Yeni Sayfa 1
نحو رؤية جديدة للدلالة النفسية لأسلوب التكرار في القرآن الكريم بديع الزمان سعيد النورسيّ أنموذجا
الأستاذ الدكتور: عزيز محمد عدمان1
مقدمة:
لعل من مخايل الألمعية، وعلامات النبوغ المعرفيّ أن تولد العبقرية من رحم المعاناة؛ معلنة عن بروز شخصية تركية كردية حازت عناصر الخلود الأبديّ في مجال الإصلاح الدينيّ والأدبيّ والبلاغيّ، والحضاريّ؛ وقد اجتمعت مكونات التألق والوهج العلميّ، والروحيّ في شخص العلاّمة بديع الزمان سعيد النورسيّ –رحمه الله–.
والواقع أنه ليس من قبيل المبالغة القول: إن بديع الزمان النورسيّ يمثل علامة طريق بارزة لا يمكن تجاهلها؛ ولعل من مسوغات اختياره أنموذجاً لهذه المقاربة العلمية ما يأتي بيانه:
1. تُشكّل رسائل النور في مجملها معيناً خصباً للدراسة الأدبية والنقدية، والبلاغية والإعجازية؛ والمستقرئ لمباحثها وموضوعاتها يلفي أنها تناولت جملة من الأفكار والآراء الرصينة التي تحرّك الرغبة في البحث وتوقد جمرة التنقير عن كثير من المسائل التي تبدو لناظر متسرع أنها من مألوف القضايا، ومعهود المشكلات.
2. تنطلق رؤية بديع الزمان لكثير من قضايا البلاغة، والإعجاز من نظرة كونية شاملة تتجاوز الإطار النمطيّ المستهلك إلى الغوص في أعماق النفس الإنسانية في تناقضاتها المتشعّبة.
3. إنّ منهج التمثيل وآلياته عند بديع الزمان يوحي بخبرة عملية، ودربة ومران غير مسبوق في مقاربة قضايا البلاغة؛ ويشهد لهذه الخبرة التطبيقية كثرة شواهد رسائل النور القرآنية والنبوية، والاطّلاع الواسع والتبحر في التراث البلاغيّ والنقديّ عند القدماء؛ وأغلب الظن أن تمثل النورسيّ لأفكار القدماء وهضمها، واستيعابها مكّنه من توسيع مسالك النظر في البلاغة القرآنية، وتجديد زوايا التأمل وإلطاف التدبر، وإكداد النظر في موضوعاتها.
4. إن حسّ بديع الزمان النقديّ والبلاغيّ المرهف هو الذي قادَه إلى الانطلاق في فضاءات معرفية محوجة لكثير من الصبر والأناة والرفق؛ وهي مساحات علمية مثقلة بهاجس السؤال، وألم البحث وحرقته.
إشكالية الدراسة:
من مقتضيات المنهجية العلمية الرشيدة أن نشير إلى الروح النقدية الحضارية السامية التي سيطرت على رسائل النور التي تبلغ مئة وثلاثين رسالة في موضوعات فكرية، وأدبية وسياسية وبلاغية ونقدية وأسلوبية وغيرها من المعارف الكونية. وإحقاقاً للحق، وحتى لا نكون قساة على العلاّمة النورسيّ لا بد أن نسجلّ هنا أن الاهتداء إلى إشكالية الدلالة النفسية لأسلوب التكرار في القرآن الكريم من منظور النورسيّ تطلّب إنجاز قراءتين:
أولاهما: قراءة استكشافية في متن رسائل النور؛ وهي قراءة شاقة؛ ولعل من تجليات هذه الصعوبة تعدد مشارب النورسيّ الفكرية والشخصية؛ ومنهجه في عرض المادة العلمية؛ وهو منهج له خصوصية العالم الأديب الذي لا يقنع بثقافة مستهلكة جاهزة؛ بل يغوص في محيطات البلاغة والنقد والإعجاز؛ مسترشداً بروح الغارق في عشق المعرفة الإنسانية بفروعها المختلفة.
ثانيتهما: قراءة فهارس رسائل النور كاملة، ورصد حديث النورسيّ عن أسلوب التكرار في مواضع متباعدة من رسائل النور أحياناً، ومتداخلة أحياناً أخرى؛ بل إنّ قراءة ناقدة مبصرة تؤكد وعي النورسيّ المنهجيّ بضرورة التوسل بأسلوب تكرار الأفكار ذاتها بعبارة متقاربة، ومتطابقة أحياناً مع إشارته إلى هذا المسلك في كل القضايا التي تناولها بالتحليل والتمثيل.
ولا يستطيع باحث أريب أن يتجاهل الاستبصارات البلاغية، والنقدية والجمالية التي توصل إليها بديع الزمان النورسيّ بفكره الثاقب، وسرعة بديهته، وحاسته النقدية الوهاّجة؛ فكان لهذا المسلك عميق الأثر في صعوبة فهم أفكار النورسيّ، وتحليلها وفق آليات الاستقراء والاستنباط والتعليل؛ وبهذا الاعتبار حاولنا في هذه المعالجة العلمية على قدر طاقتنا، ومبلغ سعينا، وجهدنا أن نستنطق رسائل النور على جلالة قدرها، وعلو مقام مصنِّفها في رحاب أسئلة نراها المفتاح لعرض الموضوع على نحو مقنع.
ومن المقرر عند ذوي الصناعة والاختصاص في شؤون البلاغة، والإعجاز أن أسلوب التكرار من الأساليب التي نالت حظاً وافراً من الجدل، والمناقشة في بيئات المفسّرين والبلاغيين واللغويين والمفكرين من العرب والمستشرقين ومن لفّ لفهم، وجرى مجراهم. وقد حرّك أسلوب التكرار رغبة القدماء، والمحدثين على السواء في الوقوف على ماهية أسلوب التكرار وحقيقته وآليات اشتغاله؛ ذلك أن مفهوم بعض القدماء والمحدثين للتكرار يستند إلى تأسيس فيه إجمال يحتاج إلى تفصيل وإضاءة وتحليل. فهل اقتفى بديع الزمان سعيد النورسيّ أثر القدماء والمحدثين في تناول أسلوب التكرار؛ ومن ثمة كان امتداداً لأفكارهم وآرائهم؟ أم سلك مسلكاً مغايراً يشهد بفضل روية وذكاء عقل وطول تدبر؟ وما مفهوم التكرار عند بديع الزمان سعيد النورسيّ؟ وما علاقته بإثبات الحقائق الإيمانية؟ وهل التكرار ظاهرة جمالية أم ظاهرة نفسية؟ وما منهج النورسيّ في معالجة التكرار؟ وما الآليات العملية التي استند إليها في تطبيقاته على القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة؟
لعل إبراز خبيات المعاني، ورفع الحجب التي تواري اليقين عن حقائق أسلوب التكرار ينطلق من الإقرار بصعوبة المسلك، ودقة المأخذ إلا أنه عذب المذاق محمود العاقبة؛ ذلك أن رسائل النور ليست متناً واحداً يعالج قضية من القضايا؛ بل هو مجموعة متون في معارف مختلفة، وعلوم متباينة صاغها بديع الزمان النورسيّ في ظروف سياسية ونفسية خاصة لا تعين على كتابة علمية رصينة؛ بل إن الملابسات التي صاحبت تأليف رسائل النور تخلّ بمقتضيات الكتابة العلمية الرشيدة؛ ولكن النورسيّ أدرك بحسه المعرفيّ والإيمانيّ أن المراتب العالية لا تنال إلا بذهن صافٍ وعقل ناقدِ؛ فاستمد آراءه من بحر القرآن الزاخر؛ منطلقا في تسطير الرسائل، التي كانت خلاصة شافية فاضلة، من هموم الأمة الإسلامية.
ولقد سلك النورسيّ –رحمه الله– طريقاً وعراً؛ وهو في كل ما كتب بقي مصرّاً على التحدي العلميّ والروحيّ للخوض في معضلات معرفية عويصة؛ مسترشداً بأدوات موجبة للطف نظر؛ ومن ثم أيقن أن الشحنة الروحية، والعلمية هي وقود الاستمرار في الدفاع عن عقيدة الأمة.
التكرار عند بديع الزمان سعيد النورسيّ –المصطلح والأنماطُ–:
إن موضع الاستحسان، ومكان الاستظراف في رسائل النور أن مؤلفها النورسيّ أحسّ بحلاوة التكرار وجمالياته؛ فاتّخذه أداة لأسلوبه قبل أن يكشف عن غُرره ودرره في القرآن الكريم؛ معتبراً التكرار من خصائص أسلوبه، وليس عيباً في الكلام أو حيلة تعبيرية يتوارى من وراء حُجبها كلما ضاقت به وسيلة التعبير، وانهالت عليه المعارف لدرجة لا يملك طاقة لردّها أو التحايل عليها كما هو دأب كثير من المفكرين والأدباء الذين تعوزهم ملَكة البيان، وتتمرد الألفاظ على أسلوبهم فلا تسلم قيادها للسياق في تحديد معانيها؛ ومن ثم قدّم مسوّغاً لمسلكه في تكرار كثير من العبارات، والأفكار في مواضع متفرقة من رسائل النور؛ مقتفياً أسلوب القرآن في التكرار. قال العلاّمة بديع الزمان سعيد النورسيّ –رحمه الله–: "لقد طالعتُ الرسائل المرسلة إلينا، فرأيتُ أن عدداً من الحقائق قد تكررت لمناسبة المقام. إذ تكررت تلك الرسائل دون إرادتي بل خلاف رغبتي واختياري. فتضايقت من النسيان الذي اعترى ذاكرتي، وفجأة ورد إلى القلب هذا التنبيه: انظر إلى ختام 'الكلمة التاسعة عشرة‘. فنظرتُ إليه وهو يتناول بيان الحِكم الجميلة للتكرارات الواردة في القرآن الكريم، فهذه الحِكم تظهر أيضا في رسائل النور التي هي تفسير حقيقيّ للقرآن الكريم. فرأيت أن تلك التكرارات منسجمة تماماً مع تلك الحِكم، بل هي ضرورية أيضا".2
لا مرية في أن القراءة الفاحصة لكليات رسائل النور تقرّر أن بديع الزمان سلك مسلك التكرار في عرض أفكاره، وحقائق رسائله التي عدّها تفسيراً للقرآن الكريم؛ وهي حقيقة يعاينها من عايش الرسائل معايشة وجدانية صادقة، وخالطها مخالطة العارف بنفاسة الفلسفة الكونية التي انطلق منها النورسيّ في إثبات الحقائق الإيمانية.
ويجد الناظر في كليات رسائل النور أن مؤلفها يجنح إلى التكرار في كثير من المواضع؛ ولهذا المنهج مسوغات نفسية وموضوعية قادته إلى اصطناع هذا المذهب في الكتابة؛ فبعض رسائله كُتبت في ظروف الحرب العالمية الأولى وهو في جبهات القتال؛ وبعضها الآخر أُنجز في حالات من العرفان الصوفيّ؛ فضلاً عن أن حجم رسائل النور بلغ مئة وثلاثين رسالة، فكيف لكاتب مهما علا كعبه وسما نجمه أن يتقيد بأصول الكتابة الصارمة في ظروف لا تساعد على ضبط مسلك التحرير و التقييد، وتتحكم في مسارات التأليف؟
ولعل عين الإنصاف ترى أن مذهب النورسيّ في الكتابة جاء استجابة لملابسات المرحلة التاريخية التي عاشها وشارك فيها بآمالها وآلامها؛ شحذت همته، وصقلت أسلوبه؛ ثم إن معاودة النظر، ومراجعة الرسائل كانت بدافع ملاحظات طلابه ومريديه الذين أحسّوا إحساساً صادقاً بأن الرسائل لم تبلغ الغاية من الإتقان والإبداع؛ وهو شعور كل قارئ خَفِيت عليه الحكمة من التكرار كما تخفى أسرار التكرار، ولطائفه في أسلوب القرآن الكريم.
وبعد مراجعة النورسيّ لبعض الرسائل أيقن أن تكرار بعض الحقائق لم يرد سهواً أو اجتراراً أو استهلاكاً لما تقدم تقريره من الأفكار والحقائق؛ وإنما هي على شاكلة فوائد التكرار القرآنيّ؛ ولهذا كلّه، فليس ثمة غرابة في اعتبار تحرير رسائل النور وفق طريقة منهجية محكمة من خصائص أسلوب النورسيّ الذي دافع عنه من منطلق إيمانه بأن تكرار بعض العبارات في مواطن مختلفة يحقّق مصلحة بيانية؛ وهي من اللطائف الروحانية التي لا تبصرها إلا العقول النافذة؛ ولا تنكشف حُجبها إلا لذوي الأذهان الصافية؛ ولم يكتفِ النورسيّ بإقناع جمهوره بمسلك التكرار الذي تذرع به في تحرير كليات رسائل النور؛ وإنما قدّم مسوغات لهذا المذهب؛ مسترشداً بحقائق نفسية ناصعة. وفي هذا الصدد قال: "إن رسائل النور تفسير للقرآن الكريم، تفسير نابع من القرآن مدعّم بالبراهين، لذا فإن فيها تكرارات ضرورية مُساقة لحكمة ومصلحة كالتكرارات القرآنية اللطيفة، الحكيمة، الضرورية، والتي لا تسئم القارئ أبداً. وكذا لأن رسائل النور هي دلائل كلمة التوحيد التي تُكرر باستمرار على الألسنة في ذوق وشوق دون سأم، فإن تكراراتها الضرورية لا تعدّ نقصاً فيها، ولا تضجر القارئ ولا ينبغي لها أن تُضجر".3
من المقرر أن الفِطام على المعهود شديد، والنفوس عن الغريب نافرة، وهي حقيقة نفسية وروحية لها ما يعضدها في عالم الممارسة العرفانية والوجدانية؛ فالتكرار الوارد في رسائل النور كتكرار كلمة التوحيد التي كلما ترددت على ألسنة الناس ازداد الاشتياق إليها والحنين نحوها؛ لأنها حازت شرف الحكمة، والفضيلة؛ والسرّ الإلهيّ المتجلي في فضاء الكونين المسطور، والمنظور.
فما هو مفهوم التكرار، وأنماطه عند بديع الزمان سعيد النورسيّ؟
من العسير أن يظفر باحث متأمل لبيب بمفهوم دقيق للتكرار عند النورسيّ؛ ذلك أنّ تحديد مفهوم التكرار ورد في سياق استجلاء حقيقته النفسية والروحية؛ ونظراً لضخامة رسائل النور وسَعتها يمكن استكشاف مفهوم التكرار، وأنماطه المختلفة وفق النقاط الآتية:
1. خلوّ القرآن الكريم من التكرار المجانيّ:
من المركوز في الطبع البشريّ أن الأمر الذي يتكرر على المأمور يحمل في طياته تنبيهاً على تقصير بيّن في القيام بالواجبات؛ وهذا التنبيه في صيغة التكرار يخدش أنفة الإنسان وينتهك حرمته وقداسته؛ وقد يكون المأمور في قمة الطاعة والانضباط؛ بيد أن الآمر يعتريه ما يعتري صاحب الشأن من الريبة في وفاء المأمور؛ ولعل علاقة التكرار التي تربط الآمر بالمأمور هي صورة تشبيهية تمثيلية تناولها النورسيّ بأسلوب فيه كثير من الإبداع التمثيليّ الذي يجسّد ماهية تباين التكرار القرآنيّ عن غيره من التكرار البشريّ. قال بديع الزمان سعيد النورسيّ: "ولقد جال في ذهني يوماً سؤالٌ حول هذا التكرار في التوجيه والإرشاد القرآنيّ وهو: ألا تكون هذه التنبيهات المستمرة مدعاة لجرح شعور المؤمنين في ثباتهم وأصالتهم وإظهارهم في موقف لا يليق بكرامة الإنسان؟ لأنّ تكرار الأمر الواحد على الموظف من آمره يجعله في موقف يظنّ أنّه متّهم في إخلاصه وولائه! بينما القرآن الكريم يكرّر أوامره بإصرار على المؤمنين المخلصين".4
فالتكرار القرآنيّ هو حافظ كرامة الإنسان من عبودية القهر والتسلطّ والضيم؛ وهو علامة على تقدير الأوفياء والمخلصين، وشتان بين تكرار تحرّكه رغبة التحكم والحجر، وتكرير مصدره إشعاع ربانيّ يحترم آدمية الإنسان وحرمته؛ بل إن التكرار الذي يوجَّه لمخلِص هو شهادة له بالوفاء والاستقامة.
وعلى هذا الهدي نوضح أن التكرار المجانيّ لا وجود له في الخطاب القرآنيّ كما يزعم بعض الباحثين من العرب والمستشرقين؛ فالفائدة حاصلة، وإنتاج المعنى تكفله العبارة المتجدّدة؛ وهذا ما أومأ إليه النورسيّ بقوله: "فكل ما كُرر في القرآن الكريم إذاً من آية أو قصة إنما تشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة".5
فالمعنى الجديد ملازم لعبرة جديدة غير مسبوقة في سياق التكرار؛ وأكبر الظن أن منشأ هذه الجِدّة هو التكرار البليغ كما يسميه النورسيّ؛ ولعل في البلاغة ما يكفي للتدليل على ثراء الخطاب القرآنيّ وغنى سياقه التعبيريّ. فما الذي يجعل التكرار لا يُفقِدُ النَّصَ القرآنيَّ جماله ورونقه وبهاءه؟ وكيف إذن نقضي في أمر هذه الفائدة؟
إن دراسة واعية للنسيج الداخليّ للخطاب القرآنيّ تكشف عن حقيقة المكوّنات الداخلة في بناء أسلوب التكرار التي تُمدّه بعناصر البقاء والخلود الأزليّ؛ وقد أشار أحد الدارسين المعاصرين إلى طبيعة التركيب اللغويّ لأسلوب التكرار التي توجّهها عناصر خفية هي من صميم الإعجاز. فقال: "ما وراء التكرار في القرآن: وهذا الوجه يمكن أن نسميه تجاوزاً "بالتركيب الكيميائيّ للقرآن". وذلك أن أسلوب القرآن من هذه الوجهة مركب تركيباً دقيقاً بالغة الدقة، بحيث تقرب منه التركيبات المعملية التي توزن على مقادير بالغة الدقة، ولا تؤتى النتيجة المأمولة منها، إذا اختلت هذه التراكيب في جزء من مائة منها".6
والتحقيق أن وصف التكرار في القرآن بالتركيب الكيميائيّ مما هو مألوف عند البلاغيين والنقاد القدامى كالجرجانيّ، وابن رشيق وحازم القرطاجنيّ؛ والمراد بهذا الوصف أن المقادير المشكِّلة للخطاب القرآنيّ متناهية الدقة في ألفاظها ومعانيها؛ وهذا يزكي موقع التكرار في هذه الصياغة التعبيرية الدقيقة؛ ذلك أنّ التكرار من منطلق مفهوم التركيب الكيميائيّ لا يعني الإخلال بالمقادير أو الموازين التي توزن بها الدوال والمدلولات؛ وإنما هو من باب التنويع في القوالب التي تُسكب فيها هذه المواد. وقد أشار بديع الزمان النورسيّ إلى هذه التركيبة اللغوية البديعة؛ منكراً أن يكون التكرار من ضرب التفاوت التعبيريّ الذي لا ينسجم مع دقة النسج القرآنيّ، وإحكام مبانيه ومعانيه. قال النورسيّ: "اعلم! أن لكل آية ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً، ولكل قصة وجوهاً وأحكاماً وفوائد ومقاصد، فتُذكر في موضعٍ لوجهٍ، وفي آخر لأخرى، وفي سورة لمقصدٍ وفي أخرى لآخر وهكذا. فعلى هذا لا تكرار إلا في الصورة".7
إن الممعن النظر والمستقصي للتأمل يجد أن الصورة الكلية للخطاب القرآنيّ تتشكّل وفق مستويين من الخطاب، أو بنيتين تعبيريتين: إحداهما سطحية "الظهر، الحدّ"، وثانيتهما: عميقة "البطن، المطلع".
فالمقاصد والغايات، والأسرار متعددة والقصة واحدة؛ آية ذلك أن الإطار الخارجيّ للقصة يبقى على صورته اللفظية، وتتغير مقاصده بتغير السياق الذي ترِدُ فيه.
2. اللذة النفسية والجمالية حاصلة من كل تكرار قرآنيّ:
لعل من أجمل إبداعات النورسيّ –رحمه الله– حديثه عن اللذة المترتبة عن أسلوب التكرار في القرآن الكريم؛ وقد ربطَ بين لذة التجدّد في التكرار باللذة البيولوجية؛ وهو ربط في منتهى الإقناع، والإبداع.
إن رصد الفكر المتحكِّم في كتابات بديع الزمان سعيد النورسيّ يبين بوضوح أنه ألمّ إلماما واسعاً بالتراث البلاغيّ القديم؛ بل بلغ في فهمه درجة التمثل والابتكار؛ ويشهد لهذا الاستيعاب المعرفيّ أنه وسّع مجال النظر في المصادر المعتبرة للبلاغة العربية والقرآنية؛ فيجد المتأمل في الحكمة من ورود التكرار في القرآن الكريم كما ذكرها النورسيّ أنه لا يبعد كثيراً عما ورد في مصنفات ذوي الاختصاص من علماء البلاغة؛ إلا أنه انفرد بميزتين محوريتين:
• إحداهما أنه تناولَ أسرار التكرار في القرآن من منطلق مشروع إصلاحيّ حضاريّ ضخم سعى من خلاله إلى إثبات الحقائق الإيمانية، وتثبيتها وفق أسلوب ممتع جمع فيه بين جزالة اللفظ، وروحانية المعنى.
عالجَ موضوع التكرار في رحاب التمثيل؛ فقرنَ الحكمة من التكرار بما ينتج عن اللذة البيولوجية من الأكل والشراب؛ وهي التفاتة لطيفة تعكس وعياً نفسياً، وروحياً عالياً.
ومن النماذج الحية الناطقة بهذا الوعي النفسيّ قوله: "اعلم! أنه كما أن الحاجات الجسمانية مختلفةٌ في الأوقات؛ كذلك الحاجات المعنوية الإنسانية أيضا مختلفة الأوقات. فإلى قسمٍ في كل آن كـ "هو الله" للروح.
– كحاجة الجسم إلى الهواء– وإلى قسم في كل ساعة كـ "بسم الله" وهكذا فقس".8
مقتضى كلام النورسيّ أن الحاجة البيولوجية للإنسان مختلفة باختلاف الأوقات الداعية إليها؛ وتوزيع هذه الحاجات موقوف على الدافع الروحيّ؛ فتكرار بعض الآيات القرآنية كتكرار الحاجات البيولوجية التي لا غنى للمرء عنها؛ وقد ربط النورسيّ تجدد هذه الحاجات بالتوحيد الذي هو جوهر الدين.
وقد عمّق النورسيّ من مفهوم تجدّد اللذة البيولوجية في علاقتها بالتكرار فقال: "فتكرار الآيات والكلمات إذن للدلالة على تكرّر الاحتياج، وللإشارة إلى شدة الاحتياج إليها، ولتنبيه عرق الاحتياج وإيقاظه، وللتشويق على الاحتياج، ولتحريك الاحتياج إلى تلك الأغذية المعنوية".9
فمفهوم الاحتياج هو دلالة على أن التكرار لا يرد ما لم تطلبه الحاجة؛ ومن المقرر في الطبع الإنسانيّ أن الشيء إذا تكررَ طلبه بعد مشقة وعناء ازداد الاشتياق والتعلق النفسيّ به؛ ويُفهم من كلام النورسيّ أن التكرار من دون حاجة لا وجود له في القرآن؛ لأن ذلك معيب بمنطق الشرع، والعقل، والطبع.
وليس بخاف ما قد توحي به كلمة "الاحتياج" من دلالات اشتياق السياق القرآنيّ ذ، وحنينه وشغفه بالتكرار الذي يمده بغذاء جماليّ وفنيّ؛ ويوقظ فيه الشعور الروحيّ لمعانقة فضاء الحقيقة النورانية.
لا ريب أن مدلول الاحتياج فيه إجمال يحتاج إلى إشباع؛ وقد فصّل النورسيّ مفهوم الاحتياج في علاقته باللذة البيولوجية فقال: "إن قلت: إن في القرآن الموجز المعجز أشياء مكررة تكراراً كثيراً في الظاهر كالبسملة و ﴿فَبِأَيّ آلاَءِ..﴾ إلخ... و ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ﴾ إلخ... وقصة موسى وأمثالها، مع أن التكرار يُملّ وينافي البلاغة. قيل لك: "ما كلُّ ما يتلألأُ يُحرقُ" فإن التكرار قد يُملُّ، لا مطلقاً. بل قد يُستحسن وقد يُسأم. فكما أن في غذاء الإنسان ما هو قوتٌ كلما تكرر حلا وكان آنس، وما هو تفكّه إن تكرر مُلَّ وإن تجدد استُلِذَّ، كذلك في الكلام ما هو حقيقة وقوت وقوّة للأفكار وغذاء للأرواح كلما استعيد استحسن واستؤنس بمألوفه كضياء الشمس. وفيه ما هو من قبيل الزينة والتفكّه، لذتُه في تجدّد صورته وتلوّن لباسه."10
لقد أصاب النورسيّ –رحمه الله– الحق، وكشف عن حقيقة التكرار على هدى مساءلة عقلية ونفسية وبيولوجية قدّم من خلالها مسوغات مقنعة للحكمة من التكرار في القرآن الكريم؛ وهذا بيان وتفصيل:
أجاب النورسيّ عن أسرار التكرار في عبارات حاسمة واضحة مُفادها: أن النظرة العجلى للتكرار الوارد في بعض الآيات القرآنية، والقصص القرآنيّ قد تبدو لقاصر النظر أنها من التكرار العليل الذي يخدش وجه البلاغة العربية ويُذهب ماءها ورواءها.
وقد تحدّث النورسيّ عن نوع من الغذاء الحسيّ الذي لا يملّ؛ لأنه قوت ضروريّ لاستمرار الجنس البشريّ؛ وإن تكرر فلا يملّ ولا يسأم منه لعلاقته البيولوجية المستحكّمة في الإنسان؛ بيد أن من الغذاء ما هو من باب التفكّه الذي قد يملُّ منه؛ لأنه من كماليات الغذاء التي يستغنى عنها؛ فهذا الضرب من الغذاء وإن تكرر مُلَّ؛ وإن تجدّد ازداد الاشتياق إليه واللذة إلى نيله؛ لتجدده. وفي مقابل هذه اللذة البيولوجية المتجدّدة هناك لذة روحية من التكرار الذي لا يفضي إلى السآمة بقدر ما يحمل النفس على الاشتياق والحنين والشغف؛ ولعل مصدر هذا الحنين هو تجدّد الصورة، وتلون الشّكل. ولعل النورسيّ قد استلهمَ هذه الصورة التشبيهية للتكرار بضياء الشمس من قول أبي تمام:
"وطولُ مقام المرء في الحيّ مخلقٌ لديباجتيه فاغترب تتجدّد
فإني رأيتُ الشمسَ زِيدتْ محبّةً إلى الناسِ أن ليست عليهم بسَرمدِ."11
فالتكرار في الأسلوب القرآنيّ كضياء الشمس ضروريّة لوجود الإنسان، والكون؛ ومع مركزية الشمس وحاجة البشر إليها؛ إلا أنها قد تختفي لغرض فلكيّ، وتظهر للغرض نفسه؛ وفي اختفائها ما يحرّك الرغبة في الاشتياق إلى رؤيتها، والحنين إلى الاستمتاع بجمالها، ونورها.
وبين التجلي والخفاء تزداد لواعج الشّوق، وتلتهب نيرانه لرؤية المحجوب المطلوب الذي توارى عن الأنظار ليزيد من حرارة الانتظار، ولهيب الترقب، والتوقع؛ ولعل في هذا التمثيل البيانيّ ما يفسّر تكرار القصص القرآنيّ، وبعض الآيات القرآنية التي تزيد من ألم المتلقي، وحرقته في معرفة طبيعة المكرَر، وأسراره.
وقد اشترط النورسيّ –رحمه الله– لمعرفة لطائف التكرار الذوق المرهف، والإحساس الصادق الذي يرى بنور الله تعالى؛ وفي هذا السياق قال: "ومن كان له عين في بصيرته، يرى في التنزيل عيناً ترى كل الكون، كصحيفة مبصرة واضحة... وقد جاء مكرراً ليقرّر.. ومردّداً ليحقّق قصصاً وأحكاماً. مع أنه لا يُملُّ تكراره، ولا يُزيلُ عوْدُه ذوقَهُ ولا يُسئِمُ تردادهُ. كلما كرّر حقّق وقرّر، بل ما كررته تحلو وتفوح أنفاس الرحمن منه "إنّ المسك ما كررته يتضوّع". وكلما استعدتَه اسْتلَذْتَه؛ إنْ كان لك ذوق سليم بقلب غير سقيم. والسرّ فيه: إنه قُوتٌ وغذاءٌ للقلوب، وقوة وشفاء للأرواح. والقُوتُ لا يُملُّ تكرارُه.. فمألوفه آنس وألذ، خلاف التفكّه الذي لذتُه في تجدده، وسآمتهُ في تكرره".12
يشير بديع الزمان النورسيّ –رحمه الله– في هذا النص إلى بعض فوائد التكرار التي ذكرها العلماء؛ كالتقرير، والتحقيق؛ وهو كعادته يجنح إلى التمثيل ليدلّل على أن التكرار القرآنيَّ هو تكرار منتج للمعاني؛ كالمسك الذي إذا حُرّك ازداد طيباً، وكلما شُمّ انتشر أريجه وعطره؛ وعند كل استخدام له يزيد توسعاً. ويعلّل النورسيّ لجماليات التكرار الذي لا يفقد قوته التعبيرية، والفنية بأنه طاقة روحية، وغذاء نفسيّ ووجدانيّ، وعلاج للأرواح وهو قوت شبيه بالغذاء الذي لا يملُّ لوظيفته البيولوجية، وهو غذاء ضروريّ، وليس من التحسينات كالفاكهة التي تملُّ إذا تكررت؛ لأنها من الكماليات ولكن لذتها في تجددها؛ فكلما تغيرت الفاكهة حصلت اللذة.
ومن أمثلة هذه اللذة البيولوجية ما ذكره النورسيّ في سياق جامع لضروريات بقاء الكائن الحيّ؛ وقد قابلَ بين لذات حسية وروحية في علاقتها بتكرر الحاجات إليها فقال: "وكما أن الإنسان في حياته المادية يحتاج في كل آنٍ إلى الهواء، وفي كل وقت إلى الماء، وفي كل يوم إلى الغذاء، وفي كل أسبوع إلى الضياء، في الأكثر... فتتكرر هذه الأمور لتكرّر الحاجات، فلا تكون تكراراً... كذلك أن الإنسان بجهة حياته الروحانية أيضاً؛ يحتاج إلى أنواع ما في القرآن؛ فإلى بعضٍ في كل دقيقة بل في آن سيال: "هو... الله" فيه يتنفس الروحُ.. وإلى بعضٍ في كل ساعة كـ: "بسم الله"... وإلى بعض في كل وقت... وإلى بعض في كل زمان متدرجاً بدرجات الاحتياج فيكرر القرآن على ما تقتضيه حياة القلب تكراره."13
في هذا التعليق المفصّل يبدو أثر تعلق النورسيّ بفكرة إثبات الحقائق الإيمانية من منظور أسلوب التكرار في القرآن الذي عدّه محرّكاً للرغبة في تكرار الحاجات البيولوجية الضرورية التي تتكرر وفق منطق الحاجة المتدرجة؛ وهذا يعني أن الرغبة تتوزع بحسب الاحتياج إلى التكرار، وليست رغبة متواصلة متتابعة في كل وقت؛ وهذا شأن الحاجات الروحية المتجددة التي تطلبها النفس عند الاقتضاء. فما العلاقة بين الحاجات البيولوجية، والحاجات الروحية؟ وهل قضاء هذه الحاجات متاح في كل وقت؟
لا جدال في أن مقابلة النورسيّ لهذين النوعين من الحاجات مقابلة فيها كثير من التأمل الجاد، والنظر الحصيف؛ آية ذلك أنه اختار من الحاجات ما يحافظ على بقاء الكائن الحيّ على قيد الحياة؛ والاحتياج هو الذي يولّد الرغبة في تكرارها؛ ومن ثم فإن احتياج السياق القرآنيّ للتكرار مصدره تجدّد الحاجة التعبيرية والجمالية؛ وبعبارة أكثر أمناً: فإن الخطاب القرآنيّ لا يكرر آية أو قصة إلا إذا اقتضت الضرورة البيانية ذلك، وهذا ينفي اعتباطية التكرار، وعبثية الترداد.
ومن المثير للاهتمام أنّ النورسيَّ قيّد التكرار المنتج للمعنى بحلاوة التلاوة وعذوبتها؛ وذهب إلى أنّ: "القرآن الكريم قد أظهر عذوبة وحلاوة ذات أصالة وحقيقة بحيث إن التكرار الكثير –المسبّب للسآمة حتى من أطيب الأشياء– لا يورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته. وهذا أمر مسلّم به عند الجميع من ذلك العصر، حتى غدا مضرب الأمثال".14
التحقيق أن التسليم بأن التكرار الكثير لا يورث السآمة فيه نظر؛ بيان ذلك أن مسألة التكرار في القرآن من المسائل التي نالت حظاً وافراً من الجدل والمساجلة والاختلاف حتى عند أصحاب المذهب البلاغيّ الواحد، ناهيك عن المذاهب الأخرى التي تتحرك من منطلقات عقدية، سواء كانت شرقية أو استشراقية. ولعل التسليم الذي قصده النورسيّ –رحمه الله– هو إقرار أصحاب الصناعة والاختصاص الذين يُفزع إليهم عند الاقتضاء، ولا يهتدي إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص؛ لأنهم العارفون بأسرار التكرار ولطائفه؛ إذن، التسليم الوارد في نص النورسيّ ليس على إطلاقه؛ وإنما من محترزاته، وقيوده القلب السليم، والذوق غير السقيم؛ ومتى توفرت الفطرة الروحية والبيانية السليمة تكشّفت حقائق التكرار لناظر سليم البصر، والبصيرة.
وينطلق النورسيّ في إثبات مركزية التكرار في الإعجاز القرآنيّ من قضية دلائل إثبات التوحيد؛ ويرى في تكرار هذه الأدلة ما يبعث على تنبيه المؤمن والكافر إلى حقيقة الوجود، وهي من أعظم الحقائق لارتباطها بالإيمان؛ وفي هذا الصدد قال: "لو قام القرآن بتوجيه الأنظار إلى الإيمان بتلك الانقلابات المدهشة وحمل الآخرين على تصديق تلك المسألة العظيمة الضرورية للبشر... نعم لو قام به آلاف المرات وكرّر تلك المسائل ملايين المرات لا يعدّ ذلك منه إسرافاً في البلاغة قط، كما أنه لا يولّد سأماً ولا مللاً البتة بل لا تنقطع الحاجة إلى تكرار تلاوتها في القرآن الكريم، حيث ليس هناك أهم ولا أعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة".15
ولعِظم أمور الآخرة، والتوحيد والإيمان يجنح القرآن الكريم إلى أسلوب التكرار؛ قصد لفت الأنظار إلى جوهر الحقيقة الإيمانية؛ وأكبر الظن أن البلاغة لا تنافي التكرار الذي يفضي إلى تثبيت العقيدة الصحيحة والإيمان الراسخ؛ بل إن أحوج الأمور إلى الترداد، والتكرير مسائل الآخرة لشدة الغفلة والانحراف.
ولا جرم أن فكرة اللذة المتجدّدة من كل تكرار في القرآن الكريم وجدت طريقها عند النورسيّ إلى مجال الممارسة العملية، والتطبيقية في كليات رسائل النور؛ فقد أكثر النورسيّ من الشواهد القرآنية للتدليل على فكرة اللذة البيولوجية والروحية؛ ولعل قليلاً من النماذج، والشواهد يغني عن الإفاضة في شرح فلسفة النورسيّ في التكرار؛ وسوف نكتفي ببعض الإشارات والتنبيهات.
ومن أجمل الشواهد التي قرن فيها النورسيّ –رحمه الله– بين اللذة البيولوجية، وتكرار بعض الآيات القرآنية إشارته الآتية: "إذا عرفتَ هذا فاعلم ! أنه كما أن القرآن بمجموعه قوتٌ وقوّة للقلوب لا يُملُّ على التكرار بل يُستحلى على الإكثار منه، كذلك في القرآن ما هو روح لذلك القوت كلما تكرر تلألأ وفارت أشعة الحق والحقيقة من أطرافه، وفي ذلك البعض ما هو أسّ الأساس والعقدة الحياتية والنور المتجسد بجسدٍ سرمديّ كَـ ﴿بسْمِ الله الرَّحْمٰن الرَّحِيْم﴾. فيا هذا شاورْ مذاقك إن كنتَ ذاَ مذاق!.."16
ظاهر كلام النورسيّ أنّ القرآن غذاء روحيّ لا يملُّ مهما تكرر؛ لأنه يستمد قوته من طاقة إلهية لا تنضب ومن مادة الوحي الثرية التي تشع من حقيقة البسملة التي هي نور أبديّ أزليّ تنفجر قوته من هذا الإشعاع الربانيّ؛ فالتكرار هو الشعاع الإلهيّ، والنور الذي تجلت حلاوته، وانتشر أريجه في البسملة.
وقد تناول بديع الزمان النورسيّ –رحمه الله– بالتفسير أكثر الآيات القرآنية اختلافاً بين المفسّرين، وعالجها معالجة أزالت غشاوة المستشرقين الذين يستند أغلبهم في تفسير هذه الآية إلى اعتبارها ملمحاً من ملامح القصور البيانيّ؛ وهو تفسير قاصر عن ملامسة جوهر الآية وحقيقتها. وقد انفرد النورسيّ بقراءة تفسيرية نابعة من رحم فلسفة التوحيد والإيمان، وفي هذا المعنى قال: "اعلم أن تكرار آية: ﴿فبأيّ الآءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ في مقاطع الآيات التنزيلية المشيرة إلى الآيات التكوينية المتنوعة المختلفة في سورة 'الرحمن‘ يدل على أنّ أكثر عصيان الجن، والإنس وأشدّ طغيانهما وأعظم كفرانهما يتولد من: عدم رؤية الإنعام في النعمة... والغفلة عن المنعم... وإسناد النعم إلى الأسباب و التصادفات... حتى يصيرا مكذّبين بآلآء الله. فلا بد للمؤمن من أن يبسمل بدء كل نعمة قاصداً بها أنها منه، أنا آخذها باسمه وبحسابه، لا بحساب الوسائط، فله الشكر والمنة."17
إن مدار الاستقامة في تفسير هذه الآية هو إثبات الحقائق الإيمانية وتثبيتها؛ وقد تكررت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة في سياق الحديث عن تَعداد بدائع صنع الله، وعجائب خلقه؛ وقد خاض كثير من المفسرين والأدباء والبلاغيين في توجيه الحكمة من تكرار هذه الآية كتوجيه ابن قتيبة الذي فهم التكرار من منظور بلاغيّ ورأى أن هذا الأسلوب من مذاهب العرب وسننهم في التعبير،18 كما التفت محمود الكرمانيّ –رحمه الله– إلى فلسفة توزيع العدد (31) المكرَر في الآية إلى العدد سبعة وثمانية بعدد أبواب الجنة، وجهنّم وعدد الآلآء المذكورة في سياق تعداد نعم الله تعالى،19 وأعتقد أن النورسيّ أصاب كبد الحقيقة، وأتى مؤتى يوجب الفضيلة البيانية حين فسّر تجدّد الإقرار بنعم الله تعالى بعد كل فصل بغفلة الجن، والإنس عن فعل الإنعام الذي هو مدار الطلب، ومصدر النعمة الذي هو الله تبارك وتعالى؛ ومن ثم يقع الانحراف في عدم تقدير النعمة ونسبتها إلى غير الله جلّ وعلا؛ وبالتالي يفضي الانكار إلى تكذيب نعم المنّان؛ وقد أشار النورسيّ إلى حقيقة الإقرار المتجسّد في ردّ النعمة إلى المنعِم لا إلى غيره من البشر؛ وكأنه يشير إلى حقيقة التوحيد الموجبة لتجديد العهد مع المنعِم، والاعتراف بفضله.
ومن الآيات القرآنية التي استوقفت بديع الزمان سعيد النورسيّ البسملة التي اعتبرها نبراساً مضيئاً لهذا الكون، وحاجة تتجاوز الحاجات البيولوجية إلى حاجة ضرورية لا غنى عنها للإنسان؛ وفي هذا الصدد قال: "فعلى سبيل المثال إن جملة ﴿بسمِ الله الرّحمٰنِ الرّحِيم﴾ هي آية واحدة تتكرر مائة وأربع عشرة مرة في القرآن الكريم، ذلك لأنها حقيقة كبرى تملأ الكون نوراً وضياءً وتشد الفرش بالعرش برباط وثيق [...] فما من أحد إلا وهو بحاجة ماسة إلى هذه الحقيقة في كل حين، فلو تكررت هذه الحقيقة العظمى ملايين المرات فالحاجة مازالت قائمة باقية لا ترتوي. إذ ليست هي حاجة يومية كالخبز، بل هي أيضا كالهواء والضياء الذي يُضطر إليه ويشتاق كل دقيقة".20
فتكرار البسملة ليس من قبيل التكرار الذي يُملّ؛ وإنما هو تكرار روحيّ يربط الأرض بالسماء؛ ولعل في هذا التعانق المتين، والرباط المكين ما يكفي لتعزيز موقع البسملة في حياة المسلم الذي يزداد شوقاً وتعلقاً بهذه العلاقة الروحية التي تتخطّى إطار الكائن الحيّ في حاجاته الجسمانية إلى احتياج كونيّ.
ولعل مما له دلالة في هذا الصدد توجيه النورسيّ لتكرار الآية التاسعة التي تكررت في سورة الشعراء ثماني مرات وليس في تكرارها ما يعيب السياق القرآنيّ، وجمال العبارة؛ وإنما هو إثراء للسياق، وتجديد لمسالك التعبير. وقد علّق بديع الزمان سعيد النورسيّ قائلاً: "وإن الآية الكريمة ﴿وَإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزيزُ الرّحِيم﴾ تتكرر ثماني مرات في سورة 'الشعراء‘. فتكرار هذه الآية العظيمة التي تنطوي على ألوف الحقائق في سورة تذكُر الأنبياء عليهم السلام وعذاب أقوامهم، إنما هو لبيان: أن مظالم أقوامهم تمسّ الغاية من الخلق، وتتعرض إلى عظمة الربوبية المطلقة، فتقتضي العزة الربانية عذاب تلك الأقوام الظالمة مثلما تقتضي الرحمة الإلهية نجاة الأنبياء عليهم السلام. فلو تكررت هذه الآية ألوف المرات لما انقضت الحاجة والشوق إليها، فالتكرار هنا بلاغة راقية ذات إعجاز وإيجاز."21
إن القراءة الهادئة المتأنية لتفسير النورسيّ تقودنا إلى فهم المقابلة الدلالية التي تناولها في سورة الشعراء؛ وهي مقابلة تكشف عن الغاية السامية من الخلق وهي عبادة الله تعالى، والانحراف عن الفطرة موجب لعذاب الله؛ كما أن دعوة الأنبياء لأقوامهم ومعاناتهم مصونة برعاية الله. فما السرّ في تكرار هذه الآية ثماني مرات في سورة الشّعراء؟
لا مرية في أن المقصد الأزليّ الذي من أجله خُلق البشر هو الامتثال لأوامر الله، واجتناب نواهيه؛ وتنكب جادة الاستقامة الإلهية يفضي إلى عقاب الله تعالى، وهو عقاب عزيز رحيم؛ لأن جسامة الجرم المرتكب "المروق عن الدين" بعد دعوة الأنبياء لأقوامهم وصبرهم على مشقة التبليغ يناسب طبيعة الجزاء؛ وقد أشار النورسيّ إلى سرّ هذا التكرار الذي فسّره في رحاب الاحتياج، والاشتياق إلى تكرار الآية؛ لما فيها من الإيجاز والإعجاز الذي تضمّن الجمع بين العزة، والرحمة في سياقين مختلفين.
وانتقل النورسيّ إلى فضاء دلاليّ آخر له تعلق بتكرار النعيم الأبديّ السرمديّ الذي أعدّه الله تبارك وتعالى لمحبيه وعباده المخلصين. فقال: "فمثلاً: أن حقيقة الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾البروج:11 هي بشرى السعادة الخالدة تزفّها هذه الآية الكريمة إلى الإنسان المسكين الذي يلاقي حقيقة الموت كل حين، فتنقذه هذه البشرى من تصور الموت إعداماً أبدياً، وتنجيه –وعالمه وجميع أحبته– من قبضة الفناء، بل تمنحه سلطنة أبدية، وتكسبه سعادة دائمة... فلو تكررت هذه الآية الكريمة ملياراً من المرات لا يُعد من الإسراف قط، ولا يمسّ بلاغته شيء."22
ومن المفيد القول هنا: إنّ اللغة العرفانية المهيمنة على تفسير هذه الآية الكريمة تجعل القارئ يستحضر هذا الفضاء المنعَّم، الذي اعتبره النورسيّ رحلة في فضاء المطلق؛ وقد قدّم مفهوماً لفلسفة الموت في منتهى القوة والسداد؛ بيان ذلك أنه استقرّ في نفوس البشر أن هاجس الموت يلاحق الإنسان منذ ولادته؛ ولعل في هيمنة هذا الشعور القاتم ما يجعل الإنسان يتخذ فلسفة ما في فهم الحياة، والتعامل مع مشكلاتها؛ بيد أن النورسيَّ يرى في الجنة البشرى السرمدية، والأبدية التي تنتشل البشر من سطوة الفناء الذي هو مصير كل الكائنات؛ فالموت ليس إعداما أزلياً للبشر؛ وإنما هو نقلة إلى عالم السعادة الكبرى، والراحة العظمى؛ ومن ثم تكرار هذه الحقيقة القرآنية في تجلياتها الفلسفية يصوّب كثيرا من التصوّرات الخاطئة، ولا يقدح في بلاغة القرآن، وسموه الفنيّ.
وتأكيداً لمنهج تصويب بعض الأفكار، والتصورات المتعلقة بالموت، و العذاب، والجحيم والكفر يوّسع النورسيّ من دائرة الممارسة التطبيقية؛ فتناول الآية السادسة والثلاثين من سورة فاطر، والآية الثانية والعشرين من سورة إبراهيم. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ﴾.فاطر:36 ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.إبراهيم:22 قال النورسيّ معلّقاً على الآيتين الكريمتين: "فلو يكرر سلطان الكون في أوامره تلك الجناية العظمى "الكفر" وعقوبتها بأسلوب في غاية الزجر والشدة ألوف المرات، بل ملايين المرات، بل مليارات المرات لما عُدّ ذلك إسرافاً مطلقاً ولا نقصاً في البلاغة، نظراً لضخامة تلك الجناية العامة وتجاوز الحقوق غير المحدودة، وبناء على حكمة إظهار أهمية حقوق رعيته سبحانه وإبراز القبح غير المتناهي في كفر المنكرين وظلمهم الشنيع. إذ لا يكرر ذلك لضآلة الإنسان وحقارته بل لهول تجاوز الكافر وعظم ظلمه."23
قدّم النورسيّ تصوراً للكفر غاية في الابتكار؛ ذلك أن الكفر يتجاوز حدود عدم الإيمان بالله تعالى إيماناً مطلقاً إلى قبح غير متناهٍ؛ وفي دلالة كلمة "القبح" ما يوحي بجهل الكافر لجمال الكون وخالقه؛ فهو تعدٍ على مصدر هذا الجمال الإلهيّ في تجلياته المختلفة؛ لأن الإيمان في بعده العقديّ إقرار بجمال المولى تبارك وتعالى واعتراف بمطلق حسنه؛ ومن اللافت للنظر في تفسير النورسيّ ربطه الظلم بتجاوز الحد في الاعتداء على حقوق الناس المطلقة؛ ومن ثم فالكفر والظلم تجاوز لامحدود؛ وإن ارتبط التعدي الأول بالبعد العقديّ، وتعلق الثاني منه بالتعدي الأخلاقيّ في المعاملات البشرية. ويفسّر النورسيّ –رحمه الله– الحكمة من التكرار الذي يراه بلاغة عالية، وصنعة سامية بطبيعة الجرم المرتكب، والجناية الكبرى التي يرتكبها الكافر والظالم؛ مع إقراره بآدمية الإنسان، واحترامه.
فالتكرار له ما يسوّغه بالنظر إلى جسامة الكفر، وفداحة الظلم؛ لتجاوزه إطار القيم العقدية والأخلاقية؛ وبالتالي ناسب أسلوب التكرار سياق الشّدة، والزجر مناسبة تامة؛ وأغلب الظن أن في هذا الزجر ردع للمعتدي وجهله بحقوق الآخرين التي صانها القرآن الكريم؛ بل إن الظالم للبشر ظالم لله تعالى؛ وهو الواحد القهّار.
3. التقرير والتأكيد والتثبيت:
من مقاصد التكرار التي ذكرها النورسيّ في كليات رسائل النور التقرير والتأكيد والتثبيت، وكلها معانٍ ذكرها المتقدمون وأفاضوا في شرحها وتفصيلها؛24 غير أن بديع الزمان النورسيّ عالجها من منطلق الحقائق الإيمانية؛ ومن ثم انفرد في منهج المعالجة؛ وقد ذُكرت هذه المقاصد في سياق متصل أحياناً، وفي مقامات مختلفة أحياناً أخرى.
قد يكون من المفيد أن نتذكَّر آراء المستشرقين الذين تناولوا أسلوب التكرار من منطلق واضح الفساد، ظاهر البطلان؛ ويشهد على تهافت آرائهم، أنهم نظروا إلى التكرار من زاوية ضيقة ترى فيه دليلاً على قصور العبارة القرآنية، التي تستنجد بالتكرار اللفظيّ كلما ضاقت الدائرة التعبيرية حسب زعمهم؛ وهي رؤية تعزّز قلة اطّلاعهم على معارف المتقدمين البلاغية، وضعف استئناسهم بمقاصد التكرار وجمالياته. وقد عبّر النورسيّ في أكثر من موضع عن قصور أفهام هؤلاء، ومن اقتفى أثرهم من الباحثين العرب قديماً وحديثاً. قال النورسيّ بنبرة من النّقد اللاذع: "اعلم أن القرآن لأنه كتاب ذِكر، وكتاب دعاء، وكتاب دعوة، يكون تكراره أحسن وأبلغ بل ألزم، وليس كما ظنّه القاصرون، إذ الذِكر يُكرّر، والدعاء يُردّد، والدعوة تُؤكّد. إذ في تكرير الذِكر تنويرٌ، وفي ترديد الدعاء تقريرٌ، وفي تكرار الدعوة تأكيدٌ."25
لقد ربط النورسيّ التكرار بمسائل الإيمان المحوجة إلى التمكين، والترسيخ والتثبيت؛ لأن هذه الشعائر التعبدية ألصق بالقلب، والوجدان وهو موطن التأثير؛ وكل شعيرة روحية لها سبب ونسب بالتكرار في مستوياته المختلفة؛ فالذِكرُ المُكرَر إنارة للقلب وإضاءة للروح، والدعاء المردَّد اعتراف باحتياج الداعي، واشتياقه إلى رحمة الله تعالى ورأفته، والدعوة أداة لتثبيت الرسالة الموجّهة للعامة، وتحقيقها قصد الإقناع.
وتتجلى جماليات التكرار في صور شتى من التقرير والتأكيد والتثبيت؛ وكلها أنماط لها تعلق بالحقائق الإيمانية الموجبة لتثبيت العقيدة، وترسيخها في قلوب عامة الناس؛ فطبيعة الحقيقة الإيمانية وخصوصية وسائل تبليغها وتوصيلها إلى المتلقي تزكّي مسلك التكرير الذي يفضي إلى الإقناع والتحقيق واليقين؛ وفي هذا المعنى قال النورسيّ –رحمه الله–: "اعلم! أن القرآن يبحث عن وسائل عظيمة ويدعو القلوب إلى الإيمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول إلى معرفتها... فلا بد لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة".26
4. التأسيس:
انفرد النورسيّ –فيما نعلم– بمقصد من مقاصد التكرار؛ وهو التأسيس الذي يستند إليه التأكيد؛ واللافت للنظر أن بديع الزمان لم يحدّد تحديداً دقيقاً هذا المفهوم؛ وإنما مثّل له بشواهد؛ ويبدو أن التأسيس هو كالمقدمة لتأكيد سياق التكرار فتسبقه وتعضّده. قال النورسيّ، مسترشداً بالأذكار التي تُردّد بعد عقب كل صلاة مثل: الله أكبر، الحمد لله، سبحان الله: "هذه الكلمات المباركة التي تتكرر بعد الصلوات؛ شاهدتُ أنها ليست تكراراً، بل تأسيس [...] أو تأكيد في تأسيس معانيها متساندة لا متحدةً. مثلاً: رميتَ حجراً في وسط حوض كبير تقول للدائرة المتشكّلة من وقوع الحَجر: واسعة... واسعة... واسعة... كلما تتلفظ بواسعة تتظاهر دائرة أوسع. وكذا تأكيدٌ في المعنى، تأسيسٌ في المقاصد والثمرات."27
وظاهر كلام النورسيّ أن التأسيس هو توليد للمعاني، وإثراء للمقاصد؛ فاللفظ المكرر ظاهراً هو امتداد للمعنى المتواصل؛ وتوسيع من المجال الدلاليّ للكلمات؛ لبلوغ الغاية من التأييد، والتقرير والتأكيد؛ فاللفظ المردَّد يعضد قرينه في سلسلة متعاضدة ومتساندة، لا اتحاد بينهما إلا في الصورة اللفظية.
وزاد النورسيّ –رحمه الله– من توضيح معنى التأسيس من منطلق صوفيّ عرفانيّ في تناول مسألة التوحيد قائلاً: "فاعلم أن 'لا إله إلا الله‘ يتضمن من التوحيد، ومن أحكام التوحيد عدد الأسماء الحسنى... فهذا الكلام الواحد يشمل على ألوف كلام، كل كلام مثل هذا الكلام مركب من نفي وإثبات. ولأجل أن النفي يتوجه على فردٍ فرد بالاستغراق الفرديّ؛ يكون في الإثبات، إثبات مجموع ما نفي عن الغير، بالقاعدة المقررة في المنطق. فكأنه قيل: 'لا خالق، ولا رازق، ولا قيوم، ولا مالك، ولا فاطر، ولا قهّار إلا الله‘... وهكذا؛ فيمكن أن ينبسط هذا الكلام للذاكر المترقي في الأطوار والمراتب، على كل مراتبه وأحواله، فيكون التكرار كالتأكيد بالتأسيس".28
يتجلى من كلام النورسيّ أن كلمة التوحيد فيها من الكثافة الدلالية والإشعاع اللفظيّ ما يجعل الذاكِر لها يرتقي في مدارج السّالكين، غارقاً في الملكوت الإلهيّ، وكأنها معراج العارفين؛ كلما انتقل من مرتبة إلى أخرى ازداد يقين الذاكِر بحقيقة التوحيد، وترسّخت معاني الأسماء الحسنى؛ وتراءت للناظر العاشق ثمرات الخلق، ومقاصد الرزق والملك والقهر وغيرها. فالتكرار غرضه تأكيد أسماء الله الحسنى في منطق متدرج يؤسّس لمعنى تلو الآخر.
5. التيسير على قارئ القرآن:
يرتبط هذا المقصد من التكرار بتوفير الجهد على قارئ القرآن الكريم؛ وقد استعان النورسيّ في تأصيل الحكمة من التكرار بتعميم مقاصد القرآن، واختزالها في سور بعينها حتى يكون هذا الاختصار مُعيناً لكل المتلقين على تفاوت درجة إيمانهم ومواظبتهم على التلاوة والقراءة. وفي هذا المقام أشار النورسيّ قائلاً: "واعلم أنه لا يمكن لكل أحد في كل وقت قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحد في كل وقت. فلهذا أدْرَجَ الحكيمُ الرحيمُ أكثر المقاصد القرآنية في أكثر السور؛ لا سيما الطويلة منها، حتى صارت كل سورة قرآناً صغيراً، فسهَّل السبيل لكل أحد، دون أن يَحْرُم أحداً، فكرر التوحيد والحشر وقصة موسى u".29
وربما يكون من المناسب هنا أن نرفع اللبس والغموض عن عبارة "قرآن صغير أو مصغّر"30 كما وردت في كليات رسائل النور؛ وقد أشرنا إلى هذه المواضع في الهامش؛ ولعل مقصد النورسيّ خلاف ما قد يُتوهم من وجود أكثر من قرآن؛ ثم إن الصفة لا تنطبق على الموصوف؛ وقد يكون السبب في ذلك الترجمة من اللغة التركية؛ والعارف بمنبع العلاّمة النورسيّ –رحمه الله– وحرصه على قداسة القرآن وحرمته؛ بل عشقه اللامحدود للإسلام؛ فضلاً عن حرص العالم الجليل –أدام ا
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Aralık 2013 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2013 Cilt: 8 Sayı: 8 |