاله؛ وإلى كون الأستاذ إنما حاول تعريف "القرآن" عبر "المشاهدة" و "التفكر الوجداني". وهو مما يصعب -إن لم يستحل- نقل معانيه عن طريق اللغة الواصفة!
لقد تحاشى بديع الزمان -في تعريفه للقرآن- التعريف المنطقي التقليدي للمصطلحات والمفاهيم، من "حدود" و "رسوم"، وجاء بتعريف "ذوقي"، لا يطمع إلى الإحاطة بالمفهوم، إذ كلمات الله لا يحيط بها أحد، وإنما حاول خلاله "تذويق" المتذوقين: "ما القرآن؟" و "الذوق" لا يقع في العادة إلا على جزء. لكنه إذا كان ذوقا صحيحا أنبأك عن طبيعة الباقي على الجملة، وصور لك مخايل المعنى الكلي غيبا، وغمرك شوقا إلى تذوق الباقي. ومن هنا سمى النورسي ما صاغه من تعريف لمصطلح القرآن: "لمعة من تعريف القرآن."7
وبالرغم من أنه سماه "لمعة"؛ إلا أنه لم يرد في جملة واحدة، أو جمل قصيرة على غرار التعريفات المنطقية القائمة على تحديد الفصول والخصائص. بل جاء في فقرات من البيانات الإشارية، والعبارات الذوقية؛ لأن النورسي رحمه الله كان يعلم، بل كان يشعر "ويجد" أنه بإزاء الحديث عن "كلام الله!" وكفى بذلك عظمة أن لا يحدث عنه الإنسان إلا رمزا! وأي عبارة في اللغة بإمكانها أن تحيط بحرارة الشوق، وأنوار المشاهدة، التي تتدفق على قلب المشاهد لجمال القرآن وجلاله؟ والنورسي شاعر بذلك، ومعتبر له في تعريفه. قال رحمه الله: "إن الكلام الإلهي سبحانه لا نهاية له، وذلك بسر الآية الكريمة: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ اَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا.﴾الكهف:109" 8
ونحن هنا بحول الله نورد تعريفه أولا، ثم ندرسه؛ لبيان المقاصد التذويقية التربوية التي تضمنها، والفضاءات الوجدانية التي سبح فيها، وآثار ذلك كله على المتلقي مما هدف إليه النورسي وقصده في هذا التعريف.
قال رحمه الله:
"فإن قلت: القرآن ما هو؟ قيل لك:
هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات، والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسر كتاب العالم... وكذا هو كشاف لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السماوات والأرض. وكذا هو مفتاح الحقائق والشؤون المضمرة في سطور الحادثات. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة. وكذا هو خزينة المخاطبات الأزلية السبحانية، والإلتفاتات الأبدية الرحمانية. وكذا هو أساس وهندسة وشمس لهذا العالم المعنوي الإسلامي. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي. وكذا هو قول شارح، وتفسير واضح، وبرهان قاطع، وترجمان ساطع؛ لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه.
وكذا هو مرب للعالم الإنساني. وكالماء وكالضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد الهادي إلى ما خلق البشر له. وكذا هو للإنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك كتاب حكمة. وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة. وكما أنه كتاب ذكر، كذلك هو كتاب فكر.
وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة، في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية. كذلك هو كمنزل مقدس مشحون بالكتب والرسائل؛ حتى إنه أبرز لمشرب كل واحد من أهل المشارب المختلفة، ولمسلك كل واحد من أهل المسالك المتباينة، من الأولياء والصديقين، ومن العرفاء والمحققين؛ رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره، حتى كأنه مجموعة الرسائل."9
يتضمن هذا التعريف الهام ثلاثة مقاطع معنوية كبرى، كل مقطع منها مؤلف من إشارات تعريفية مختلفة، بيد أنها تشكل بمجموعها -ضمن كل مقطع- وحدة موضوعية متكاملة. وهذه الوحدات الثلاث، هي:
أولا: كونية القرآن الكريم. وتبتدئ من قوله في البداية: "هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات" إلى قوله: "وترجمان ساطع؛ لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه."
ثانيا: رسالية القرآن الكريم وغايته التعبدية. وتبتدئ من قوله بعد: "وكذا هو مرب للعالم الإنساني" إلى قوله: "كذلك هو كتاب فكر."
ثالثا: عرضه الكثرة من عين الوحدة. وتبتدئ من قوله "وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة" إلى قوله في نهاية التعريف: "حتى كأنه مجموعة الرسائل."
إلا أن هذه الوحدات الثلاث ناطقة جميعها بجملة واحدة، هي جوهر التعريف. وعنها صدر كل هذا التوصيف للقرآن الكريم. هذه الجملة هي: أن "القرآن كلام الله رب العالمين." فهذه الجملة المعنوية الكبرى هي أم الوحدات الثلاث المذكورة. وإنما قال النورسي ما قاله فيها من عبارات تعريفية ذوقية؛ انبهارا بهذه الحقيقة الوجودية العظمى: "كلام الله!" وهو ما صرح به النورسي رحمه الله في مواطن عديدة من رسائل النور، كما سترى بحول الله.
فانضاف إلى الوحدات الثلاث المذكورة إذن؛ وحدة رابعة هي جماع المفهوم، وفص المصطلح المكنون بين جواهره ولآلئه. فلنتحدث عن كل ذلك، كما ورد في كلمات بديع الزمان ومواجيده الحَرى:
2-1 القرآن كلام الله:
إن ما بهر النورسي من ذلك، وأفاض مشاعره؛ هو أن القضية هنا هي من العظمة والرهبة؛ بحيث يستحيل على القلب البشري تحمل مواجيدها! بدءا بالتفكر في هذا الكون الشاسع، الممتد في فضاءات لا يحدها بصر ولا تصور ولا خيال! وما يسبح في من نجوم وكواكب ومجرات وسدم غائرة بعيدة بملايين السنوات الضوئية، وما يحيطها من سماوات بعضها فوق بعض، وما يعمرها من خلائق نورانية، مما لا يدرك له كنه، ولا صورة، إلى ما بين هذا وذاك، من طبقات الزمان المختلفة؛ عدا، وتقديرا، ونسبة، من الأيام والسنوات، قد يختزل اليوم الواحد منها ﴿أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾السجدة:5 إلى ﴿خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾!المعارج:4 ورب هذه العوالم جميعها، الخالق لها، والمحيط بأزمنتها وأمكنتها كلها، المدبر شؤون حياتها ومماتها وأرزاقها، بقيوميته الممتدة من الأزل إلى الأبد، المالك زمام أحوالها بأنوار أسمائه الحسنى وصفاته العلى، سبحانه وتعالى! هذا الرب الرحمن الرحيم، والملك العظيم، المتنزه في مطلق علوه، وسموه، وجلاله، وكبريائه؛ يقَدّر برحمانيته ورحمته أن يكرم الإنسان، هذا المخلوق الضعيف الضئيل، القابع في الأرض هذا الكوكب الضئيل السابح في بحر عظيم زاخر بأمواج السدم والمجرات، فيكون من أعظم مقامات هذا التكريم؛ أن يخاطبه بهذا الكلام الإلهي العظيم: القرآن الكريم!
فكيف للنسبي الفاني أن تتحمل مواجيده كلام المطلق الباقي؟ كيف للقلب المحكوم بالزمان والمكان، أن تستوعب خفقاته المعدودة، وأنفاسه المحدودة؛ وقع الكلام الخارق للزمان والمكان؟
تلك هي القضية المزلزلة للكيان الإنساني، في قلب الأستاذ الذواقة، بديع الزمان سعيد النورسي، والمفجرة لكل طاقاته الوجدانية، التي سطرها ألحانا وأنغاما في رسائل النور. فمن ذا قدير إذن؛ على وضع حد معرف، أو رسم شارح لـ "مفهوم القرآن الكريم"؟ وما زعم النورسي أنه يعرف القرآن على سبيل "الحد الجامع المانع" بتعبير المناطقة، وما قدمه من تعريف؛ إنما هو فيض من أنوار قلبه، وما قلبه إلا قمر من الأقمار السيارة، العاكسة لأشعة الأسماء الحسنى! فأكرم بذلك مقاما للعارفين الصديقين! وأما كتاب الله فلا تحيط به حدود، ولا ترسمه تعريفات! وإنما غاية الأقمار السالكة في فلكه أن تقتبس منه "لمعة من تعريف" كما عبر النورسي من قبل.
قال رحمه الله في تعريف ملخص للتعريف السابق، وشارح له في الآن نفسه، ومبينا كيف أن مصدرية القرآن العليا، من حيث هو "كلام الله"؛ قد رفعته فوق كل الحدود والرسوم: "إن مَنْحَ القرآن الكريم أعلى مقام من بين الكلمات جميعا -تلك الكلمات التي لا تحدها حدود- مرده أن القرآن قد نزل من الإسم الأعظم، ومن أعظم مرتبة من مراتب كل إسم من الأسماء الحسنى. فهو كلام الله بوصفه رب العالمين، وهو أمره بوصفه إله الموجودات، وهو خطابه بوصفه خالق السماوات والأرض، وهو مكالمة سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطابه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. وهو سجل الإلتفات والتكريم الرحماني، نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شيء. وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية (...) وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة. ولأجل هذه الأسرار أطلق على القرآن الكريم بما هو أهله ولائق به؛ إسم: ‘كلام الله'!"10
إن حقيقة كون القرآن الكريم "كلام الله رب العالمين" تجعل المؤمن -إذ يقرؤه ويرتله أو يتدبره ويتدارسه- يَنشَدّ إلى أشعة الأسماء الحسنى، ويتعلق بأنوار الربوبية. وذلك من أعظم ما غمر قلب بديع الزمان، وصاغ معماره المنقوش بالمحبة المتوقدة! ولذلك قلنا: إنه إنما انبهر بالقرآن من حيث هو خطاب رباني، وما فاض عنه من مواجيد مفهومية أو تفسيرية؛ إنما فاض من حيث تدبره لهذه الحقيقة العظمى التي لا تطاق! وذلك ما أشار إليه في النص السالف، وهو ما فتئ يكرره ويعيده، تماما كما يكرر المحب اسم محبوبه، بغير إرادة منه ولا اختيار. وذلك نحو قوله الذي يشبه نوعا من الإنجذاب: "القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو كلام رب العالمين."11 ربما يقول قائل: إن هذا الكلام بدهي! أي إن "القرآن هو كلام رب العالمين"؛ كلا! إن النورسي لم يتكلم بعبارات وإنما تكلم بدلالات ومعان! وهي بكل تأكيد من غرائب الحقائق. فقوله هذا رحمه الله: "القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو كلام رب العالمين" فيه دلالة واضحة على أنه ينبه إلى أمرين:
الأول: غفلة الناس عما بين أيديهم! فهذا القرآن مكتوب في المصاحف المنتشرة في كل مكان، وبين أيدي كل الناس. ولكن المشكلة أن آفة التعود قتلت حاسة التدبر والتفكر في الإنسان. فعميت البصائر أن ترى حقيقة القرآن الكريم الكونية، ومفهومه الرباني، رغم أنه بين أيديها!
الثاني: إثارة الإنتباه بهذا التعريف إلى أن الذي يجب أن نشهده في القرآن -بالقصد الأول- إنما هو الله رب العالمين، من حيث إنه هو سبحانه المتكلم به! وهذا أيضا مما طمسه التعود والجهل لدى الناس. فالنورسي في هذا الأمر هو أشبه برجل رأى آخر عثر على حجر من ذهب وهو لا يدري أنه من ذهب، فجعل هذا يستعمل الحجر لأمر وضيع، غير لائق بالذهب؛ بينما جعل العارف بالذهب يتأسف ويتحرق؛ أسى على تضييع ذلك الجاهل لما بين يديه من مال عظيم! ومن هنا صيحة النورسي وتنبيهه إلى عظمة ما بين أيدينا: "إن القرآن الذي بين أيدينا..."
إن الوجدان الذي صدر عنه تعريف القرآن لدى النورسي هو وجدان منبهر بالربوبية العظمى! إن كل المسلمين يعرفون أو يقولون: "إن القرآن هو كلام الله." ولكن قليلا منهم يستحضر في قوله هذا؛ أن الله جل جلاله قد تكلم بهذا القرآن؛ من حيث هو "رب العالمين". إن ذلك يعني أن آفة التعود -كما ذكرنا- قد قتلت حاسة التدبر في الإنسان؛ ففقدت القلوب بذلك إحساسها بالقرآن العظيم، الذي لم تطقه حتى الجبال الشامخات، كما في قوله عز وجل: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هٰذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ الله.﴾الحشر:21
إن ههنا لدينا حقيقة مهمة في فهم خصوص مقصد بديع الزمان التعريفي هنا؛ وهي أن الهدف الأساس من تعريف الناس بالقرآن إنما هو تعريفهم بالله؛ ولذلك سلك إليه من باب الربوبية. وللربوبية ذوق خاص لديه رحمه الله، فهي تشير عنده إلى تجلى الأسماء الحسنى على الكون كله من حيث الخلق والقيومية، وما تعلق بهما من أسماء وصفات ربانية. فكل جزئية في الكون، وكل ذرة؛ من كل شيء إنما هي متعلقة بهذا الرب: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.﴾الأنعام:102 وذلك بتعلقها باسمه الأعظم سبحانه، وأسمائه الحسنى، الناطقة بجلال ملكه، وشمول سلطانه. إن القرآن الكريم كمفهوم تعريفي لدى النورسي يقود إلى هذه الحقيقة الكبرى: معرفة الله تبارك وتعالى رب العالمين! وذلك عين الحقيقة الإصلاحية التي قام عليها مشروع النورسي الإصلاحي التجديدي، ومن أجلها، مشروع إنقاذ الإيمان وتجديده في المجتمع الإنساني، هذا المشروع الذي اعتمد فيه خاصة على تجديد الوعي "بالقرآن" بما ذكرنا من مواصفات مقاصدية، وهو أمر يصرح به النورسي بكل وضوح، وذلك قوله: "الوظيفة الأساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية، وكمالاتها، ووظائف دائرة العبودية وأحوالها."12 من هنا إذن كان اهتمامه بكتاب الله، ومن هنا أيضا كان منطلق تعريفه إياه.
يقول رحمه الله في تعريف آخر للقرآن الكريم، أوضح في الدلالة على خصوص انبهاره بجمال الربوبية وجلالها: "إن القرآن كلام الله باعتبار أنه رب العالمين، وبعنوان إله العالمين، وباسم رب السماوات والأرضين، ومن جهة الربوبية المطلقة، ومن جهة السلطنة العامة، ومن جانب الرحمة الواسعة، ومن حيثية حشمة عظمة الألوهية، ومن محيط إسمه الأعظم إلى محاط عرشه الأعظم."13 ويتحدث عن "مفهوم القرآن" في سياق تجديد الوعي بمصدره الرباني. يقول: "إن القرآن قد نزل من الإسم الأعظم، ومن أعظم مرتبة من مراتب كل إسم من الأسماء الحسنى، فهو كلام الله، بوصفه رب العالمين، وهو أمره بوصفه إله الموجودات، وهو خطابُه بوصفه خالق السموات والأرض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطابُه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. وهو سجلُ الالتفات والتكريم الرحماني، نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شيء. وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية، إذ في بدايات بعضها رموز وشفرات. وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة. ولأجل هذه الأسرار أُطلق على القرآن الكريم ما هو أهله ولائق به؛ إسم: ‘كلام الله!'."14
إن هذا النص الفريد لدى النورسي ليؤكد أن الرجل كان أديبا! حقا بل شاعرا على طريقته النثرية المتدفقة... لقد كان ينصت إلى القرآن الكريم إنصات من يستحضر منازله العليا، وحركة الوحي وهي تعبر الكون العظيم، فتطوي طبقات السماوات طيا! لتغمر المكان والزمان بأنوارها! وتنشئ بعد ذلك حركة مباركة، تمتد في التاريخ البشري؛ عمرانا حضاريا، لا يفتأ يتجدد أبدا، ما دام لهذا القرآن مرتلون ومتدبرون!
إن "مفهوم القرآن" بهذا المعنى؛ يمتد عبر الكون كله؛ إنطلاقا من نور الإسم الأعظم؛ إلى صناعة التاريخ الإنساني في الأرض! ومن التكوين الأول إلى التكوين الثاني، أو من الدنيا إلى الآخرة! من هنا إذن؛ ما كان لبشر أن يحد القرآن، من حيث هو "كلام رب العالمين"؛ إلا أن يجد "لمعة من تعريف القرآن". وإلا فإنه لا حد له إلا أن تقول: "القرآن هو: القرآن"!
ومن هنا رفض الأستاذ النورسي أن يقبل بحث القرآن بحثا "محايدا"، على طريقة المتغربين المخدوعين! إذ جزم أنه "مفهوم" عال علوا مطلقا، بحيث لا يقارن بغيره، ولا يصح افتراض أي وسط بينه وبين ما سواه. وأي محاولة لذلك تعتبر -عنده رحمه الله- خروجا عن منهج العلم الحق!
ومن أطرف ما ورد في ذلك من كلامه وأعجبه؛ قصة هي عبارة عن محاورة نفسانية، دارت على شكل مناظرة خفية، داخل خواطره؛ كان التناظر فيها دائرا بينه وبين الشيطان لعنه الله! ذلك أن إبليس اللعين حاول إقناعه باعتماد منهج "حيادي" في دراسة القرآن الكريم، أو على الأقل: منهج "وسط". فردّ النورسي ذلك كله بأدلته وحججه التي أثبتت أنه، لا يمكن تدبر القرآن إلا لمؤمن به، كما أنه لا وسط بينه وبين غيره، كما لا وسط بين الخالق والمخلوق، إذ الوجود: إما خالق أو مخلوق. ولا ثالث لهذين الاحتمالين!
ولقيمة القصة في توضيح ما نحن فيه، من دراسة مصطلحية، نوردها؛ لزيادة توضيح "مفهوم القرآن"، أو "ما القرآن؟" لدى بديع الزمان. قال رحمه الله:
"كنت أنصت يوما إلى القرآن الكريم من حفاظ كرام في جامع بايزيد بإسطنبول، وذلك في أيام شهر رمضان المبارك، وإذا بي أسمع كأن صوتا معنويا صرف ذهني إليه، دون أن أرى شخصه بالذات، فأعرت له السمع خيالا، ووجدته يقول:
- إنك ترى القرآن ساميا جدا ولامعا جدا، فهلا نظرت إليه نظرة حيادية؟ ووازنته بميزان محاكمة عقلية حيادية؟ أعني: إفرض القرآن قول بشر! ثم انظر إليه بعد هذا الفرض هل تجد فيه تلك المزايا والمحاسن؟
اغتررت به في الحقيقة، فافترضت القرآن قول بشر، ونظرت إليه من تلك الزاوية، وإذا بي أرى نفسي في ظلام دامس! فقد انطفأت أضواء القرآن الساطعة! وعم الظلام الأرجاء، كما يعم الجامع كله؛ إذا مس أحدهم مفتاح الكهرباء. فعلمت عندها أن المتكلم معي هو شيطان، يريد أن يوقعني في هاوية. فاستعصمت بالقرآن نفسه، وإذا بنور يقذفه الله في قلبي، أجد نفسي به قويا قادرا على الدفاع. وحينها بدأت المناظرة مع الشيطان على النحو الآتي:
قلت: أيها الشيطان! إن المحاكمة الحيادية، دون انحياز إلى أحد الطرفين: هي التزام موضع وسط بينهما، بيد أن المحاكمة الحيادية، التي تدعو إليها أنت وتلاميذك من الإنس؛ إنما هي التزام الطرف المخالف! فهي ليست حيادية، بل خروج عن الدين مؤقتا! ذلك لأن النظر إلى القرآن أنه كلام بشر، وإجراء محاكمة عقلية، في ضوء هذا الفرض؛ ما هو إلا اتخاذ الطرف المخالف أساسا، والتزام للباطل أصلا. وليس أمرا حياديا، بل هو انحياز للباطل وموالاة له.
فقال الشيطان: إفرضه كلاما وسطا، لا تقل إنه كلام الله، ولا كلام بشر!
قلت: وهذا أيضا لا يمكن أن يكون قطعا (...) فالقرآن الكريم متاع ثمين، وبضاعة سامية، ومال رفيع لله. والبعد بين الطرفين بعد مطلق، لا يحده حد! إذ هو البعد ما بين كلام رب العالمين وكلام البشر (...) لا وسط بينهم إطلاقا! لأنهما كالوجود والعدم، فلا وسط بينهما! ولهذا ينبغي أن يقبل الأمر هكذا، وسوق الأدلة في ضوئها أي أنه بيده سبحانه. إلا إذا استطاع الطرف الآخر دحض جميع البراهين المشيرة إلى أنه كلام الله، وتفنيدها الواحد تلو الآخر؛ عندئذ يمكنه أن يمد يده إليه، وإلا فلا!"15
إن قول بديع الزمان في هذا النص: "فافترضت القرآن قول بشر، ونظرت إليه من تلك الزاوية، وإذا بي أرى نفسي في ظلام دامس! فقد انطفأت أضواء القرآن الساطعة! وعم الظلام الأرجاء، كما يعم الجامع كله؛ إذا مس أحدهم مفتاح الكهرباء" هو كلام دال على أن المفهوم الحقيقي للقرآن قائم على معنى "الإيمان"، والإيمان لا يصح وقوعه إلا بما هو غيب. فالمحسوسات تدرك بالحس والتجريب، والمعقولات تدرك بالعقل والإستدلال، بينما الغيبيات لا تدرك إلا بـ "الإيمان" القائم على الإذعان والتسليم القلبي. وليس معنى هذا أن القرآن غير قابل للإثبات العقلي، كلا! وإنما المقصود أن له قوة جبارة، وإسنادا عظيما، ونورا خارقا، لكن لمن "انتسب" إليه، بالمعنى الاصطلاحي الخاص لمفهوم "الإنتساب". إن العبد "المنتسب" إلى القرآن المؤمن به هو ذو "عقل مسدد"؛ ولذلك فهو يرى ما لا يراه صاحب "العقل المجرد"! ومن هنا فإثبات المفهوم الرباني للقرآن سهل جدا على المؤمن؛ لما لديه من تسديد وتأييد، إذا استند إلى النور الكاشف عن الحقائق، التي تغيب عمن حبس بصره على المحسوسات القريبة، والمعقولات البسيطة!
ومن هنا أمكن للعبد المنتسب أن يحاجج، ويجادل، ويناظر؛ بقوة عشرات العقول! بينما لو افترض أنه لا يؤمن بهذا الكتاب، ولا بمصدريته الربانية؛ لخرج قلبه عن مداره الفلكي، حول نور الحق العظيم، ولفقد زاده الدائم من نور شمس الهداية؛ ولعكست مرآته ساعتها ظلمات الضلال! فكيف له إذن بإبصار الدليل؟
إن مفهوم القرآن مفهوم غيبي. والغيب قاض على عالم الشهادة، ومحيط به! وما كان للمحاط أن يكون أقوى من المحيط! ولذا فإن النورسي كان واضحا في اشتراط "سلامة القلب" على من قصد مشاهدة جمال القرآن. قال: "لقد شاهدت أن مشاهدة جمال القرآن تابعة لدرجة سلامة القلب وصحته. فمريض القلب لا يشاهد إلا ما يشوه له مرضه! فأسلوب القرآن والقلب كلاهما مرآتان ينعكس كل واحد في الآخر."16
هذا، وأما الوحدة الثانية من وحدات التعريف، المعتمد لديه لمفهوم "القرآن" فهي:
2-2: كونية القرآن الكريم:
وقد سبق القول: إنها تبتدئ من قوله في البداية: "هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات" إلى قوله: "وترجمان ساطع؛ لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه."
إن معنى "الكونية" هو من لوازم الوحدة الأولى، أي كون القرآن "كلام الله باعتباره رب العالمين". فالربوبية قاضية على كل معاني الشمول والإمتلاك والسلطنة! ذلك أن "القرآن" من حيث هو كلام رب العالمين، متضمن لمعنى الربوبية، الجامعة لكل عناصر الكون امتلاكا وقهرا. كما أن الكائنات -من خلاله- تدور جميعها حول هذا المعنى، سالكة إلى الله خالقها، منجذبة إلى نوره تعالى. ومن هنا كان القرآن وهو -خطاب إلى الإنسان- خطابا كونيا أيضا، لاسيما وأن "الله سبحانه خلق الإنسان، وجعله نسخة جامعة للكائنات، وفهرستة لكتاب العالم."17 ثم إن القرآن فيه "كل شيء" ويتحدث عن "كل شيء"!
ويمكن تفصيل "كونية القرآن" -من حيث هو مفهوم- فيما يلي:
أ - القرآن قراءة لكتاب الكون، وكشف لأسراره:
يقول النورسي: "فكأن القرآن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم قراءة لآيات الكائنات."18 ومعنى ذلك أنه كتاب كاشف للغز الحياة بصورة بسيطة. فهو يقدم الصعب المعقد تقديما سهلا ميسرا؛ ولذلك سهل على العامة؛ بل حتى على الأميين؛ (قراءة) مقاصده من خلال أبعاده الكونية؛ إذ يلفت الإنتباه إلى مظاهر الكون التي يبصرها كل ذي عينين؛ ليتفكر في خلق السماوات والأرض. كل على حسب طاقته، وسعة إدراكه، فيكون القرآن الكريم بكونيته هذه خطابا لجميع الناس، بجميع مستوياتهم الثقافية، واختلافاتهم اللغوية والعرقية. وهو ضرب من ضروب الإعجاز. يقول بديع الزمان: "أنظر إلى درجة رحمة القرآن الواسعة، وشفقته العظيمة على جمهور العوام، ومراعاته لبساطة أفكارهم، ونظرهم غير الثاقب إلى أمور دقيقة! أنظر كيف يكرر ويكثر الآيات الواضحة، المسطورة في جباه السماوات والأرض! فيقرئهم الحروف الكبيرة التي تُقرأ بكمال السهولة، كخلق السماوات والأرض، وأمثالها من الآيات، ولا يوجه الأنظار إلى الحروف الدقيقة المكتوبة في الحروف الكبيرة إلا نادرا، كيلا يصعب الأمر عليهم. ثم أنظر إلى جزالة بيان القرآن وسلاسة أسلوبه وفطريته، كيف يتلو على الإنسان ما كتبته القدرة الإلهية، في صحائف الكائنات؛ من آيات؛ حتى كأن القرآن قراءة لما في كتاب الكائنات وأنظمتها، وتلاوة لشؤون بارئها المصور، وأفعاله الحكيمة. فإن شئت استمع بقلب شهيد لقوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ﴾النبأ:1 و ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾آل عمران:26 وأمثالهما من الآيات الكريمة."19
ومن هنا كان القرآن بحق -كما قال النورسي- "مفسر كتاب العالم، وحجة الله على الأنام."20 كل الأنام، عالمهم وجاهلهم، عربهم وعجمهم؛ لأن اللغة العربية ليست شرطا في قراءة الكون! فيكفي أن تفهم المعنى من القرآن الكريم أو بالأحرى بعضه، ولو مترجما لينطلق الفكر في "القراءة" للأحرف الكبيرة فما العالم كله إلا كتاب كبير.
ب - القرآن روح لحياة الكون:
ومعنى ذلك أنه ما دام المتكلم به هو الله رب العالمين -بالمعنى الذي ذكرنا- أي "خالق كل شيء" سبحانه؛ فإنه لا شيء إلا وهو راجع -في حقيقة وجوده- إلى حقائق القرآن الكريم الكونية. وإنما القرآن نور صادر من الرب العظيم الذي هو ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾النور:35 وإذن؛ فلا شيء بعد نوره إلا الظلام، ولا شيء بعد وجوده إلا العدم! وإنما حقيقة المخلوقات أنها موجودة باسمه تعالى، أي: "بسم الله الرحمن الرحيم". فوجودها رهين بوجوده تعالى، وتجليها رهين بتجلي نوره سبحانه. فكان الكون بذاته دالا على "وجوب وجود" رب الكون العظيم.
وما علمنا ذلك كله إلا من خلال القرآن الكريم الذي هو كلام رب العالمين الخالق لكل شيء؛ إذن فالقرآن يمثل -من حيث حقائقه- حقائق الكون كله، بدءا بقصة الخلق إلى غاية الإعادة من يوم القيامة: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾الأنبياء:104 ثم البعث والنشور، فالمصير. فلو تصور عدم حقائق القرآن -وهو فرض محال- لاستحال تصور وجود العالم الكوني كله! ثم إن حقائق القرآن التي هي التفسير السليم لنظام الكون؛ هي وحدها القادرة على الحفاظ على ذلك النظام الكوني في العقل. ولو افترضنا تفسيرا غيرها؛ لعمت الفوضى تصورات العقول، ولاختل التوازن في الفكر، بتصورات لا يمكن إلا أن تؤدي في النهاية إلى افتراضات تفضي في المنطق العقلي إلى اختلال الكون كله في التصور. وهو محال. وبهذا المعنى كان القرآن عند النورسي "روح حياة الكون".
يقول بديع الزمان: "ما دام الكون قد خُلق لأجل الحياة، وأن الحياة هي أعظم تجل، وأكمل نقش، وأجمل صنعة، ‘للحي القيوم' جل جلاله، وما دامت الحياة السرمدية الخالدة، تظهر وتكشف عن نفسها، بإرسال الرسل وإنزال الكتب (...) فلا بد أن الحياة التي في الكون كما أنها تدل -بصورة قاطعة- على ‘الحي الأزلي' سبحانه وتعالى، وعلى وجوب وجوده؛ تدل كذلك على شعاعات تلك الحياة الأزلية وتجلياتها -مما له ارتباط وعلاقات معها- من أركان الإيمان، مثل ‘إرسال الرسل' و ‘إنزال الكتب'، وتثبتهما رمزا. ولا سيما ‘الرسالة المحمدية' و ‘الوحي القرآني'. إذ يصح القول: إنهما ثابتان قطعيان كقطعية ثبوت تلك الحياة، حيث إنهما بمثابة روح الحياة وعقلها (...) والوحي القرآني -بشهادة حقائقه الحيوية- روح لحياة الكون وعقل لشعوره.
أجل... أجل... أجل! فإذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره مات الكون وتوفيت الكائنات، وإذا ما غاب القرآن وفارق الكون؛ جن جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزال عقلها، وظلت دون شعور، واصطدمت بإحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة!"21 فقوله: "إذا ما غاب القرآن وفارق الكون" يعني: "غابت حقائقه" التي هي في الواقع "حقائق الكون" نفسه. إذ ثبت أنما القرآن قراءة لكتاب العالم، كما بيناه آنفا.
ج - القرآن محيط بمفهوم الزمان الكوني:
إذا كان القرآن كلام الله رب العالمين، فإنه صفة له سبحانه؛ لأن الكلام صفة للمتكلم. وقد علم أن الله جل جلاله محيط بالزمان والمكان. تعالى الله أن يحكمه زمان أو مكان، بل هو الحاكم على الزمان والمكان. فهو فوق كل شيء، ومحيط بكل شيء، لأنه تعالى "خالق كل شيء". من هنا إذن كان القرآن محيطا بالزمان الكوني: الماضي والحاضر والمستقبل، ثم الزمان الأرضي، وهو الزمان بالتقدير البشري الدنيوي مما نعد به التاريخ والأعمار، والزمان المعراجي وهو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾،السجدة:5 ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾المعارج:4 والزمان العِنْدِيّ وهو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾الحج:45 ثم الزمان الأخروي وهو الزمان الخالد الذي لا ينتهي، مما يكون بعد إعادة الخلق، حيث قيام يوم الدين، من بعث، وحشر، وحساب، وجنة ونار. فحديث القرآن عن ذلك كله حديث واحد، كأنه زمان واحد. ومن هنا كان محيطا بكل الزمان، مما ينتسب إلى عالم الغيب أو إلى عالم الشهادة. كل ذلك عنده سواء. ولذلك قال النورسي: "فالقرآن إذاً كلام من ينظر إلى كل الأزمنة بما فيها من الأمور والأشياء في آن واحد."22 فإذا كان ذلك كله كما علمت، وكان القرآن -كما تبين- قراءة في كتاب الكون، فإن هذا الكون نفسه دال باللزوم على الآخرة.
قال بديع الزمان: "فاعلم من هذا أن ‘العدالة والإقتصاد والطهر' التي هي من حقائق القرآن ودساتير الإسلام، ما أشدها إيغالا في أعماق الحياة الإجتماعية، وما أشدها عراقة وأصالة. وأدركْ من هذا مدى قوة ارتباط أحكام القرآن بالكون، وكيف أنها مدت جذورا عميقة في أغوار الكون فأحاطته بعرى وثيقة لا انفصام لها. ثم افهم منها أن فساد تلك الحقائق ممتنع كامتناع إفساد نظام الكون والإخلال به، وتشويه صورته.
ومثلما تستلزم هذه الحقائق المحيطة بالكون (...) فهناك حقائق محيطة معها، كالرحمة والعناية والرقابة، وأمثالها مئات من الحقائق المحيطة والأنوار العظيمة، تستلزم الحشر، وتقتضي الحياة الآخرة!"23
2-3: رسالية القرآن الكريم وغايته التعبدية:
وهي الوحدة الثالثة من وحدات التعريف المدروس. وقد سبق القول: إنها تبتدئ من قوله: "وكذا هو مرب للعالم الإنساني" إلى قوله: "كذلك هو كتاب فكر".
إن القرآن الكريم رسالة إلى العالم البشري من رب الكون.
وهذه الجملة كافية لبيان الدلالة المفهومية العظيمة للقرآن. ذلك أن الله تبارك وتعالى لم يكن يتكلم بالقرآن وكفى. ولكنه كان يخاطب به مخاطبا ما. ذلك المخاطب هو الإنسان. وهذه حقيقة من أعظم الحقائق التي قتلها (التعود) البشري الذي يطمس كثيرا من الحقائق العظيمة في هذا العالم. ولعل النورسي بتفكره وتدبره قد اهتز وجدانه لهذه الحقيقة الكبرى. فكان أن وجد نفسه منجرفا بشكل وجداني لخدمة هذا القرآن. ومن هنا انبنى مشروعه كله على هذا الهدف غاية ووسيلة. أي إنه جعل القرآن غايته وهو في الآن نفسه وسيلته. ومن هنا جاء في تعريف القرآن لديه، مما سبق ذكره: "وكذا هو مرب للعالم الإنساني. وكالماء وكالضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد الهادي إلى ما خُلق البشر له. وكذا هو للإنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك كتاب حكمة. وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة. وكما أنه كتاب ذكر، كذلك هو كتاب فكر."
فأنت ترى أن النورسي لم ينظر إلى القرآن - في جانبه التشريعي - على أنه مجرد مصدر من مصادر التشريع، أو المصدر الأول للتشريع وكفى! كما هو منصوص عليه في البحوث الأصولية والفقهية. بل لقد نظر إلى هذه الشريعة القرآنية على أنها تربية للعالم الإنساني، ونور له في عالم الظلمات، تهديه إلى منابع الخير والجمال، لتنتهي به إلى غاية الغايات: ألا وهي الوصول إلى الله. ومن هنا كان القرآن عنده "معراجا" للمؤمنين.
لقد كان انتباه النورسي إلى المعنى الرسالي للقرآن بابا فتح عليه من معاني النور مواجيد لا تنتهي لذاذاتها أبدا. وبهذا المنظار نظر إلى رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: إنه رسول جاء بالقرآن! فأعظم به من رسول إذن! جاء يحمل هذا الكتاب الكوني العظيم إلى البشرية على أنه رسالة من رب الكون إليهم. قال بديع الزمان واصفا إياه بأنه: "أعظم من استوفى مهمة الرسالة بالقرآن الكريم، وأداها أفضل أداء في أسمى مرتبة، وأبلغ صورة، وأحسن طراز، فلبى إرادة رب العالمين في صرف وجه هذا الإنسان من الكثرة إلى الوحدة، ومن الفاني إلى الباقي."24
إن قيمة الرسالة -أي رسالة- تتحدد أولا وقبل أي شيء بقيمة مصدرها: أي معرفة من أرسلها؟ ومن هنا كان من فطرة الإنسان أن يبادر كلما تسلم رسالة بشرية إلى النظر في الغلاف؛ لمعرفة الجهة أو الشخص الذي أرسل إليه تلك الرسالة. وهناك يتحدد عنده الاهتمام أو عدمه، إذ يعرف "مَن؟" فيكترث ويهتم بقدر قيمة المرسل عنده. لقد انبهر بديع الزمان بالقرآن الكريم أشد انبهار. إذ وجد أن المرسِل هو الله رب العالمين! ولذا كان لا يفتأ يذكر هذا المعنى العظيم في كل مبحث من مباحث رسائل النور، لا يكاد يسكت عن ذلك، ولا قليلا!
فإذا تمت لديه عناصر "الإرسالية" عظم الشأن عنده أكثر، ووصل الإنبهار إلى غايته: وهي الإنخراط في سلك الخدمة والسير إلى الله على سبيل الإصلاح والتجديد، وإيقاظ همم الناس: كأنه انتفض ليقول لهم: أيها الناس إن هذا القرآن هو رسالة رب العالمين إليكم!
لقد أدرك بديع الزمان "عناصر الإرسالية". ذلك أن عناصر الإرسالية الأربعة تتحد بوجود المرسل، والمرسل إليه، والمضمون المرسل به، أو القصد، ثم المقام الشامل لظروف الرسالة. فالقرآن كلام رب العالمين هو، بذاته سبحانه المتكلم به؛ رسالة إلى الناس الحيارى -بدونه- في هذه الأرض. فهم إذن المخاطبون به. ولذلك جاء فيه أن هذا سبيل النجاة لكم أيها الحيارى! هذا كشف اللغز الكوني الرهيب! هذا بلسم الحيرة والقلق المحيط بالإنسان؛ من توقع الفناء والعدم. هذا بيان البدء والنشأة والمصير. هذه قصة الخلق كاملة ملخصة، بما لا يدع مجالا للشك، أو الحيرة، والتردد في الانطلاق سيرا إلى هذا الرب الرحمن الرحيم، الذي خلق ثم هدى! ذلك مضمون الرسالة. وأما مقامها فهذه الظروف البشرية الحياتية في الكرة الأرضية، وهذا السير البشري المتدفق في كل الإتجاهات؛ بحثا عن مخرج ما من ظلام لغز الحياة، وطلسم وجود الكائنات، وتناقض المذاهب والفلسفات!
في خضم كل ذلك جاء القرآن يحمل رسالة الهداية إلى الناس. إن بديع الزمان تحدث عن سر إعجاز القرآن فقال بكلمة موجزة، لكنها دالة حكيمة. قال رحمه الله: "إعلم أن منابع علو طبقة الكلام، وقوته، وحسنه، وجماله؛ أربعة: المتكلم، والمخاطب، والمقصد، والمقام، لا المقام فقط كما ضل فيه الأدباء! فانظر إلى من قال؟ ولمن قال؟ ولما قال؟ وفيما قال؟ فالكلام إن كان أمرا ونهيا فقد يتضمن الإرادة والقدرة بحسب درجة المتكلم، فتتضاعف علويته وقوته!"25
إن المفهوم الرسالي للقرآن الكريم قائم أساسا على تبليغ مضمون ما للناس. ذلك المضمون هو الذي سماه بديع الزمان -في عدة مواطن من رسائل النور– بـ "مقاصد القرآن الأربعة" وهي: "التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة". قد تختلف عباراتها من نص إلى آخر، وقد تتفق، ولكن المضمون واحد. قال رحمه الله: "إن المقاصد الأساسية من القرآن، وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة."26 وقال أيضا: "فاعلم أن المقصد الأصلي في القرآن الكريم هو إرشاد الجمهور إلى أربعة أساسات هي: إثبات الصانع الواحد، والنبوة والحشر، والعدالة."27 ونحو هذا كثير.
إن الرسالة القرآنية قائمة على إثبات هذه المقاصد؛ لتكون هي أساس "الوظيفة" التي نزل القرآن الكريم من أجلها. أعني الهدف الأسمى الذي يمثل المفهوم الرسالي للقرآن الكريم. ذلك أن إثبات المقاصد الأربعة لم يكن من أجل إثباتها لذاتها؛ لأنها ثابتة بالأصالة عند الله عز وجل، وإنما كان الإثبات مقصودا من أجل أن يقوم الإنسان بوظيفة العبودية لله الواحد القهار، ويؤدي خدمته التي أنيطت به في هذا الكون، ألا وهي التعلق بأنوار الأسماء الحسنى، والإنتساب إلى دائرة الربوبية من خلال دائرة العبودية؛ ومن هنا كانت "رسالة القرآن" هي تعليم الناس شؤون الدائرتين. يقول بديع الزمان: "الوظيفة الأساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية، وكمالاتها، ووظائف دائرة العبودية وأحوالها."28 وبهذا المعنى كان القرآن الكريم هو "المعراج" التعبدي للعبد السائر إلى الله. ذلك أن الدخول إلى "الحقيقة" من باب خدمة القرآن والإشتغال به؛ هو "المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الإستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه، وأقربه إلى الله، وأشمله لبني الإنسان. ونحن قد اخترنا هذا الطريق!"29
2-4: عرضه الكثرة من عين الوحدة:
إن القرآن الكريم بمفهومه الكوني قائم على مبدأ التوحيد، الذي يقوم بدوره على تفسير الكثرة القائمة في الكون بإرجاعها إلى الوحدة. فما دام الله رب العالمين هو سبحانه وتعالى: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛الأنعام:141 فإن "كل شيء" خاضع له عز وجل -طوعا أو كرها- وشاهد له بالوحدانية. إذ لا حياة، ولا بقاء، ولا كينونة؛ لأي شيء؛ إلا بمقدار ما يعكس من أنوار الأسماء الحسنى.
ومن مقتضيات هذا المفهوم أيضا: أن الرسائل السماوية جميعها، والأنبياء كلهم؛ إنما هم لوظيفة واحدة، ورسالة واحدة، لخصها القرآن جميعها في أسلوب واحد!
وقد سبق قول النورسي في تعريفه المذكور للقرآن: "كما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة، في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية. كذلك هو كمنزل مقدس مشحون بالكتب والرسائل؛ حتى إنه أبرز لمشرب كل واحد من أهل المشارب المختلفة، ولمسلك كل واحد من أهل المسالك المتباينة، من الأولياء والصديقين، ومن العرفاء والمحققين؛ رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره، حتى كأنه مجموعة الرسائل."
وهو دال بذلك على أن القرآن الكريم قد يحتوي على كل فضائل الكتب السماوية السابقة ويزيد عليها. فهو جامع لها جميعا، ومضيف إليها فوائد مما لم يرد بها؛ حتى لكأنه مجموعة من الكتب لا كتاب واحد! وذلك من نعم الله الكريم على هذه الأمة؛ حتى يتسنى لكل إنسان أن يسلك إلى ربه، حسب مؤهلاته الفطرية، ومواهبه الجبلية. فرب شخص تميل به فطرته إلى الزهد والتقلل، ورب آخر يميل إلى الإستدلال العقلي، وآخر إلى التفكر والتدبر، وآخر إلى التفقه والتعلم، والبحث في دلائل الإعجاز... إلخ. وكلها طرق موصلة عبر القرآن الكريم إلى الله. ولذلك كان جامعا لها جميعا من حيث الإمكانات التي يتيحها للإنسان في سيره إلى الله. ومن ألطف ما ورد لدى النورسي من التعبير عن ذلك قوله:
"إن الجهات الست للقرآن الكريم منورة وضاءة، لا تدنو منها الشبهات والأوهام؛ لأن:
من ورائه العرش الأعظم يستند إليه، فهناك نور الوحي.
وبين يديه سعادة الدارين، يستهدفها، فقد امتدت ارتباطاته وعلاقاته بالأبد والآخرة. فهناك نور الجنة ونور السعادة.
ومن فوقه تتلألأ آية الإعجاز وتسطع طغراؤه.
ومن تحته أعمدة البراهين الرصينة والدلائل الدامغة، ففيها الهداية المحضة.
وعن يمينه يقف استنطاق العقول وتصديقها، لكثرة ما فيه ﴿أفلا يعقلون﴾.
وعن يساره استشهاد الوجدان؛ حتى ينطق من إعجابه: ‘تبارك الله' بما ينفخ من نفحات روحية للقلب."30
ولذلك قال في موطن آخر: "للوصول إلى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة وعديدة. ومورد جميع الطرق الحقة، ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم."31
وقد ثبت في القرآن نفسه أنه جامع للكتب السماوية السابقة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾الأعلى:18-19 وكما في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾.النمل:76-77 وقد فصل هذا المعنى العجيب حديثٌ نبوي شريف، تشد إليه الرحال! قال صلى الله عليه وسلم: "أُعطيتُ مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفُضِّلْتُ با
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | June 1, 2011 |
Published in Issue | Year 2011 Volume: 3 Issue: 3 |