بديع الزمان سعيد النورسي ومشروعه الإصلاحي في التربية والتعليم
ذ.حسن إزرال1
مقدمة
إذا كان أهل السياسة يصنعون الأحداث أو تصنعهم الأحداث لزمن ثم يأفلون، فإن رجال الفكر والذكر ودعاة الإصلاح الحقيقيون من المسلمين يُكتب لهم الخلود والحياة في ضمائر الأمم، لارتباطهم الدائم بالقرآن الكريم واعتصامهم بحبله المتين واستمدادهم من أنواره، وحملهم دعوته للناس ليتمثلوه في كل وقت وحين، فهؤلاء هم حملة رسالة الأنبياء يسيرون على هدي النبوة ويقتبسون منها ويتمثلون قول رب العزة في حق نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿يا أيَّهَا النّبِيُّ إِنّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إلى الله بإذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً.﴾الأحزاب :46
وبديع الزمان سعيد النورسي واحد من هؤلاء الرجال أولياء الله تعالى جمع بين الذكر والجهاد وعاش مع القرآن وللقرآن بدمه ولحمه فأفاض عليه القرآن من كنوزه وفيوضاته التي لا حد لها، وحياته اختصرها في جملة واحدة هي: "حياتي بذرة لخدمة القرآن".2
خادم القرآن السعيد مضى على هذا الطريق علما من أعلام الدعوة خلّف تراثاً وربّى جيلا، هم "طلبة النور"، وقضى مجاهدا من سجن إلى سجن ومن حصار إلى حصار.
لم تقعد به همته السامقة "رغم الأذى" عن الكتابة والتأليف وإلقاء الدروس حتى أيامه الأخيرة، فألّف برسائل النور رجالا مازالوا على العهد.
التعريف بشخصية بديع الزمان وعصره
(1295هـ 1878م – 1379هـ 1960م)
لن أقف عند كل الأحداث التفصيلية التي عاشها السعيد فهي مذكورة في كتبه بتفصيل، بل سأركز في هذا المبحث على المحطات الكبرى في حياته وماله علاقة بمشروعه الإصلاحي.
كان النورسي رحمه الله ممن أشرقت بدايتُه فأشرقت نهايتُه، ظهرت عليه علامات النبوغ في الصبا والرجولة المبكرة وصفات الإباء وشيم العزّة الإيمانية.
عاش في بيئة صالحة، هكذا الأبوة الصالحة والأمومة أيضا باقية في الأعقاب مُورِثة لسلامة الفطرة ما هي إنجاب جسوم فحسب.3
بعد مرحلته التعليمية الأولى على يد أخيه الملا عبد الله، تنقّل في المدن والقرى وبين الأساتذة والمدارس لتلقي العلوم الإسلامية من مصادرها المعتبرة بشغف عظيم، ولقد عُرف بذكاء خارق وحافظة قوية، شهد له بها جميع أساتذته بعد امتحانات صعبة ومتكررة.
حفظ كتبا عن ظهر قلب، منها كتاب "جمع الجوامع" في أصول الفقه في أسبوع واحد والقاموس المحيط في اللغة العربية إلى حرف السين.
إنكب سنة 1894م على دراسة كتب العلوم الرياضية والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ، حتى أصبح رائدا من روادها فسمي من أجل ذلك ببديع الزمان، حتى إن بعض العلماء شهد بأن ما عند النورسي من علم هو علم وهبي وليس علما كسبيا.
ولما سمع من الصحف المحلية تصريح وزير المستعمرات البريطانية غلادستون في مجلس العموم البريطاني وبيده نسخة من القرآن الكريم قائلا: "ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكم المسلمين لذلك فلا مناص لنا من أن نـزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به".4
تألم النورسي لهذا الخبر كثيرا وأدرك خطورة ما يبيته الغرب للإسلام، فتوجه إلى إسطنبول عام 1907م وقدم مشروعه لإنشاء جامعة إسلامية شرق الأناضول تقوم بمهمة نشر حقائق الإسلام ودعوة المسلمين للأخذ بأسباب الرقي والتقدم الحضاري والعلمي، فلم يحض طلبه هذا بالقبول.
1- انخراط سعيد النورسي في المجال السياسي واهتمامه بأحداث العالم الإسلامي وانضمامه إلى جمعية الاتحاد المحمدي وقبوله بفكرة الإتحاد الإسلامي:
قال سعيد النورسي: "فأنا أحد أفراد هذا الإتحاد ومن الساعين لرفع رايته وإظهار اسمه... ولست من الأحزاب والجمعيات التي تسبب الفرقة بين الناس."5
وذكر بأن أسلافه في مسألة الدعوة إلى الوحدة: الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ومن العلماء الأعلام علي سواعي والعالم تحسين، وغيرهم ممن دعا إلى الإتحاد الإسلامي وعلى رأسهم السلطان سليم، الذي قال: "إن مغبة الإختلاف والتفرقة يقلقاني حتى في قبري، فسلاحنا في دفع صولة الأعداء إنما هو الإتحاد ما لم تتحد الأمة فإني أتحرق أسى."6
الحاصل إن عصر الأستاذ النورسي رحمه الله عرف اضطرابا سياسيا وتفككا عاما نخر في جسم الدولة العثمانية لأسباب داخلية وأخرى خارجية متنوعة. كانت أوربا الإستعمارية قد خططت لابتلاعها وأسمتها "الرجل المريض".
ولقد بذل السلطان عبد الحميد الثاني وسعه في سبيل المحافظة على الوضع الراهن والتفكير الجدي في إيقاظ الأمة وإنقاذ الدولة، لكن محاولاته كانت أضعف من أن تلقى صدىً أمام الظروف السياسية والحضارية وأمام الكيد الخارجي الذي استعمل ضعاف النفوس والخونة وسيلة لتسريع عملية السقوط، وقد تمثلت في جمعية الاتحاد والترقي.
حاولت جمعية الإتحاد والترقي ضم سعيد النورسي إلى صفها لكن هذا الأخير فوّت عليهم الفرصة ووصفهم بأنهم المعتدون على الدين المولون ظهورهم إلى الشريعة، فهاجمهم الأستاذ في كتاباته وكشف عن مخططاتهم.7
عاصر النورسي دعاة على أبواب جهنم، هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، تربى على أفكار داعية التغريب والإنسلاخ عن الدين "ضياء كوك ألب" الذي كان يتنبأ بسقوط الدولة العثمانية.
فلما وصل الطاغية العسكري إلى الحكم بعد أن قاوم الجيوش الأوربية بنجاح، سنّ لمن بعده من الطواغيت سنة الجرأة على الدين وسفك دماء المسلمين، وتحويلهم بقهر السلطان عن الملة حتى قوض ذلك البناء الذي كان يوما شوكة الإسلام.
تأله هو ودعا الناس إلى عبادة الإله الأعظم الجديد ممثلا في الحضارة الغربية بكهربائها وعلومها وصنائعها وسلاحها ونظامها وخمرها ودعارتها.
أعدم العلماء، فرض تغيير اللباس، حرم العمامة على الرجال والحجاب على النساء.
قرر أن يقطع صلة تركيا بالإسلام فحرم الحرف العربي وفرض الحرف اللاتيني.
الآن وقد مضى سبعون عاما على هذه الجريمة الشنيعة، أبى الله عز وجلإلا أن يبعث في الدعوة الإسلامية، التي لم تمت يوما، حياة جديدة...8
2- سعيد النورسي رجل يزن أمة:
كان للرؤيا الصالحة دور كبير في توجيه حياته وسلوكه إلى الله، وحصلت له أزمة روحية حادة أنتجت إنقلابا كليا في حياته، قال شيخه الكيلاني قدس الله روحه: "التوبة قلب دولة".
قال السعيد أسعده الله: "ففي سنة 1339هـ مررت بأزمة روحية حادة واعتراني قلق قلبي رهيب وانتابني اضطراب فكري مخيف فاستمددت حينها من الشيخ الكيلاني مددا قويا جدا فأمدني بهمته وبكتابه ‘فتوح الغيب' حتى جاوزت ذلك القلق والاضطراب".9
فبدأت تتوحد لديه الوجهة وبدأ يفصل بين مرحلتين من حياته: سعيد القديم، وسعيد الجديد الذاكر الخادم للقرآن الذي تلقى درس الحقيقة على طريقة أويس القرني من الإمام علي رضي الله عنه بوساطة الشيخ الكيلاني قُدِس سره والإمام زين العابدين والحسن والحسين رضي الله عنهم.10
السعيد الجديد الذي بفضل يقظته القلبية وبركة خدمة القرآن يزن أمة: "أما إذا كان خوفكم من مهنتي التي هي الدعوة إلى القرآن ومن قوة الإيمان التي أتسلح بها، ألا فلتعلموا جيدا بأنني لست في قوة خمسين ألف رجل، كلا... إنكم مخطئون إني بفضل الإيمان وبحكم مهنتي في قوة خمسين مليون شخص إني بقوة القرآن أتحدى أوربا كلها بما في ذلك ملاحدتكم".11
3- مشروعه الإصلاحي في التربية والتعليم:
تتداخل كلمة تربية وتعليم ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وإنما غلبنا في التقديم كلمة تربية ليس استخفافا بالعلم وإنما لما للقدوة من دور كبير في حياة التلميذ أو المربي.
والتربية لها أركان أربعة:
المربي والمربى، ومضمون التربية ووسائلها. لقد وجدنا الإمام النورسي رحمه الله يحدثنا عن هذه النقطة بإلحاح معلنا كيفية ميلاده الجديد.
فقال: "هوت صفعات عنيفة قبل ثلاثين سنة على رأس ‘سعيد القديم' الغافل، ففكّر في قضية أن "الموت حق". ووجد نفسه غارقاً في الأوحال... إستنجد، وبحث عن طريق، وتحرى عن منقذ يأخذ بيده... رأى السبل أمامه مختلفة... حار في الأمر وأخذ كتاب "فتوح الغيب" للشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه وفتحه متفائلاً، ووجد أمامه العبارة الآتية:
أنت في دار الحكمة فاطلب طبيباً يداوي قلبك... يا للعجب! لقد كنت يومئذ عضواً في ‘دار الحكمة الإسلامية' وكأنما جئت إليها لأداوي جروح الأمة الإسلامية، والحال أنني كنت أشد مرضاً وأحوج إلى العلاج من أي شخص آخر... فالأولى للمريض أن يداوي نفسه قبل أن يداوي الآخرين.
نعم، هكذا خاطبني الشيخ: أنت مريض... إبحث عن طبيب يداويك!
قلت: كن أنت طبيبي أيها الشيخ!
وبدأت أقرأ ذلك الكتاب كأنه يخاطبني أنا بالذات... كان شديد اللهجة يحطم غروري، فأجرى عمليات جراحية عميقة في نفسي... فلم أتحمل، ولم أطق تحمله... لأني كنت أعتبر كلامه موجهاً إليّ.
نعم، هكذا قرأته إلى ما يقارب نصفه... لم أستطع إتمامه... وضعت الكتاب في مكانه، ثم أحسست بعد ذلك بفترة بأن آلام الجراح قد ولّت وخلفت مكانها لذائذ روحية عجيبة... عدت إليه، وأتممت قراءة كتاب ‘أستاذي الأول'. واستفدت منه فوائد جليلة، وأمضيت معه ساعات طويلة أصغي إلى أوراده الطيبة ومناجاته الرقيقة.
ثم وجدت كتاب ‘مكتوبات' للإمام الفاروقي السرهندي، مجدد الألف الثاني فتفاءلت بالخير تفاؤلاً خالصاً، وفتحته، فوجدت فيه عجباً... حيث ورد في رسالتين منه لفظة ‘ميرزا بديع الزمان' فأحسست كأنه يخاطبني باسمي، إذ كان إسم أبى ‘ميرزا' وكلتا الرسالتين كانتا موجهتين إلى ميرزا بديع الزمان. فقلت: يا سبحان الله... إن هذا ليخاطبني أنا بالذات، لأن لقب سعيد القديم كان بديع الزمان، ومع أنني ما كنت أعلم أحداً قد اشتهر بهذا اللقب غير ‘الهمداني' الذي عاش في القرن الرابع الهجري. فلابد أن يكون هناك أحد غيره قد عاصر الإمام الرباني السرهندي وخوطب بهذا اللقب، ولابد أن حالته شبيهة بحالتي حتى وجدت دوائي بتلك الرسالتين... والإمام الرباني يوصي مؤكداً في هاتين الرسالتين وفي رسائل أخرى أن: ‘وحّد القبلة' أي: إتبع إماماً ومرشداً واحداً ولا تنشغل بغيره!
لم توافق هذه الوصية -آنذاك- إستعدادي وأحوالي الروحية... وأخذت أفكر ملياً: أيهما أتبع! أ أسير وراء هذا، أم أسير وراء ذاك؟ إحترت كثيراً وكانت حيرتي شديدة جداً، إذ في كل منهما خواص وجاذبية، لذا لم أستطع أن أكتفي بواحد منهما.
وحينما كنت أتقلب في هذه الحيرة الشديدة... إذا بخاطر رحماني من الله سبحانه وتعالى يخطر على قلبي ويهتف بي:
- إن بداية هذه الطرق جميعها... ومنبع هذه الجداول كلها... وشمس هذه الكواكب السيارة... إنما هو ‘القرآن الكريم' فتوحيد القبلة الحقيقي إذن لا يكون إلاّ في القرآن الكريم."12
أتيت بهذا النص على طوله قصدا لما يحمله من معان جليلة لا يدرك حقيقتها إلا من ولدت روحانيته ونشأ النشأة الثانية التي يكون بها الولي وليا.
فحديث النورسي عن الميلاد الجديد وعن أبوة شيخه وعن سلسلة آبائه الروحيين حقيقة أقوى في عالم المعنى من النسب الطبيعي والإنتساب الجسمي، وحتى إن شب الولي عن الطوق كما حصل لسعيدنا السعيد واتصل حبله بقرب الله عز وجل وبروح رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينسى آباءه في الروح أبدا، وكيف ينسى الأحرار فضل من جعلهم الله رحمة ورحما.13
يقر الأستاذ بديع الزمان بنعمة المولى عليه، فيقول: "إن كان لأهل الدنيا حكم وسطوة وقوة ففي خادمه ‘خادم القرآن' بفيض القرآن علم لا يلتبس وكلام لا يسكت وقلب لا ينخدع ونور لا ينطفئ". 14
"أقول تحديثا بالنعمة وأداء للأمانة بأني لا أخدعكم إنما أكتب ما أشاهد أو أتيقن عين اليقين أو علم اليقين"15
يحصل مثل هذا وأكثر منه لأولياء الله إن صح لهم التعامل الصريح مع الله عز وجل فما لرأي الخلق عندهم من وزن صدقوا أم كذبوا رضوا أم سخطوا وحديث الولاية شاهد على ذلك.
مبدأ الصحبة في التربية:
لا عجب أن يجتذب قلب منور بالله كقلب النورسي تلك القلوب التي أحبّته أشد ما يكون الحب فأخذت القلوب منه الدين والإيمان والحب في الله والبغض في الله...
لقد أدرك النورسي بعلم اليقين حقيقة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "المرء على دين خليله فلينظر أحدُكم من يخالل".16 أن الصحبة تشرّب قلبي وقدوة ماثلة وتعلم وتعليم.
وأكد على بناء الإخلاص في النفوس يقول صاحب رسائل النور: "لما كان مسلكنا يستند على الإخلاص ومبني على الحقائق الإيمانية، فإننا مضطرون إلى عدم التدخل في أمور الحياة الإجتماعية والحياة الدنيوية ما لم نضطر إليها".17
واقتنع بأن المطلوب وفقه الوقت هو اكتساب الإيمان وتربيته في القلوب قبل النظر في أمور الحياة الاجتماعية.
قال رحمه الله: "كنت سابقا أقول أن فساد الشرق نابع من تعرض عضو منه للمرض، لكن لما شاهدت إسطنبول مريضة وجسست نبضها وشرحتها أدركت أن المرض هو في القلب وسرى منه إلى جميع الجهات".18
رسائل النور موضوعها التربية الإيمانية:
يلحظ الخبير برسائل النور أنّها مصنفات غزيرة بالتربية مضمونا وأسلوبا، ورأس النجاح في هذا المقام الإقتناع بأنّ القرآن الكريم مصدر الحقيقة المفردة المزاوجة بين التربية والمعرفة، لهذا يؤكّد الأستاذ أنّ "مسلك رسائل النور ليس هو مسلك الطريقة الصوفية بل هو مسلك الحقيقة، فهو مسلك مقتبس من نور مسلك الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة الصوفية بل زمان إنقاذ الإيمان".19
علم الكلام الجديد في رسائل النور والتربية على الفعالية الإيمانية:
أوجد الإمام النورسي علم كلام جديد مصدره القرآن ونقل علم التوحيد القديم من نظريات فكرية وجدل بين الطوائف إلى سلوك جسّده طلبة النور، نتركه يكشف عن الدور التربوي لعلم الكلام الجديد في الفعالية الإيمانية، وفي ذلك أظهر ما يميّز رسائل النور عن كتب الكلام وفق مسالك القدماء.
قال: "إن قسما من مصنفات العلماء السابقين وأغلب الكتب القديمة للأولياء الصالحين تبحث في ثمار الإيمان ونتائجه... لأنه لم يكن في عصرهم هجوم سافر يقتلع جذور الإيمان وأسسه... أما الآن فإن هناك هجوما عنيفا جماعيا منظما على أركان الإيمان وأسسه لا تستطيع أغلب تلك الكتب... أن تصد هذا التيار الرهيب القوي لهذا الزمان ولا أن تقاومه."
فتلخّصت مهمة رسائل النور، لكونها معجزة معنوية للقرآن الكريم، في السعى إلى إنقاذ الإيمان وتثبيته وتحقيقه وحفظه في القلوب بدلائل كثيرة وبراهن ساطعة، بقصد بعث التربية الإيمانية الفعّالة.
وقاعدة فعالية التربية الإيمانية، سلوك طريق الجمع بين العقل والقلب في مجال التربية والتعليم، وهو ما تبناه الأستاذ ورافع عنه وجسّده، يشهد لهذا قوله: "سلكت طريقا غير مسلوك بين العقل والقلب، إنّ عقلي قد يرافق قلبي في سيره فيعطي القلبُ مشهودَه الذوقي ليد العقل؛ فيبرزه العقلُ على عادته في صورة المبرهَن التمثيلي.20
ولله الحمد كان القرآن هو مرشدي وأستاذي في هذا الطريق.
نعم! مَن استمسكَ به استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.21
...لا تحسبن أن ما أكتبه شيء مضغته الأفكار والعقول. كلا! بل فيض أفيض على روحٍ مجروح وقلب مقروح، بالإستمداد من القرآن الكريم، ولا تظنه أيضاً شيئاً سيالاً تذوقه القلوب وهو يزول. كلا! بل أنوارٌ من حقائق ثابتة إنعكست على عقلٍ عليلٍ وقلبٍ مريضٍ ونفسٍ عمي...22
إني ما أدري كيف صار عقلي ممزوجاً بقلبي، فصرت خارجاً عن طريق أهل العقل من علماء السلف وعن سبيل أهل القلب من الصالحين، فإن وافقتهما فبها ونعمت وإن خالفتُ في كلامي أي السبيلين منهما فهو مردود عليّ."23 عقل يستمد من عقل، هذا أمر يسلم به الجميع، لكن رسائل النور كانت تكشف عن حقيقة استمداد قلب من قلب بالمحبة والمخالطة والتعاون على سلوك الطريق المقربة إلى الله، والدعاء الرابط بين القلوب، يقول سعيد النورسي: "أما أخوكم في الآخرة فهو معكم صباح مساء في الدعاء والتضرع إلى المولى الكريم."24
ثناء الإمام النورسي على رسائل النور وحضه طلاب النور على قراءتها:
يبرز الأستاذ النورسي رحمه الله قيمة رسائل النور بقوله: "إن رسائل النور تقوم بإيفاء وظيفتها أفضل مني عشر مرات... لذا لم يعد هناك حاجة لوجودي" قالها عند قرب وفاته ورحيله.25
قراءة الرسائل عبادة فكرية ومجالسة له بل إنها تغرق قارئها في بحر النور وتبدد الغفلة عنه، قال النورسي في رسالته لأحد طلبة النور: "تذكرون في رسالتكم إنكم كلما قرأتم موازين رسائل النور إستفدتم أكثر، نعم يا أخي إن تلك الرسائل قوت وغذاء لأنها مستقاة من القرآن الكريم... فلا يسأم من القراءة من انكشفت روحه وانبسط قلبه من أمثالكم.26
التفكر والتدبر وسيلة من الوسائل التربوية لاستنبات الإيمان في القلوب:
يمثل مسلك التفكر والتدبر قطب الرحى في التربية الإيمانية عند النورسي رحمه الله معتمدا في ذلك على توجيهات القرآن الذي يخاطب الإنسان كل إنسان بالتفكر والتدبر، قال الأستاذ: "وعندما انقلب سعيد القديم إلى سعيد الجديد قبل ثلاثة وعشرين عاماً، سالكاً مسلك التفكر، بحثتُ عن سرّ ‘تفكرُ ساعةٍ خير من عبادة سنة'27. وفي كل عام أو عامين كان ذلك السرّ يغيّر من شكله فينتج إما رسالة عربية أو رسالة تركية. وقد دامت تلك الحقيقة وهي تتلبّس الأشكال المختلفة إبتداء من رسالة ‘قطرة' العربية، وانتهاء إلى رسالة ‘الآية الكبرى'، حتى أخذت شكلها الدائمي في ‘الحزب النوري'.28 ومنذ عشرين عاماً، كلما تملّكني الضيق وأصاب الفكرَ والقلبَ إرهاقٌ، ولجأت إلى قراءة قسم من ذلك الحزب بتأمل، فإذا به يزيل ذلك الضيق والسآمة والإرهاق. وقد تكرر ألف مرة، ومع ذلك لم يترك أي أثر للملل والتعب -الناتجين عن الإنشغال طوال خمس أو ست ساعات من الليل- بقراءة سُدس ذلك الحزب قبيل الفجر. نعم إن هذه الحال تدوم حتى الآن."29
الدعاء والتربية الإيمانية:
الدعاء وسيلة من وسائل تقوية الإيمان في المنهج التربوي عند سعيد النورسي، فتكلم في هذا الموضوع من خلال الآية الكريمة: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ﴾الفرقان:77 فأفاض في هذا الموضوع بما فتح الله عليه وذكر تقسيمات دقيقة وذكر أسرار الدعاء وجعل إمام كلامه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة" إن الدعاء روح العبادة ومخها وهو نتيجة إيمان خالص لأن الداعي يظهر بدعائه أن الذي يهيمن على العالم كله ويطلع على أخفى أموري ويحيط بكل شيء علما هو القادر على إغاثتي وإسعاف أبعد مقاصدي وهو البصير بجميع أحوالي والسميع لندائي لذا فلا أطلب إلا منه وحده فهو يسمع أصوات الموجودات كلها ولا بد أن يسمع صوتي وندائي أيضا، وهو الذي يدير الأمور كلها فلا أنتظر تدبير أدق أموري إلا منه وحده.30 إن الدعاء عند النورسي يهب لأصحابه التوحيد الخالص وينتج حلاوة الإيمان وصفائه فما عليك إلا أن تغوص في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ﴾.الفرقان:77
ذكر الآخرة في رسائل النور:
حديثه عن الآخرة هو الأصل الأساس في التربية على تثبيت الإيمان، فهو يتحدث في رسائل النور عن الآخرة بل ذهب إلى تسمية طلاب النور بإخوان الآخرة، بل رسائله معظمها: "فلان أخ الآخرة".
الدعوة إلى الرفق:
قال سعيد النورسي: "إننا مكلفون بالتضحية بحياتنا وكرامتنا وسعادتنا الدنيوية في سبيل الحفاظ على التساند الذي هو الرابطة الوثقى لرسائل النور، وبهذا تسكتون النفس الأمارة... لا تتشددوا، أوغلوا برفق، الناس ليسوا سواسية في المشارب..."31
ويضيف قائلا ينبغي لطلاب رسائل النور سلوك المصالحة... "إياكم وإياكم أن تتعرضوا لصلاة الجماعة والجمعة -حيث كان الآذان والإقامة والخطبة بالتركية- وللعلماء ولا تنتقدوا المشتركين فيها". أما قول الإمام الرباني: "لا تدخلوا مواضيع البدع؛ فالمقصود لا ثواب فيها وليس معناه بطلان الصلاة لأن قسما من السلف قد صلوا خلف يزيد والوليد..."32 بحكم تجربة السعيد أيقن بأن الفقه بلا إرادة خيال وحلم وإرادة بلا فقه تؤول إلى تخبط عنيف، موجة عارمة ثم تنكسر انتفاضة غاضبة تهدم لكن لا تبني جعجعة ولا طحن كان سعيد النورسي يخشى أن يثور الشعب لقضية لا يستطيع أن يتحكم فيها وتكون مفاسدها أكثر من مصالحها.
تعلم خادم القرآن السعيد أسعده الله أن في التنـزيل كان الرفق والتدرج والمعاناة وتحمل الأنبياء للأذى فتمثل ذلك ودعا طلبة النور إلى الصبر والتحمل.33
خلاصة:
خلاصة الأمر لقد أدرك النورسي بثاقب فكره وتجربته وبفضل الله عليه أن الإصلاح ليس جهاد جيل وانتهى الرحيل وليس الإصلاح عنده إبطال موجود، بل إيجاد مفقود هو استصلاح وإصلاح القلوب وتربيتها على المحبة لا الانتقام وشفاء الغليل، لأن طريق الجهاد طويل يريد عملا ممنهجا، يريد تنظيم جهود يريد تعبئة منظمة يريد استبشارا وتبشيرا لأنفسنا وللإنسان مهما تجهم الزمن في وجهنا وكلحت طلعته واكفهرت ملامحه.
برهن الإمام سعيد النورسي من خلال تراثه الذي خلفه أنه كان بحق شمسا معنوية استمدت نورها من القرآن الكريم فهو رجل من أهل الله لأن أهل الله هم أهل القرآن وخاصته، كما جاء في الحديث، جعلنا الله منهم آمين، وترك الباب مفتوحا لمن كانت له همة أن يقتبس من القرآن وأن يكون من أهل القرآن ومن أهل تدبر القرآن.
﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾.الإسراء:20
* * *
الهوامش:
1 ذ.حسن إزرال: شعبة الدراسات الإسلامية، كلية الآداب، بنمسيك الدار البيضاء، المغرب.
2 النورسي، بديع الزمان سعيد، سيرة ذاتية، إعداد وترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1995. ص 95 .
3 تنوير المومنات للأستاذ عبد السلام يس.
4 سيرة ذاتية 95.
5 سيرة ذاتية 95.
6 النورسي، بديع الزمان سعيد، المكتوبات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1992 ص 90.
7 سيرة ذاتية 91.
8 تنوير المومنات للأستاذ عبد السلام يس 48- 7/1.
9 سيرة ذاتية 169.
10 النورسي، بديع الزمان سعيد، الملاحق، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1995 ص 263.
11 المكتوبات 90.
12 سيرة ذاتية 161.
13 الإحسان لأستاذ عبد السلام يس 2 ص 437
14 المكتوبات 91.
15 سيرة ذاتية 170.
16 أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والبيهقي.
17 الملاحق 214 .
18 النورسي، بديع الزمان سعيد، صيقل الإسلام، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1995. ص 472.
19 الملاحق 262-263.
20 النورسي، بديع الزمان سعيد، المثنوي العربي النوري، تحقيق إحسان قاسم الصالحي. سوزلر، إسطنبول 1994. ص 413.
21 المثنوي العربي النوري/ 206 وانظر أيضًا ص 156.
22 المثنوي العربي النوري ص318 دار نشر سوزلر-استانبول 1994.
23 سيرة ذاتية 166-168.
24 الملاحق- ملحق بارلا: 85.
25 أورخان محمد علي، سعيد النورسي رجل القدر في حياة أمة، ص :305.
26 الملاحق 83.
27 قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء 1/58: حديث: تفكر ساعة خير من عبادة سنة: إبن حبان كتاب العظمة من حديث أبى هريرة بلفظ ستين سنة بإسناد ضعيف ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات ورواه أبو المنصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بلفظ ثمانين سنة وإسناده ضعيف جداً، ورواه أبو الشيخ من قول ابن عباس بلفظ خير من قيام ليلة. ا هـ. وانظر كشف الخفاء 1/310 والأحاديث المشكلة ص 113.
28 تأملات فكرية باللغة العربية على صورة مناجاة.
29 الملاحق - قسطموني /207، سيرة ذاتية 175.
30 الملاحق 212-211.
31 الملاحق 215.
32 تنوير المومنات للأستاذ عبد السلام يس 67/1.
33 تنوير المومنات للأستاذ عبد السلام يس 295/2.
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | June 1, 2011 |
Published in Issue | Year 2011 Volume: 3 Issue: 3 |