أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليوم هو الإسلام
العلامة محمد البشير الابراهيمي1
قد يبدو هذا العنوان مدهشًا وغريبًا، ومثيرًا لتأثّرات مختلفة، في كثير من النفوس المختلفة، ولشيء من السخرية في النفوس الساخرة.
أما الدهشة فإنّ صاحبها معذور مهما كان، وأما الغرابة فكل وارد جديد على السمع أو على الذهن يُسْتَغْرَب، ولكنه إذا تكرّر وكثر ترداده أصبح مأنوسًا، وأما السخرية فلا تأتي هنا إلا من رجلين: رجل انطوت نفسه على بغض للإسلام وحقد على بنيه، واحتقار لتعاليمه، ورجل لم يفهم الإسلام إلا من حالة المسلمين اليوم، ولم يعلم أنّ بين حقائق الإسلام وبين حالة المسلمين اليوم بُعْدَ المشرقين، والذي في العنوان إنّما هو الإسلام لا المسلمون.
العناوين لا ذنب لها لأنّها دوالٌ على ما وراءها، فاسمعوا ما وراء هذا العنوان، ثم ليندهش المندهشون إن لم يقتنعوا، وليسخر الساخرون إن شاءوا.
تولّى الإسلام في أوّل مراحله قيادة العالم الإنساني العامر للأقاليم المعتدلة، فقاده إلى السعادة والخير بأصلين وهما القوة والرحمة، وبوسيلتين من وسائله في القيادة وهما العدل والإحسان، وبأحكامه المحققة لحكمة الله في عمارة الكون.
والقوة والرحمة صفتان موجودتان في كل زمان، ولكنهما متنابذتان لم تجتمعا قط في ماض ولاحاضر، حتى جاء الإسلام فجمع بينهما وزاوج، وخلط بينهما ومازج، فجاء منهما ما يجيء من التِقاء السالب بالموجب في عالم الكهرباء: حرارة وضوء وحركة.
وما زال معروفا عند العقلاء، قريبًا من مدارك البسطاء، أنّ القوة وحدها لا خير فيها لأنّها جبرية واستعلاء، وانّ الرحمة وحدها لا خير فيها لأنّها ضعف وهُوَيْنا، وأنّ الخير كل الخير في اجتماعهما، ولكن الجمع بينهما ليس من مقدور الإنسان المسخّر للأهواء والعوائد، المنساق للأماني والمطامع، المنجذب إلى مركز الأنانية، فلا تجمع بينهما على وجه نافع إلا حقّها، وقوة سماوية تتجلّى في نبوّة ووحي وخلافة راشدة واتّباع صادق مشتق من هذه.
ومن حكمة الإسلام العليا أنّه وضع الموازين للمتضادات فإذا هي متآلفة، والمتنافرات غذا تآلفت صلح عليها الكون لأنّها سرّ الكون وملاكه، فوضع الحدود لهذه المتنافرات، وأعطى كل واحدة حقّها، ووجّهها إلى الخير في مدارها الطبيعي، فإذا هي أشياء في الاسم والذات والوظيفة، ولكنها شيء واحد في الغاية والفائدة والثر، وكلّها خير ونفع وصلاح وجمال.
وضع الحدود بين المرأة والرجل فائتلفا، وأطفأ بالعدل والإحسان الخلاف بينهما، والخلاف بينهما هو أصل شقاء البشرية، ولا يتم إصلاح في المجتمع ما دام الخلاف قائما بين الجنسين، ومازالت الجمعيات البشرية من الرجال مختلفة النظر إلى المرأة، فبعضهم يرفعها إلى أعلى من مكانها فيُسْقِطها ويسقط معها، ويعطيها أكثر من حقّها ومن مقتضيات طبيعتها فيفسدها ويفسد بها المجتمع، وبعضهم يَحُطها عن منزلتها الإنسانية فيعدّها إما بهيمة وإما شيطانا حتى جاء الإسلام فأقرّها في وضعها الطبيعي وأنصفها من الفريقين.
وكذلك وضع الحدود بين الآباء والأبناء، وكم أزاغت الشرائع والقوانين الوضعية هذه القضية عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط.
وكذلك وضع الحدود للسادة والعبيد، وللحاكم والمحكومين، وللأغنياء والفقراء، وللجار وجاره، وللإنسان والحيوان، وللروح والجسم، فألّف بين السادة والعبيد بقانون الرفق،والتغير بالتمناهي في العتق، وألّف بين الحاكمين والمحكومين بقانون العدل والمساواة، وبين الأغنياء والفقراء بنظام الزكاة والإحسان، وبين الجيران بوجوب الارتفاق والحماية،حتى اعتبر الجيرة لحمة كلحمة النسب أو أشدّ، ومحا من المجتمع نظام الطبقات والأجناس والعناصر، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولاعزّة بالتكاثر، ولا تعظّم بالآباء، ولا عصبية بالقبيلة، ولا تفاضل بالجاه والمال، وجعل لليتيم حرمة تدفع عنه غضاضة اليتم، ولابن السبيل حقًا يحفظه من الضياع وفساد الأخلاق، وللغريب حقًا يٌنسيه وحشة الاغتراب، وجعل ميزان التفاضل روحيًا لاماديًا، فالغني أخو الفقير بالإسلام، وليس الغني أخًا للغنيّ بالمال، وقرّر للحيوان الأعجم حق الرفق والتربيب، وحماه من الإعنات والتعذيب، وأشركه مع الإنسان في الرحمة، ففي كل ذات كبد حَرَّى أَجْرٌ، وحل مشكلة الروح والجسم، وعدل ما كان يتخبّط فيه فلاسفة الأمم من أنّ العناية بأحدهما مضيعة للآخر، فوفّق بين مطالب الروح والجسم، وحدّد لكلّ غذاءه وقِوامَه، فإذا هما متآلفان متعاونان على الخير والنفع.
1- ساس الإسلام الأرض بقانون السماء، فأشاع إشراقَه في غسقها، وأدخل نسَقه في الإحكام على نسقها، وقيّد الحيوانية العارمة في الإنسان بقيود الأوامر والنواهي الإلهية التي لاخيار معها ولامراجعة فيها، وبذلك نقل الأمم التي دانت به من حال إلى حال، نقلها من الفوضى إلى النظام، ومن التنابذ إلى التآخي، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الاضطراب إلى الاستقرار، ومن نزعات نفسية متباينة إلى نزعة واحدة أقرّها فيهم، ثم أقرّها في الأرض بهم، ونقل الأمم المتبدية إلى حال وسط الحضارية المتأنية المقتصدة، ونقل الأمم المتحضرة إلى حال من الحضارة العقلية تأخذ بالحُجًّة، وتمنع من التضخّم والتهافت، ونقل الأمم المؤلهة للملوك والكبراء إلى حال من عرفان القدر وفهم الكرامة، وجعلتهم هم الملوك.
2- قاد الإسلام أهله بقانونه السماوي الشامل لأنواع التدابير المحيطة بمصالح البشر من حرب وسلم، وخوف وأمن، وسياسة وإدارة، وقضاء في الأموال والدماء والجنايات، وفي بناء الأسرة.
قاد بهذا القانون أعقل سكّان الأرض إذْ ذاك في أعمر بقاعها، فما شكا أحد ظلما ولاهضمًا، فإنْ وقع شيء من ذلك فهو حاكم حادَ عن صراطه، أو شخص أخلّ بأشراطه، وقد أخذت الأمم الخارجة منه كثيرًا من قوانينه العادلة في فترات احتكاكهم بالمسلمين محاربين أو معاهَدين في الشام والأندلس وافريقية، كما أخذوا كثيرًا من العادات الصالحة في تدبير المعاش وفي الحياة المنزلية، ومازال كثير من تلك الأصول بارز العين أو ظاهر الأثر في المدنية الحالية.
3- جاء الإسلام أوّل ما جاء بإصلاح الأسرة وبنائها على الحب والبرّ والطاعة: الحب المتبادل بين أفراد الأسرة، والبرّ من الأبناء بالآباء، والطاعة في المعروف من الزوجة للزوج، وحاط ذلك كله بأحكام واجبة وتربية تكفُل تلك الأحكام، وتجعل تنفيذها صادرًا من نفس الإنسان، والرقابة عليها من ضميره، فلا تحتاج إلى وازع خارجي، وجعل تقوى الله والخوف منه حارسين على النفس والضمير، فكلما همّ الإنسان بالزيغ تنبّها فيه، فنبّهاه إلى لزوم الجادّة.
4- وإنّ يقظة الضمير الذي سمّاه النبي –عليه الصلاة والسلام- وازع الله في نفس المؤمن، ومراقبته لأعمال صاحبه لَهي أعلى وأسمى ما جاء به الإسلام من أصول التربية النفسية، وهي أقرب طريق لتعطيل غرائز الشرّ في الإنسان، وفرق عظيم بين من يمنعه من السرقة مثلاً خوف الله ، وبين من لايمنعه منها إلا خوف القانون: فالأوّل يعتقد أنه بعين من الله تراقبه في السرّ والعلن، فهو لا يسرق في السر ولا في العلن، والثاني لا يمنعه من السرقة إلا قانون يؤاخذ على الذنب بعد قيام البيّنات عليه، وفي قدرة الإنسان أن يتحاشى كلّ أسباب المؤاخذة الظاهرة، فإذا أَمِن ذلك قارف الشر مُقْدِمًا غير محجم، فالخوف من الله يَجْتَثُ السرقة وجميع الشرور من النفس حتى لاتخطر على بال المؤمن الصادق، وبذلك يأمن الناس على أعراضهم ودمائهم وأموالهم، أما الخوف من القانون، فكأنّ هذه القوانين الأرضية تقول للناس: لا سبيل لي عليكم ما دمتم مستترين منّي، غائبين عن عيني، ولذلك فهي لا تمنع الفساد في الأرض بل تزيده تمكّنا فيها، وانتشار الشرور في هذا العصر أصدق شاهد على ذلك.
5- نقول ونعيد القول بأن أصلح نظام لقيادة العالم الإنساني هو الإسلام، ولا نلتفت لسخر الساخر، ولانأبه لدهشة المندهش، وناتي بالحجّة على لون آخر، وهو أنّ الإسلام عقائد وعبادات وأحكام وآداب، وكل هذه الأجزاء رامية إلى غرض واحد وهو إصلاح نفس الفرد الذي هو أصل لإصلاح النفسية الاجتماعية، فعقائد الإسلام مبنية على التوحيد، والتوحيد أقرب لإدراك العقل الإنساني من التعدد، وأدعى لاطمئنانه وارتكازه وتسليمه، والعقل إذا اطمأن من هذه الجهة انصرف إلى أداء وظيفته مجموعًا غير مشتت.
والعبادات غذاء وتنمية لذلك التوحيد وعون على تزكية النفس وتصفيتها من الكدورات الحيوانية، والأحكام -ومنها الحدود- ضمان للحقوق، وحسم للشرور، وزجر للثاني أن يتّبع الأوّل ومَن تأمّل القواعد التي بُنيت عليها أحكام المعاملات في الإسلام علم ما علمناه، وهي: لاضَررَ ولاضِرار، الضرورات تبيح المحظورات، ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، الحدود زواجر وجوابر، القصاص حياة.
والآداب تزرع المحبّة بين الناس، وترقق العواطف، فتقوي عاطفة الخير والتسامح والإيثار والكرم والشجاعة والصبر، وتضعف الشر والتشدّد والثرة والبخل والجبن والجزع.
6- العالم اليوم في احتراب وحبله في اضطراب، وقد ملكتْ عليه المادة أمره، وقد جفّت الروحانية فيه فضؤلت، فلم يبق لها سلطانها الآمر الناهي، وانطمست فيه البصائر الهادية فهو يتخبّط في ظلمات، وتجسّمت المطامع الشوهاء فتولت القيادة، وقد جرّ على نفسه في ثلاثة عقود من السنين حربين عاتيتين أهلكتا الحرث والنسل وهو تحفّز للثالثة، وقد كان قبل اليوم إذا اختلف اثنان وجد بينهما ثالث يدعو إلى الإصلاح أو ينتصر للمظلوم، فما زالت به المطامع وفشوّ الإلحاد، وشيوع الفلسفة المادية، والاغترار بالعقل، حتى أصبح مقسّما إلى كتلتين قويتين عظيمتين متضادتين، تدور كل واحدة منهما على ميدأ اتّخذتْه دينًا ودعت الناس إليه، فانضم كل ضعيف إلى واحدة مُكْرهًا كطائع، وكلا المبدأين لا رحمة فيه ولا خير، وكلاهما ينطوي على شرور، وكلاهما يعتمد على الظفر والناب...2
...ذلك فيهم نشروا أحكامه وتعاليمه حتى نعم العالم، يومئذ يشهدون انقلابا فكريا يقضي على هذا الجنون الذي ابتلي به العالم.
والإسلام دين اقتناع، فلا أقول إنّه يجب على العالم أن يصبح مسلما كاملا يصلي ويصوم وإنّما أقول: إنّ دواءه مما هو فيه هو الإسلام، فليأخذ أو ليَدَعْ.
7- لا يضير الإسلام في حقائقه ومُثُله العليا أن لم ينتفع به أهله في تحسين حالهم، فما ذلك من طبيعته ولا من آثاره فيهم، وإنّما ذلك نتيجة بُعْدهم عن هدايته، وهو كدين سماوي محفوظ الأصول يهدي كل من استهداه، وينفع كل مستعد للانتفاع به، ولو أن أمة وثنية اعتنقته فأخذتْه بقوة فأقامته على حقيقته -من العقائد إلى الآداب- لسادت به هذه المآت من الملايين من أهله الأقدمين الذين أضاعوا روحه ولبابه، وأخذوا برسومه والنسبة إليه، ولم يزحزحها عن السيادة أنّها جديدة في الإسلام، كما لاينفع تلك المآت من الملايين أنها عريقة في الإسلام.
ولاحجّة علينا ببعض الشعوب الإسلامية التي استبدلت القوانين الأوربية بأحكام القرآن، لأنّ تلك الشعوب ما فعلت إلا بعد أن لم يبق فيها من الإسلام إلا اسمه، ومن لم ينتفع بقديمه لم ينتفع بجديد الناس، وأحوال تلك الشعوب المستبدِلة شاهدة عليها، فهي لم تزدد بهذا الاستبدال إلا شقاء وبلاء.
وبعد، فلو أنّ علماء الإسلام أحسنوا الدعاية إلى دينهم، وعرفوا كيف يغزون بحقائقه الأذهان، لكان الإسلام اليوم هو الفيصل في المشكلة الكبرى التي قسّمت العالم إلى فريقين يختصمون، ولكانوا هم الحكم فيها، ولكنهم غائبون، فلا عجب إذا لم يُشاوروا حاضرين، ولم يُنْتَظروا غائبين.3
* * *
الهوامش:
1 ولدمحمد البشير الإبراهيمي بتاريخ 14 من يونيو 1889 برأس الواد بالجزائر، وتوفي في الجزائر العاصمة بتاريخ 20 من ماي 1965م. والشيخ هو الرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، رأس الجمعية بعد وفاة الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس (ت1940)، فكان رئيسا للجمعية من 1940 إلى وفاته عام 1965م، قال عنه رفيق دربه ونائبه في رئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الشيخ العربي التبسي: "كان الإبراهيمي فلتة من فلتات الزمان، وأنّ العظمة أصل في طبعه"، وقال عنه رفيق آخر (أحمد توفيق المدني) ما يقرب من المعاني المشار إليها، لمزيد تعرّف على هذه الشخصية الفذّة يراجع مقدمة الجزء الأول من آثار الشيخ البشير الإبراهيمي لنجله الطبيب الأديب أحمد طالب الإبراهيمي. يعد الأستاذ الإبراهيمي رائدا من أبرز رواد النهضة الدينية العلمية والأدبية في الجزائر، فكان بحق رمزا مهما في الإصلاح الديني الشامل.
2 هنا تنتهي الصفحة السادسة من المخطوط والصفحة السابعة مفقودة.
3 آثار محمد البشير الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1997، ج4، ص 65-69.
تدخلت يد إدارة التحرير في ترقيم فقرات نص الشيخ محمد البشير الإبراهيمي تيسيرا لاستيعابه.
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Aralık 2012 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2012 Cilt: 6 Sayı: 6 |