أصول التفكر في رسائل النور
أميد شِمشكْ1
ما رسائل النور؟
عُرِفَتْ كليات رسائل النور ووُصِفَت بأشكال مختلفة من ناحية المواضيع التي اشتملت عليها وأسلوب تناولها. وقد عرفت رسائل النور بشكل واسع على أنها تفسير للقرآن، يؤكّد ذلك تصريح المصنف في مواضع مختلفة من الرسائل،2 وذكر المؤلف في سياق آخر واصفا رسائل النور بأنها "كتاب علم الكلام"3 وإلى جانب ذلك، وقال آخرون أنّ لرسائل صلة وطيدة بالتصوف، وبالرغم من عدم تصريح من المصنف بهذه العلاقة، ومال فريق آخر -وهم قلّة- فرغب في جرها إلى إلى بعض المجارى السياسية.
وإذا تناولنا رسائل النور بشموليها، فإنه من الصعب حقاً وضع رسائل النور ضمن تخصص واحد أونظام واحد. وإذا كنا سنتناول رسائل النور تفسيراً للقرآن الكريم فإنها ما عدا "إشارات الإعجاز" يجب أن تتناولها تفسيراً له ميزات خاصة به؛ من ناحية المنهج، والمحتوى، والتأليف، والأسلوب وما إلى ذلك. فمثلاً يقوم بجولة علمية وتَفَكُرِيَة في الآفاق التي تفتحه الآية الكريمة التي يستهل كل بحث، قد لا تجدها في الغالب في أي تفسير آخر لدى عرضه تفسير الآية المذكورة. والمواضيع التي يتم تناولها خلال هذه الجولة هي على الأكثر داخل علم الكلام. لكن هذا ليس على وفق تصنيف علم الكلام التقليدي، وإنما بأسلوب خاص برسائل النور، وربما يكون ذكر رسائل النور بأنها تحمل خواص التفسير وخواص علم الكلام معاً. لكن يجب الوقوف عند الأسلوب الخاص والأسس التي تشكل أساس هذا الأسلوب قبل ذلك.
أسس رسائل النور
يبين بديع الزمان سعيد النورسي أن رسائل النور بنيت على أربعة أسس هي: العجز، والفقر، والشفقة، والتفكر4 وكون العجز والفقر، اللذان يعنيان حالة معرفة الإنسان لعجزه وحاجته المطلقة لخالق الكائنات، هما أيضا قد بحثا من مختلف النواحي في البحوث المتعلقة بالتفكر الأنفسي في رسائل النور، لذا لن يكون من الخطأ إرجاع هذين الأساسين أيضا للتفكر، أما الأساس الثالث وهو الشفقة فقد وضحت حقيقتها في الرسائل، وما هي إلا جعل إيصال ثمار التفكر في رسائل النور غاية للحياة.5
وبعد تعيين وضع الأسس الثلاثة الأخرى، فإن الأساس الرابع المتبقي أي التفكر، يظهر أمامنا أنه أهم أساس لرسائل النور. وهذا الأساس هو بنفس الوقت أهم خاصية تشكل حياة بديع الزمان. فقد بدأ التفكر برسائل النور بالانتعاش في عقل مؤلفها منذ شبابه، ونضج في أواسط عمره، وإن المثنوي العربي النوري الذي يشكل نواة قسم مهم من رسائل النور أعطى نتيجة سلسلة تفكر مكثفة جداً، حيث كانت هذه المرحلة هي مرحلة التحول من سعيد القديم إلى سعيد الجديد،6 هذا التفكر يشكل جميع حياة بديع الزمان بجميع صفحاتها ويتطور ويتسع من الزمن ويقوم بدعوة رسائل النور بكليات رسائل النور.
التفكر في رسائل النور
إن عالم الوجود بأسره هو لوحة تفكر في عين بديع الزمان. والقصد من خلق الموجودات صاحبة الشعور هو قيامها بوظيفة التفكر. وإن بديع الزمان الذي يطالع العالم على شكل دائرتين ولوحتين، ويرتب ذلك على الشكل الآتي:
"إحداهما: دائرة ربوبية في منتهى الانتظام وغاية الروعة والهيبة ولوحة صنعة بارعة الجمال وفي غاية الاتقان.
والأخرى: دائرة منوّرة مزهّرة للغاية، ولوحة تفكر واستحسان وشكر وإيمان في غاية الجامعية والسعة والشمول."7
ومن هذه اللوحات لوحة الصنعة والإبداع، يعني التزيينات اللانهائية التي أظهرتها دائرة الربوبية، وهي تجلب إلى جانب ذلك وظيفة التفكر اللانهائي، ليس للإنسان والجن فقط، بل إن خلق أجناس الملائكة التي لا حصر لها ووجودها الروحاني، تأتي في مقدمة هذا السر،8 ومكانة الإنسان في هذه المنظومة لا مثيل لها بين المخلوقات باعتبار القابلية التي يملكها. وذلك لأن غاية التفكر هي مشاهدة الأمور الخارقة في الأثر، ووزنها كل على حدة، والانتقال منها إلى جمال الصانع، وكماله، وجلاله، وسائر صفاته القدسية، والإعجاب به، وحبه والاشتياق إلى المثول بين يديه والتعرض للطفه.9
"نعم، إن الإنسان مع جهالاته وظلماته له استعداد جامع كأنه أنموذج مجموع العالم، واُودع فيه أمانة يفهم بها الكنز المخفي ويفتحه. ولم يُحدد قواه، بل اُرسلت مطلقة فيكون له نوع شعور كلي بشعشعة كمال حشمة جلال سرادق جمال عظمة ألوهية سلطان الأزل. وكما أن الحُسن يستلزم نظر العشق، كذلك ربوبية النقاش الأزلي تقتضي وجود نظر الإنسان بالتقدير والحيرة والتحسين والتفكر، وتستلزم أيضا بقاء ذلك المتفكر المتحير إلى الأبد ورفاقته لما تحير فيه في طريق أبد الآباد."10
يوضح بديع الزمان "الأمانه المودعة في الإنسان، في أماكن أخرى من رسائله بأنها "أنا" ويقول إن الإنسان بواسطة هذه الأمانة يفهم صفات وشؤونات خالقه.11 كما أن هذه الأمانة أدت إلى جعل الإنسان أعلى من الملائكة12 ومن جهة أخرى فإن النفس "المتنعمة باللطف الإلهى"13 هي سبب الاستعلاء على الملائكة14 "وخاصة في جهة الذوق بالرزق فإن الإنسان يفهم كثيرا من الأسماء الحسنى التي قد لا يمكن للملائكة تذوقها."15
وهكذا، فإن الإنسان المرسل إلى هذا العالم والمزود بقابلية أعلى من المخلوقات الأخرى: هو مثل الشخص الفريد المدعو إلى معرض، يطوف بالكائنات من أولها لآخرها فكراً، ويدقق في كل أثر أمامه، ويحل الدقائق المتقنة فيه، ويستمع إلى شهادات جميع الموجودات فرداً فرداً وجماعة، ويفهم عباداتهم وتسبيحاتهم، ومثل قائد يقدم القطعة باسم وحدته، ويقدم عبادة وتحيات المخلوقات المسخرة له باسمهم إلى العزة الإلهية. وهذه الأمور تتحقق نتيجة نشاطات تفكرية كثيفة ومستمرة16 وقد بيّنتها الآية الكريمة17 ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾،الزاريات:56 ولكن هذه العبادة ليست دون روح وعبارة عن شكليات ورسوم، بل تستوجب العبادة الإيمان الذي يعرف به العابد المعبود، وتوجب معرفته والمحبة اللامتناهية في هذه المعرفة، وتضع أمامنا هذه العبادة أسمى غاية للخلق،18 تسعى رسائل النور للوصول إلى هذه النتيجة بالتفكر الذي هو أهم أساس لها. والتفكر ليس قضية نظرية مجردة تبقى المسلم حبيس التسليم النظري والمعرفي الجاف بوجود اللهوبوحدته فقط، بل تتخذ هدف السكينة الذي ينفذ إلى جميع صفحات حياة الإنسان، يعني تهدف إلى وجود، ومعرفة، وحس، وجود الله، ووحدته وأسمائه الحسنى، وصفاته الجليلة، المتجلية في كل مكان وبكل شيء وحادثة في كل تفاصيل الوجود، والعيش داخل هذا الشعور:
"فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر إلى الكائنات أنها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وأنها مظاهر لتجليات الأسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. أي أنه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمي من أن تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد إلى الحق سبحانه طريقاً من كل شيء."19
ويبين بديع الزمان في موضع آخر من الرسائل أنه يمكن اكتساب هذا النوع من السكينة بقوة الإيمان التحقيقي، وبالتفكر الإيماني في المصنوعات الذي يؤدي إلى نتيجة معرفة الله.20
أنواع التفكر:
تضع رسائل النور أمامنا ذخيرة غنية من زاوية منهجها التي تتبعه في التفكر. وذلك أن الكائنات كتبت ونظمت مثل معرض فني محتشم وكتاب كبير؛ وهناك طرق كثيرة لقراءة هذا الكتاب وللتدقيق في الآثار الموجودة في المعرض. وكون هذا الموضوع يشكل موضوع دراسة منفصل ومفصل، فإننا سنكتفي بتصنيف يسلط الضوء على أسلوب التفكر في رسائل النور.
إن التفكر في رسائل النور يتحرك وفق أساسين؛ آفاقى، وأنفسي. وقد جعل الإجمال في الأول، والتفصيل في الثاني أساساً21
التفكر الآفاقي
إن رسالة "الآية الكبرى" التي تتناول مشاهدات سائح يسأل عن خالقه في الكائنات مليئة بالأمثلة الغنية للتفكر الآفاقي في رسائل النور22 وتتم في هذه الرسالة دراسة جميع الموجودات في الكائنات بعالمها المشاهد وغير المشاهد، وشهادتها على وحدة خالق الكائنات في ثلاثة وثلاثين مرتبة منفصلة. ففي القسم الاول من الرسالة يتناول بالدرجة الأولى إثبات وجوب الوجود، ويتبعه موضوع التوحيد. وفي الموضوع الثاني يتناول الكائنات ككل من مختلف الزوايا، مانحا الصدارة والأولوية لموضوع التوحيد. وهذه الأصول المتبعة في رسالة الآية الكبرى بشكل واسع تمثل الأسلوب العام لرسائل النور. ويمكن أن نلخص هذه الأصول على الشكل الآتي: "إن الوضع الذي يشاهد في الوجود أو حادثة، يتناول مع أمثاله في الكائنات، وتدرس الحادثة من زاوية نظر واسعة وسع الكائنات." وهو القصد الأكبر من الإجمال في التفكر الآفاقي. وبهذا يمنع تشتت الأفكار بكثرة الدوائر، وتصير كل حادثة نشاهدها في الكائنات برهان على معرفة اللهبقوة الكائنات ووسيلة للسكينة والإطمئنان.
ويبين بديع الزمان هذه الحقيقة في بداية الشعاع الثاني بقوله: "إن الجمال الإلهي والكمال الرباني يتظاهر في التوحيد والوحدة" ويورد بهذا الصدد أمثلة. "فمثلاً: ما إن يُنظر إلى الشفاء من مرض عضال، بنظر التوحيد يتجلى جمال شفقة الرحيم تجلياً باهراً كاملاً على وجه إحسان الشفاء إلى جميع المرضى الراقدين في المستشفى الكبير المسمى بالأرض وإسعافهم بأدوية ناجعة وإغاثتهم بعلاجات شافية تؤخذ من الصيدلية العظمى المسماة بالعالم. ولكن هذا الفعل الجزئي -منحة الشفاء- المتسم بالعلم والبصيرة والشعور إن لم يُنظر إليه بنظر التوحيد، فإن الشفاء يسند إلى خاصيات الأدوية الجامدة وإلى القوة العمياء والطبيعة الصماء. فتفقد تلك المنحة الرحمانية ماهيتها وحكمتها وقيمتها كلياً."23
ويتبع بديع الزمان الأسلوب نفسه في الشعاع الرابع، ويجعل الأرض كروضة صغيرة في خياله. ويشاهد في هذه الروضة جمال الرحيمية تغذي جميع الرضع في هذه الروضة بحليب أمهاتهم، وجمال الرحمانية في إرزاق جميع الأحياء، وجمال الحاكمية في خلق جميع الموجودات بحكمة، وجمال عدالة التناسب الحاكم في خلق جميع الموجودات، وجمال الحافظية في الخلق المجهز بالأجهزة التي تحافظ على استمرار حياة الموجودات، وجمال الكريمية المتشكلة في مظهر الإكرام اللائق بجميع المخلوقات24 والحقيقة أن هذه المناظر تشاهد بالعين الخيالية، لكنها ليست خيالاً وإنما هي الحقيقة ذاتها. لأن الذي يقال هو ما يجري حولنا من الأحداث في كل لحظة سواءً شاهدناها أم لم نشاهدها. لكن الأعين العضوية غير كافية للإحاطة بهذا المنظر، لذلك فإن القسم المتبقي من اللوحة سيتمم بمساعدة قوة الخيال وبواسطة التفكر.
وبعد التوصل إلى وجهة النظر هذه، تشاهد جميع الأفعال في فعل واحد، وجميع الآثار في أثر واحد، وجميع الأسماء في اسم واحد. وإن مشاهدة تجلي اسم من الأسماء الحسنى في الموجودات ينقل الفكر إلى مسميات جميع الأسماء المتجلية في الكائنات25 وبعد ذلك فإن موجوداً واحداً وحتى ذرة واحدة تقوم بفعل جميع الكائنات. وذلك لأن هذه الذرة لوحدها تعرّف وتثبت الحق سبحانه تعالى بصفاته الجليلة وذاته المقدسة.26
وعندما تصير الكائنات بجميع موجوداتها وسيلة لمعرفة اللّٰه، فلن تحصل الحاجة إلى ترك دوائر الكثرة من أجل كسب السكينة وحصول التوحيد. بل العكس إن الفرصة التي تفقد بترك دوائر الكثرة، تقوم بخدمة مهمة في تفكر رسائل النور:
"إن رسائل النور تبيّن أن الموجودات قاطبة إنّما هي مظاهر لتجليات الأسماء الحسنى بحيث لا تدع مجالاً للغفلة قط. فلا شيء يكون حائلاً دون السكينة والإطمئنان. لذا تكسب قارءها مرتبة واسعة من الإطمئنان سعة الكون كله وتفتح أمامه دائرة عبودية واسعة ودائمية سعة الكون ايضاً، فهي لا تشبه مسلك أهل الطرق الصوفية الذين يسعون للحصول على الإطمئنان والسكينة بأفكارهم وجود الكائنات أو تناسيها 'كما في وحدة الوجود ووحدة الشهود‘."27
التفكر الأنفسي
ومثل الحالة السابقة توجد أيضا في التفكر الأنفسي. ولكن يحول دون تحقيق مقاصدها التي حددها لها خالقها جملة من العناصر المانعة من السمو المعنوي، وتتلخص تلك العناصر بشكل عام الأنانية والنفس.
يظهر التفكّر الأنفسي أمامنا كأهم وسائل معرفة اللهفي رسائل النور بشرط للتحرر من أسر الأنانية لأنّها مانع من التفكّر الأنفسي، فهو أكبر صارف عن التفكّر، وخاصة حين تعلّق الأنانية بالمقايسة بين الخالق والمخلوق، لأن صفات الخالق الذي كُلّفنا بمعرفته هي صفات مطلقة وغير محدودة ولا مثيل لها. وإذا بدأت الأنانية بهذه المقايسة الإبتدائية بالقول: "كما أنني شيدتُ هذه الدار ونظّمتها، كذلك لابد من منشئ لدار الدنيا ومنظّم لها"، وإذا لم تكن هناك تشبيهات تنتج بسلاسل تصل إلى أعلى المراتب، فلن تبق لدينا أية إمكانية للتفكر بتجليات وآثار وصفات الخالق القادر على كل شيء، والذي يفعل ما يريد28 لذا يعلمنا القرآن والسنة صفات وشؤونات خالق الكائنات بهذا الأسلوب. فمثلاً إن عدم سماح اللهبالشرك تشرح لنا في الآية الكريمة بإعطاء "مثال من أنفسنا"، ﴿ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء...﴾الروم:28 وقد بين عدم قبول الحاكمية للمنافسة هنا بإعطاء مثال من الحاكمية والملكية النسبية والظاهرة للإنسان. وقد جاء في الحديث: "للّٰه أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء اللّٰه، قال ارجع إلى الى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده."29
والنفس هي مثل الأنانية وسيلة مهمة بيد الإنسان لمعرفة اللّٰه. وحتى كما بينا أعلاه فهي باعتبار تجلياتها التي تظهر لها سبب للرجحان على الملائكة. ويتخذ بديع الزمان طراز حياة الصحابة أنموذجا له، وبدل أن يقتل النفس أو يجعلها دون تأثير، فإنه يرجح طريق استخدامها كجندي بقيادة القلب ويسوقها للعبادة الخاصة بها.30
وعند إضافة خاصيتين للإنسان -مثله مثل الموجودات الأخرى- وهي تشكيله مرآة للأسماء الإلهية، وقيامه بوظيفة المرآة للصفات المنزهة لخالقه، وذلك بصفاته الناقصة، تتضح ثلاث جبهات للتفكر الأنفسي31 مع العلم أن أسس العجز والفقر تشكل أسس التفكر في رسائل النور كصفات ناقصة للإنسان. وهذه الأسس تعمل وظيفة صمام الأمان تجاه الأخطار التي يمكن أن تأتي من جهة الأنانية والنفس:
"إن هذا الطريق هو أقصر وأقرب من غيره، لأنه عبارة عن أربع خطوات. فالعجز إذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة إلى 'القدير‘ ذي الجلال. بينما إذا تمكن العشق من النفس -في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة إلى اللّٰه- فإنها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.
ثم إن هذا الطريق أسلم من غيره، لأن للنفس فيه شطحات أو ادعاءات فوق طاقتها، إذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده."32
وكما أن بديع الزمان يؤيد التفصيل في التفكر الأنفسي، ويرى أن هذا الطريق هو أقصر من طريق التفكر الآفاقي فضلا عن كونه قطعياً. حتى إنه عندما يعرف النتيجة التي يتم التوصل إليها بالتفكر الآفاقي قطعية تبلغ مرتبة علم اليقين، بينما نجده يعرف النتيجة التي يتم التوصل اليها بالتفكر النفسي بمرتبة حق اليقين. وقد قام المؤلف بإضافة قسم بعنوان "شهادة الماهية الإنسانية" إلى خلاصة الخلاصة التي هي بماهية خلاصة بالعربية للآية الكبرى التي تشكل مثالاً في التفكر الآفاقي. ويبين أسباب هذه الإضافة في أحد مكاتيب اميرداغ على الشكل التالي:
"نعم، إن الكون العظيم يكون أمامي بمثابة حلقة ذكر في أثناء قراءتي لخلاصة الخلاصة، ولكن لأن لسان كل نوع من الأنواع واسع جداً، يتحرك العقل عن طريق الفكر كثيراً كي يذعن بالأسماء الإلهية وصفاتها بعلم اليقين، وبعد ذلك يتمكن أن يبصر ذلك بوضوح. وعندما ينظر إلى الحقيقة الإنسانية، في ذلك المقياس الجامع، في تلك الخريطة المصغرة، وفي ذلك النموذج الصادق، وفي ذلك الميزان الصغير، وفي ذلك الشعور بالأنانية، فإنه يصدق تلك الأسماء والصفات بإيمان واطمئنان ووجدان جازم شهودي وإذعاني وبسهولة ويسر..."33
ويبين في دوام البحث أن التفكر الأنفسي بدرجة حق اليقين وأنها وسيلة للتوصل إلى مرتبة إيمانية بعيدة عن الشبهة والوسوسة.
مصدر التفكر
إذا وجب وضع التفكر في رسائل النور بموضع ما، فإنه يوجد تشابه أحياناً بينها وبين التيارات الفكرية في العالم الإسلامي. ويمكن أن نشاهد في بعض وجهاتها أثر للتصوف، ومنهج الكلام، وحتى الفلسفة. وإذا وضعنا بعين الاعتبار أن بديع الزمان قام بنشاطات علمية مكثفة منذ شبابه المبكر، وأنه الإنسان السريع البديهة، والذكي والمثقف، يتضح أنه ليس من الممكن أن لا يتأثر بالكتب التي قرأها، والأفكار التي تعرف عليها. لكن يتضح من آثاره أن بديع الزمان لم يطمئن لأي من هذه السبل، بل نصب عينيه إلى الأعلى، وبدأ يبحث في طريق مختلف، ويتبين ذلك من آثاره التي كتبها أول ما مسك القلم بيده. فمثلاً يقايس طرق معرفة اللهفي كتابه "محاكمات عقلية" الذي هو من أول آثاره ويقارن بينها، ليخلص إلى الشكل الآتي:
"إن أصول العروج إلى عرش الكمالات وهو معرفة الله جلّ جلاله أربعة:
أولها: منهاج علماء الصوفية، المؤسس على تزكية النفس والسلوك الإشراقي.
ثانيها: طريق علماء الكلام المبني على الحدوث والإمكان.
هذان الأصلان وإن تشعّبا من القرآن الكريم، إلا أن فكر البشر قد أفرغهما في صور أخرى فأصبحتا طويلة وذات مشاكل.
ثالثها: مسلك الفلاسفة.
هذه الثلاثة ليست مصونة من الشبهات والأوهام.
رابعها: المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه وأقربه إلى الله وأشمله لبني الإنسان. ونحن قد اخترنا هذا الطريق."34
وقد استمر بديع الزمان في دعواه هذه فيما بعد طوال حياته، وكررها في آثاره مراراً وتكراراً، وبين أن رسائل النور تستند على القرآن فقد أخذت إلهامها منه، وإننا نشاهد حقاً أنها تعكس بعض الخواص في الأسلوب القرآني. ويمكن أن نعد من بين أهمها ما يأتي:
1- إن الأدلة التي يسردها القرآن أمامنا لإثبات حقائق الإيمان وعلى رأسها وجوب الوجود والوحدة، هي أجزاء العالم الذي حولنا والحياة التي نعيشها: الطيور، والأغنام، والغيوم، والجبال، والبحار، والعنب، والنخل، والزيتون، والنمل، والذباب، والقمر، والشمس، والسمك "الحوت" والعظام الرميمة، والفاكهة الناضجة وغير الناضجة، والعيون والآذان، والمراكب التي نركبها في السفر، وغيرها، وجميعها من الأشياء التي ألفها الإنسان في جميع العصور. ويستخدم القرآن جميع هذه الأمور من الأدلة التي استخدمها القرآن لمعرفة اللّٰه. وإن مواد التفكر في رسائل النور ليست سوى ذلك.
2- وقد اتبعت رسائل النور الطراز القرآني الذي يدعو الناس للتفكر ويعرض لهم الشواهد العقلية للادعاءات من البداية حتى النهاية، والذي يبيّن أن التقليد هو أساس قبيح. ويبين بديع الزمان أن البراهين المنطقية والحجج العلمية في رسائل النور تأخذ مكان السلوك والأوراد في التصوف.35
3- القرآن يخاطب جميع الموجودات. وقد اختار بديع الزمان هذا الأسلوب وخاصة بعد مرحلة بارلا، ولم يختر مخاطبيه من زمرة مختارة، بل خاطب جميع البشر.
4- وكما بيّنا في المادة الثانية أنه إلى جانب مشاركة رسائل النور علم الكلام خاصية أساسية، إلا أنها تنفصل عن علم الكلام في هذا الموضوع وتتخذ القرآن أنموذجاً لها، وهذه قضية أسلوب. وعندما يشرح أسلوب تجلي الموجود الجزئي أو الحادثة إلى جانب الموجود الكلي أو الحادثة الكلية، لا يمكن أن نشاهد في كتب علم الكلام هذا الأسلوب الذي استخدمته رسائل النور:
"إن لكل اسم من الأسماء الحسنى جمالاً خاصاً به، جمالاً مقدساً منزّهاً، بحيث أن جلوة من جلواته تجمّل عالماً ضخماً بكامله، وتلقي الحسن والبهاء على نوع لا يحد.
فكما تشاهد جمال اسمٍ من الأسماء في زهرة واحدة، فالربيع كذلك زهرة والجنة كذلك زهرة لا يراها النظر.
فإن كنت تستطيع أن تنظر إلى الربيع، كل الربيع، وترى الجنة بعين الإيمان، فانظر وشاهد لتدرك مدى عظمة الجمال السرمدي.
فإن قابلت ذلك الجمال الباهر بجمال الإيمان وبجمال العبودية تكن أحسن مخلوق وفي أحسن تقويم ولكن إن قابلت ذلك الجمال بقبح الضلالة غير المحدودة، وقبح العصيان البغيض، تكن أقبح مخلوق وأرادأه، وأبغض مخلوق معنىً لدى جميع الموجودات الجميلة."36
هذه التعابير تحمل طاقة تحرك كوامن الإنسان عندما يقرأها، ويتضح ذلك من العبارات نفسها، ومن التأثير الحاصل على الذين يقرأون رسائل النور. وعدد العلماء المسلمين الذين اختاروا هذا الأسلوب المشابه ليس بالقليل؛ ويتضح أيضا أن القرآن هو مصدر الأصلي لهذا الأسلوب الذي اتبعته رسائل النور. وتأثير هذا الأسلوب على الضمائر، ليس سوى دليل على الإعجاز القرآني الممتد على مر العصور ووراء القارات.37
5- وكما أن القرآن يخاطب جميع طبقات البشر، فإنه يخاطب الإنسان ككل. وبخطابه لم يتلق العقل أو القلب الفيض فقط، بل يتلقى جميع أحاسيس الإنسان ووجوده الفيض. وقد اتبعت رسائل النور هذا الأسلوب. وكما بيّن بديع الزمان "إن العقل، والقلب، والروح، والنفس، والحس تأخذ حصتها من الحقائق التي هي بحكم الغذاء والطعام في رسائل النور. وإلا فإن العقل يأخذ حصة جزئية، وتبقى الأحاسيس الأخرى دون غذاء."38
"فالكلمات والأنوار المستقاة من القرآن الكريم "أي رسائل النور" إذن ليست مسائل علمية عقلية صرف بل أيضا مسائل قلبية، وروحية، وأحوال إيمانية.. فهي بمثابة علوم إلهية نفيسة ومعارف ربانية سامية."39
"ثم إن الرسائل ليست كبقية مصنفات العلماء تسير على وفق خطى العقل وأدلته ونظراته، ولا تتحرك كما هو الشأن لدى الأولياء المتصوفين بمجرد أذواق القلب وكشوفاته.. وإنما تتحرك بخطى اتحاد العقل والقلب معاً وامتزاجهما، وتعاون الروح واللطائف الأخرى، فتحلّق إلى أوج العلا وتصل إلى مراق لا يصل إليها نظر الفلسفة المهاجمة فضلاً عن أقدامها وخطواتها، فتبين أنوار الحقائق الإيمانية وتوصلها إلى عيونها المطموسة."40
ويربط المؤلف سبب عدم الملل من بحوث التفكر في رسائل النور التي تقرأ مراراً وتكراراً بهذه الخاصية من القرآن.41
6- إن القرآن الكريم الذي أنزل على من هو ﴿رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾الانبياء:107 صلى الله عليه وسلم و ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾التوبة:128 والذي أنزل ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾42 يعرّفنا في الصفحة الأولى برب العالمين باسمه الرحمن والرحيم. فإنسان اليوم هو مخلوق ميال لمعرفة أن الله قوي ذو عقاب منذ طفولته وذلك بسبب تلقينات البيئة، فهو بحاجة إلى الرحمة الإلهية أكثر من أي وقت آخر، وإن رسائل النور تتبع نفس الأسلوب في معرفة اللّٰه. فقد اتخذت الأمل بدل اليأس والتبشير بدل التنفير أساساً لها. حتى إنها تشبه مخافة الله بلجوء الطفل إلى حضن أمه المليء بالشفقة43 وهذه الخاصية التي لا شك أنها جاءت من القرآن تدل على مظهرية أسماء الرحمن44 والرحيم45 والرؤف46 في رسائل النور.
ما رسائل النور؟
وبعد هذه الايضاحات، وعندما نعود إلى السؤال الذي طرحناه في البداية، ربما نكون بمواجهة الحاجة إلى وضع اسم جديد لتفكر رسائل النور. والحقيقة أنه إذا نظرنا بجانب ما، نجد هذا التفكر يشبه التصوف، وبجانب آخر يشبه علم الكلام. وكما بينا سابقاً أن ذلك يمكن أن يكون قد حدث بسبب تأثر المؤلف بهما معاً، ويمكن أن يكون ذلك كنتيجة طبيعة لبشريته وثقافته العالية. ومن طرف آخر فإن بيانات المؤلف تشكل تناقضاً مع هذه الخصوص في بعض الأحيان. فمثلاً إن كلام بديع الزمان "الزمن ليس زمن الطريقة وإنما زمن الحقيقة47 كما أن رسائل النور مليئة بالشواهد التي تدل على أنها ليست طريقة، ولا تترك أية شبهة في هذا الموضوع48 وإننا نصادف تعبيراً مختلفاً في هذا الموضوع في احد مكاتيب اميرداغ:
"لقد كنت أقول: إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة، فالبدع تحُول دون ذلك، فكراً في حقائق الإيمان وحدها. ولكن الزمان أظهر أنه يلزم لكل صاحب طريقة -بل الألزم له- أن يدخل دائرة رسائل النور التي هي أوسع الطرق وتضم خلاصة الطرق الأثنتي عشرة المهمة ضمن دائرة السنة النبوية الشريفة. حيث إن الذي غرق في الخطايا والذنوب من أهل الطريقة لا يلج في الإلحاد بسهولة ولا يقهر قلبه. ولهذا فهم لا يتزعزعون أبداً فيمكنهم إذن أن يكونوا طلاب رسائل النور حقاً، بشرط إلا يدخلوا -حسب المستطاع- في البدع ولا يرتكبوا الآثام التي تحول دون التقوى وتجرحها."49
لكننا على قناعة أنه يجب عدم استخراج نتيجة من هذا الكلام بأن رسائل النور هي طريقة صوفية تضم جميع الطرق الأخرى. وربما يكون فهمنا لرسائل النور على الشكل الآتي يكون أصح:
1- إن رسائل النور توصل إلى النتيجة المنتظرة من الطريقة الصوفية بأقصر طريق بواسطة الولاية الكبرى ووراثة النبوة.50
2- إن رسائل النور لم تشكل دعوة منفصلة مثل الطرق الأخرى أو الجماعات، بل هي أثر يستطيع العموم الاستفادة منها، إلى أي طريقة أو جماعة أو مدرسة كان ينتسب.51
والحقيقة إننا نشاهد أن الأوراد والأذكار تحتل مكانة مهمة في حياة مؤلف رسائل النور مثل أهل الطريقة. لكن إلى جانب كون هذه الأذكار والأوراد ذات مقصد تفكري وتعطي سبباً لانكشاف كثير من الحقائق في رسائل النور، فهي لم تقم بتكليف طلبة رسائل النور بأوراد وأذكار معينة عليهم أن يتبعوها. إن أوراد رسائل النور المستندة على أساس العجز والفقر والشفقة والتفكر هي: 1- اتباع السنة. 2- أداء الفرائض. 3- الابتعاد عن الكبائر. 4- تعديل الأركان في الصلاة. 5- التسبيحات بعد الصلاة. وإننا لم نشاهد او نصادف أي ورد أو ذكر سوى تسبيحات الصلاة.52
ومن جهة أخرى، فإن رد بديع الزمان بشكل واضح لموضوع حسن الظن الزائد بالمرشد والذي يقبله أهل الوسيلة وأهل الطريقة53 هو من الخواص المهمة التي تفصل بين رسائل النور والتصوف.54
ومقابل ذلك فإنا نشاهد، ولو بقدر محدود، الكرامات والإشارات الغيبية في رسائل النور. حتى إن هناك بعض الرسائل ألّف بهذا الخصوص بشكل مستقل كالشعاع الاول والثاني. والرسائل "المكاتيب" التي كتبها تلاميذه وسيرته الذاتية تحتوي على عدد غير قليل من الكرامات التي تنسب إلى بديع الزمان.
وبالرغم من أن المؤلف لم يولِ اهتماماً للكرامات، وعدّل بإصرار حسن الظن الزائد بحقه من قِبَل تلاميذه وبالرغم من الأدلة التي تبيّن أن رسائل النور هي منهج الحقيقة، فإن أهم سبب لوجود مثل هذه الحالات الموجودة بين طلبة رسائل النور ورسائل النور، ربما يكون الحاجة إلى الدعم المعنوي لأهل الخدمة في تلك المرحلة التي زادت فيها الضغوط. كما لا يجب أن نضع الاهتمام الزائد للناس بالكشف والكرامات وغيرها من الأمور الخارقة بعيداً عن الأنظار. وفي دعوة تشمل جميع قطاعات المجتمع كرسائل النور، لا بد أن نشاهد انعكاسات هذه الميول. وإن أمزجة بعض الأشخاص القريبين من مشرب الطريقة وخاصة بين متقدمي طلبة رسائل النور زمن المؤلف، ورسائل النور في زماننا قامت بدور مهم بهذا الخصوص، ولا تزال ثابتة في شموخ لتأدية هذا الدور.
ومهما كان فإن كلمات بديع الزمان هي الفيصل في الإجابة عن سؤالنا المحوري، وتحمل كلماته صفة توضيح وضع رسائل النور، قال الأستاذ بديع الزمان:
"فمثلا: إن ما نراه من حصيلة خدمتنا وجهودنا في ترسيخ الإيمان وتحقيقه في قلوب ألوف المؤمنين -حوالي ولاية اسبارطة- لكافٍ لخدمتنا هذه، بحيث لو ظهر مَن هو بمرتبة عشرة أقطاب من الأولياء الصوفية، واستطاع سَوقَ ألفٍ من الناس إلى مراتب الولاية فإن عمله هذا لا ينقص من أهمية عملنا وقيمته ولا من ثمراته شيئا. لذا فإن طلاب رسائل النور الحقيقيين واثقون كلّ الثقة ومطمئنون كلّ الاطمئنان بمثل هذه النتائج وحصيلة الأعمال هذه إذ إن القناعة القلبية لدى مريدي ذلك القطب العظيم يحققها ويَضمَنُها المقامُ الرفيع لأستاذهم ومرشدهم، ويضمنها أحكامه في المسائل، إلا أن رسائل النور تنشئ لدى طلابها درجةً من القناعة أكثر بكثير مما عند مريدي ذلك القطب العظيم، بما فيها من حجج قاطعة تسري إلى الآخرين فتنفعهم أيضا، بينما تبقى قناعةُ أولئك المريدين خاصة بهم وحدهم. إذ إن قبول أقوال الأشخاص العظام بغير دليل لا يفيد اليقين والقطعية -في علم المنطق- بل ربما تكون قضية مقبولة يقتنع بها الإنسانُ بالظن الغالب. أما البرهان الحقيقي-كما هو في المنطق فلا ينظر إلى مكانة الشخص القائل وإنما إلى الدليل الذي لا يُجرَح.
فجميعُ حجج رسائل النور هي من هذا القسم، أي من "البرهان اليقيني" لأن ما يراه أهلُ الولاية من الحقائق بالعمل وبالعبادة وبالسلوك وبالرياضة الروحية، وما يشاهدونه من حقائق الإيمان وراء الحجُب، فإن رسائل النور تشاهدها مثلهم أيضا، إذ شقّت طريقا إلى الحقيقة في موضع العبادة ضمن العلم، وفتحت سبيلا إلى حقيقة الحقائق في موضع السلوك والأوراد ضمن براهين منطقية وحجج علمية، وكشفت طريقا مباشرا إلى الولاية الكبرى في موضع علم التصوف والطريقة ضمن علم الكلام وعلم العقيدة وأصول الدين؛ بحيث انتصرت على الضلالات الفلسفية التي تغلّبت على تيار الحقيقة والطريقة في هذا العصر. والشاهد هو الواقع."55
وتظهر من جهة أخرى أمامنا فروق بين علم الكلام ورسائل النور. فقبل كل شيء، إنّ المؤلف يرى أن الطريق الذي يتبعه أهل علم الكلام وأدلته تطيل الطريق وبعيدة عن الإجابة على الاحتياجات، أو أنه يرى أنها لا تتعدى مخاطبة العقل56 وإلى جانب ذلك فإن رسائل النور تناولت كثيرا من مواضيع علم الكلام، وتشبهه من اتباعها طريق إثبات الحقائق الإيمانية بصورة الاستناد على الدليل.
ونستطيع القول أن النقاط المشتركة بين رسائل النور وعلم الكلام هي أكثر من النقاط المشتركة مع التصوف وأكثر أساسية. حتى إن القول بأن الفرق بين رسائل النور والمتكلمين هو عبارة عن قضية الأسلوب لا نكون مبالغين في ذلك. وقد بين بديع الزمان أن مكان رسائل النور داخل علم الكلام:
"تذكرون في رسالتكم رغبتكم في تلقي درس في علم الكلام مني. أنتم يا أخي تتلقون ذلك الدرس فعلاً، فما استنسختموه من 'الكلمات‘ دروس منورة لعلم الكلام الحقيقي."57
"لقد انقادت طائفةُ المدارس الشرعية لطائفة التكايا والزاويا الصوفية منذ سالف العصور، أي سلّموا لهم القياد وراجعوهم للحصول على ثمار الولاية. وتحرّوا عندهم أذواقَ الإيمان وأنوار الحقيقة. حتى كان عالم كبير من علماء المدرسة الشرعية يقبّل يدَ شيخ ولي صغير من أولياء الزاوية الصوفية ويتبعه، فطلبوا ذلك النبع الفياض بالماء الباعث على الحياة في التكايا والزوايا.
بينما أظهرت رسائل النور بالمعجزة المعنوية للقرآن الكريم -كما هو ماثل أمامكم- أن في المدارس الشرعية أيضا طريقا قصيرة توصل إلى أنوار الحقيقة، وفي العلوم الإيمانية ينبوع ثرّ هي أصفى وأنقى من غيرها. وأنه في العلم الشرعي، وفي الحقائق الإيمانية وعلم كلام أهل السنة، طريقا للولاية هي أسمى وأحلى وأقوى من العمل والعبودية والطريقة الصوفية."58
"إذ شقّت طريقا إلى الحقيقة في موضع العبادة ضمن العلم، وفتحت سبيلا إلى حقيقة الحقائق في موضع السلوك والأوراد ضمن براهين منطقية وحجج علمية، وكشفت طريقا مباشرا إلى الولاية الكبرى في موضع علم التصوف والطريقة ضمن علم الكلام وعلم العقيدة وأصول الدين"؛ بحيث انتصرت على الضلالات الفلسفية التي تغلّبت على تيار الحقيقة والطريقة في هذا العصر. والشاهد هو الواقع."59 وإذا فصلنا مواضيع "الولاية الكبرى" و "وراثة النبوة" المذكورة أعلاه كموضوع نقاش آخر، فإن رسائل النور تظهر أمامنا كأثر علم كلام جديد، خاص، ومختلف بأسلوب تفكر خاص بها.
وهذا الأثر كما بين المرحوم محمد عاكف60 استلهم من القرآن مباشرة، وقرأ في كتب الكائنات الكبيرة والصغيرة في الآفاق الواسعة للقرآن، وخاطب العقل والقلب معاً، وإن أسلوب هذا الخطاب يحرك الطاقة الكامنة لدى الإنسان وتجعل الإيمان والاسلام يعالج في كل صفحة من صفحات الحياة اليومية، وبهذا أثبتت رسائل النور أصالتها وتأثيرها على مختلف الطبقات الاجتماعية ومكونات الأسرة الإنسانية.
إن رسائل النور التي تعد صاحبة منهج مميّز في تاريخ علم الكلام بأفق التفكر الذي فتحته أمام إنسان القرن العشرين، وحتى القرن الواحد والعشرين، ولا شك أنها تليق أن تذكر باسم خاص بها. وذلك لأنه بعد أن أتت بعلم كلام قرآني، ستعرّف الناس القرآن بشكل مباشر، ويوجد فيها من الميزات ما يُؤَمِّنُ للناس فهم القرآن بشكل أكثر مما بينته رسائل النور.
* * *
الهوامش:
1 اوميد شمشك، باحث-كاتب: ولد عام 1950 في اسطنبول. دخل ميدان الصحافة والنشر منذ شبابه الباكر. واعتباراً من عام 1967 بدأ بالعمل في مجلات وجرائد مختلفة وعمل في جريدتي "يني آسيا" و"يني نسل" منذ انشائهما، لعب دوراً فعالاً في تأسيس مركز بحوث "يني آسيا" الذي فتح عهداً جديداً في تأسيس التمازج بين العلم والايمان اذ قام باصدار سلسلة العلم والتقنية واصبح مدير التنسيق في هذا المركز. يعمل الآن ككاتب مستقل، وهو ينشر مقالاته بشكل دوري في مجلة "ظفر" الشهرية، ومقالات غير دورية في صحف ومجلات اخرى. مؤلفاته المنشورة: الذرة. الانفجار الكبير او مولد الكون. مذكرات نحلة. تقنية البحث. الفضاء. الكواكب السيارة. المادة والطاقة. الدنيا. لنتعلم قرآننا. القرآن الكريم وشرح مقالة "لجنة". مناظرة مع الشيطان. تفسير دعاء "الجوشن الكبير" "هي احد الادعية المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ضوء رسائل النور.
2 كليات رسائل النور "بالتركية"، مج 2، استانبول، منشورات نسل، 1994-1995م. ص 522، 831، 883، 911، 932، 1598.
3 نفس المصدر، 15247، 1658، 17152.
4 نفس المصدر السابق، ص 210- 211.
5 نفس المصدر السابق، ص 689، 690، 1413، 1708.
6 نفس المصدر السابق، ص 1658.
7 الكلمات-بديع الزمان سعيد النورسي / ترجمة احسان قاسم 1992-استانبول
8 كليات رسائل النور "بالتركية" ص 225.
9 كليات رسائل النور "بالتركية" ص 47- 48، 141- 142، 1342- 1343.
10 المثنوي العربي النوري-سعيد النورسي / تحقيق احسان قاسم ص
11 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 241، 316، 1738.
12 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 98.
13 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 758.
14 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 156.
15 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 825.
16 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 45-48، 141- 142، 892.
17 سورة الذاريات، آية 56
18 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 448، 859.
19 الكلمات ص 561 -سعيد النورسي-ترجمة احسان قاسم الصالحي، استانبول 1992.
20 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 670.
21 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص1338.
22 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 898-930.
23 الشعاعات-سعيد النورسي-ترجمة احسان قاسم ص
24 المصدر السابق/ ص 89.
25 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 504- 505.
26 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 1837.
27 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 1660.
28 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 241 وغيرها.
29 البخاري، الدعوات: 3؛ مسلم، التوبة، 3؛ الترمذي، الدعوات، 98.
30 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 220.
31 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 315- 316، 826.
32 الكلمات-بديع الزمان سعيد النورسي-ترجمة احسان قاسم ص 561
33 الملاحق-بديع الزمان سعيد النورسي-ترجمة احسان قاسم ص 284
34 صيقل الاسلام- المحاكمات /بديع الزمان سعيد النورسي / تحقيق احسان قاسم ص 122
35 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 881
36 الشعاعات-بديع الزمان سعيد النورسي-ترجمة احسان قاسم- 91.
37 ونود ان لا نترك الموضوع دون تناول سؤال يخطر على الذهن: إن الاثر الذي يكتبه البشر يكون له بريق وانعكاس على المجتمع، فلماذا لم يؤثر القرآن على حياتنا بهذا الشكل؟ إن جواب هذا السؤال حسب قناعتنا، هو اننا ابعدنا القرآن عن حياتنا بأيدينا. ولو لم نكتف بقراءة القرآن في المقابر وعلى الموتى كما عبر محمد عاكف عن شكواه، وقرأناه لانفسنا، فإننا لن نتأخر عن مشاهدة معجزاته الابدية بشكل واضح. كما ان بديع الزمان يشارك محمد عاكف في شكواه حيث يقول: "كونه بقي بدرجة المبارك الذي يتبرك بتلاوته". "كليات رسائل النور، 2046-2047". وإذا وصفنا رسائل النور بأنها ثمرة هذه الشكوى لن نكون مخطئين.
38 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 1703.
39 المكتوبات-بديع الزمان سعيد النورسي/ ترجمة احسان قاسم-ص 459
40 الملاحق /قسطموني -سعيد النورسي/ ترجمة احسان قاسم / ص 105
41 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص746.
42 سورة الانعام، آية 157. سورة الاعراف، آية 52، 203. سورة يونس، آية 57. سوره يوسف، آية 111. سورة النحل، اية 89 سورة الإسراء، آية 82. سورة القصص، آية 86. سورة العنكبوت، آية 51. سورة لقمان، آية 3. سورة الجاثية، آية 20.
43 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 11،156- 157، 1355.
44 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 843.
45 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص345،441،843، 930، 1692، 2073، 2296.
46 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 2073.
47 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 1704،
48 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 669- 670، 672، 737، 735، 1603، 166.،1702، 1713، 1783، 1891، 2153.
49 الملاحق-اميرداغ/ 344
50 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 734-735، ص 1513.
51 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 734- 735، ص 1513.
52 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 211، 1425، 1612.
53 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 2045.
54 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 16
55 الملاحق-اميرداغ / 276
56 كليات رسائل النور "بالتركية"، ص 503، 1574، 2022.
57 الملاحق-قسطموني/ 208
58 الملاحق-قسطموني /208
59 الملاحق-اميرداغ / 276
60 الشاعر الكبير مؤلف النشيد الوطني التركي، ولد في استنبول عام 1290هـ الموافق 1873م، وتوفي بها في27 من ديسمبر سنة 1936م.
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Aralık 2012 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2012 Cilt: 6 Sayı: 6 |