بديع الزمان سعيد النورسي والتصوف
عبد الرزاق الغول1
أولاً: من هو بديع الزمان النورسي
في عام 1876م - 1293هـ وفى قرية صغيرة تقع في الجنوب الشرقي لتركيا تسمى نورس وفى أسرة اشتهرت بالتقوى والصلاح ولد غلام نجيب مبارك سماه أبوه سعيدًا، وفى كتاب القرية تعلم القرآن الكريم والسنة المطهرة والحديث الشريف، ثم نهل من العلم في المدارس القريبة من قريته، ورحل بعد ذلك لطلبه من مظانه في معاهد العلم ومراكزه ليعب من فروع الشريعة وعلوم اللغة والمنطق.
رزقه الله حافظة قوية وقلبًا ذكيًا وذاكرة لاقطة استظهرت عشرات أمهات الكتب، ثم انتقل إلى مدينة "وان" ليدرس العلوم الطبيعية بجانب العلوم الشرعية فاستوعب علوم الرياضات والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا ليجمع بين العلم الشرعي والعلم التطبيقي التجريدي الطبيعي والفلسفة والتاريخ وغيرها.
حاضر الطلاب وناظر الشيوخ والعلماء من بنى عصره حتى شهدوا له بعلو قدره واعترافًا بفضله وإقرارًا بسبقه وغزارة علمه وسعة اطلاعه سموه بديع الزمان.
عصر النورسي وظروف مجتمعه
عايش بديع الزمان دولة الخلافة الإسلامية في سنيها الأخيرة -عهد السلطان عبد الحميد الثاني- وشهد المؤامرات التي حاكتها الصهيونية العالمية ضد دولة الخلافة لتقطيع الدولة الإسلامية الواسعة من أطرافها على يد جمعية الاتحاد والترقي وحزب تركيا الفتاة الذين استدرجوا دولة الخلافة إلى حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، بل جلبت الشر المستطير والاحتلال البريطاني واليوناني والإيطالي لدولة الخلافة، حتى إن عاصمة الخلافة نفسها حوصرت وكانت أسيرة وضحية هذه الحرب البغيضة، وهنا تبرز عظمة الشعب التركي المسلم الذي هب يقاوم حتى طرد المحتلين، ولكنه وإن سلم من شرورهم لم يسلم من قلة انتسبت للشعب وأصبحت عدوًا للأمة تستبيح بيضتها وتقتل رجالها وتأسر وتشتت علماءها وقادتها.
في هذه الظروف الحالكة ظهر بديع الزمان سعيد النورسي ليحمل هموم أمته على كاهليه ويتولى قيادة الأمة في مجال الدعوة والإصلاح بالتربية وفى مجال الجهاد لتحقيق أهداف الأمة وآمالها.
جهاده وأهم أعماله
1 - قدم بديع الزمان للسلطان عبد الحميد الثانى أول مشروع لإنشاء جامعة إسلامية على شاكلة الأزهر الشريف في مصر إيمانًا منه بأن "ضياء القلب هو العلوم الدينية وتعلو بكلا الجناحين، وبافتراقهما يتولد التعصب في الأولى والحيل والشبهات في الثانية".2
2 - سافر إلى الشام واختلط بقادتها وعلمائها وخطب بالمسجد الأموي بدمشق في أهل الشام خطبة شهيرة وهى التي تسمى بالخطبة الشامية وضح فيها برنامجه الإصلاحي السياسي والاجتماعي المتكامل.3
وفى سنة 1328هـ حدث عصيان وتمرد عسكري ضد الاتحاديين الذين أعدوا المحاكمات، ومع أن بديع الزمان لم يكن له دور في هذا العصيان وإنما عرفت عنه الحكمة وقيامه بالتهدئة حقنًا للدماء إلا أنه حكم عليه بالإعدام ثم أنقذه القدر من هذه المحاكمة الظالمة.
3 - عندما نشبت الحرب العالمية الأولى وغزا الروس بلاده شكل النورسي فرقًا فدائية من طلابه قادها بنفسه دفاعًا عن بلاده وله مواقف ومعارك مشهودة في جبهة القفقاس، حتى سقط جريحًا فاقتاده الروس أسيرًا في 2/ 3/ 1916 وأسر في قوصتورما بروسيا وظل حوالي ثلاث سنوات إلى أن قامت الثورة البلشفية وقيض له الله الفكاك من الأسر ليعود فتكرمه بلاده وتمنحه وسام الحرب اعترافًا بشجاعته، كما عرضوا عليه الوظائف المرموقة فرفضها زهدًا في المناصب الحكومية.
لكنه التحق بـ "دار الحكمة الإسلامية"باعتباره من كبار العلماء وانتشرت مؤلفاته في هذه الفترة خاصة تفسيره القرآني القيم "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز".
4 - أثناء احتلال الإنجليز لإسطنبول عاصمة الخلافة سنة 1920 وقف العالم الرباني في طليعة المجاهدين وحرك بكتيبه الصغير "الخطوات الست" مشاعر مواطنيه وشجاعتهم واستثار نخوتهم وغيرتهم، وقاد حرب التحرير حتى طرد الغزاة عن بلاده.
5 - لكن أصعب مواقفه وأشقها كانت بعد تأمر الاتحاديين والصهيونية العالمية على إلغاء السلطنة سنة 1922 تمهيدًا لإلغاء الخلافة الإسلامية بالكلية سنة 1924 وهى الفاجعة التي جرت المصائب ليس على تركيا بل على العالم الإسلامي كله.
ففى تركيا منع الأذان باللغة العربية وحول مسجد أيًا صوفيًا إلى متحف يزار للسياحة واستبدلت بالحروف العربية اللاتينية في الكتابة ومنع التعليم الديني في المدارس والمعاهد وأرغم الرجال على الزي الإفرنجي كما أرغمت النساء على السفور ونزع الحجاب، وفرض النظام الغربي وقوانينه على الناس فرضًا مما لا تزال آثاره باقية حتى الآن، كما أخذ الناس بالظنة، وأقيمت المحاكم الجائزة في كل مكان ونصبت أعواد المشانق للأحرار وأبعد العلماء وحدثت ردة عظيمة نشرت الإلحاد ودخلت البلاد في نفق مظلم. وكان ممن شردوا بديع الزمان الذي أبعد إلى غربى الأناضول ونفى إلى "بارلا" سنة 1926م.
هذه النكبات نالت تركيا دولة الخلافة كما نالت الدول الإسلامية حيث اقتطعت من أطرافها وتمزقت شر ممزق وتكالب عليها أعداؤها تكالب الأكلة على قصعتها حين تقاسم الذئاب ما سموه بتركة الرجل المريض.
وكانت قمة المصائب الناجمة عن سقوط دولة الخلافة هو تحقيق الحلم الذي عملت له الصهيونية العالمية ولم تستطيع إنجازه في عهد السلطان عبد الحميد الثاني لا ترغيبًا ولا ترهيبًا ألا وهو العمل بسرعة لزرع دولة إسرائيل في قلب العالم الإسلامي والعالم العربي في فلسطين والذى أبى عبد الحميد إباء بالغًا التنازل عنها لليهود فكان ما كان من مؤامرات حيكت وأدت إلى سقوط دولة الخلافة التي حفظت بيضة الإسلام عدة قرون.
فى هذه الظروف الصعبة ظهر للنورسي منهاجه الإصلاحي المتمثل في رسائل النور التي كان لها الأثر العظيم في مواجهة هذه الحرب الضروس ضد هوية الأمة وعقيدتها.
ظهور رسائل النور
فى هذا الظلام الدامس والأعوام العصيبة ظهرت رسائل النور، دبجتها قريحة صناع ماهر خبير بالنفوس وما يصلحها، وكتبها صاحبها رسالة رسالة حتى وصلت إلى 130 رسالة جمعها فيما سماه "كليات رسائل النور" وهى عصارة علمه وخبراته وحياته وجهاده، سطرها في غياهب السجون متنقلاً من معتقل إلى معتقل ومن سجن إلى آخر، وهو ما يذكرنا بـ "معالم في الطريق" و"في ظلال القرآن" التي كتبها صاحبها في أقبية السجون ويذكرنا أيضًا بالفتاوى الكبرى وغيرها من الآثار النفيسة والدرر الغالية التي أملاها على تلاميذه شيخ الإسلام ابن تيمية منذ سبعة قرون تقريبًا وهو في سجن مصر ومنافى الشام لتبقى تراث الأمة ونبراس سبيلها إلى أن تقوم الساعة.
ويذكرنا أيضًا بالروائع الخالدة والأدبيات التي نظمت بالسجون لأرباب السيف والقلم من أمثال أبى فراس الحمداني ومحمود سامى البارودي وغيرهما من الفرسان المجاهدين.
تعد رسائل النور خلاصة حياة هذا العالم الرباني المجاهد كما ذكرت آنفًا ولندع صاحبها يحدثنا عن بداية ظهورها يقول:
"صرفت كل همى ووقتي إلى تدبر معانى القرآن الكريم، وفى هذه الأثناء تولدت من صميم قلبي معانى جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم أمليتها على من حولي من الأشخاص تلك الرسائل التي أطلقت عليها رسائل النور. إنها انبعثت حقًا من نور القرآن الكريم، لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وإنما إلهام إلهي أفاضه الله على قلبي من نور القرآن الكريم، فبورك كل من استنسخها، لأنني على يقين أن لا سبيل إلى حفظ إيمان الآخرين غير هذه السبيل، وهكذا تلقفتها الأيدي الأمينة بالاستنساخ والنشر فأيقنت أن هذا تسخير رباني إلهي لحفظ إيمان المسلمين فاستشعرت ضرورة تشجيع كل من يعمل في هذه السبيل امتثالاً لما يأمرني به ديني".4
التصوف في أدب النورسي
لم يستوعب التصوف - باعتباره سبيلاً لتهذيب النفس وتحريرها من العلائق الدنيوية وصولاً إلى معرفة الله تبارك وتعالى وقدره حق قدره. لم يستوعب التصوف بهذه المثابة كل طاقات النورسي الروحية وإمكاناته الذهنية والوجدانية. والتصوف لديه يختلف عنه لدى كثير من المنتسبين للتصوف من متصوفة اليوم فهو ليس كل شيء ولا هو آخر المراقي ولا أعلاها ولا يعتبر لديه غاية المراد، بل هو فقط يضع قدم السالك على عتبة القرآن ويوقفه عند حضرته وأسراره وتجلياته، ويعينه على التتلمذ عليه والأخذ منه واعتبار القرآن على حد تعبير بديع الزمان "شيخه الأكبر والأعظم والذى يقصر عن مداه كل شيوخ الأرض".5
إذن لم يكن في منهج النورسي الصوفي ما يشاع لدى كثير من متصوفة اليوم من عبث لا تستوعبه أذواق العقلاء كقول بعضهم للمريد ناصحًا: "كن بين يدى شيخك كالميت بين يدى مغسله".
وليس الفناء لديه كما يعنى ذلك العقاد: "هو التصوف الجانح إلى الفناء وفقدان وعى الوجود".6
بل الفناء عند النورسي لا يكون في الله بل هو تمامًا كما يقول جمال الدين الأفغاني: "الفناء في خلقه بتعليمهم وتنبيههم إلى وسائل سعادتهم وما فيه خيرهم".7
وهو نفس منهج الإمام محمد عبده تلميذ الأفغاني: "ألزم خلائق الصوفي المطبوع أنه يستخف بعظمة الدنيا بحيث تهون عليه رهبتها ورغبتها فلا يهابها ولا يتهالك عليها، وأزهد من الصوفي الذي لا يملك الدنيا ذلك الصوفي الذي لا تملكه الدنيا ولا يدخله الوجل ممن يملكونها".8 وهكذا كانت حياة النورسي وزهده في الدنيا وفى مناصبها وبهرجها حتى إنه ليعيش في منفاه بالجبل شهورًا على كسرات من الخبز اليابس والماء.
إنها أخلاقيات الصوفية ومنهجها الشديد في أخذ النفس بوسائل تهذيب سلوكها فغاية الصوفية لدى النورسي أسمى من رغائب هذه النفس وعروض دنياها وهى أن تجعل المريد تلميذًا للقرآن راتعًا في أجوائه مستظلاً بظلاله مقتبسًا من أضوائه وأنواره متخلقًا بأخلاقه -ولعمرى إنها السبيل التي سلكها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لخصت عائشة رضى الله عنها صفاته وأخلاقه تلخيصًا بليغًا حين قالت: "كان خلقه القرآن".
والقرآن هو نفسه المعين الذي غرف منه النورسي حين يقول:
"إن رسائل النور برهان باهر للقرآن قيم له وهى لمعة براقة من لمعات إعجازه المعنوى، ورشحة من رشحات ذلك البحر وشعاع من تلك الشمس وحقيقة ملهمة من كنز علم الحقيقة وترجمة معنوية نابعة من فيوضاته".9
وهو يتكلم هنا عن الولي والولاية في تسعة تلويحات مفسرًا قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.يونس:62-64
فالتلويح الأول بمعنى "الإشارة الأولى" يقول فيها
الطريقة: غرضها معرفة الحقائق الإيجابية والقرآنية ونيلها عبر السير والسلوك الروحانى في ظل المعراج الأحمدى؛ أى النبوى نسبة إلى أحمد صلى الله عليه وسلم تحت رايته بخطوات القلب وصولاً إلى حالة وجدانية وذوقية بما يشبه الشهود، فالطريقة والتصوف سر إنسانى رفيع وكمال بشرى سام، وهو يرى أن أعظم وسيلة لعمل القلب وشغله هو التوجه إلى الحقائق الإيمانية بالإقبال على ذكر الله ضمن مراتب الولاية عبر سبيل الطريقة.
التلويح الثانى
هذا السير والسلوك القلبي والتحرك الروحي وسائله ومفاتيحه ذكر الله أولا والتفكر ثانيًا، ومحاسنها لا تحصى وفيهما فوائد أخروية وفوائد دنيوية تتمثل في إزالة الوحشة وتخفيف ثقل الحياة وغلوائها ولو جزئيًا.
فوسائل الحضارة قد تهيء لك وسائل تسلية وأنسًا بالآخرين، لكنه أنس مؤقت وتسلية جزئية بمقدار واحد أو اثنين من عشرة -لكن الأنس الكامل والتسلية الخالصة هي بشغل القلب بالذكر والتفكر، ففي الوديان وبين شعاب الجبال عاش الشيخ تجربته مرددًا: الله الله، يا باقي، يا باقي، وغير ذلك من الذكر فيحس أنسًا ومودة وتزول الوحشة مما حوله، ويتذكر العبد أن لخالقه الذي يذكره عبادًا لا حد لهم، فهو ليس وحيدًا فلا داعي للوحشة ولا معنى لها، وهنا يذوق معنى الأنس في هذه الحياة الإيمانية ويلمس سعادة الحياة فيزداد شكره لربه.
التلويح الثالث
الولاية حجة الرسالة والطريقة برهان الشريعة، وهما سر كمال الإسلام ومحور أنواره ومعدن سمو الإنسانية ورقيها، هذا دون أن تدان الطريقة بسيئات مذاهب ومشارب تطلق على نفسها اسم الطريقة وربما اتخذت لها صورة خارج نطاق التقوى بل خارج نطاق الإسلام ولعل الشيخ يشير إلى ما نراه اليوم من عكوف البعض لدى قبور الموتى ولزومهم للعتبات "المقدسة" في أعظم بلاد المسلمين للأسف الشديد، وطواف بأجداث الموتى في خشوع أعظم مما يستشعرونه في طوافهم حول الكعبة المشرفة مما ينهى عنه الشرع، بل ويحرمه، أو لعله كان يتذكر ما أشيع عن بعض الصوفية إبان مقدم حملة نابليون على مصر فبدلاً من الجهاد ومقاومة المعتدين لزم بعضهم قبر السيدة زينب وقبر الحسين رضى الله عنهما اتكالاً على الدعاء لدى أضرحة الأولياء ظنًا منهم أن الأموات سيدفعون غائلة المعتدين بلا تعب، حتى دهمهم العدو وهم يبتهلون بالدعاء لدى القبور وداستهم سنابك الخيل.
التلويح الرابع
سلوك طريق الولاية مع سهولته هو ذو مصاعب، ومع قصره فهو طويل جدًا ومع نفاسته وعلوه فهو محفوف بالمخاطر ومع سعته فهو ضيق جدًا. والنورسي يبين أن الطريق طريقان وأن السير سيران:
(1) السير الأنفسي: الذي يبدأ من النفس ليخترق أنانية القلب ويعالج أمراضه لينفتح له سبيل الحقيقة ومنها ينفذ إلى الآفاق الكونية، والغاية من هذا السير كسر شوكة الأنانية والأثرة وتحطيمها وترك الهوى وإماتة النفس أي إماتة رغائبها وشهواتها.
(2) والسير الآفاقي: حيث يشاهد صاحب هذا السير تجليات أسماء الله الحسنى وصفاته الجليلة في مظاهر تلك الآفاق والكون الواسع ثم ينفذ إلى دائرة النفس فيرى أنوار تلك التجليات بمقاييس مصغرة.
فإن عجز السالك عن السير الأول وعن قتل النفس الأمارة وتحطيم أنانيتها بترك الهوى فهو يسقط في مقام الشكر إلى موقع الفخر ومنه يتردى إلى الغرور فتصدر عنه شطحات حتى يضر نفسه ويضر الآخرين.
ومثله في ذلك مثل ضابط صغير برتبة ملازم تستخفه نشوة القيادة ويتملكه الغرور فيتخيل نفسه برتبة مشير يقود الفيالق والجحافل.
التلويح الخامس
النورسي ينظر لقضية وحدة الوجود نظرة مختلفة تمامًا عمن سبقوه فهو يعتبر وحدة الوجود من ضمنها وحدة الشهود بمعنى حصر النظر في وجود واجب الوجود أي الموجود الحق هو واجب الوجود سبحانه وتعالى فحسب دون سواه، وإن سائر الموجودات ما هي إلا ظلال باهتة وزيف ووهم لا تستحق إطلاق صفة الوجود عليها حيال واجب الوجود، إذن فالموجودات خيال ووهم وعدم على حد قولهم "ترك ما سوى الله".
وليست وحدة الوجود لدى النورسي تعنى اتحاد الخالق بالمخلوق أو الحلول والاتحاد أو امتزاج اللاهوت بالناسوت كما يقول بذلك الزنادقة والملاحدة والمارقون عن الدين القويم والمحجة الواضحة.
التلويح السادس
وهو يتضمن ثلاثة عناصر نجملها باختصار في اتباع السنة النبوية المطهرة حيث إنها أجمل وألمع طريق موصلة إلى مرتبة الولاية على حد قوله عز وجل: "ما تقرب عبدى بشيء أحب إلى مما افترضته عليه... إلخ".
- الإخلاص أهم أساس لجميع طرق الولاية وسبل الطريقة.
- الدنيا دار علم ودار حكمة وليست دار مكافأة وجزاء.
التلويح السابع
ويتضمن نكات:
فالشريعة هي نتيجة الخطاب الإلهي من الربوبية المطلقة، وهنا يرد النورسي على من يفرق بين الحقيقة والشريعة بادعاء أنهم أهل حقيقة وغيرهم أهل شريعة فيقول: "أعلى مراتب الطريقة وأسمى درجات الحقيقة لا يعدوان كونهما أجزاء من كلية الشريعة "أي الشريعة الكلية" ونتائجهما لابد أن تؤول إلى الالتزام بالأوامر الشرعية المحكمة وهو بذلك يكفينا مؤنة الرد على مخبولي المتصوفة الذين ينفرون العقلاء من الطرق الصوفية كلها حين يرون أن عبادات الشريعة مجرد وسائل موصلة للحضرة الإلهية يتخلى عنها السالك بمجرد الوصول للغاية ويترك الفرائض المشروعة من صلاة وصيام وغيرهما، فالعبادات وسائر الفرائض لديهم يشبهونها بالدابة التي توصل صاحبها إلى عتبة السلطان فإذا وصل تركها بالكلية وتخلى عنها ودخل على السلطان بلا دابة".
والنورسي يرى أن الطريقة والحقيقة وسيلتان وليستا غايتين ولا يمكن أن توجد طريقة خارج نطاق السنة النبوية الشريفة وأحكام الشريعة.
وفى التلويح الثامن
تكلم بديع الزمان عما سماه مزالق وورطات للسالكين يحذر منها كل التحذير، ويبين خطورتها وأضرارها على من يقعون فيها، كمن يرجحون الولاية على النبوة أو من يفضلون الأولياء على الصحابة وهو ينعى على بعض متصوفة اليوم الذين يرجحون أورادهم وأذكارهم التي كتبوها بأيديهم على المأثور من أذكار السنة النبوية الشريفة ويجافون أذكار الرسول صلى الله عليه وسلم وأدعيته المأثورة التي هي من جوامع الكلم ومن خير الدعاء وأفضل الذكر وأعظم البركة، أو الظن بأن الإلهام الذي يناله أحدهم بكسبه ومجاهدته أعظم في مرتبة الوحى المنزل من السماء!
أو من يفضل الكرامات على واجبات الدين ويدع الثانية اكتفاء بالأولى أو من ينصرف إلى الفخر والإدعاء وإشاعة الشطحات لجمع الأتباع ونيل الحظوة لدى الدهماء.
ويختم هذه التلويحات بالتلويح التاسع
ببيان عدة ثمرات لسلوك الطريق أجملها في تحقيق الوجود الحقيقي للإنسان بحسن توجهه إلى الله وتخلصه من الوحشة في الدنيا ونيل مقام التوكل والإخلاص والعمل على أن يصل إلى مرتبة الكمال.
ففى ختام هذه العجالة يذكر لمن دارت حول دعوته هذه الإضاءة السريعة المتعجلة أنه أحد أربعة أئمة ومصلحين كبار انتشرت دعوتهم في المائة وخمسين سنة الماضية وعم خيرها أركان الدنيا حتى يومنا هذا وكانت إرهاصا بالصحوة الإسلامية الحالية في العالم كله، فدعوة النورسي امتداد للدعوة المباركة التي وضع بذرتها جمال الدين الأفغاني وتعهدها بالسقي والرعاية عبقري الإصلاح الأستاذ الإمام محمد عبده ثم تلاه الإمام حسن البنا الذي ولد قبل النورسي لكنه سبقه إلى لقاء الله وبقى النورسي بعده ليكمل هذه الحلقة المباركة بسيرته الجهادية ورسائله الإصلاحية التي شرقت وغربت واستبقت لتركيا -بعد مؤامرة سقوط الخلافة- هويتها وشخصيتها الإسلامية، وبقيت هذه الرسائل متميزة بنزعتها الإنسانية وامتدادها اللغوي ومحليتها المنفتحة على العالم على الآخرين واتسمت بتفردها وتجددها الأدبي10 بل كانت هذه الرسائل سببًا في النهضة الحالية الهائلة التي تشهدها تركيا المسلمة واستعصائها على كل المحاولات المجنونة للتذويب والتغريب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *
الهوامش
1 من رجال التربية والتعليم، باحث بمؤسسة الإبداع للثقافة والآداب ومؤسسة البايطين -محقق بموسوعة الأعلام اليمنيين والمصريين ولبعض كتب التراث- محرر بمجلة المثقف العربي ومصحح للغة العربية -كاتب في عدد من المجلات العربية- عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية والعديد من الجمعيات والروابط الأدبية - له ديوان مطبوع بعنوان "وحبيب القلب" وله تحت الطبع دواوين أطفال.
2 صيقل الإسلام، ص: 428.
3 كليات رسائل النور - المجلد الثامن.
4 الشعاعات ص: 541 - 542.
5 الملاحق ص: 248.
6 الإسلام دعوة عالمية - عباس محمود العقاد.
7 عبقري الإصلاح محمد عبده، العقاد. ص: 85
8 المرجع السابق ص: 88.
9 ملحق قسطوني ص 220.
10 النورسي - أديب الإنسانية، د. حسن الأمراني، ص: 13 - 28
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Haziran 2013 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2013 Cilt: 7 Sayı: 7 |