This study introduces excerpts from the Risale-I Nur Collection. It brings about a focus to two areas: Islamic fundamentals and jurisprudence. The study shows how Nursi utilized topics from the two areas in order to achieve unity of hearts, although those topics have been debated for centuries. This study also aims to help us reconsider how we treat the problem of differing views in Jurisprudence with particular insight from Nursi’s perspective and puts before us several scientific rules that Nursi used for pushing away division and disharmony. Indeed, these rules are worthy of being considered essential for bringing hearts together.
يف ق معتن نأ انل اهدعبو ،انعوضومب ةلصلا تاذ لوصلأاو هقفلا ثحابم يف قمعت ىلإ امو ،نيتيضقلا نيب طبرلا اهنم فشتسن قيقد يملع يعوضوم ليلحتب رونلا لئاسر نيملسملا بولق ةدحو قيقحتو هلوصأو هقفلا يسرونلا اهب عمج يتلا ةيملعلا ةقيرطلا
توحيد القلوب في رسائل النور – رؤ
توحيد القلوب في رسائل النور
– رؤية أصولية فقهية –
–ABSTRACT–
The Union of Hearts in the Risale-i Nur (According to the Principles of Fiqh)
Dr. Umid Najm al-Din Jamil al-Mufti
Oftentimes, contemporary Muslims feel that it is important to find methods that can help achieve unity between them, especially given that Muslims have different methods of thinking. Although Muslim scholars and thinkers throughout Islamic history tried to achieve this noble goal, the approach characterized by Nursi seems to be more objective, in addition to the fact that it focuses more on the mental state of man and the understanding of Islam.
This study introduces excerpts from the Risale-I Nur Collection. It brings about a focus to two areas: Islamic fundamentals and jurisprudence. The study shows how Nursi utilized topics from the two areas in order to achieve unity of hearts, although those topics have been debated for centuries. This study also aims to help us reconsider how we treat the problem of differing views in Jurisprudence with particular insight from Nursi's perspective and puts before us several scientific rules that Nursi used for pushing away division and disharmony. Indeed, these rules are worthy of being considered essential for bringing hearts together.
***
– ملخص البحث –
د. أميد نجم الدين جميل المفتي1
كثيراً ما يشعر المسلمون في هذا العصر بضرورة إيجاد الوسائل والأدوية الناجعة التي من شأنها مساعدتهم لتحقيق الوحدة فيما بينهم قلباً وقالباً، على الرغم من تشتت طرق التفكير واختلاف الوجهات والمذاهب، وقد حاول العديد من أهل الفكر والصلاح في التاريخ الاسلامي تحقيق هذه الغاية النبيلة، إلاّ أنّ الطريقة التي رسمها بديع الزمان النورسي في هذا العصر طريقة تتصف بالدقّة والموضوعية، المؤيّدة بالأدلة النقلية والعقلية، فضلاً عن كونها ذات قطوف دانية سلسة لمختلف الأفكار والتوجهات والمذاقات. وهذه الدراسة تضعنا أمام نصوص من رسائل النور، وهي تهدف إلى تحقيق توحيد القلوب، وركزت على الجانب الفقهي والأصولي، ودرست كيفية توظيف بديع الزمان لمسائل من العِلمين بغاية تحقيق توحيد القلوب بين المسلمين، مع أن زمن الخلاف فيها يرجع إلى مئات السنين. وكذلك تريد الدراسة هذه إعادة النظر في مسالك التعامل مع مسائل الاختلافات الفقهية والأصولية، وترشدنا هذه الدراسة إلى الاعتماد على الرؤية النورسية. وتجعل أمامنا عدداً من القواعد العلمية اعتمدها النورسي لدفع الفُرْقَةَ والتفرّق، وهي قواعد حَرِيَّة بجعلها أساساً في توحيد القلوب في مختلف ميادين المعرفة والعلوم.
***
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
قد يثير عنوان الدراسة استغراب بعض الباحثين، فيتساءل ما علاقة مباحث فقهية وأصولية بتوحيد القلوب والكلمة؟ ثم له أن يتساءل أيضا صلة رسائل النور بالمباحث الفقهية والأصولية؟ وهل فيما كتب النورسي ما يسعفنا في الربط بين المباحث الفقهية والأصولية من جهة وتوحيد القلوب من جهة أخرى؟ والإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى تعمق في مباحث الفقه والأصول ذات الصلة بموضوعنا، وبعدها لنا أن نتعمّق في رسائل النور بتحليل موضوعي علمي دقيق نستشف منها الربط بين القضيتين، وما الطريقة العلمية التي جمع بها النورسي الفقه وأصوله وتحقيق وحدة قلوب المسلمين على الرغم من اختلاف الوجهات.
إنّ المتمرّس برسائل النور مضمونا ومنهجا لا يستغرب ربط توحيد القلوب بمباحث الفقه وأصوله، ويكاد التعجّب أن يضمحل بسرعة البرق، بمجرد الاقتراب من رسائل النور وقراءة أولية لمضامينها، ذلك أنّ مصنّف الرسائل الأستاذ النورسي كان فقيهاً بكل ما يعنيه مصطلح الفقيه من معاني حقيقية ودقيقة،2 ولم يكن صاحب قدم راسخة في التنظير الفقهي فحسب، بل كان مشبعاً بالتدبير الفقهي، وكان فضلاً عن هذا رائداً متميزاً في مجال التنظير لتوحيد الصفّ والكلمة والقلب، وعاملاً بمقتضى هذه المعاني في شعاب الحياة، وقد جمعت رسائل النّور على مائدتها الثرية: الصغير والكبير، والمسلم وغيره، والذكر والأنثى، والعالِم والأميّ، فلا تُحدّ حُدودُ بركتها مع اختلاف المكان والزمان واللغات... فهي بحق ملتقى الوجهات المختلفة والآراء المتباينة، وتعالج التشتت والتشرذم بالحكمة القرآنية والأنوار الإلهية معالجة دقيقة، بحيث لا يرى بعد العلاج أي أثر للجراح.
أدرك بديع الزمان هذه الحقيقة والميزة النبيلة للرسائل، حيث قال: "... فالمتعصب في تشيعه، والمغالي في وهابيته، وأشد الفلاسفة مادية وعمقاً في العلم، وأكثر العلماء أنانية وتزمتاً، قد بدأوا بالدخول معاً في دائرة النور ويعيش قسم منهم الآن إخوة متحابين في تلك الدائرة، حتى إن هناك أمارات بدخول مبشرين نصارى من الروحانيين الحقيقيين في تلك الدائرة، لما يشعرون بضرورة الترابط والمصالحة، طارحين مواد المناقشة والمنازعة جانب".3
نحاول من خلال هذه الدراسة -قدر المستطاع- إبراز اللآلئ والكنوز الموجودة في رسائل النور، والتي تخص توحيد الكلمة والصف والقلوب بين المخلوقات عموماً وأهل التكليف منهم خصوصاً، اجتهدت في التركيز على مباحث فقهية وأصولية -حسب تخصص الباحث، والتي لها صلة وثيقة وعضوية بتحقيق توحيد القلوب، سعياً لخدمة رسائل النور، فكان عنواننا المختار يشف عن مباحث التي لم تنل حقها من الدراسة والتحقيق والتحليل الملائم، ولم يكن لنا إلا التنبيه على مباحث لم تكن مطروقة في رسائل النور لكانت كافية، وخاصة إذا ما قورنت بالجوانب التربوية والفكرية والعقدية من الرسائل،4 فأرجو من الله التوفيق.
ولأجل تحقيق القول فيما سبقت الإشارة إليه قسمت العرض إلى مبحثين، الأول: بيان المراد بتوحيد القلوب وأهميته في رسائل النور، والثاني: بيّنا فيه بعض المباحث الأصولية والفقهية ومسالك النورسي تحليلها وربطها بتوحيد القلوب.
أولأ: توحيد القلوب وأهميته في رسائل النور
عمل النورسي على استعادة سجية سرقها الأعداء من المسلمين، ولعلّها من أمتن أسس الرقي والتقدم في فكره وفي حياة المسلمين المعاصرة، وتتمثل هذه السجية في القاعدة الذهبية المشهورة: "إن متّ أنا فلتحيا أمتي، فإن لي فيها حياة"،5 سعى الأستاذ من خلال رسائل النور إلى تقوية أواصر المحبة والأخوة وبناء المجتمع على هذه أسس متينة، وبناءً على القاعدة السابقة وضع بديع الزمان قاعدة: "الفناء في الإخوان" لتحقيق هذه الغاية النبيلة، بمعنى: العيش فكرياً في مزايا الأخوة، والسعي لسدّ حاجته ولإكمال نقصه والتألم لما يصيبه ونصحه بكل لطف، وإصلاحه من غير إظهار حب السيطرة عليه أو إبداء خشونة في حقِّه.6
ولأجل تحقيق التوحيد بين الصفوف والقلوب وضع النورسي جملة من القواعد والأسس، منها: الإيمان والعقيدة، وهو الأهم، ثم التعاون الذي هو من الأسس القرآنية للبناء والرقي، ونبذ الكبرياء والأنانية، والإخلاص، وغيرها.7
النورسي من أكثر المتحمسين لتوحيد صفوف وكلمة المسلمين، لهذا ظلّ الأستاذ يحثّ باستمرار المسلمين على نبذ التفرقة والتشرذم والاختلاف المفضي إلى الحقد وكلّ ما شأنه أنْ تكدر صفو الأخوة والتعاون، بل ذهب الأستاذ إلى أبعد من ذلك حين دعا إلى غلق باب الاختلاف حتى مع غير المسلمين.
قال الأستاذ بديع الزمان: "إن أهل الإيمان والحقيقة في زماننا هذا، ليسوا بحاجة إلى الاتفاق الخالص فيما بينهم وحدهم، بل مدعوون أيضاً إلى الاتفاق حتى مع الروحانيين المتدينين الحقيقيين من النصارى، فيتركوا مؤقتاً كل ما يثير الخلافات والمناقشات دفعاً لعدوهم المشترك المتعدي"،8 ويُذّكِّر النورسي المسلمَ بأمور تجعله يشعر بالحاجة إلى الوفاق والاتفاق قلباً وقالباً، وفي هذه المعاني قال رحمه الله: "إن خالقكما واحد، مالككما واحد، معبودكما واحد، رازقكما واحد... وهكذا واحد واحد إلى أن تبلغ الألف. ثم، إنّ نبيكما واحد، دينكما واحد، قبلتكما واحدة، وهكذا واحد واحد إلى أن تبلغ المائة. ثم، إنّكما تعيشان معاً في قرية واحدة، تحت ظل دولة واحدة، في بلاد واحدة... وهكذا واحد واحد إلى أن تبلغ العشرة. فلئن كان هناك إلى هذا القدر من الروابط التي تستدعي الوحدة والتوحيد والوفاق والاتفاق والمحبة والأخوة، ولها من القوة المعنوية ما يربط أجزاء الكون الهائلة، فما أظلم من يعرض عنها جميعاً ويفضل عليها أسباباً واهية أوهن من بيت العنكبوت، تلك التي تولد الشقاق والنفاق والحقد والعداء. فيوغر صدره عداءً وغلاً حقيقياً مع أخيه المؤمن! أليس هذا إهانة بتلك الروابط التي توحد؟ واستخفافاً بتلك الأسباب التي توجب المحبة؟ واعتسافاً لتلك العلاقات التي تفرض الأخوة؟ فإن لم يكن قلبك ميتاً ولم تنطفئ بعد جذوة عقلك، فستدرك هذا جيد".9
وبيّن مما سلف أنّ الوحدة الإسلامية واتحاد المسلمين في هذا العصر من أوجب الفرائض عند النورسي، الوحدة التي مشربها المحبة، وعدوها الجهل والفقر والنفاق، وبنيان الاتحاد هذا مبني على الهجوم على هذه الأعداء الثلاثة.10
ثانياً: مباحث أصولية وفقهية لها صلة وثيقة بتحقيق الوحدة القلبية في رسائل النور.
أعلن النورسي الحرب على العداوة والتفرق بين المسلمين، وهي مقدمات ونتائج في الوقت نفسه للجهل والنفاق والفقر والابتعاد عن رضوان الله ودينه، وهي مباحث لها صلة بمباحث فقهية وأصولية، وقد أولى الأستاذ لها عناية فائقة، بدراستها وتحليلها بطريقة موضوعية وعلمية وبمنهجية صارمة، فركّز عليها من جهة صلتها بتوحيد القلوب وتحقيق الأخوة والإخلاص، والابتعاد عما يكدر صفو العلاقة الأخوية بين المسلمين عموماً وأهل العلم منهم خصوصاً، ومن جملة المباحث الأصولية التي توقّف عندها محللاً ومستثمراً: مسائل من مبحث الاجتهاد الأصولي كمسألة تصويب وتخطئة الاجتهادات الفقهية، كما نجد له عناية بمنزلة النص من الاجتهاد، والاجتهاد الجماعي والشورى، وأهمية بابي التقوى والورع للمجتهد. ومن المباحث المتعلقة بالفقه والمذاهب الفقهية التي طرقها بغاية توظيفها في توحيد القلوب وجمع الكلمة: المذاهب الفقهية بين القبول والرد، ومبحث الاختلاف الفقهي، والتعصب المذهبي، ومسائل فقهية متفرقة...
يحاول الباحث عرض ملخص ما أشار إليه النورسي في رسائل النور من قضايا فقهية وأصولية وبيان كيفيات استثمارها في توحيد القلوب وجمع الكلمة.
1- المباحث الأصولية:
أ. ترجيح اتجاه المُصَوِّبة على المُخَطِّئة في الأمور الاجتهادية:
يمثّل المُصَوِّبةُ والمُخَطِّئة اتجاهان في الفكر الأصولي، أشبعت الكتب الأصولية عرضهما وتفصيل أدلة كلّ فريق منهما،11 انتصر الأستاذ النورسي في رسائل النور لرأي المُصَوِّبة مرجحا إياه على المخطّئة، وخاصة في سياق التعامل مع اجتهادات المجتهدين، ومقتضى رأي المصوّبة أنّ تعدد الحق لتعدد الأعراض المرتبطة به. فالحق واحد، والحقيقة واحدة، ولكن العوامل الخارجية متعددة، وهذه العوامل تتضافر لتحدث للحق الواحد أعراضاً مختلفة ومتعددة، تؤدي في النهاية إلى القول بتعدد الحق مجازاً.
مثّل النورسي لتقرير هذا الأمر -كما هي عادته- بمثال توضيحي، فقال: "إنْ قلت: إنّ الحق واحد، فكيف يمكن أن تكون الأحكام المختلفة للمذاهب الأربعة والاثني عشر حقاً؟ الجواب: يأخذ الماء أحكاماً خمسة مختلفة حسب أذواق المرضى المختلفة وحالاتهم: فهو دواء لمريض على حسب مزاجه، أي: تناوله واجب عليه طباً. وقد يسبب ضرراً لمريض آخر فهو كالسم له، أي: يحرم عليه طباً، وقد يولد ضرراً اقل لمريض آخر، فهو إذن مكروه له طباً، وقد يكون نافعاً لآخر من دون أن يضره، فيسنّ له طباً، وقد لا يضر آخر ولا ينفعه، فهو له مباح طباً فليهنأ بشربه".
وبيّن من الأمثلة السالفة كما قال النورسي في السياق نفسه: "إن الحق قد تعدد هنا، فالأقسام الخمسة كلها حق، فهل لك أن تقول: إن الماء علاج لا غير، أو واجب فحسب، وليس له حكم آخر؟. وهكذا -بمثل ما سبق- تتغير الأحكام الإلهية بسَوْقٍ من الحكمة الإلهية وحسب التابعين لها. فهي تتبدل حقاً، وتبقى حقاً، ويكون كل حكم منها حقاً، ويصبح مصلحة".12
فمن ترجح لديه حسب الأدلة أنّه على حق، ورأى -في الوقت نفسه- غيره على منواله، فقد أبعد عن نفسه وعمّن جعلوه قدوة لهم الانحياز والأنانية وحبّ الذات وترجيحه، ويغلق على نفسه ومن حوله إغلاقاً محكماً باب: سوء الظن، وضيق الفكر، وانحصار الذهن، وحب النفس، واتباع الهوى،13 ويستثمر النورسي عرض المسألة لأجل التأسيس النظري لجمع الكلمة ووحدة القلوب فيضع القاعدة الذهبية: "يحقّ لكل امرئٍ أن يقول في مذهبه: هو حق، هو حسن، ولكن لا يحق له القول: هو الحق هو الحسن".14
تلاحظ أنّ النورسي من خلال ما عرضه من أقوال أنّه رجّح رأي المُصَوِّبة لأنّه أقرب ما يكون إلى وحدة الصَّف ونبذ التعصب، لأن المُصَوِّبة يرون أنّ الحكم الاجتهادي الذي توصَّل إليه المجتهد باجتهاده ليس ملزِماً لغيره من الناس، بل يصحّ لغيره أن يتوصَّل إلى حكم مغاير لحكمه، ويكون كلا الحُكمين على الحق والصواب. وهو خلاف ما ينتهي إليه رأي المخَطِّئة؛ إذْ يعتبر يلزم بطريق غير مباشر بالحكم الذي يتوصَّل إليه المجتهد، إذ الحكم الذي ترجَّح لديه هو حكم الله المُعَيَّن الذي لا تصح مخالفته في نهاية المطاف.15
قال الأستاذ بديع الزمان: "كل من لديه استعداد وقابلية على الاجتهاد وحائز على شروطه، له أن يجتهد لنفسه في غير ما ورد فيه النص، من دون أن يلزم الآخرين به، إذ لا يستطيع أن يشرّع ويدعو الأمة إلى مفهومه. إذ فهمه يُعدّ من فقه الشريعة ولكن ليس الشريعة نفسها، لذا ربما يكون الإنسان مجتهداً، ولكن لا يمكن أن يكون مشرّع".16
ب. مكانة النص من الاجتهاد:
الغالب في الاجتهاد الفقهي أنْ يكون في المسائل الجزئية الفرعية، وتتعلّق بالمسائل التي لم يرد في شأنها النص، أو ورد نص في شأنها ولكنه ظني في الثبوت أو الدَّلالة أو فيهما. لهذا استثنيت من مجال الاجتهاد الضروريات الدينية لقطعيتها من جهة الثبوت والدَّلالة. والاجتهاد مهما كان، لا يمكن أن يرد في مورد النصّ، لهذا ورد في القاعدة المشهورة: "لا مساغ للاجتهاد في مورد النص"،17 لهذا لا تقدس الاجتهادات كتقديس نصوص الشريعة، وهو مُوقِعٌ في الخلط بين الفقه والشريعة، والتسوية بين النص وفهمه، ومن مترتّبات الميل إلى هذا الرأي جعل نص المعصوم وغير المعصوم أمراً واحداً من حيث إمكان الخطأ والوقوع في الزلات.
يؤسس النورسي لهذه المعاني بقوله في حق المجتهد: "... لا يستطيع أن يشرّع ويدعو الأمة إلى مفهومه. إذ فهمه يُعدّ من فقه الشريعة، ولكن ليس الشريعة نفسها..."18 ذلك أنّ الإنسان عندما يعتبر نفسه مُشرِّعاً، يؤدي اعتقاده إلى المزج بين الضروريات الدينية المتحتمة، وبين الجزئيات الفرعية الخلافية، وبالتالي تظهر منه تخطئة غيره وبروز حبّ الجاه والذات والأنانية المقيتة لديه، إلى حدّ إخراجه عن حدود الدين والشريعة. وهو ما حذّر منه الأستاذ بديع الزمان بقوله: "... وإن هناك خطراً عظيماً في مزج الضروريات الدينية مع المسائل الجزئية الفرعية الخلافية، وجعلها كأنها تابعة لها..."19
وما دام القرآن الكريم وصحيح السنة الشريفة هما مصدرا الضرورات الدينية المؤسسة لروح الإسلام والوحدة الإسلامية الإيمانية، وجّه الأستاذ الناس وذكّرهم بالحاجة إلى القرآن مباشرة، قال الأستاذ (رحمه الله): "... فلو وجهت حاجات المسلمين الدينية كافة شطر القرآن الكريم مباشرة، لنال ذلك الكتاب المبين من الرغبة والتوجه -الناشئة من الحاجة إليه- أضعاف أضعاف ما هو مشتت الآن من الرغبات نحو الألوف من الكتب، بل لكان القرآن الكريم مهيمنا هيمنة واضحة على النفوس، ولكانت أوامره الجليلة مطبقة منفذة كلياً. وما كان يظل كتاباً مباركاً يُتبرك بتلاوته فحسب".20
ج. الاجتهاد الجماعي والشورى بدل جهد الفرد الواحد:
يرى النورسي فتح باب الاجتهاد، ولكنّه وضع لتحقيق هذا القصد جملة من الضوابط التي تمنع التسيّب والانحراف بالاجتهاد عن الدين نفسه، فاختار التركيز على بعض من جملة الموانع العلمية والمعرفية والخلقية التي تجعل باب الاجتهاد مسدودا أمام من ليس أهلا له،21 وهي موانع لا يمكن تجاوزها بالجهود الفردية ولا يأمن الفرد من الوقوع في غوائلها، ولتجاوز الخلل المتوقّع من الفرد يقترح الأستاذ الاجتهاد الجماعي والشورى، فتقطع الجماعة بالشورى دابر الفوضى في الاجتهادات، وبهذا يسترجع الفرد والمجتمع القوة المسلوبة من الدين والشريعة، لأن العصر هو عصر الجماعة، ولا يسع الفرد مواجهة التحديات العصر، ولذلك دعا الأستاذ إلى إقامة مجلس الشورى للاجتهاد، يؤسس لهذه المعاني بقوله: "... نجد أنّ المشيخة قد أودعت إلى اجتهاد شخص واحد، في وقت تعقّدت فيه العلاقات وتشابكت حتى في أدق الأمور، فضلاً عن الفوضى الرهيبة في الآراء الاجتهادية، وعلاوة على تشتت الأفكار وتدني الأخلاق المريع الناشئ من تسرب المدنية الزائفة فينا... من المعلوم أنّ مقاومة الفرد تكون ضعيفة أمام المؤثرات الخارجية، فلقد ضُحي بكثير من أحكام الدين مسايرة للمؤثرات الخارجية... لسنا في الزمان الغابر، حيث كان الحاكم شخصاً واحداً، ومفتيه ربما شخص واحدٌ أيضاً، يصحح رأيه ويصوبه. ذلك أنّ هذا الزمان هو زمان الجماعة، والحاكم شخص معنوي ينبثق من روح الجماعة. فمجالس الشورى تملك تلك الشخصية، فالذي يفتي لمثل هذا الحاكم ينبغي أن يكون متجانساً معه، أي: ينبغي أن يكون شخصاً معنوياً نابعاً من مجلس شورى عالٍ، كي يتمكن من أن يُسمعَ صوتَه للآخرين، ويسوق ذلك الحاكم إلى الصراط السوي في أمور الدين. وإلا فسيبقى صوته كطنين الذباب... نعم، إنّ كل من يجد في نفسه كفاءة واستعداداً للاجتهاد يمكنه أن يجتهد، ولكن لا يكون هذا الاجتهاد موضع عمل إلا عندما يقترن بتصديق نوع من إجماع الجمهور. فمثل هذا الشيخ -أي شيخ الاسلام المستند إلى مجلس شورى- يكون قد نال هذا السر. فكما نرى في كتب الشريعة: أن مدار الفتوى: الإجماع، ورأي الجمهور، يلزم الآن ذلك أيضاً ليكون فيصلاً قاطعاً لدابر الفوضى الناشبة في الآراء... الحاجة أستاذ لكل أمر. هذه قاعدة، فالحاجة شديدة لمثل هذا المجلس الشوري الشرعي".22
ويؤكّد في السياق نفسه بأسلوب تحليلي منطقي فيربط مسألة الاجتهاد الجماعي بسرّ النصر ونبذ الكبرياء والأنانية والحقد، وهذا تجاوزه مودع في الجماعة والجهود الجماعية، قال الأستاذ النورسي في تقرير هذا التحليل: "إنّ هذا الزمان زمن الجماعة، فلو بلغ دهاء الأشخاص فرداً فرداً حدّ الخوارق، فلربما يُغلب..."23 ذلك أنّ التعاون والتساند هو الدستور العام لجميع المخلوقات، يسجّل النورسي التأكيد على هذه المعاني بقوله: "نعم، تجاوب أعضاء الكائنات بشمسها وقمرها لمنفعة الحيوانات، وتسارع النباتات لإمداد أرزاق الحيوانات، وتسابق مواد الأغذية لترزيق الثمرات، وتزين الثمرات لجلب أنظار المرتزقات، وتعاون الذرات في الإمداد لغذاء حجيرات البدن؛ دليل قاطع ساطع على: أن الدستور العام هو التعاون، وما الجدال إلاّ دستور جزئي بين قسم من الحيوانات الظالمة..."24 ولم يكتف النورسي بهذا فحسب، بل بيّن الدرس المستفاد من الشورى بقوله: "إن الدرس الذي تعلمته من الشورى الشرعية هو: أن سيئة امرئ ٍ واحدٍ في هذا الزمان، لا تبقى على حالها سيئةً واحدة، وإنّما قد تكبر وتسري حتى تصبح مائة سيئة. كما أنّ حسنة واحدة أيضاً لا تبقى على حالها حسنة واحدة، بل قد تتضاعف إلى الآلاف. وحكمة هذا وسرّه هو: أن الحرية الشرعية والشورى المشروعة قد أظهرتا سيادة أمتنا الحقيقية. إذ إن حجر الأساس في بناء أُمتنا، وقوام روحها إنّما هو الإسلام..."25
وبناءً على ما سلف يؤكّد النورسي على ضرورة اللجان والمجامع الفقهية، توحيداً للجهود لتجاوز الأخطاء في الاجتهاد والفتوى الفردية، ولا يتأتى ذلك بغير التكاتف بين جملة الكفاءات في مختلف الاختصاصات لإخراج الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي من الحيرة والتشتت في أمر الدين واتباع الهوى في التدين.26
د. شرط المجتهد التحلي بالورع والتقوى:
معلوم في درس الأصول شر طي الورع والتقوى ليس شروط الاجتهاد، ولكنّهما قد يشترطان في قبول الفتوى من المجتهد، لأنّ العلم والاجتهاد لا يمكن تخصيصه بأهل العدالة والتقوى، وإنْ كان الأصل في المفتي أنْ يكون متقياً وعادلاً، والعادة جارية أنّ المجتهد قلما يوفق إلى الصواب ما لم يكن تقيا، ولهذا كان الأصل ألاّ يقبل من الفاسق فتوى بل لا يجوز أن يستفتى، وإنْ كان يصح منه الاجتهاد.27
ومما قرره النورسي أنّه من المحتاطين في القول بفتح باب الاجتهاد، حيث يحذّر من فتح باب الاجتهاد من غير ضوابط، فيلجه كلّ من هبّ ودبّ من الناس، بل -كما مرّ- قيّده بانتفاء الموانع الست.
قسّم الأستاذ بديع الزمان موانع الاجتهاد إلى قسمين: موانع علمية معرفية، وموانع خلقية، وبيّن أنّ من الموانع الخلقية في الاجتهاد في هذا العصر تخلّف شرطي العدالة والورع،28 قال بديع الزمان: "إن ميل الجسم إلى التوسع لأجل النمو، إن كان داخلياً فهو دليل التكامل. بينما إن كان من الخارج فهو سبب تمزق الغلاف والجلد، أي: أنّه سبب الهدم والتخريب لا النمو والتوسع. وهكذا، فإنّ وجود إرادة الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين عند الذين يدورون في فلك الإسلام، ويأتون إليه من باب التقوى والورع الكاملَين، وعن طريق الامتثال بالضروريات الدينية، فهو دليل الكمال والتكامل. وخير شاهد عليه السلف الصالح. أمّا التطلع إلى الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين، إنْ كان ناشئاً لدى الذين تركوا الضروريات الدينية، واستحبوا الحياة الدنيا، وتلوّثوا بالفلسفة المادية، فهو وسيلة إلى تخريب الوجود الإسلامي، وحل ربقة الإسلام من الأعناق".29
وبهذه الطريقة برهن الأستاذ النورسي على أنّ فتوى واجتهاد غير أهل التقوى والعدالة، لا يصب في مصلحة الدين والإنماء وتوحيد صف المؤمنين، بل يؤدي إلى التمزق والتخريب وإبعاد الناس عن الدين، ومعلوم أنّ الدين والعقيدة والإيمان من أهم عوامل التوحيد والاتحاد.
فقد كانت بعض فتاوى أهل الضلال في زمانه مصدراً لبلاء كبير لحق بالأمة، من ذلك فتوى قراءة ترجمة القرآن بدل القرآن المنزل في الصلاة، فقد أحدثت هذه الفتوى شرخاً في المجتمع وفوضى عارمة كادت تردي به -لولا لطف الله-، إذ لم يكن القصد منها التشبّث بالدين بقدر ما كانت سعياً للتنصّل من الدين نفسه، ومنبعا لشماتة الأعداء.
2. نماذج من المباحث الفقهية في رسائل النور ذات الصلة بجمع الكلمة وتوحيد الصف:
أ. المذاهب الفقهية بين القبول والرد:
عاش النورسي في بلد انتشر فيه مذهبا الحنفية والشافعية، وقد كان الأستاذ شافعي المذهب، كما هو شأن معظم بني جلدته (الكرد) في مختلف الدول،30 وبما أنّ الأستاذ كان فقيهاً بالمعنى الحقيقي والدقيق للفقه، ووفق المفاهيم الاصطلاحية التي كان عليها العلم في سلف الأمة المسلمة، والذي مفاده أنّ الفقه: (معرفة النفس، ما لها، وما عليها)،31 وبيّن أنّ الفقه بهذه المفاهيم يستغرق جميع العلوم العقلية والنقلية، الاعتقادية منها والعملية،32 فإنّ بيانه يستوعب جملة المعارف المشار إليها مباحثة ومدارسة ونظراً وعملاً بمقتضاها.
كان النورسي على العموم يجل كثيراً العلماء والفقهاء، ولا يذكرهم إلاّ بخير ما وجد إلى ذلك سبيلاً، تجد هذا الملمح في التعامل مستوعباً للقدامى والمحدثين على السواء، يفسّره تفضيله الأئمة الأربعة من القدامى، على الأقطاب والشيوخ المعروفين في التصوف والتاريخ الإسلامي في الفضيلة الكلية.33 ومع حبّه وتقديره للفقه وأهله، كان يحتهد في منع خروج الآراء الفقهية والمذاهب الفقهية عن مسارها الصحيح، ويحذر من المسّ بتقديس النصوص الشرعية في مقابل هذه المذاهب والآراء، فيبذل وسعه لأجل الحفاظ على هيمنة القرآن والسنة على قلوب وعقول العباد وأفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، بل كان يرى أنّ سعادة الأمة ومسلك إسعادها ونجاحها في الدنيا وفلاحها في الآخرة مستمد من هيمنة الكتاب والسنة على القلوب والعقول والأبدان، ذلك أنّ هذه الهيمنة هي نقطة تساندها وتعاونها وجمعها، ولهذا ليست الآراء الفقهية ومذاهبها إلاّ وسائل تشف عن قدسية هذه النصوص، يقرر هذه المعاني الراقية والأصيلة بقوله: "إنّ الذي يسوق جمهور الناس إلى الاتباع وامتثال الأوامر، هو ما يتحلّى به المصدر من قدسية، هذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس إلى الانقياد، أكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة، فينبغي إذن أن تكون الكتب الفقهية بمثابة وسائل شفافة -كالزجاج- لعرض قدسية القرآن الكريم، وليس حجاباً دونه، أو بديلاً عنه".34
المذهب والرأي الفقهي حينما يخرج عن مساره، ويعتقد فيه القدسية، يتجاوز طوره فيعود بالإبطال على أصله الذي استمد منه "النص المقدس" وبهذا يتحول تقليده إلى فعل محرم، لأن الرأي الفقهي بهذا الفهم والتعامل قد تحوّل من وسيلة أو أداة إلى غاية في حدّ ذاته، فأصبح بهذا الفهم الرأي الفقهي الذي هو وسيلة أهم من الغاية التي هي النص واتباعه والالتزام به.
قال الأستاذ بديع الزمان: "... فالكتب الفقهية إذن، ينبغي أن تكون شفافة لعرض القرآن الكريم وإظهاره، ولا تصبح حجاباً دونه كما آلت إليه -بمرور الزمان- من جراء بعض المقلدين..."35
لهذا خلُص الأستاذ إلى أنّ الأساس المقبول والتعامل السليم مع التراث الفقهي والآراء الاجتهادية لعظماء المسلمين، هو التأكيد على أنّها وسيلة لفهم النصوص ومعرفة ما يأمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا غير، وشدُّ الأنظار دوماً إلى المستوى الأعلى لتلك الكتب باستمرار، وهذا المستوى الأعلى هو القرآن الكريم، وإظهاره في بوصفه الأنموذج الذي تشرئب إليه الأعناق دوما وترتبط به الهمم باستمرار، كي يعرف الناس أن الأحكام تؤخذ من منبعها الأساس، وأنّ المسائل الاجتهادية قابلة للمراجعة والاستدراك وتلافي النقص فيها من مظانها.
وبهذا السياق نؤكّد أنّه لم يكن من قصد المجتهدين من الفقهاء إلزام الناس بآراء أو تقديس الرأي على حساب النص، بل أفضى هذا الفهم السقيم، سوء التعامل مع هذه الاجتهادات الفقهية، فجعل الرأي الفقهي والمذهب حجاباً مانعا من الوصول إلى النص، إنّ إزالة هذا الحجاب لا تكون بنقد وتجريح الأئمة الأعلام، لأنه ظلمٌ في حقهم وغفلة عن فضائله وتجاوز على منزلتهم، وهي عادة سيّئة دأب عليها بعض من المتطفلة على العلم والدين.36
ولم يكن النورسي مع الانسلاخ من المذاهب الفقهية، بل ردّ دعوى الانسلاخ على الذين أعجبوا بأنفسهم وآرائهم وادعوا الاجتهاد وبلوغ مكانة المجتهدين، وهم في الحقيقة من أهل الضلال، إذ يقول: "... فهم أناس مغرورون جداً، ومعجبون بأنفسهم أيّما إعجاب، يريدون أن يبثوا انسلاخهم من المذاهب الفقهية تحت ادعاء أنهم في مستوى المجتهدين العظام، بل يحاولون إمرار إلحادهم وانسلاخهم من الدين بادعاء أنهم في مستوى الصحب الكرام، فهؤلاء الضالون قد وقعوا: أولاً: في هاوية السفاهة حتى غدوا معتادين عليها، ولا يستطيعون أن يتركوا ما اعتادوه، وينهضوا بتكاليف الشرع التي تردعهم عن السفاهة. فترى أحدهم يبرر نفسه قائلاً: إن هذه المسائل إنما هي مسائل اجتهادية، والمذاهب الفقهية متباينة في أمثال هذه المسائل، وهم رجال قد اجتهدوا ونحن أيضاً رجال أمثالهم، يمكننا أن نجتهد مثلهم، فلربما يخطؤون مثلنا، لذا نؤدي العبادات بالشكل الذي يروق لنا نحن، أي: لسنا مضطرين إلى اتباعهم!! فهؤلاء التعساء يحلُّون ربقة المذاهب عن أنفسهم بهذه الدسيسة الشيطانية. فما أوهاها من دسيسة وما أرخصها من تبرير!"37
وما تقدّم عرضه هو جزء من رؤية النورسي المنهجية المعتمدة على تحليل علمي رصين لوجود المذاهب الفقهية المختلفة، تحليل علمي ومنهجي في غاية الدقة، ويشهد لما سبق تقريره قوله: "... ففي زمن الأنبياء السابقين (عليهم السلام) كانت الطبقات البشرية متباعدة بعضها عن بعض، مع ما فيهم من جفاء وشدة في السجايا، فكانوا أقرب ما يكونون إلى البداوة في الأفكار، لذا أتت الشرائع في تلك الأزمنة متباينة مختلفة، مع موافقتها لأحوالهم وانسجامها على أوضاعهم، حتى لقد أتى أنبياء متعددون بشرائع مختلفة في منطقة واحدة وفي عصر واحد. ولكن بمجيء خاتم النبيين وهو نبي آخر الزمان صلى الله عليه وسلم تكاملت البشرية وكأنها ترقت من مرحلة الدراسة الابتدائية فالثانوية إلى مرحلة الدراسة العالية، وأصبحت أهلاً لأن تتلقى درساً واحداً، وتنصت إلى معلم واحد، وتعمل بشريعة واحدة. فرغم كثرة الاختلافات لم تعد هناك حاجة إلى شرائع عدة، ولا ضرورة إلى معلمين عديدين. ولكن لعجز البشرية من أن تصل جميعاً إلى مستوى واحد، وعدم تمكنها من السير على نمطٍ واحدٍ في حياتها الاجتماعية، فقد تعددت المذاهب الفقهية في الفروع. فلو تمكنت البشرية -بأكثريتها المطلقة- أن تحيا حياة اجتماعية واحدة، وأصبحت في مستوى واحد، فحينئذ يمكن أن تتوحد المذاهب".38
فهم المذاهب الفقهية والاجتهادات الفقهية المختلفة وفق هذه الرؤية، لا يورث منه تكدير صفو المسلمين، ونشر العداوة بينهم، وخاصة إذا انتبهوا -بعد هيمنة القرآن على قلوبهم وعقلوهم- إلى أنّ الاختلاف الفقهي المعبّر عنه بمختلف المذاهب المتباينة دليل على كمال الشريعة وصلاحيتها لكل شخص وعصر، فيزيده الثبات في الإيمان والاعتقاد بقدسية النصوص.
ب. نماذج من توظيف الاختلاف الفقهي في جمع الكلمة وتوحيد الصف في رسائل النور:
تعدد الأنظار أمر مستساغ في الشريعة الإسلامية إذا كان وفق الضوابط والأسس العلمية المعتبرة، لهذا يؤكّد الأستاذ أنّه ليس من قصده توحيد المذاهب الفقهية والآراء المتباينة، لأنها بنظر موضوعي واقعة لا محالة، ذلك أنّه ليس بمقدور كل الناس التفكير وفق طريقة نمطية واحدة، هذا فضلاً عن تباين ظروفهم ومعطياتهم الزمانية والمكانية، يسجّل هذا التحليل بقوله: "...لعجز البشرية من أن تصل جميعاً الى مستوى واحد، وعدم تمكنها من السير على نمط واحد في حياتها الاجتماعية، فقد تعددت المذاهب الفقهية في الفروع. فلو تمكنت البشرية -بأكثريتها المطلقة- أن تحيا حياة اجتماعية واحدة، وأصبحت في مستوى واحد، فحينئذ يمكن أن تتوحد المذاهب، ولكن مثلما لا تسمح أحوال العالم وطبائع الناس، لبلوغ تلك الحالة، فإنّ المذاهب كذلك لا تكون واحدة..."39 إذاً لا بدّ من الوقوف عند نقطة يمكن من خلالها الحد من الآثار السلبية للاختلاف، والابتعاد عما يمكن أنْ يعكر صفو الأخوة وروح المساندة والتعاون بين متبعي مختلف الآراء والمذاهب المختلفة، وقد وُفِّق الأستاذ النورسي في خدمة هذا المقصد بالتوظيف الإيجابي للاختلاف عوض استعماله استعمالاً سلبياً، فجعل (رحمه الله) من الاختلاف الفقهي منطلقاً لتوحيد الفكر والقلب، وتأسيساً لقبول الرأي المخالف، فكان الخوض في هذه المسائل مدخلاً لتمتين العلاقات الأخوية بين المسلمين، سنكتفي في هذه العجالة بذكر نماذج من المسائل ذات الصلة، منها على سبيل المثال لا الحصر ما أورده في رسائل النور: "قراءة الفاتحة في الصلاة"، و "مسألة حول 'بسم الله الرحمن الرحيم' كآية من القرآن أو الفاتحة"،40 وغيرهما. وطبيعة البحث من الناحية المنهجية فرضت التوقّف عند أنموذج واحد فقط ممثلاً في المسألة الأولى.
معلوم أنّ قراءة الفاتحة في الصلاة لازمة في حق الإمام والمأموم عند الشافعية، ولا يُلْزَمُ بها المأموم عند الحنفية.41 والمسألة مع اختلاف الرأيين فيها وتباينهما، إلاّ أن الأستاذ النورسي يربط الموضوع بتعدد الحق، ويبيّن أن الرأيين على الحق، بل هما ضمن ذات الحكمة وعينها.42 وهذا بعد عرض المسألة بطريقة علمية موضوعية، وسعى بعد التحليل إلى توظيفها توظيفاً يقبله كل من يسمعه. قال بديع الزمان النورسي: "نجد أن أكثرية الذين يتبعون الإمام الشافعي رضي الله عنه هم أقرب من الأحناف إلى البداوة وحياة الريف، تلك الحياة القاصرة عن حياة اجتماعية توحد الجماعة. فيرغب كلّ فرد في بث ما يجده في نفسه إلى قاضي الحاجات بكل اطمئنان وحضور قلب، ويطلب حاجته الخاصة بنفسه ويلتجئ إليه، فيقرأ سورة الفاتحة بنفسه رغم أنه تابع للإمام. وهذا هو عين الحق، وحكمة محضة في الوقت نفسه. أما الذين يتبعون الإمام الأعظم "أبو حنيفة النعمان" رضي الله عنه فهم بأكثريتهم المطلقة أقرب إلى الحضارة وحياة المدن المؤهلة لحياة اجتماعية، وذلك بحكم التزام أغلب الحكومات الإسلامية لهذا المذهب. فصارت الجماعة الواحدة في الصلاة كأنها فرد واحد، وأصبح الفرد الواحد يتكلّم باسم الجميع، وحيث أن الجميع يصدقونه ويرتبطون به قلباً، فإنّ قوله يكون في حكم قول الجميع، فعدم قراءة الفرد وراء الإمام بـ "الفاتحة" هو عين الحق وذات الحكمة".43
انظر كيف وظّف الاختلاف الفقهي في توحيد القلوب، فمن تمذهب بالمذهب الشافعي عندما يقرأ رأي الحنفية من خلال هذه النافذة يسلّم بهذه الحكمة ويقبلها بكلّ قلبه، وهكذا المتمذهب بالحنفية، فصار التعرّف على الرأي الآخر وفق هذه الرؤية أمراً جوهرياً، يمكن من خلاله توحيد القلوب مع الإقرار بالحق في اختلاف الآراء. ويشير من خلال مسألة "قراءة الفاتحة والحكمة منه" إلى شيء آخر قريب منه من حيث المعنى والقصد، خصوصاً عندما يقرأ المصلي قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾،الفاتحة:5 فإنّ المصلي ينضم بقراءته لهذه الآية إلى ثلاث جماعات ودوائر، الجماعة الكبرى للمؤمنين على الأرض أولاً، ثمّ جماعة الموجودات كافة، وعالم الذرات والحواس الظاهرة للمصلي نفسه في الدائرة الثالثة، قال (رحمه الله): "تأملت ذات يوم في "ن" المتكلم مع الغير في: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الفاتحة:5 وتحرّى قلبي وبحث عن سبب انتقال صيغة المتكلم الواحد إلى صيغة الجمع ﴿نَعْبُدُ..﴾ فبرزت فجأة فضيلة صلاة الجماعة وحكمتها من تلك "النون"، إذ رأيت أنه بسبب مشاركتي للجماعة في الصلاة التي أدَّيتها في جامع "بايزيد"، يكون كلّ فرد منها بمثابة شفيع لي، ورأيت أن كل فرد من أفراد تلك الجماعة شاهدٌ ومؤيدٌ لما أظهرته من أحكام وقضايا في قراءتي. فولّد ذلك عندي الشجاعة الكافية لكي أقدم عبادتي الناقصة، وأرفعها مضمومة مع العبادة الهائلة لتلك الجماعة إلى الحضرة الإلهية المقدسة. وبينما كنت أتأمل في هذا؛ إذا بستار آخر يُرفع، ورأيت أن جميع "مساجد إسطنبول" قد اتصلت وترابط بعضها ببعض؛ فأصبحت تلك المدينة كهذا الجامع، واستشعرت بشرف أدعيتهم جميعاً بل تصديقهم كذلك. وهناك رأيت نفسي محشوراً في تلك الصفوف الدائرية على مسجد سطح الأرض المتحلقة حلقات حول الكعبة المشرفة، فحمدت الله كثيراً وقلت: ﴿اَلْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ...﴾الفاتحة:1 إن لي كل هذه الكثرة الكاثرة من الشفعاء، وممّن يرددون معي، ويصدّقونني في كل ما أقوله في الصلاة. وقلت: ما دام الستار قد رفع هكذا خيالاً.. وأصبحت الكعبة المشرفة بحكم محراب لأهل الأرض، فلأغتنم إذن هذه الفرصة، ولأدع فيها خلاصة الإيمان التي أذكرها في التشهد وهي، "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله" وأسلمها أمانة عند الحجر الأسود. متخذاً الصفوف شهداء عليها. وهنا انكشفت حالة أخرى، إذ رأيت: أن الجماعة التي انضممت إليها قد أصبحت ثلاث جماعات ودوائر: الأولى: هي الجماعة الكبرى المؤلفة من المؤمنين الموحدين على وجه الأرض قاطبة. الثانية: هي جماعة الموجودات كافة حيث ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾النور:41 فرأيت نفسي مع صلاتها الكبرى وفي تسبيحاتها العظمى... وأن ما يسمَّى وظائف الأشياء وأعمالها، إن هو إلاّ عناوين عباداتها وعبوديتها... فطأطأت رأسي حائراً أمام هذه العظمة قائلاً: "الله أكبر"، وتأملت في نفسي وفي الدائرة. الثالثة: ورأيت عالماً يبدأ من ذرات وجودي، وينتهي إلى حواسي الظاهرة؛ فهو عالم صغير وصغير... إلاّ أنه عظيم جداً يدعو إلى الحيرة والإعجاب. وهو عالم ظاهره متناهٍ في الصغر، إلاّ أن حقيقته عظيمة، ووظائفه جليلة ".44
فمن كانت صلاته بهذه الكيفية وعلى هذه المعاني الروحية واللذة المعنوية، لا يسع المنكر لقراءة الفاتحة إلا اعتبار القراءة في الصلاة من الحكمة بغض النظر عن الأدلة والبراهين التشريعية، ولا يتعصب إلى رأيه ولا يخطِّئ الآخرين، فالمصلي الخاشع يقرأ وكأنه بلسان جميع المخلوقات يتكلم مع الله، والموجودات كذلك تتكلم باسمه، وبهذا يولد لديه الربط والتساند حتى مع الجمادات وجميع المخلوقات فضلاً عن المؤمنين، وكذلك جميع الأذكار الأخرى في الصلاة، كالشهادة، والتسبيحات، والأذكار... والخ، يجعل المؤمن داخل صف الملايين من المؤمنين المتكلمين بما تكلم به، ويصدقونه ويشهدون له في دعواه، وكذلك يؤيده كل ما قام على صدق الإسلام.
قال الأستاذ النورسي: "اعلم! أيها المؤمن المصلي الذاكر، إذا قلت: "أشهدُ أن لا إلهَ إلاّ الله" أو "محمدٌ رسولُ الله" أو "الحمد لله"... مثلاً: حكمتَ بحكمٍ، ادّعيتَ دعوى، وأعلنت اعتقاداً، يشهد لك في دعواك في آن تلفظك ملايين، وقبلك ملايين ملايين من المؤمنين المتكلمين بما تكلمت به؛ كأنهم يصدّقونك... وكذا يؤيدك في دعواك، ويُثبت حكمَك، ويزكّي شهداءك، كلُّ ما قام على صدق الإسلامية، وكلُّ ما أثبت حُكماً من أحكامها، وكلُّ ما استند عليه جزءٌ من أجزاء قصر الإسلام من الشواهد والبراهين ومسامير الدلائل... وكذا اندمج في ملفوظك وتوضَّعَ عليه أمرٌ عظيم، ويُمنٌ جسيمٌ من الفيوضات والبركات القدسية... وكذا اتصل بملفوظك وأحاطَ به معنىً جاذب، وروحٌ جالب، من شرارات جَذَبات توجهات جمهور المؤمنين، ومن رشاشات رشحات رشفات قلوب الموحّدين الشاربين ماء الحياة، من عيون تلك الكلمات المباركة".45
ج. التعصب المذهبي:
التعصب المذهبي الذي هو: "الميل مع الهوى لأجل نصرة المذهب، ومعاملة الإمامِ الآخر ومقلديه بما يَحُطُّ من قدرهم"،46 من أبعد الأمور عن رسائل النور وفكر بديع الزمان، فهذا النمط من التفكير فيه اتباع الهوى، وإلزام الناس برأي دون آخر بدافع بعيد عن الإنصاف والموضوعية، ومعاملة الرأي المخالف وصاحبه معاملة فيها احتقار والتقليل من الشأن. وهو نمط تسعى رسائل النور إلى دفعه والتربية على خلافه، لهذا يميل الأستاذ عن هذا المنطق في توجيه الانتماء إلى المذاهب الفقهية، فتنفي رسائل النور هذه الرؤية جملة وتفصيلاً، لأن الغاية الأسمى في رسائل النور هي: اتباع الشرع، ونصرته بالبرهان والدليل، وانتشار روح الإخلاص والتعاون والتساند بين جميع الناس عموماً، والمسلمين على الخصوص. ومعلوم أن التعصب ينجم عنه التشاحن والتباغض والحقد والحسد المذموم المحرم، وعندما نقلب صفحات التاريخ نراها طافحة بمثل هذه المواقف المؤلمة الناجمة عن الجهل، أو الغلو والتطرف، أو تناسي العبودية لله، أو الجميع.47
ولم تكن جهود النورسي نظرية أو تنظيرية لمسالك تسيير الاختلاف فحسب، بل كانت حياته ومواقفه طافحة بتدبير شأن الاختلاف وفي ضوء هذه الرؤية المتكاملة، كما كان اقتناعه بهذا المسلك دافعاً قوياً لتحمّل الضغوط التي تعرّض لها جرّاء محاولات إجباره على اتباع الفتوى التي أصدرها في عصره بعض ممن ينتسبون إلى العلم، وأقصد بها على وجه التحديد، مسألة ترجمة الأذان الشرعي والصلاة وغيرها من الشعائر الدينية العربية، ونبّه في هذا السياق إلى أنّ المائل إلى هذا الرأي فهم فهماً خاطئاً وقصد تحريف الكلام عن مواضعه، إذ به تحريف مقصود لبعض ما صحّ نقله من نصوص المذهب الحنفي. يسجّل هذه التنبيه في قوله: "بأي قانون وبأية قاعدة تكلفون من هو شافعي المذهب مثلي، اتباع فتوى تنافي صفاء المذهب الحنفي وسموه، أفتى بها علماء السوء الذين باعوا ضمائرهم لمغنم دنيوي. فلو حاولتم إزالة المذهب الشافعي -علماً أنّ متبعيه في هذا المسلك يعدّون بالملايين- وسعيتم لجعلهم أحناف، ثم أكرهتموني على اتباع هذه الفتوى إكراهاً بالقوة، ربما يكون ذلك قانوناً ظالماً من قوانين الملحدين أمثالكم، وإلاّ فهو دناءة يقترفها بعضهم حسب أهوائه!. إننا لسنا تابعين لأهواء أمثال هؤلاء، ولا نعرفهم أصل".48 فبيّن (رحمه الله) أن إلزام الناس أو العلماء خصوصاً باتباع فتاوى معيّنة، إمّا ظلم، أو دناءة تابعة للأهواء.
كان النورسي مع هذه التربية الروحية المنهجية بأسلوب علمي رصين، يؤكّد لتلاميذه قاعدة ذهبية مقتضاها: "إن أستاذكم ليس معصوماً من الخطأ..."49 وكان مع هذا يقول: "...حذار، حذار، من فتح باب النقد... فليكن كل منكم ناشراً لفضائل الآخرين..."50 و: "لا ينبغي فتح باب المناقشة في الأمور الفرعية الجزئية التي تسبب الاختلاف..." لأنّ "...الضلالة والزندقة تستغل الاختلاف في هذا العصر..."51 وتأكيدا للتحذير من الشر المستطير من الخلاف كان يقول عن الخلاف بأنّه: "...ألدّ أعداء إعلاء كلمة الله"،52 ومعلوم أن التعصّب يحوِّل الاختلاف الجائز المشروع إلى الخلاف والتفرق الممقوت. ولهذا جعل التعصّب سبباً في التأخر والتدني أحوالهم وسوء أوضاعهم، وخاصة إن صدر عن عالم جاهل، أو جاهل عالم.53 ودفعاً للخلط المتعمّد حيناً وغير المقصود حيناً آخر، ميّز بديع الزمان بين الصلابة في التمسك بالدِّين وبين التعصب، فانتهى إلى أنّ التعصب ناشئ عن الجهل وعدم المحاكمة العقلية، بينما التمسك بالدين والصلابة فيه هو المتانة والثبات والتمسك بالحق، وشتّان ما بينهما.54
ولأجل التحقق الباطني والظاهري لهذه المعاني وضع النورسي جملة من القواعد نفياً للتعصب وإبعاده عن فكر المؤمن، ونبّه إلى أنّ مصدر هذا البلاء هو الغرور بالرأي، وحبّ الذات والنفس، وتفضيل النفس والرأي والمذهب على الآخرين،55 وكلّها تنافي قواعد عليها مدار روح التعاون والأخوة وحب الناس ونشر المحبة بينهم وتمتينا للروابط فيما بينهم، بل يوسّع الأستاذ من شبكتها فيدعو إلى إعمالها حتى بين المؤمن منهم وغير المؤمن، آثرنا في هذا المقام التوقّف عند بعض من تلك القواعد الذهبية وهي في تمتين الصلات الإنسانية، منها على سبيل المثال لا الحصر:
قاعدة: "خذ ما صفا، دع ما كدر".56 وقد قال في شرحها: "...فانظر بحسن، وشاهد بحسن، ليكون فكرك حسناً، وظن ظناً حسناً، وفكِّر حسناً، لتجد الحياة اللذيذة الهانئة".57
- قاعدة: "يحق لكل امريء أن يقول في مذهبه: هو حق، هو حسن، ولكن لا يحق له القول: هو الحق، هو الحسن".58
ونختم ما كتبناه عن التعصب المذهبي بكلام نفيس للأستاذ بديع الزمان، نص بيّن فيه خطورة ما ينتهي بنا إليه التعصب، فعرض الفكرة في أسلوب تحليلي رائع ورائق، قال فيه: "فالأدوية تتعدد حسب تعدد الإدواء، ويكون تعددها حقاً... وهكذا الحق يتعدد. والحاجات والأغذية تتنوع، وتنوعها حق.. وهكذا الحق يتنوع. والاستعدادات ووسائل التربية تتشعب، وتشعبها حق... وهكذا الحق يتشعب. فالمادة الواحدة قد تكون داءً ودواءً حسب مزاجين اثنين... إذ تعطى نسبية مركبة وفق أمزجة المكلفين، وهكذا تتحقق وتتركب. إن صاحب كل مذهب يحكم حكماً مطلقاً مهملاً من دون أن يعين حدود مذهبه، إذ يدعه لاختلاف الأمزجة، ولكن التعصب المذهبي هو الذي يولد التعميم ولدى الالتزام بالتعميم ينشأ النزاع".59
د. مسائل فقهية مختلفة يبتغى منها توحيد القلوب والصفوف:
أولاً: الربا والزكاة:
مبحثان من المباحث الفقهية، أمرنا القرآن باجتناب الأول منهما، والتزام الثاني عند توفر شروطه، نبّه النورسي إلى الحكمة من هاتين العبادتين والمسألتين، بقوله: "إن المدنية بكل جمعياتها الخيرية، وأنظمتها الصارمة، ونظمها الجبارة، ومؤسساتها التربوية الأخلاقية لم تستطع أن تعارض مسألتين من القرآن الكريم، بل انهارت أمامهما، وهي في قوله تعالى: ﴿وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾البقرة:43 و ﴿...وَأَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾البقرة:275 ...إنّ أس أساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الإنساني إنما هو كلمة واحدة، كما أنّ منبع جميع الأخلاق الرذيلة كلمة واحدة أيضاً.
الكلمة الأولى: "إن شبعتُ، فلا عليّ أن يموت غيري ". الكلمة الثانية: "اكتسبْ أنتَ، لآكل أنا، واتعبْ أنت لأستريح أن". نعم، إنّه لا يمكن العيش بسلام ووئام في مجتمع إلاّ بالمحافظة على التوزان القائم بين الخواص والعوام، أي: بين الأغنياء والفقراء، وأساس هذا التوزان هو: رحمة الخواص وشفقتهم على العوام، وإطاعة العوام واحترامهم للخواص.
ساقت الكلمة الأولى الخواص إلى الظلم والفساد، ودفعت الكلمة الثانية العوام إلى الحقد والحسد والصراع. فسُلبت البشرية الراحة والأمان لعصور خلت كما هو في هذا العصر، حيث ظهرت حوادث أوربا الجسام بالصراع القائم بين العاملين وأصحاب رأس المال كما لا يخفى على أحد".60
ثانياً: صلاة الجنازة:
صلاة الجنازة على ميت مسلم من الفروض الكفائية، بحيث إذا قام به الواحد يسقط الفرض عن الباقين. وقد تطرق النورسي إلى هذه العبادة وشجّع المسلمين من أهل السنة على حضور صلاة الجنازة على ميت العلويين من الشيعة، انطلاقاً من توحيد الصف بين الفريقين ونبذ الكراهية من القلوب، وعدم تجريحهم واعتبارهم من المنافقين، يسجّل الأستاذ هذا التقرير بقوله: "ول
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Aralık 2014 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2014 Cilt: 10 Sayı: 10 |