رؤية الامام النورسي للربا
أ.د. اسامة عبد المجيد العاني
المقدمة
إن الحمد للّٰه نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأصلي وأسلم على سيد الكائنات، الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. وبعد:
يئن عالمنا اليوم من ثقل الأزمات الإقتصادية التي تعصف به، فما تكاد تنتهي مظاهر أزمة، حتى تظهر في الأفق بوادر أخرى أشد من سابقتها وأمر. وحيث إن العالم بات قرية صغيرة، فإن تداعيات الأزمات الإقتصادية تعم الجميع بالسوء، حتى بات يتمثل قول الباري سبحانه ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً...﴾الانفال:25
ويتبارى الإقتصاديون في تحليل الأزمات، ويضعون مختلف الأسباب والمسببات، فمنهم من يعزوها إلى الاختلالات الهيكلية لطبيعة الإقتصاد الرأسمالي، أو إلى سرعة تدفق رؤوس الأموال وما ينجم عنها من تقلبات في الأسعار، ومنهم من يرجعها إلى توسع الإئتمان بالمصارف بحيث يفوق حقوق ملكيتها أضعافا مضاعفة. ويكاد أن يتفق الجميع على أن سياسة ما يسمى "مقايضة الديون التي يعجز أصحابها عن السداد"، -وهي فكرة إبتدعها مجموعة من المصرفيين نهاية التسعينيات من القرن المنصرم، والمتمثلة باللجوء إلى نوع من التأمين لتحميل طرف ثالث المسؤولية في حالة عجز المقترض عن السداد، مقابل أن يحصل ذلك الطرف دفعات منتظمة على غرار أقساط التأمين- بأنها واحدة من أهم تلك الأسباب. وبلغة بسيطة يمكن أن نتوصل إلى أن رأس المال وتداوله عن طريق النظام الربوي هو سبب الأزمات المالية العالمية.
لقد صدق فينا قول ربنا عز وجل: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾.الفرقان:30 قال ابن القيم في كتابه القيم "الفوائد": وهجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به... وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
فقد هجرنا السماع والعمل والوقوف عند حلال وحرام القرآن الكريم، وكذلك تحكيمه فينا وتدبره وتفهمه، فقد نسينا قوله تعالى ﴿وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.البقرة:275 ووضعنا جانبا، تهديد ووعيد ربنا سبحانه وتعالى: ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله﴾.البقرة:279
يحاول البحث التطرق إلى موضوع نعلمه جيدا، إلا أن البعض يسعى إلى إيجاد تبريرات يخدع بها نفسه قبل غيره لتسويغ الحرام، لذا فإن البحث سيحاول تسليط الضوء على ماورد من وقفات وتحليلات مهمة لموضوع الربا في رسائل النور.
من هنا فإن بحثنا يهدف إلى:
• تذكير العباد بحلال وحرام الباري عزَ وجلَ في موضوع الربا.
• التطرق إلى وقفات النورسي رحمه الله حول الربا.
• معرفة الآثار الإقتصادية والإجتماعية للربا في رسائل النور.
أولا: الربا طبيعته، تحريمه وأنواعه
1. 1. تعريف الربا:
ربا الشيء يربو ربوا ورباءً، أي زاد ونما. وأربيته، يعني نميته. وربا المال، أي زاد بالربا.1 قال تعالى: ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾.الحج:5
عرفه الحنفية بأنه، "الفضل الخالي عن العوض في البيع."2 ويقصد بذلك الزيادة سواء أكانت هذه الزيادة حقيقية مثل بيع درهم بدرهمين نقدا أو مؤجلة، أم كانت هذه الزيادة حكمية، مثل بيع درهم حال، بدرهم مؤجل. فالزيادة هنا هي زيادة الحلول على التأجيل. أما قولهم "الخالي عن العوض" أي لم تكن الزيادة مقابل عوض، وأما قولهم "في البيع" أي أنهم استثنوا المعاملات الأخرى مثل الهبة أو الصدقة.
1. 2. تحريم الربا:
ورد تحريم الربا في الكتاب، في عدة آيات نذكرها حسب الترتيب على وفق نزولها "الروم:29، آل عمران:130، البقرة: 275-281".
وعن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكتابه، وشاهديه، وقال: "هم سواء".3 وغيرها من عشرات الأحاديث.
وقد تحدث العديد من الفقهاء والمفسرين عن الإجماع بوصفه دليلا على حرمة الربا منهم على سبيل المثال: إبن رشد القرطبي الحفيد، وابن قدامة، وابن حزم، والقرطبي، والنووي، والصنعاني، وابن جزيَ، وغيرهم من العلماء.4
وذكر الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله بأنه قد "أجمع العلماء على أن الزيادة في الدين نظير الأجل هو ربا محرم ينطبق عليه النص القرآني، وإن من ينكره أو يماري فيه فإنما ينكر أمرا قد علم من الدين بالضرورة، ولا يشك عالم في أي عهد من عهود الإسلام أن الزيادة في الدين نظير تأجيله ربا لاشك فيه".5
1. 3. أنواع الربا:
دلت الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الربا نوعان، ربا النسيئة وربا الفضل ربا النسيئة، والذي يسمى بـربا الجاهلية، لأنه اشتهر في ذلك الحين، حيث كان الواحد منهم يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق على حاله، فإذا حلَ الأجل طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء، زاده في الحق والأجل.6 وهو ما يسمى بربا الفوائد في العصر الراهن.
وقد عرف الشافعية والزيدية ربا الفضل، بكونه: "البيع مع زيادة أحد العوضين عن الآخر كبيع الدينار بدينارين نقدا ونسيئة، وصاع بصاعين، ورطل برطلين سواء يد بيد أو نسيئة."7
ثانيا: مآلات الربا عند النورسي
كونه من علماء الفطرة، فقد انطلق في معالجته لجريمة الربا كما يصورها، رحمة الله عليه، معتمدا على مناجاة الفطرة أيضا. فالقرآن الكريم جلي وواضح في هذا المجال، ولا يحتاج إلى التزويق اللفظي أو إلى التعابير المجازية، فقد قال: ﴿وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾،البقرة:275 ثم يبدأ رحمة الله عليه في تحليل آثار الربا الإقتصادية والإجتماعية.
2. 1. بديهيات النورسي حول الربا
البَدْهُ والبُدْهُ والبَدِيهة والبُداهة (قوله "والبداهة" بضم الباء وفتحها كما في القاموس): أَوّل كل شيء وما يفجأُ منه، والإسم البَدِيهةُ في أَول ما يُفاجأُ به. والبَديهَةُ: أَوَّلُ كُلِّ شيء، وما يَفْجَأُ منه. وبادَهَهُ به مُبَادَهَةً وبِداهاً: فاجأَهُ به. ولك البديهَةُ، أَي: لك أن تَبْدَأ، وهو ذُو بَدِيهَةٍ، وأجابَ على البديهةِ.8
وأردنا من عنوان هذا المطلب إستعراض "بديهيات" أو "أوليات" أو "بدايات" الربا عند الإمام النورسي رحمه الله. وقصدنا من ذلك الأمور التي لا تحتاج إلى نقاش عنده، وكما سيتبين لاحقا.
أ- تحريم كافة أنواع الربا:
يلاحظ أن النورسي رحمة الله عليه لا يتوقف كثيرا، عند تحريمه للمصطلحات المعاصرة للربا، حيث يقول: "على البشرية قتل جميع أنواع الربا إن كانت تريد الحياة"،9 ويرفض يقينيا دون الخوض فيها "فوائد البنوك المعاصرة"، حيث يقول: "وكانوا هم السبب في تأسيسهم البنوك بجعلهم الربا أضعافا مضاعفة."10
أوضحت الفقرة الأولى، وجود ربا الفضل وربا النسيئة، وتبين حرمة كليهما. كما سعى بعض الإقتصاديين والمتشبهين بالفقهاء إلى تبرير ربا المصارف، وإلى التفريق ما بين القروض الإستهلاكية والقروض الإنتاجية، وتوصلوا إلى أن الشرع حرم ربا القروض الإستهلاكية "الضرورية" للإنسان، إلا أنه لم يتطرق إلى تحريم القروض الإنتاجية، ولا أعلم كيف فهموا قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾،البقرة:275 بأن المراد منه القروض الإستهلاكية، لا القروض الإنتاجية.
ولا أنوي الخوض كثيرا في هذا المجال، فقط أشير هنا إلى خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، عندما قال: "وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله"،11 والسؤال لهؤلاء الإنهزاميون أمام حضارة الغرب، لماذا ركز صلى الله عليه وسلم على لفظة "كله"، ثم ألم يكن العباس عم النبي رضي الله عنه، تاجرا؟ ويقصده في الإقتراض المعوزين من التجار وغيرهم، والمعروف أن التجار يقترضون لغرض الإتجار، فكيف فهموا هذا الإستنتاج، أم أنهم كما يصفهم الحق سبحانه ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾.البقرة:85
ب- إقتران تحريم الربا بإيتاء الزكاة:
ومن البديهيات التي ذكرها رحمة الله عليه هي اقتران تحريم الربا بإيتاء الزكاة. حيث يقول: "إن دساتير القرآن الكريم وقوانينه لأنها آتية من الأزل فهي باقية وماضية إلى الأبد. لاتهرم أبداً ولا يصيبها الموت، كما تهرم القوانين المدنية وتموت، بل هي شابة وقوية دائماً في كل زمان. فمثلاً: إن المدنية بكل جمعياتها الخيرية، وأنظمتها الصارمة ونظمها الجبارة، ومؤسساتها التربوية الأخلاقية لم تستطع أن تعارض مسألتين من القرآن الكريم بل إنهارت أمامهما وهي في قوله تعالى: ﴿وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾البقرة:43 و ﴿وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.البقرة:275 12 ويوضح ذلك مستنتجا، فيقول: "إن أس أساس جميع الإضطرابات والثورات في المجتمع الإنساني إنما هو كلمة واحدة، كما أن منبع جميع الأخلاق الرذيلة كلمة واحدة أيضاً. كما اُثبت ذلك في (إشارات الإعجاز".
الكلمة الأولى: "إن شبعتُ، فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع."
الكلمة الثانية: "إكتسبْ أنتَ، لآكل أنا، واتعبْ أنت لأستريح أنا."13
وهذا الأمر ينبغي التوقف عنده قليلا. فالرأسماليون، عند توزيعهم لعوائد عناصر الإنتاج، الذي يمثل رأس المال أحدها، كانت الفائدة مردودا لرأس المال، وبرروا ذلك بأسباب شتى: فقد عدَ الكلاسيك الفائدة، ثمنا للإدخار، وعولوا على الفائدة كثيرا، فهي أساس التقدم الإقتصادي، وهي التي تحقق التوازن بين الإدخار والإستثمار. كما عدها بعضهم ثمن المخاطرة برأس المال، أو التخوف من تناقص قيمة النقد من جراء التضخم، أو باعتبارها ثمنا للإمتناع الذي يلزم المدخر به نفسه، أو التعويض عن التضحية الزمنية لإقراض المال للرأسمالي، كما فعل مارشال، حيث اعتبر الإدخار "إستهلاك مؤجل"، أو جعل الفائدة مكافئة للتخلي عن السيولة النقدية كما فعل كينز، وغيرها من التبريرات. لذا فإن تحليلهم الإقتصادي ينصب على ضرورة إيجاد عائد لأهم عناصر الإنتاج في النظام الرأسمالي "رأس المال" والمتمثل بالفائدة.
ومعلوم أن الإسلام لايجيز لرأس المال الحصول على أي عائد إلا عن طريق الإشتراك في الأعمال الإنتاجية، فالمال لا يولد مالا بذاته، وإنما عن طريق الإستثمار حصرا، إما مضاربة أو مرابحة أو مشاركة، وغيرها من الوسائل التي أباحها الشرع.
ثم إن هناك شرطا آخر وضعه الإسلام على المال في حالة اكتنازه وهو إيتاء الزكاة. وقد ورد في هذا المجال، قوله صلى الله عليه وسلم: "إتجروا في مال اليتيم كي لا تأكله الصدقة".14 هذا الأمر يتطلب أن يكون رأس المال في الإسلام في حالة تداول دائمة، كي يضمن نموه، وبالتالي عدم فنائه عند اكتنازه ودفعه للزكاة.
هذا الأمر فقهه النورسي رحمه الله، لذا جعل منع الربا مقترنا بإيتاء الزكاة، كي يضمن تداول رأس المال في النشاط الإقتصادي، إذ لو سايرنا تبرير الرأسماليين للفائدة كأساس لنمو رأس المال، وأداة لتوجيه الإقتصاد وتخصيص الموارد -وهو أمر مردود من أساسه-،15 فبزواله حسب ادعاء الرأسماليين ستزول الرغبة نحو الإدخار الذي مآله للإستثمار كما هو عند الكلاسيك كليا أو جزئيا كما هو عند كينز عند استبعاده للاكتناز. وحيث إن الإسلام جاء لينظم الحياة بكل أطرافها، جاءت الزكاة كي تكون حافزا لإعادة التوزيع من جهة، وحافزا لنمو رأس المال من جهة أخرى، لضمان عدم فنائه.
فالإسلام، يفرض فائدة سالبة "الزكاة" من شأنها أن تضطر المدخر على توظيف أمواله بدلا من تجميدها، ووضع ضريبة دورية "2,5 %" سنويا، وهكذا يجد صاحب المال نفسه مضطرا إلى توظيف أمواله كي لا تأكلها الزكاة فيزداد الاستثمار، ويرتفع الإنتاج، ويزداد الاستخدام والدخل، الأمر الذي يحفز النمو الإقتصادي.16 هذا ما استنبطه النورسي، فقرن تحريم الربا بإيتاء الزكاة، وهو استنباط ينم عن فهم عميق لعلم الإقتصاد.
ثالثا: الآثار الإقتصادية والإجتماعية للربا:
عند قراءة مؤلفات النورسي، تبقى مندهشا وحائرا، لسعة إدراكه وبعد نظره، إلا أن سرعة اندهاشك تتلاشى، عندما تتذكر بأن المؤمن ينظر بنور الله، وكما ورد في الأثر "إحذروا فراسة المؤمن". لقد استطاع رحمة الله عليه أن يتوصل إلى استنتاجات إقتصادية واجتماعية للربا، ربما قد تتطلب جهدا كبيرا من أصحاب الاختصاص.
أ- إختلال توازن المجتمع:17
يصور الإمام بديع الزمان، حالة المجتمع الذي يتفشى فيه الربا، إذ تتزايد الفجوة الإقتصادية ما بين الأغنياء (الخواص)، والفقراء (العوام)، فينجم عن ذلك مشاكل إجتماعية سمتها الحقد والحسد مابين الفقير والغني، مما يؤدي إلى مجتمع متانفر الأطراف، حيث يقول:
لقد انقطعت صلة الرحم بين طبقة الخواص والعوام. فانطلقت من العوام أصداء الاضطرابات وصرخات الإنتقام، ونفثات الحسد والحقد. ونزلت من الخواص على العوام نار الظلم والإهانة وثقل التكبر ودواعي التحكم. بينما ينبغي أن يصعد من العوام: الطاعة والتودد والإحترام والإنقياد، بشرط أن ينزل عليه من الخواص: الإحسان والرحمة والشفقة والتربية. فإن أرادت البشرية دوام الحياة فعليها أن تستمسك بالزكاة وتطرد الربا. إذ إن عدالة القرآن واقفة بباب العالم وتقول للربا: "ممنوع، لا يحق لك الدخول إرجع!"18
ولا يصف النورسي، رحمه الله، حال المجتمع المختل توازنه، ويتركه على علاته، بل نجده يقترح الحل المناسب الذي وضعه الإسلام، والمتمثل بإيتاء الزكاة، فيقول:
إعلم! أن شرط انتظام الهيئة الإجتماعية أن لا تتجافى طبقات الإنسان، وأن لاتتباعد طبقةُ الخواص عن طبقة العوام، والأغنياء عن الفقراء بدرجة ينقطع خيط الصلة بينهم. مع أن بإهمال وجوب الزكاة وحرمة الربا إنفرجت المسافة بين الطبقات، وتباعدت طبقات الخواص عن العوام بدرجة لا صلة بينهما، ولا يفور من الطبقة السفلى إلى العليا إلا صدى الإختلال، وصياح الحسد، وأنين الحقد والنفرة بدلا عن الإحترام والإطاعة والتحبب، ولا يفيض من العليا على السفلى بدل المرحمة والإحسان والتلطيف إلا نار الظلم والتحكم، ورعد التحقير. فأسفاً!.. لأجل هذا قد صارت "مزيةُ الخواص" التي هي سبب التواضع والترحم سبباً للتكبّر والغرور. وصار "عجزُ الفقراء" و "فقرُ العوام" اللذان هما سببا المرحمة عليهم والإحسان إليهم سبباً لأسارتهم وسفالتهم... وإن شئت شاهداً فعليك بفسادِ ورذالةِ حالة العالم المدنيّ، فلك فيه شواهد كثيرة. ولا ملجأ للمصالحة بين الطبقات والتقريب بينها إلا جعل الزكاة -التي هي ركن من أركان الإسلامية- دستوراً عالياً واسعاً في تدوير الهيئة الإجتماعية.19
ب- إنتعاش الإضطرابات:
إذا ما اختل توازن المجتمع، نجمت عنه الإضطرابات، فتتفاقم الإضرابات، وتتعطل الحياة الإجتماعية، وفي ظل العولمة وحكم الشركات عابرة القومية، فإن الإضطرابات لن تقتصر على مستوى البلد الواحد، بل ستتجاوزه، وربما يعم المعمورة جمعاء.
فبمعرض حديثه عن الكلمتين "إن شبعت فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع"، "وأكتسب أنت لآكل أنا"، يتوصل النورسي، رحمه الله، إلى أنه، لا يمكن العيش بسلام ووئام في مجتمع إلا بالمحافظة على التوزان القائم بين الخواص والعوام، أي بين الأغنياء والفقراء، وأساس هذا التوازن هو رحمة الخواص وشفقتهم على العوام، وإطاعة العوام واحترامهم للخواص.20
فالآن، إن الكلمة الأولى قد ساقت الخواص إلى الظلم والفساد، ودفعت الكلمة الثانية العوام إلى الحقد والحسد والصراع. فسُلبت البشرية الراحة والأمان لعصور خلت كما هو في هذا العصر، حيث ظهرت حوادث أوربا الجسام بالصراع القائم بين العاملين وأصحاب رأس المال كما لا يخفى على أحد. فالمدنية بكل جمعياتها الخيرية ومؤسساتها الأخلاقية وبكل وسائل نظامها وانضباطها الصارم عجزت عن أن تصلح بين تينك الطبقتين من البشر كما عجزت عن أن تضمد جرحي الحياة البشرية الغائرَين.21
وكعادته، بعد تشخيصه للمشكلة، يضع الحل الذي جاء به الباري عزَّ وجل من خلال الإسلام، وفي رسالته "القرآن الكريم".
أما القرآن الكريم فإنه يقلع الكلمة الأولى من جذورها، ويداويها بوجوب الزكاة. ويقلع الكلمة الثانية من أساسها ويداويها بحرمة الربا. نعم، إن الآيات القرآنية تقف على باب العالم قائلة للربا: الدخول ممنوع. وتأمر البشرية: أوصدوا أبواب الربا لتنسد أمامكم أبواب الحروب. وتحذّر تلاميذ القرآن المؤمنين من الدخول فيها.22
إن معدن جميع أنواع الإضطرابات والقلاقل والفساد وأصلها، وإن محرك جميع أنواع السيئات والأخلاق الدنيئة ومنبعها كلمتان اثنتان أو جملتان فقط (ذكرت أعلاه -الباحث-).
فإن كانت البشرية تريد صلاحاً وحياة كريمة فعليها أن تفرض الزكاة وترفع الربا.23
ج- الأزمات الدورية:
لقد نجم عن الربا أزمات إقتصادية هزت الإقتصاد الرأسمالي، فمنذ عام 1929 "الكساد الكبير" توالت الأزمات واحدة تلو الأخرى، آخرها وليس أخيرها الأزمة المالية التي عصفت بالإقتصاد الأمريكي "أزمة العقار"، والتي انتقلت ويلاتها لتجر الخسارة إلى كل الإقتصاد العالمي، وما الأزمة الأوروبية الحالية إلا دليل على تلك الأزمات المتلاحقة. وهذا ما توعده النورسي، من خلال فهمه لقوله تعالى للمرابين: ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله﴾.البقرة:279
ولكن البشرية لم تصغ إلى هذا الأمر، فتلقّت صفعة قوية، وعليها أن تصغي إليه قبل أن تتلقى صفعة أخرى أقوى وأمرّ.24
د- الربا سبب للبطالة:
إن حلول الأزمات الإقتصادية، الذي أساسه التعامل الربوي، من شأنه أن يعصف بالقطاعات الإقتصادية، من جهات عدة، إذ إن الاستثمار بدلا من أن يتجه إلى الإقتصاد الحقيقي، إنتقل إلى المضاربة في أسواق المال، وهو اقتصاد رمزي، لايقابله إنتاج حقيقي، مما يؤدي إلى تزايد البطالة، إذ إن الإستثمار المخصص للقطاعات الإقتصادية سوف ينكمش بحدوث الأزمات، وهذا أيضا استنتجه النورسي رحمه الله.
الربا يسبب العطل، ويطفىء جذوة الشوق إلى السعي. إن أبواب الربا ووسائطه، هذه البنوك، إنما تعود بالنفع إلى أفسد البشر وأسوأهم. وهم الكفار... وإلى أسوأ هؤلاء وهم الظلمة، وإلى أسوأ هؤلاء وهم أسفههم. إن ضرر الربا على العالم الإسلامي ضرر محض. والشرع لا يرى تحقيق رفاهية البشر قاطبة في كل حين. إذ الكافر الحربي، لاحرمة له ولاعصمة لدمه.25
هـ- إنتشار أزمة الجوع:
تحاول استطلاعات الرأي، ومراكز الدراسات المستقبلية، التنبوء بما سيؤول إليه الحال، بعد "5، 10، 15" سنة القادمة، واضعة افتراضات عدة واحتمالات شتى وترسم سيناريوهات مختلفة، حسب كل افتراض. إلا أن المؤمن الذي ينظر بنور الله، والفتح الرباني لعالمنا الجليل، جعلته يتوقع حال آخر الزمان، وهو عصرنا.
أشار تقرير التنمية البشرية للعام 2006، إلى أن هناك حاجة ماسة لوضع خطة عمل دولية بقيادة مجموعة الثمانية "G8" لحل أزمة المياة والصرف الصحي المتنامية التي تتسبب بموت ما يقارب مليوني طفل سنويا. وفقا لهذا التقرير، وعنوانه ما هو أبعد من الندرة: القوة والفقر وأزمة المياه العالمية، تشكل المياه غير النظيفة في معظم أنحاء العالم النامي تهديدا للأمن البشري أشد من التهديد الذي تشكله النزاعات العنيفة.
يفهم من الروايات أن الجوع سيؤدي دوراً مهماً في فتنة آخر الزمان هذه، وأن أهل الضلالة يحاولون بهذا التجويع إغراق أهل الإيمان الضعفاء الجائعين في متطلبات هموم العيش حتى ينسّونهم مشاعرهم الدينية أو يجعلونها في المرتبة الثانية أو الثالثة.26
بعد تأكده من وقوع هذه المصيبة "أزمة الغذاء والمياه" حسب التعابير المعاصرة، يقترح النورسي للحد من هذه الظاهرة ومن خلال توصيات، أبرزها الحرص على تفعيل الزكاة.
ولما كان لأهل الإيمان وللأبرياء من حيث القدر الإلهي وجه رحمة ووجه عدالة في كل شيء، حتى في عذاب القحط. تُرى بأى طرز تكون هذه الرحمة والعدالة في هذا الأمر؟ ومن أية جهة يستفيد أهل الإيمان ولاسيما طلاب رسائل النور من هذه المصيبة -من حيث الإيمان والآخرة- وكيف يتصرفون معها ويقاومونها؟
الجواب: إن أهم سبب لهذه المصيبة هو العصيان النابع من كفران النعمة وعدم الشكر وعدم تقدير النعمة الإلهية حق قدرها. لذا فإن العادل الحكيم لأجل إراءة اللذة الحقيقية لنعمه ولاسيما الأغذية منها ولاسيما ما يخص الحياة ولاسيما النعمة الكبرى، الخبز... ولبيان أهميته العظيمة ودرجته الفائقة من حيث النعمة، فإنه سبحانه يسوق الناس إلى الشكر الحقيقي -وفقاً لحكمته تعالى- فتنزل هذه المصيبة بالذين لا يشكرون ربهم ولا يراعون الرياضة الدينية في شهر رمضان. فعدلُه سبحانه وتعالى محض الحكمة.27
إن مهمة أهل الإيمان وأهل الحقيقة ولاسيما طلاب رسائل النور هي السعي لجعل بلاء الجوع هذا وسيلة الالتجاء إلى الله والندم على الذنوب والتسليم لأمر الله، وكالجوع الذي يصيب المرء عند مزاولته الرياضة الدينية في شهر رمضان، والحيلولة دون فتح السبيل أمام التسول والسرقة والفوضى بحجة الضرورة، والسعي لدفع الزكاة إلى أولئك الفقراء الجائعين الذين لا يرأف بحالهم قسم من الأغنياء وبعض أهل المرتبات، فيستمعوا لرسائل النور ويرأفوا بحالهم بشعورهم بهذا الجوع الإضطراري... وجعل الشباب تلك الحادثة لصالحهم بدلاً من أن تكون بلاءً عليهم وذلك باسترشادهم برسائل النور فيستفيدوا منها استفادة الغيارى، حيث تحد المصيبة من طغيان نفوسهم وتحول بينهم وبين نزواتها وأذواقها الدنيئة... وأن ينظر أهل العبادة والصلاح إلى هذا البلاء النازل بهم كرياضة شرعية في هذا الوقت الذي أصبح أغلب الناس جياعاً واختلط المال الحرام بالحلال اختلاطاً شديداً حتى استحال تمييز أحده عن الآخر وأصبح بمثابة الأموال المشبوهة، فيقنع بمقدار الضرورة من الإعاشة العامة -التي يشترك فيها الجميع ضمناً- ليكون حلالاً. فيقابل القدر الإلهي بالرضا بدلاً من الشكوى.28
ويمكن تلخيص توصيات النورسي لحل أزمة الغذاء بالآتي:
1- العودة والإنابة إلى الله من خلال الإلتزام بشرعه.
2- قطع السبيل أمام التسول والفوضى والفساد بحجة الجوع.
3- إيتاء الزكاة.
4- الامتناع عن الإسراف.
5- الصبر على البلاء.
مما سبق يتضح لنا أن الإمام النورسي رحمه الله، لم يتوقف كثيرا عند عرضه لتحريم الربا ولم يخض فيه، واستدل بقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾،البقرة:275 وقطع الطريق على المتحايلين، عندما ذكر بأن كل أنواع الربا حرام، حتى ولو تم نعتها بوصف آخر، كما في فوائد البنوك. وقرن الامتناع عن الربا بإيتاء الزكاة. واتبع أسلوبا في غاية الحكمة للاستدلال على التحريم، وذلك من خلال استعراض الآثار السلبية الإجتماعية والإقتصادية للربا.
الخاتمة:
لا يعد الخوض، في رسائل النور أمرا سهلا، فكلما راجعت قراءة موضوع ما فيها، وجدت أنك قد أغفلت الكثير ولم تستطع الإحاطة به، وهذه الصفة بلغتها رسائل النور، لأنها تعاملت مع أطهر وأنبل دستور في الوجود وحاولت تفسيره، وهو كتاب الله العظيم (القرآن)، فاكتسبت ببركته هذه الشمولية.
مع التطور الحاصل في النظام المصرفي، أصبح الإنسان مكبلا ولا يمكن له أن يستغني عن فعل شيء دون استخدام بطاقة الائتمان، بل إن الإغراءات الكثيرة التي تقدمها المصارف، يمكن أن تجر قدم الكثيرين للوقوع في الاقتراض، وبالتالي الوقوع في مشكلة الربا، وأشير هنا إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم والذي تم ذكره في المبحث الأول، حيث قال: "لَيَأْتِيَنَّ علَى النّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى أحَدٌ إلا أكَلَ الرّبَا، فَإنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غباره."29
هذا الأمر يتطلب منا التذكير بحرمة الربا، والتذكير بآثاره، إذ إن الإنسان يتأثر بالشواهد للأسف أكثر من ترهيبه بالحرام. وهذا ما فعله بديع الزمان الإمام النورسي، إذ استطاع أن يشير إلى آثار الربا، والتي تؤدي ابتداءا إلى اختلال بنية المجتمع، فتشيع الإضطرابات على المستوى المحلي والدولي، ويزداد عدد العاطلين عن العمل، وتتوالى الأزمات المالية والإقتصادية مرارا، وتتفشى أزمة الجوع (الغذاء العالمية). وهي أمور حاصلة اليوم، إلا أنه توقعها لعقود خلت.
إن تشخيص المرض لا يكفي، فينبغي وضع العلاج الملائم له، كي يتم استئصاله، هذا ما فعله النورسي رحمه الله، فعلاج الربا مقترن بإيتاء الزكاة، وبتحريم كافة أنواع الربا كما تم ذكره في المبحث الثاني. كما أن تجربة المصارف اللاربوية (الإسلامية) التي نشأت منذ عام 1975 يمكن أن تكون بديلا ناجعا لتيسير التعاملات الإقتصادية وضمان الإستثمار على وفق مبادئ الشريعة السمحاء، مما يحتم تشجيع انتشارها والتعامل معها.
* * *
الهوامش:
1 ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بروت- لبنان، بدون تاريخ، ج14 / 304-305.
2 السرخسي، المبسوط، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993، ج12/109.
3 صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار احياء التراث العربي، بيروت، كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا وموكله. الترمذي واحمد في مسنده.
4 الإمام مالك، المدونة الكبرى، طبعة دار الفكر، بيروت، 1978، 4/25، ابن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع و ترتيب عبد الرحمن بن محمد النجدي، مطابع الرياض،1383هـ. 29/535. ابن حزم، المحلى، تحقيق لجنة احياء التراث العربي، دار الجيل، بيروت9/509. الجامع لاحكام القرآن، القرطبي، 3/241. النووي، المجموع شرح المهذب، دار الفكر، بيروت،1416هـ، 9/391. ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار المعرفة، بيروت ج2/ 129. ابن قدامة، المغني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1403هـ/1983، ج4/ 123، 163. الصنعاني، سبل السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 2003، ج3/35. ابن جزي، القوانين الفقهية، دار الكتاب العربي، بيروت، 1984، ص 250-251.
5 ابو زهرة، محمد، بحوث في الربا، دار البحوث العلمية، الكويت، 1970، ص 29-30.
6 ابن حجر المكي، احمد بن احمد، الزواجر عن اقتراف الكبائر، مطبعة المصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط2، 1390هـ/ 1970م، ج1/ ص 222.
7 القاموس الفقهي، ابو حبيب سعدي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1408هـ/1988م، ص143.
8 لسان العرب. الفيروز ابادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، دار الفكر، بيروت،1983.
9 النورسي، سعيد، كليات رسائل النور، الكلمات، ترجمة احسان قاسم الصالحي، شركة سوزلر للنشر، القاهرة، ط 5، 2008/ ص434.
10 المصدر نفسه/ الكلمة الخامسة والعشرون/ الشعاع الثاني/ ص 458.
11 صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار احياء التراث العربي، بيروت، كتاب الحج، باب 19ج2، 899، حديث 147، كتاب الحج، باب 19. مسند احمد.
12 الكلمات، الشعاع الثالث، ص 466-467.
13 المصدر نفسه.
14 رواه الدارقطني والبيهقي.
15 محمد عمر شابرا، نحو نظام نقدي عادل، ص 145 وما بعدها.
16 صبحي فندي الكبيسي، تحريم الربا وبعض اثاره الاقتصادية، مجلة الادارة والاقتصاد، العدد الحادي عشر، 1989، كلية الادارة والاقتصاد/الجامعة المستنصرية، بغداد، ص 124.
17 يورد النورسي، في تراثه العلمي المنقول الينا، عبارات تدل -حسب رأي الباحث- على مفهوم واحد، اذ وردت ايضا عبارة انتظام الهيئة الاجتماعية.
18 الكلمات، ص 434.
19 النورسي، سعيد، كليات رسائل النور، اشارات الاعجاز، ترجمة احسان قاسم الصالحي، شركة سوزلر للنشر، القاهرة، ط 5، 2008/ص 52 وما بعدها.
20 الكلمات/ ص466.
21 المصدر نفسه، ص 467.
22 المصدر نفسه.
23 المصدر نفسه، ص 833.
24 المصدر نفسه/ص، 434.
25 المصدر نفسه/ ص 861.
26 النورسي، سعيد، كليات رسائل النور، الملاحق، ترجمة احسان قاسم الصالحي، شركة سوزلر للنشر، القاهرة، ط 5، 2008، ملحق قسطموني/ص161.
27 المصدر نفسه.
28 المصدر نفسه، ص 161-162.
29 رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Aralık 2012 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2012 Cilt: 6 Sayı: 6 |