بكور
التاريخ عند بديع الزمان سعيد النورسي دراسة في التمثل والتفسير
محمد بكور1
"إن أساس مسلكي منذ أيام صباي –ولا فخر– إزالة الشبهات التي تلوث حقائق الإسلام سواءً بالإفراط أم بالتفريط، وصقل تلك الحقائق الألماسية. والشاهد على هذا تاريخ حياتي في كثير من حوادثه".2
مقدمة:
عاش النورسي في لحظة تاريخية حرجة من تاريخ الأمة الإسلامية، بلغ فيها تأثير الثقافة الأوروبية أوجه، فكان تأثيرها في نفوس المسلمين جليا. وزاد هذه الثقافة سحرا وتأثيرا الانتصارات القوية التي حققتها الأمم الأوروبية في العالم عموما وفي أراضي المسلمين خاصة. وكان انتصار الأمم الأوروبية على الدولة العثمانية مركز الخلافة الإسلامية ضربة موجعة لكل المسلمين، جعلت كثيرا من أبناء المسلمين تلتهمهم الشكوك حتى مست أقدس مقدساتهم وهو إيمانهم بالله وبالآخرة.
وهكذا أصبح الإسلام يحارب بالسلاح المادي والمعنوي من قبل الأعداء الخارجيين، ومن قبل شرذمة من أبناء المسلمين من ضعاف النفوس الذين مالوا بكليتهم إلى مدنية الفلسفة المادية وتجار الكفر والإلحاد، فأصبحوا نوابا عنها في نفث سمومها وبث ادعاءاتها.
كانت تركيا أسرع البلدان الإسلامية في سيرها الحثيث نحو اللائكية المتطرّفة القائمة على اجتثاث الدين من الضمائر والنفوس والقلوب والعقول، لأجل الخلوص إلى إنكار حقائق الدين. وتأكيدا لرجحان اختياراتهم والبرهنة العملية على صحّة آرائهم، استغلوا ارتباط السلطة السياسية السابقة "المستبدة" بشعار الخلافة –التي لا تخفى ملامحها الدينية– تشنيعا عليها، فأظهروا أنّها خضعت للاحتلال الأجنبي وخنعت له، وما قاد المقاومة غيرهم، فكأنّ المقاومة لن تكن على غير أيدي اللائكيين والقوميين، والانتصارات كانت نسيج أيديهم، وواقع هذا شأنه كما يتصوّرون مهيّأ لقبول الفلسفة المادية واستبعاد الإيمان من الحياة، بسحب تقديرهم.
لم يكن النورسي بعيدا عن هذا المخاض، فامتلك عليه ما يحاك للإيمان من مؤامرات –تشيب هلا الولدان– أنفاسه، فكان أوضاع الأمّة بداية القرن العشرين دافعا قويا للتفكير في مسالك جديدة للاستئناف حمل لواء الدفاع عن قدسية الإسلام، ومصدره الرباني، ودوره في النهوض الحضاري للأمم الإسلامية.
أبدع النورسي، خلال حياته الطويلة والحافلة، خطابا تجديديا راقيا بقصد إثبات صدق الرسالة المحمدية والدفاع عن جوهر الإيمان. وتعتبر رسائل النور بحق عملا رائعا أنقذ إيمان الإسلامية في تركيا، وبها يسعف سائر المسلمين
كانت علاقة النورسي بالتاريخ إذن، من حيث هو صيرورة أحداث ووقائع، قوية للغاية. فقد كانت المرحلة التي عايشها بحق لحظة انكسار تاريخي عنيف خلخل كل مقومات الأمة بلا استثناء، وأصبح ما كان يشكل كينونة الأمة وقوامها عبر التاريخ محل تساؤل بل رفض وتطاول.
ولكون النورسي كان عالما ومثقفا وسياسيا ومصلحا، وشارك في مختلف مفاصل الحياة الاجتماعية والسياسية والدعوية، فقد اكتسب وعيا تاريخيا عاليا ومكثفا. وكان من حسن ألطاف الله أن زوده بحاسة إيمانية مرهفة جعلته يرى واقع الأمة من خلال عينين: عين التجربة والخبرة والاطلاع، وعين التوفيق الرباني والكشوفات الرحمانية.
مشكلة البحث:
أثناء قراءتي السريعة لكليات رسائل النور لاحظت أهمية دراسة البعد التاريخي ضمن هذا الخطاب التجديدي، وعناية الأستاذ بالبعد التاريخي كان تبعيا ولم يكن أصليا، فالنورسي لم يصنف في التاريخ، ولكن المادة التاريخية كانت حاضرة بشكل لافت للانتباه، وكان حجم تحصيله من المادة تاريخية ليس قليلا، فقد نقلت مصادر التعريف به اعتكافه في مدينة وان على مطالعة العلوم المختلفة ومن بينها التاريخ.3 وكان حضور المادة التاريخية مركزيا في رسائل النور.
لأجل بيان حضور المادة التاريخية في رسائل النور، آثرت الاستقصاء قبل الفصل في الحكم بنسبة حضور المادة التاريخية في رسائل النور، ذلك أنّ الخطاب النوري يكتنز في العمق ما يجعله عصيا على الاستنتاجات المتسرعة، فاحتاج الأمر تنقيبا عميقا يتغيى كشف نسق هذا الخطاب وإدراك آلياته.
كشفت القراءة المتأنية أن رسائل النور جميعها هي جواب فكري وسلوكي عن سؤال تاريخي عميق: ما الذي دهى الأمة الإسلامية حتى انكفأت على نفسها ورضيت بالزاوية الهامشية من التاريخ الإنساني؟ وكيف السبيل للنهوض الحضاري وإعادة الحق والعدالة إلى نصابهما؟
يسعى هذا البحث إلى تتبع حضور الوعي التاريخي عند النورسي ورصد تحولاته من جهة، ومن جهة ثانية الكشف عن تمثلاته للتاريخ وأدواته التفسيرية لحركية المجتمعات البشرية. لتحقيق ذلك نقترح تقسيم الموضوع إلى ثلاثة عناصر:
1- في حضور الوعي التاريخي عند النورسي.
2- في مستويات التمثل التاريخي عند النورسي.
3- في تفسير التاريخ عند النورسي.
I- في حضور الوعي التاريخي عند النورسي:
نستطيع القول إن عصر النورسي يمثل بحق ذروة دركات الانحطاط التي بلغها العالم الإسلامي عبر تاريخه الطويل، فبالرغم من الهزائم الكثيرة التي مني بها المسلمون في المشرق أو المغرب والأندلس... فإن هزائم القرنين التاسع عشر والعشرين رافقها غزو فكري كثيف للحضارة المتغلبة التي أثبتت غلبتها بتفوقها المادي، وسعت للهيمنة على كل المعمورة، فنتج عن ذلك انبهار غير مسبوق لكثير من أبناء المسلمين بالمدنية الغربية.
نشأ النورسي في شرقي الأناضول داخل مجتمع كردي متشبث بإسلامه وتقاليده. كانت أسرته بسيطة، وكان أبوه رجلا صوفيا مقبلا على العبادة وأعمال الفلاحة. تلقى تعليمه في المدارس الدينية بهذه المنطقة. ولم تكن هذه المدارس تتيح لطلابها أكثر من العلوم الدينية واللغوية التقليدية المعزولة تماما عن الواقع المعيش. كان النورسي شديد الذكاء، ملّكه الله ذاكرة قل نظيرها في الحفظ والفهم. ولم يكن ليقنع بهذا التعليم، لأنّه لم يكن في مستوى طلعات الأمة، فسعى بإرادته الفردية للمشاركة في العلوم "الدنيوية" الجديدة منها والقديمة. "إنّ كمّ الكتب الهائل الذي قرأه سعيد، وحفظه عن ظهر قلب، واستوعبه خلال تلك الفترة القصيرة، قد أظهر قدرته الفائقة على الحفظ، وذكاءه وفهمه غير العاديين. وكان عمره آنذاك أربعة أو خمسة عشر عاما".4 وفي هذه الفترة أعجب به الملا فتح الله أفندي في "سعرد" وقربه منه ومنحه اسم "بديع الزمان"5 تيمّنا ببديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات.
كانت وضعية مسلمي شرقي الأناضول في حرج كبير، فبالإضافة إلى حركة الدعوة الشيعية في المنطقة،6 كان هناك عاملان مهمان" نشاط الإرساليات التبشيرية والقضية الأرمينية... ومن المؤكد أن هذه الأحداث أثرت بعنف في وعيه "النورسي"، وكانت قوة مؤثرة ودافعة له".7 وإذا كانت هذه العوامل وفرت الأرضية للقوى الأوربية لزيادة الضغط على العثمانيين، فإن "الإحباط والإحساس بالضعف اللذين انعكسا على الإسلام، كان حافزا دائما لحث سعيد الصغير الطموح على السعي في جهوده من أجل بث روح الحياة مرة أخرى في الإسلام".8
غير أن "اليقظة السياسية" لم تتحقق للنورسي إلا بعد أن التحق بـ "ماردين". فهناك التقى بعض الشخصيات التي تحمل أفكارا سياسية واجتماعية وجدت استجابة فطرية لديه، فتلقاها بكل جدية وحزم. جاء في سيرة النورسي: "وفي هذه الأثناء التقى طالبين، أحدهما من طلاب السيد الأفغاني والآخر من منتسبي الطريقة السنوسية. فاطلع بواسطتهما على منهج السيد جمال الدين الأفغاني والطريقة السنوسية".9 ويقوم هذا المنهج على إنشاء اتحاد إسلامي وبعث الحضارة الإسلامية عن طريق تطوير مناهج التعليم وإقامة نظام دستوري يقطع مع الاستبداد. وفي ذات السياق فإن لقاءه بماردين مع الشاعر نامق كمال10 بلورت لديه أفكاره السياسية الجديدة القائمة على "المسلك المعتدل القويم في السياسة". لقد "كانت الفترة التي قضاها الملا سعيد في "ماردين" هي المرة الأولى التي أدرك فيها حقيقة الصراع من أجل الحرية، كما أدرك مفهوم الحكومة الدستورية التي طالما حلم بها العثمانيون الجدد".11
استفاد النورسي في مدينة "وان" من مكتبة طاهر باشا واعتكف على مطالعة الصحف والدوريات وكتب العلوم الحديثة المختلفة.12 وكان التاريخ، سواء القديم أو المعاصر، ضمن العلوم التي أثارت انتباهه، ولا نعدم الحجة إذا زعمنا أن هذه المطالعات المكثفة قد أخرجت النورسي من الدائرة الضيقة للعلوم اللغوية والدينية وفتحت مداركه على حركية المجتمعات البشرية وتدافعها عبر التاريخ الطويل.13 وهناك أدرك الفروق المفزعة في التقدم المادي والعلمي والتقني بين الأمم الأوروبية والأمة الإسلامية، كما استوعب البون الشاسع بين ماضي هذه الأمة المجيد وحاضرها المهزوم المأزوم. دفعه هذا الوعي إلى التفكير في إصلاح التعليم كخطوة أساسية في طريق تحرر الأمة، فعمل على تأسيس مدرسة تستجيب لتطورات العصر وتحافظ على المقومات الدينية بإدماج العلوم الدينية مع العلوم الحديثة.14 في هذه الفترة حدث انقلاب عميق في أفكار ونفسية النورسي، فأثناء إقامته بـ "وان" علم، من طاهر باشا، بالتصريح الحاقد لوزير المستعمرات البريطاني: "مادام هذا القرءان بيد المسلمين فلن نحكمهم حكما حقيقيا، فلنسع إلى نزعه منهم".15 أحدث هذا التصريح ثورة عارمة في أفكار النورسي. وعلم أن هناك مؤامرة دنيئة يحيكها الغرب المنتصر ضد القرءان الكريم، فأعلن: "لأبرهنن للعالم بأن القرءان شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها".16
تتيح هذه الواقعة إمكانيات كثيرة للقراءة والتأويل. فالوضع المأساوي الذي كانت تعيشه الإمبراطورية العثمانية، وتوالي الضربات الخارجية والداخلية على مقاومتها، كانت تستفز النورسي، وتوجه ذكاءه الحاد نحو مساءلة هذا الواقع المستجد. وكان احتكاكه مع "العثمانيين الجدد" قد أفاده كثيرا في فهم هذا الواقع. إلا أن هذه الحادثة أنضجت وعيه التاريخي، حيث استطاع تحديد "الوجهة" ومعرفة بؤرة الصراع المستقبلية، والهدف الخفي للهجمة الامبريالية الغربية. لقد كان الهدف إذن هو سلخ المسلمين من هويتهم وإبعادهم عن "نقطة ارتكازهم": القرءان الكريم. وهذا لا يعني أن النورسي لم يكن يعلم قيمة الوحي ومركزيته في توحيد الأمة وحفاظها على مقوماتها، ولكنه الآن أدرك أن هذا الكنز الرباني محل حرب مدمرة يستعمل فيها العدو كل الأسلحة المادية والمعنوية الممكنة.
وانطلاقا من ذلك نذر النورسي حياته للدفاع القرآن وتسخير علومه ومعارفه الكثيرة لاستكشاف أسراره وإثبات حقائقه وتنبيه الناس إلى أنواره ومكنوناته. وشكّل هذا المسعى مشروعه الشخصي الذي عمل على تحقيقه طوال خمسة عقود من الزمن.
ظن النورسي في البداية أن تحقيق هذا المشروع يمر عبر المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية لإنقاذ الإمبراطورية من السقوط وذلك من خلال منظمة "الاتحاد المحمدي"،17 فشدّ رحاله إلى إسطنبول (1907م). وهناك انخرط بحماسته المعهودة في النضال السياسي والاجتماعي. وظهرت عليه في هذه الفترة معالم الحماسة الشديدة في الدفاع عن "المشروطية والحرية" والترويج لهما في صفوف الأكراد بشرقي الأناضول.18 وقد كان على قناعة راسخة بأن المشروطية هي الطريق لنشر الإسلام والحفاظ على إمبراطوريته وهي مسلك مهمٌّ للتقدم والاتحاد.
انفتح الأستاذ في إسطنبول على الأفكار والتنظيمات السياسية. وكانت خيبته كبيرة عندما عاين استقطاب الأفكار المادية والمذاهب الإلحادية للشباب المسلم الذي لم يعد يقيم للدين ولا للأخلاق أي وزن. وتنبه إلى خطورة هذا التَحَوُّل فصرّح في محاورة مع الشيخ محمد بخيت أحد علماء الأزهر قائلا: "إن الدولة العثمانية حُبْلَى بدولة أوروبية، كما أنّ أوربا حُبْلَى بالإسلام، ويوشك أن تلده يوما ما".19 ولتدارك حال الأمة المنبهرة بالتقدم الأوربي المتسارع في المعارف والمخترعات، شرع في بيان جواهر القرآن الكريم، وعجّل بكتابة تفسيره "إشارات الإعجاز" الذي تابع كتابته وهو في خنادق الجبهات الأمامية أثناء الحرب العالمية الأولى.
كان يؤمن بأن الإسلام والحضارة الإسلامية الحقّة ستكون لهما السيادة في المستقبل: "إنّ المستقبل الذي لا حكم فيه إلا للعقل والعلم، سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكامه إلى العقل والمنطق والبرهان".20
احتفى بهذه الفكرة الجديدة، ساعيا إلى استعادة القرآن الكريم حضوره في دفع العدوان الفكري والأدبي، ولكنّه في الوقت نفسه عايش بألم وحسرة شديدين الانقلاب المزلزل الذي قاده مصطفى كمال منشئ الجمهورية العلمانية. فاعتزل النورسي الحياة السياسية وخصّص جهده لكتابة رسائل النور بهدف إحياء الإيمان والدفاع عن القرآن الكريم ضد الفلسفات الإلحادية والضغط العلماني.
كتب النورسي عندما سئل عن سر اعتزاله السياسة قائلا: "إن الحياة البشرية ما هي إلا كركب وقافلة تمضي، ولقد رأيت بنور القرآن الكريم في هذا الزمان، أن طريق تلك القافلة الماضية أدت بهم إلى مستنقع آسن، فالبشرية تتعثر في سيرها فهي لا تكاد تقوم حتى تقع في أوحال ملوثة منتنة". وأنوار القرآن هي الكفيلة بإخراجها منها. إن "النور لا يقابل بالعداء قطعا، ولا ينفر منه إلا الشيطان الرجيم. ولذلك قلت: أعوذ بالله من الشيطان والسياسة لكي أحافظ على نور القرآن".21
لم يكن اعتزاله للسياسة خوفا من المواجهة أو تهربا من تحمل المسؤولية. إنما كان نتاج وعيه التاريخي الثاقب. لقد أصبحت سيطرة التيار العلماني، تلميذ الثقافة الغربية، على مقاليد الأمور واضحة، وأصبح يملك مؤسسات الدولة بما تتيحه من إمكانيات هائلة للدعاية والتأثير. ومن ثمَّ فإنَّ المواجهة السياسية لهذا التيار لا شك ستكون نتيجتها محسومة لصالحه في ظل معطيات الواقع، وهذا بحسب النواميس السننية، ذلك أنّ التدخّل في مثل هذه الظروف سيفضي إلى الهزيمة المحققة.
كما أنّ هذه المواجهة ستكون وبالا على الأمة، ولذلك فإنّ "الانسحاب" إلى القواعد الخلفية هي استراتيجية للملمة الجراح وإعادة بناء الصفوف استعدادا للمعركة القادمة. ولم تكن هذه الاستراتيجية إلا إحياء الإيمان في القلوب وإظهار جواهر الإسلام وألماساته، وفضح الكفر والإلحاد بالحجج والبراهين العقلية والقلبية. من جهة أخرى فقد كان النورسي يرى أن اهتمامه بالمسائل السياسية والحركية الاجتماعية مشوّشا مرعبا على نقاوة الفكرة القرآنية، وتنزيلها على أرض الصراع السياسي البشري، فيصبح خطأ حامل الفكرة تخطيئا للفكرة نفسها.22
II- في مستويات التمثّل التاريخي عند النورسي:
يحضر التاريخ بكثافة في كتابات النورسي، ليس كأحداث ووقائع فقط، وإنما كزاوية نظر تتكامل مع الرؤية الشمولية للكون والحياة. لقد انبنى فكر النورسي على حقائق القرآن الكريم، فلا غرو أن تصطبغ رؤيته للتاريخ الإنساني بصبغة قرآنية، وفي هذا السياق نتساءل: كيف تمثّل النورسي التاريخ؟
يمكن تلمس مستويين اثنين لهذا التمثّل، ولكلّ مستوى نوع حضور متميّز عن الآخر في رسائل النور.
1- التاريخ المثال:
لا يعني التاريخ عند النورسي مجموعة متراكمة من الأحداث والوقائع ترتبط فيما بينها بروابط وأسباب مادية دون قصد أو غاية. بل إن التاريخ حركة بشرية عبر الزمن ترافقها يد المشيئة الإلهية التي تتدخل بوسائل مختلفة لمساعدة هذا الإنسان وتوجيهه نحو الهداية والخير. وتعد النبوة الرحمة الإلهية التي ما فتئ الله سبحانه يكلف بها من اصطفى من عباده لإضاءة مسيرة التاريخ الإنساني.
لب التاريخ وجوهره إذن هو بعثة الأنبياء. وتاريخ الأنبياء عامة وخاتمهم النبي محمد r خاصة، هو النموذج التاريخي الذي نسعى لإتباعه، والمعيار الذي نزن به الوقائع التاريخية.
نذر النورسي جزءا من رسائله لتأكيد حاجة البشرية إلى النبوة المطلقة، وإثبات حقائق وبراهين نبوة محمد r. إنّ تميّز الإنسان عن سائر الحيوانات جعل "النبوة المطلقة في نوع البشر قطب بل مركز ومحور تدور عليه أحوال البشر".23 فالإنسان ميّال بطبعه للإفراط في رغباته وغرائزه، ولا يستطيع أن يدرك حقيقة العدالة بسبب "اللاتناهية المغروزة فيه، وميله إلى التجاوز في طبيعته، وعدم تحدد قواه. وعدم انضباط آماله". وبما أن خلق الكون والإنسان ليس عبثا، والله تعالى منزه عن العبث، فإن حكمة الله اقتضت عدم ترك الإنسانية في تيه وحيرة، من ثمّ تكفّل الله الرحيم بعباده بإرسال مرشدين لها من جنسها.
قال الأستاذ: "إن النبوة التي هي قطب المصالح الكلية ومحورها ومعدن حياتها ضرورية لنوع البشر. فلو لم تكن النبوة لهلك النوع البشري".24 وإذا كان الأمر كذلك في النبوة المطلقة؛ فكيف سيكون في النبوة المخصوصة لمحمد r الذي "هو أستاذ أبناء البشر في سن كمال البشر، ومنبع العلوم العالية في مدرسة جزيرة العرب ومعلمها".25 إنها بدءا ونهاية برهان من براهين وحدانية الله سبحانه.26
لا يقتصر النموذج التاريخي على الأنبياء فقط، بل يأتي بعدهم الصحابة الذين هم أفضل البشر بعد الأنبياء عليهم السلام. وهذه الأفضلية نالوها بفضل تربية النبي r ورعايته، فقد أحدث الرسول r "تحوُّلاً عظيما في مجرى الحياة، سواء في المجتمع أو الفرد، وأبرز الخير والحق وأظهر نصاعتهما الباهرة، وكشف عن خبث الشر والباطل وبيّن سماجتهما وقبحهما".27
ويوضح النورسي ثلاثة أسباب من أسباب كثيرة جعلت جيل الصحابة جيلا فريدا لا يمكن أن يتكرر.
أولا: إن الصحبة النبوية إكسير عظيم، لها من التأثير الخارق ما يجعل الذين يتشرفون بها لدقيقة واحدة ينالون من أنوار الحقيقة ما لا يناله من يصرف سنين من عمره في السير والسلوك. ومن هذا السر نرى أنه لا يستطيع أن يرقى أعظم ولي من أولياء الله الصالحين إلى مرتبة صحابي كريم للرسول الأعظم r.
ثانيا: الصحابة الكرام هم في قمة الكمال الإنساني، فقد وُهبوا فطراً سليمة ومشاعر سامية، وشدوا أنظارهم إلى الذي تسنَّم ذروة الكمال والداعي إلى الخير والصدق والحق، بل هو المثال الأكمل والنموذج الأتم، ذلكم الرسول الكريم حبيب رب العالمين محمد r، فبذلوا كل ما وهبهم الله سبحانه من قوة للإنضواء تحت لوائه، بمقتضى سجيتهم الطاهرة وجبلتهم النقية.
ثالثا: سمو منزلة العاملين في دائرة النبوة وهم الصحابة الكرام الذين كانوا أقرب النجوم إلى تلك الشمس الساطعة. فلا يمكن اللحاق بهم في اجتهادهم وعبادتهم وجهادهم.
تأخذ هذه الفترة الزمنية إذن صبغة الأنموذج المحتذى والمثال المبتغى، والذي تحرص كل نفس مؤمنة على الاقتراب من دائرته. "فالصحابة الكرام هم مؤسسو الإسلام، وجذور شجرة الإسلام المنيرة، وبداية الخطوط الأساسية لبناء الإسلام، وركيزة المجتمع الإسلامي وأئمته، وأقرب الناس إلى شمس النبوة المنيرة وسراج الحقيقة".28
لم تبق الأوضاع على ما كانت عليه في عهد الصحابة الكرام البررة، ففقدت الدعوة ملامحها النبوية الكريمة، فتحوّلت تدريجياً بمرور الزمن حتى غطت اللطائف في نوم عميق، وغفلت المشاعر والحواس وانصرفت عن الحقائق ففقدت الأجيال اللاحقة شيئاً فشيئاً قدرتهم على استشعار حلاوة الكلمات الطيبة ومنعت من التسرب إلى قلوب المؤمنين، فغدت لديهم كالثمار الفاقدة لطراواتها ونضارتها، حتى لكأنها جفت ويبست ولم تعد تحمل لهم إلا نزراً يسيراً من خصائصها الطيّبة، لا تستخلص إلا بعد إعمال الذهن والتفكر العميق، وبذل الجهد وصرف الطاقة، لذا فالصحابي الجليل الذي ينال مقاماً وفضيلة في أربعين دقيقة لا يناله غيره إلا في أربعين يوماً، بل في أربعين سنة، وذلك بفضل الصحبة النبوية الشريفة.29
2- التاريخ العبرة:
ارتبط التاريخ في الثقافة الإسلامية بالعبرة والاعتبار، انسجاما مع الخطاب القرآني الذي أورد عددا من قصص الأنبياء والأقوام السابقة، بقصد ضرب الأمثال وأخذ العبر المناسبة. قال تعالى:﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾ ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ﴾، ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الاَبْصَار﴾.
وتعني العبرة الحكمة الناتجة عن التفكّر في الحدث من حيث أسبابه ونتائجه. ثم اتّخاذ هذه الحكمة دليلا ونورا لخوض مجاهيل المستقبل.
يأخذ التاريخ عند النورسي، في المرتبة الثانية، هذه الصفة "الاعتبارية". إنه يحتوي من الحكم ومن الدروس ما يكفي لتعلًّم الأمة أصول التمييز بين الخير والشر، وبين العدل والظلم. والمتأمل في رسائل النور يجد استشهادات وأمثلة تاريخية كثيرة تندرج ضمن سياق الاعتبار والاستفادة من تجارب الأمم الماضية.
ولما كانت أسباب هزيمة المسلمين تتمثل في الابتعاد عن الدين وإهمال أركانه، ونشوء القومية البغيضة المؤدية إلى الفرقة، فإنّ العبر التاريخية التي يجب أن تنتبه الأمة إليها تدور حول قضيتين رئيستين: التشبت بالدين وإقامة فرائضه، والالتزام بالوحدة ونبذ كل عوامل الفرقة.
حسب النورسي فإن "التاريخ يرينا أنه متى ما كان المسلمون متمسكين بدينهم فقد ترقوا بقدر تمسكهم بدينهم، بينما تدنوا كلما بدأ ضعف الدين يدب فيهم. بخلاف ما يحدث لأصحاب الأديان الأخرى، إذ متى ما تمسكوا بدينهم فقد أصبحوا كالوحوش الكاسرة، ومتى ماضعف لديهم الدين ترقوا في مضمار الحضارة".30 إنها خاصية أساسية تميزنا عن الغرب، فلا نقاس بهم.
التجارب التاريخية الإسلامية كلّها تؤكّد هذه الحقيقة. يستشف هذه المعاني المتأمل في تاريخ الأمة الاسلامية، فقد كانت قوية خلال قرونها الأولى، عندما كانت الدعوة متميّزة بإخلاص أفرادها، وكان التزام أهلها بالشريعة واسعا عاما، وعندما خَلَفَ من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الإخلاص واتّبعوا الشهوات بدأت إرهاصات هزيمتهم الحضارية. وحال الأفراد لا يختلف عن حال الأمم والدول، فالدول الإسلامية التي تأسست على عمد الإصلاح الديني الراشد نظرا وتدبيرا انتصرت وبلغت أقصى الأطراف في فتوحاتها، وعندما دبّ في أوصالها الافتتان بالدنيا، فرّطت في أمر ربها، وجاءتها الهزائم تترى الواحدة بعد الأخرى.
العبرة الثانية التي عليها مدار نظرة النورسي للتاريخ هي مسألة القومية. يرفض النورسي التفسير القاصر لوقائع الفتنة الكبرى التي ترجع كلّ عللها إلى نفر قليل من اليهود، ويؤكّد على دور القومية في ذلك الانكسار التاريخي المفجع.
قال النورسي: "إن الذي كان وراء حوادث الفتن ليس هو عدداً قليلاً من اليهود... إذ بدخول أقوام كثيرة متباينة إلى حظيرة الإسلام، تداخلت واختلطت تيارات متناقضة وغير متجانسة في باطنها مع عقيدة الإسلام. وبخاصة أولئك الذين أصيب غرورهم القومي بالضربات القوية من يد سيدنا عمر t. فكانوا يضمرون في نفوسهم الانتقام... لذا فقد كانوا يحملون إحساساً بالانتقام من خلافة الإسلام".31
وأظهر بعضهم في السياق نفسه أنّ الصراع بين الإمام الحسين والأمويين هو صراع بين الدين وبين القومية. وقومية هذا شأنها تنبني بطبيعتها على أسس ظالمة عنصرية. ولذلك فهي تفرّق بدل أن توحّد. وإذا كان يمكن التمييز –حسب النورسي– بين قومية إيجابية تناصر الدين "التعدد القومي في إطار الوحدة الاسلامية"، وبين قومية سلبية تعادي الدين، إلا أنّ الفكر القومي المنتشر حاليا هو الفكر السلبي الذي يثيره الأوربيون الماكرون حتى يمزقوا العالم الاسلامي ويسهل عليهم ابتلاعه.32
ظهرت طوال التاريخ أضرار كثيرة نجمت عن القومية السلبية: فقد خلط الأمويون شيئا من القومية في سياستهم فأسخطوا العالم الإسلامي وقامت فتن وبلايا بسبب سياسة قائمة على أساس الفرز القومي. ونتائج الأساس القومي للعلاقات بين المجتمعات وخيمة في المجتمعات الإنسانية قاطبة، وآثارها مرعبة مدمّرة، لا يمكن لعقال بسبب آثارها التدميرية مناصرتها، وأبرز مثال على ذلك في العصر الحديث الصراع القومي بين الفرنسيين والألمان، فقد نجمت عنه حوادث مريعة ودمار رهيب.
والخلاصة أنّ طريق التقدّم أمام المسلمين يمرّ عبر استفادتهم من أحداث التاريخ وأخذ العبر المناسبة حتى لا نكرر الأخطاء نفسها، ونضيّع فرصة التأهُّل لنيل رحمات الله سبحانه.
III- في تفسير التاريخ عند النورسي:
1- غاية التاريخ:
إن فكرة غاية التاريخ، مستجلبة من سر نقل خَبَرِ من غَبَرَ لأجل استجلاب العِبَرِ، وهو المعنى المستفاد من سر القصص في القرآن الكريم، بل وقصة الحياة الإنسانية نفسها، ذلك أنّ صناعة التاريخ هي العلاقة السننية بين الدنيا بالآخرة، فبقدر الارتباط بالآخرة تصنع التاريخ، وهي التي تعطي "معنى الوجود"، ومن هذا المفهوم المركزي صاغ النورسي رؤيته للتاريخ.
إنّ الله تعالى لم يخلق هذا الكون عبثا. ولما كان الإنسان هو مركز هذا الكون و "ثمرته" فإن وجوده وحركيته لهما معنى ومغزى. فحياة الإنسان هي اختبار وامتحان، وبعد موته يتلقى جزاءه إما خيرا أو غير ذلك.
إنّ إيماننا بحياة أخرى نفضي إليها بعد موتنا، وهي حياة أبدية خالدة لا نهاية لها، يضفي على التاريخ معنى. فلا تعود أحداث التاريخ أشتاتا لا ناظم لها، كما لا يعود الزمن التاريخي بلا هدف، بل إنّه زمن بدايته معروفة ونهايته معلومة. يبدأ هذا التاريخ منذ أراد الله خلق الإنسان وحقق إرادته بخلق آدم، وينتهي بيوم القيامة. وهو تاريخ لا يسير في طريق مستقيم نحو التقدّم كما يعتقد الوضعيون، بل هو صراع مستمر بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين العدل والظلم.
يستعمل النورسي كثيرا كلمة التقدّم، لكنّه لا يقصد المفهوم المادي الذي ينظر الى التقدّم كقيمة مطلقة تتحقّق بالضرورة مع مرور الزمن. يعني التقدّم تحقيق الانسان لحقيقة الاستخلاف في الأرض، وإقامة الشريعة. ومن ثمّ فإنّ مسيرة الإنسان تتأرجح بين التقدم وضده. وما تزعم المدنية الغربية لنفسها من تقدّم فهو على وجهين: جزء هو شر ووبال على الإنسانية كصناعة الأسلحة المدمّرة، والسفاهة الأخلاقية، والصراعات القومية. وجزء إيجابي يخدم الانسانية، هو في الأصل من تأثيرات الشرائع السماوية، كالنظام، والقانون، والشورى، والعدل...
إنّ التقدّم هنا لا يكفي نفسه بنفسه بل يحتاج لشيء متعال يقرر حقيقته. وليس هناك سوى الشريعة معيارا لمحاكمة حقيقته.
يعتبر النورسي أنّ غاية التاريخ إيجابية تتمثل في تحقيق الحرية والعدالة للإنسان: الحرية بالعبودية لله سبحانه. وانطلاقا من ذلك فإنّ المشروع الحضاري لكلّ الشرائع السماوية يسعى لبلوغ الحرية والعدالة، حيث هما شرطان لتحقق التكليف الشرعي. وبالرغم من قوة الباطل وجبروته، فإنّ التاريخ يسير في اتجاه "التقدّم" أي تحقيق الشريعة. ولذا فإنّ المستقبل يكون للإسلام لا لغيره.
2- مراحل التاريخ:
جاء في كتاب صيقل الإسلام: "وأقصد من أبناء الماضي أولا: القرون الأولى والوسطى لما قبل القرن العاشر لغير المسلمين. أما الأمة الإسلامية فهي خير أمة في القرون الثلاثة الأولى، وأمة فاضلة عامة إلى القرن الخامس، وما بعده حتى القرن الثاني عشر أعبّر عنه بالماضي. أما المستقبل فأعده ما بعد القرن الثاني عشر".
يلخص هذا النص التحقيب الجديد الذي يقترحه النورسي للتاريخ. والملاحظ أنه تحقيب لا يراعي استمرارية الزمن وتواصله، بل ينبني على معايير إيمانية وأخلاقية وحضارية. وهو تحقيب يشمل ثلاث مراحل تارخية: الماضي –أمة الخيرية والأفضلية– المستقبل.
- رمزية الماضي:
يدخل ضمن الماضي تاريخ غير المسلمين وتاريخ المسلمين في عصور الانحطاط "مابين القرنين الخامس والثاني عشر هجري". ما الذي يجمع بين هذه الأزمنة والمجتمعات المختلفة؟
في الماضي "كان السائد في الأغلب هو: القوة، والهوى، والطبائع، والميول، والأحاسيس، لذا فإنّ إحدى سيّئاته أنّه كان هناك في كلّ أمر من أموره –ولو بصورة عامة– تحكّم واستبداد... ومداخلة الالتزام والتعصب... والانحياز المانع عن كشف الحقيقة".33 يصبح الماضي هنا رمزا للمعصية والابتعاد عن الشريعة. فمتى ساد الباطل وتقهقر الحق فثمة الماضي.
رمزية أمة الخيرية والأفضلية:
تمثل القرون الثلاثة الأولى بعد النبوة فترة الخيرية بدلالة نص الحديث النبوي، ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود t، عن النبي r أنّه قال: "خيرُ الناسِ قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: ثم يَتَخَلَّفُ من بَعْدِهِم خَلَفٌ تَسْبِقُ شهادةُ أحدهم يمينَه ويمينُه شهادتَه". أسفل النموذج.
تُعَدُ هذه المرحلة التاريخية وحيدة في تاريخ الإنسانية، جمع الله فيها عددا هائلا من أهل الصلاح والخير، فقد "كان المهيمن في خير القرون وعصور السلف الصالح هو الحق والبرهان والعقل والشورى، ولم يكن للشكوك والشبهات موضع". أما بعد هذه القرون الثلاثة فقد تراجع التشبّث بالحق والعدل، إلاّ أنّ الأمة حافظت على مرتبة الأفضلية بما بقي فيها من صلاح وطاعات.
- رمزية المستقبل:
أدخل النورسي المستقبل ضمن التاريخ باعتباره مرحلة بالرغم من أنّها لم تأت بعد إلا أنّ حقيقتها أصبحت ماثلة أمامه معلومة لديه. المستقبل للإسلام هذه حقيقة كان يراها النورسي رأي العين. وقد تحقق له ذلك بالبراهين العقلية والكشوفات الرحمانية. ولا يمل من تكرار هذه الحقيقة وتقديم الحجج المقنعة خلال كل كتابته. ثم إنّ هذا المستقبل الموعود هو الامتداد الطبيعي لأمة الخيرية.
3- التاريخ والقدر:
خصّص النورسي رسالة خاصة في القدر "الكلمة السادسة والعشرون" محاولا من خلالها بيان أسرار مسألة "القدر الإلهي والجزء الاختياري". ويرى أن "المؤمن يعطي لله كلّ شيء، ويحيل إليه كلّ أمر... ولكي لا ينجو في النهاية من التكليف والمسؤولية يبرز أمامه الجزء الاختياري قائلاً له: أنت مسؤول، أنت مكلف".34
إنّ القدر الإلهي يعني تصرّف الله في كلّ شيء، غير أنّه منزه عن القبح أو الظلم، فالله سبحانه لا يفعل إلا ما فيه خير الإنسان. إلاّ أنّ هذا الإنسان لا يفهم سر الحكمة الإلهية التي تظل كثيرا مخفية عن إدراكه.
وهذا لا يعني أنّ الإنسان مُسَيَّرٌ في أفعاله، كما لا يعني أنّ المجتمع البشري موجّه في حركيّته التاريخية بشكل خارج عن اختياره، بل إنّه يملك المساحة الكافية للفعل التاريخي الحرّ القائم على الاختيار بين مسارات متعددة.
تقف رؤية النورسي للحدث التاريخي بين رؤيتين مفَرّطتين: النظرة الغيبية التي تغيّب الفعل البشري في حركة التاريخ وتجعل الأمر جبرية صارمة لا يملك الإنسان إلا أن يخضع لها، والنظرة المادية التي تغيّب القدر الإلهي وتلصق بالإنسان صفة الهيمنة والإنفراد بالتصرّف.
الحدث التاريخي من فعل الإنسان، لكنّ الله يفعل في الحدث التاريخ وفق قانون القدر الإلهي الموجود بوضوح في كل حادثة تاريخية. قال الأستاذ: "إنّه مهما كان الإنسان فاعلا ذا اختيار إلاّ أنّ المشيئة الإلهية هي الأصل، والقدر الالهي حاكم مهيمن والمشيئة الالهية ترد المشيئة الانسانية، بمضمون قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.الإنسان:٣٠
يترتب على ذلك أنّ كلّ حدث تاريخي هو حدث إيجابي مهما تبيّن لنا فيه من ألم أو مصائب. لأنّ كل حدث يحمل حكمة ورحمة ربانيتين تسعيان لإسعاد هذا الانسان وتطهيره من النقائص.
في جواب عن سؤال حول فاجعة الإمام الحسين t يقدّم النورسي قراءة عميقة لهذا الحدث التاريخي الذي يمكن عدّه حدثا مفصليا في انقسام الأمة الإسلامية. تبدأ القراءة بإبراز دور الفعل البشري، حيث أن المحيطين بالإمام –باستثناء المقرّبين– كان يوجّههم التعصّب القومي لا خدمة القضية. فجاء الخذلان من فساد النية. ثم ينتقل لاكتشاف الحكمة من زاوية القدر الالهي مبيّنا أنّ الله سبحانه كان يهيّئهم لتَسَنُّم سلطنة الأولياء المعنوية بدل السلطنة الدنيوية الفانية، فأراد أنْ يُطَهِّرَهُم من هذه الدنيا وما علق في قلوبهم منها. فكان هذا الحدث الذي نراه بأبصارنا الحاسرة مصيبة، فتحا وترقية في عالم الولاية.35
لم يكن النورسي غافلا عن الأسباب المادية الفاعلة في حركة التاريخ، إلاّ أنّه كان ينظر إليها كنواميس كونية متممة لخطة القدر. وتبرز التفسيرات المادية في كثير من الأحداث التاريخية التي أوردها النورسي. ويكفي أن نذكر هنا تفسيره لمعضلة العصر: رُقي أوربا وتخلّف المسلمين؟ حيث يُقَدِّم تحليلا يبرز قوة الفكر التاريخي عند النورسي وقدرته على ربط الأسباب والعلل وفق منظور علمي دقيق.
يذكر الأستاذ أنّ التفاوت بين أوربا والعالم الإسلامي راجع لأسباب ملحوظة أهمها:
الوضع الفطري لأوروبا، ومنبع حياتها، فهي ضيقة، جميلة، تملك الحديد، متعرجة السواحل، تلتف فيها الأنهار والبحار، مناخها بارد. وهذا جعلها تستقطب ربع البشرية رغم أنّ مساحتها الصغيرة، ولكون إنتاج الأرض لا يستوعب تلك الحاجات التي تتزايد باستمرار، تصبح الحاجة إلى الاختراع والصناعة ضرورية، كما يغدو حب الاستطلاع والميل الى المعرفة بابا للعلم والتقدم.
ثم إن كثرة البحار والأنهار، تتيح التعارف وتطور التجارة، والتعاون والاشتراك في الاعمال، مثلما يحقق تلاحق الأفكار والمنافسة والتسابق. ونتج عن هذا التنافس صناعة الأسلحة التي أثقلت كفة أوربا.
ومن الأسباب الأخرى أيضا قوّة الكنيسة النصرانية، التي تُشَكِّلُ نقطة استناد قوية تُعَزِّزُ قوّة أبنائها المعنوية وتبعث فيهم الحياة.
أما من جهة المسلمين فإنّ ابتعادهم عن نقطة ارتكازهم وهي الإسلام والقرآن الكريم، وإشاحة وجههم عن قراءة كتاب الله المنظور "نواميس الكون وقوانينه" هي أسباب هزيمتهم.36
غير أنّ كلّ هذه العلل والقوانين –في نظر النورسي– لا تخرج عن فاعلية القدر الإلهي وحكمه، إنّ القدر يهيء المستقبل للإسلام. فالتقدّم الغربي ومستلزمات مدنيته أصبحت عبئا ثقيلا يعيق مسيرته، في حين أن العالم الاسلامي لا زال في طور شباب المدنية، لذا فإننا "سنلحق بهم بل نسبقهم إنْ حالفنا التوفيق الالهي لأنّ حملهم ثقيل وحملنا خفيف".37
خاتمة:
كان النورسي واحدا من مجددي المائة الرابعة عشرة. هيّأه الله تعالى لإنقاذ إيمان أمة كان دورها عظيما في نصرة الاسلام والدفاع عن حرماته، لكنّ مكر الاستعمار الشيطاني استطاع أن يغرّر بكثير من أبنائها ليقذفهم في حمأة الإلحاد وإنكار جواهر هذا الدين.
وقد استطاع النورسي، من خلال تجذّر إيمانه بحقيقة الإسلام، ووعيه بمتغيرات العصر وتحوّلاته العميقة أن يبلور مشروعا نفّذه بكل حزم وصبر بالرغم من جسامة المحن وعظم البلاء.
نعتقد أنّ توفيق الله وتأييده قد أحاط بشخصية لها وعي رصين بالتاريخ ونفاذ بصيرته لفهم التحولات السريعة التي كان يمر منها العالم عامة وبلاد المسلمين خاصة، استطاع بما وهبه الله من حدّة ذكاء ونفاذ بصيرة أنْ يقوم بهذا الدور العظيم في بعث أمة من موتها.
وفي سياق مواز فإن النورسي بلور "فلسفة تاريخية" تستمد من روح القرآن الكريم، وتستلهم دروسه الكثيرة. وقامت هذه الفلسفة على النظر إلى التاريخ كمجال لحركة الإنسان وإبداعه في ظل الرعاية الربانية المتمثلة في التوجيه والهداية عبر السلسلة النورانية للأنبياء والرسل، ومن ثمّ فإنّ هذا الإنسان يصلُح تاريخه كلّما اقترب من هذه الرحمة الالهية، ويُظلم مساره كلما غرق في الكفر وابتعد عن مصدر النور.
* * *
الهوامش:
1 محمد أحمد بكور، باحث مسجل لنيل الدكتوراه في التاريخ المعاصر، طنجة، المغرب.
2 النورسي، صيقل الإسلام، ص: 64
3 شكران واحدة، الإسلام في تركيا الحديث: بديع الزمان النورسي، ترجمة محمد فاضل، طبعة 2007. ص: 45.
4 شكران واحدة، ص: 26. وتضيف الباحثة: "كان النورسي يفهم أي كتاب يقرأه دون معونة أحد، وكان يقرأ في اليوم الواحد ما يقارب من مائتي صفحة أو يزيد من متون أمهات الكتب مع الفهم التام إلى حد أنه ما كان يسأل سؤالا عن أي علم كان إلا ويجيب عنه إجابة شافية".27.
5 نفسه، ص: 31. سيرة ذاتية، ص: 65.
6 شكران، ص:30.
7 شكران، ص:34. "بنهاية القرن كانوا "البروتستانت الامريكان" قد أقاموا ما يقرب من أربعمائة مدرسة في جميع أنحاء الامبراطورية تتسع لأكثر من ثلاثين ألف طالب. ووفرت هذه الرساليات تعليما متميزا كان هدفه الرئيسي هو أن يعتنق الناس المسيحية... لقد دمرت هذه الارساليات التبشيرية الدولة العثمانية بشدة من عدة جهات، وكانت تمثل إحدى العقبات الرئيسية أمامها... وقامت هذه الرساليات بعمل الكثير، بالتعاون مع القوى العظمى خاصة روسيا وبريطانيا، لتأييد الحماس الوطني لإظهار القضية الأرمنية." ص:35.
8 شكران، ص: 36. "في تيللو رأى مناما دفعه أن يبدأ عمله كمصلح بين القبائل ورجل دين بشكل عام، حيث رأى في المنام الشيخ عبد القادرالكيلاني وهو يخاطبه قائلا: ملا سعيد، اذهب إلى مصطفى باشا، رئيس عشيرة ميران"، وادعه الى الهداية والرشاد والاقلاع عن الظلم، وليقم الصلاة ويامر بالمعروف. واقتله ان لم يستجب".
9 سيرة، ص: 58.
10 محمد نامق كمال (1840-1888/ 1256-1306هـ) شاعر وكاتب تركي، أحد مؤسسي جمعية تركيا الفتاة. بث أفكاره من خلال مقالاته الصحفية المتعددة. كان متأثرا بأفكار الثورة الفرنسية، وكان يؤمن بحاكمية الأمة التي تتجلى مهمتها في حماية العدالة التي لا تتحقق الا من خلال الشريعة الاسلامية. انظر مقال "الحاكمية عند المفكرين الأتراك"، بسطامي محمد سعيد خير، موقع المختار الاسلامي:
http://www.islamselect.com
11 شكران، ص:45.
12 انتقل اليها على الأرجح ما بين عامي (1895 و1896م) عندما كان في التاسعة عشر أو العشرين من عمره. واحتضنه الوالي طاهر باشا الذي كان راعيا للعلم والتعلم، شغوفا بتتبع أخبار التطورات العلمية. كما كان يمتلك مكتبة ضخمة. واستمر في دعم بديع الزمان حتى وفاته عام 1913. شكران، ص: 54.
13 شكران، ص: 48
14 كان الهدف الرئيسي للملا سعيد هو انشاء جامعة في شرقي الاناضول... وقد أطلق على هذه الجامعة اسم "مدرسة الزهراء" على غرار جامعة الأزهر في القاهرة... ويتم بها تدريس العلوم الطبيعية جنبا الى جنب مع العلوم الدينية. شكران، ص: 57.
15 سيرة، ص:65.
16 نفسه، ص: 66.
17 كان النورسي يقصد بهذا الاسم اتحاد المسلمين تحت راية النبي محمد r. ورفض اتخاذ جمعية، أسست بإسطنبول، لهذا الاسم الذي هو ملك للأمة جمعاء. واحتلت فكرة الاتحاد الأولوية لدى النورسي... ومن خلال دراسة كتابات النورسي يتبين أنه ركز على الاتحاد على اختلاف مستوياته. وفي كل خطبه ونصائحه لأتباعه يحث النورسي على الاتحاد. شكران، ص.108
18 انظر المحاكمات، ص: 60.
19 سيرة، ص: 84، ملحق اميرداغ 2، ص: 386.
20 صيقل، ص: 495.
21 المكتوب الثالث عشر، ص: 58.
22 صيقل، ص: 361.
23 صيقل،138.
24 نفسه، 140. "فإذا قلت إننا نشاهد أن أحوال الملحدين أو ذوي الأديان المنحرفة تجري على وفق العدالة والانتظام. الجواب: إن تلك العدالة والانتظام انما نشأ بتذكير أهل الدين وارشاداتهم. فأسس العدالة والفضلية شيدها الانبياء عليهم السلام... ثم أخذ هؤلاء بالفضيلة وعملوا بها".
25 نفسه، ص: 141.
26 يذكر أربعة براهين على حقيقة "لا إله إلا الله": البرهان الأول هو محمد r. والثاني: هذا الكون وذلك الانسان الأكبر، ذلك الكتاب الكبير المنظور. الثالث هو القرءان الكريم. الرابع هو الوجدان الحي أو الفطرة الشاعرة الذي يمثل نقطة اتصال عالمي الغيب والشهادة. المثنوي العربي، ص: 421.
27 الكلمات، ص:573.
28 الكلمات، ص:580.
29 الكلمات، ص:576.
30 صيقل الاسلام، ص: 351.
31 المكتوب الخامس عشر، ص: 64.
32 المكتوب السادس والعشرون، ص: 414.
33 صيقل الاسلام، ص: 50.
34 الكلمات، ص:541.
35 المكتوبات، ص: 69.
36 صيقل الاسلام، ص: 368.
37 صيقل الاسلام، ص:51.
Primary Language | Arabic |
---|---|
Journal Section | ARTICLES |
Authors | |
Publication Date | December 1, 2013 |
Published in Issue | Year 2013 Volume: 8 Issue: 8 |