المنهج العوفي وإعلاء كلمة الله
عند بديع الزمان
أ.د. بنيامين دوران1
سنتناول في هذه الدراسة أولاً المعني الذي حمّله بديع الزمان لمفهوم إعلاء كلمة الله، ثم سنسعى لتوضيح الصفات العامة لأخلاق المنهج العوفي الذي هو من المؤسسات اللازمة للتوصل إلى صفحة إعلاء كلمة الله، وذلك باتخاذ الآراء العامة لبديع الزمان أساساً لذلك وخلال ذلك ستتم دراسة مؤسسة "إسلام الحرفيين" و "إسلام المجتهد" التي تشكل مختلف الأصناف "للأقلية الرائدة" للكادر الذي يحمل أخلاق المنهج العوفي للتوصل إلى صفحة إعلاء كلمة الله. وبسبب دخول النظرة الكاملة للعالم بشكل عام، داخل مفهوم أخلاق المسلك، فإننا سنتناول الأحداث الاجتماعية والسياسية فقط، وذلك بمقدار قربها من الاقتصاد والنشاطات الاقتصادية، وسنتناول الأقسام المستبقية منها في دراسة أخرى.
بديع الزمان ومفهوم "إعلاء كلمة الله"
يُحمّل بديع الزمان معنى الحضارة الإسلامية لمفهوم إعلاء كلمة الله، ويسعى لتعيين البناء الأرضي اللازم للوصول إلى هذه الصفحة. وبديع الزمان يختلف عن السلف، حيث يقول أنه لا يمكن في العصر الحالي إعلاء كلمة الله إلا "بالترقي مادة والدخول في الحضارة الحقيقية"2 وبنفس الشكل نجده يقول "سنجاهد ضد الفقر واختلاف الأفكار اللذين هما العدوان اللدودان لإعلاء كلمة الله وذلك بسلاح العلم والفن"3 وبهذا يشير إلى العلم والتكنولوجيا اللذان هما المحركان الأساسيان لصفحة إعلاء كلمة الله. حتى إنه يتجاوز ذلك قائلاً بأن الذي يمنع إعلاء كلمة الله سيكون مانعاً للشريعة"4 وسيكون من المفيد أن نقف قليلاً عند بديع الزمان: وسأتناول إعلاء كلمة الله في دراسة أخرى بشكل مفصّل إن شاء الله.
إن حالة الحركة الحديثة للمجتمع المسلم تأتى على صفحة سميتها "صفحة الفضيلة".
عندما ندرس تاريخ المجتمعات الإسلامية -وأشرنا إلى بعض العناصر المميزة بالأقلام الملونة- يظهر أمامنا خطاً بيانياً معناه: إن المجتمعات الإسلامية بشكل عام انطلقت من صفحة يمكن أن نسميها "الانهيار" أو "صفحة الانهزام الاضطراري الرسمي" إلى "الصفحة الحسنة السرية والهزيمة الاضطرارية"، ومن هذه الصفحة إلى "صفحة الأزمة والصراع"؛ ومنها تصل إلى "صفحة الانهزام السري والحسن الاضطراري". وبعد هذه الصفحة تستمر الوتيرة بالتكرر "الانهزام السري والحسن الاضطراي"؛ "الأزمة والصراع"؛ "الصفحة الحسنة السرية والهزيمة الاضطرارية" وتعود مرة أخرى إلى "الانهيار" أو يمكن أن تبدأ هذه الحركة في صفحة الفضيلة وتستمر حتى صفحة "الانهيار" والذي يهمنا هنا هو صفحة إعلاء كلمة الله التي تعادل صفحة الفضيلة.
والذي يجب أن نوضحه هنا أن صفحة إعلاء كلمة الله ليست ذات بعد واحد أو متجانسة. بل العكس أن هذه الصفحة تُعين من قبل خلفيات المجتمعات، ومستواها التجريبي وصفة احتياجاته ومستوى الشدة وغيرها من المحركات. وبالنسبة لي، فقد شهدت حتى الآن صفحتان لإعلاء كلمة الله في ميزان المجتمعات الإسلامية:
إحداها في عصر السعادة وخير القرون والثانية هي الحضارة العثمانية التي تقابل القرن الخامس عشر والسادس عشر. وأود أن أبين أن صفحة إعلاء كلمة الله لا تشمل المجتمع المسلم بالكامل. إذ بينما تكون الأمة في حالة انهيار عام تكون بعض المجتمعات الإسلامية في صفحات قريبة من صفحة إعلاء كلمة الله. أو ربما يكون العكس فبينما تكون الأمة في صحفة إعلاء كلمة الله تكون بعض المجتمعات الإسلامية في صفحات متخلفة.
وإذا قيّمنا الأمة من منظور المرحلة التي نعيشها اليوم نستطيع أن نقول أننا في "صفحة الأزمة"؛ لكننا ننتقل بسرعة إلى صفحة إعلاء كلمة الله.
وكما بينا في إحدى دراساتنا5 نستطيع أن نلخص الميزات العامة لصفحة إعلاء كلمة الله التي توافق هذا الزمن على الشكل التالي: هذا المستوي هو سقف أمة لم تتشكل بنشاطات وخلفيات الجماعة، والقوم، والدولة فقط، بل بغيرة أمة كاملة والخلفيات المعرفية، والتكنولوجية والثقافية والفكرية. والحركة الأولى بشكل طبيعي ستبدأ بنشاطات وديناميكية القطاع الذي سميناه "الأقلية الرائدة" والتي تلتقي في "البنية الصغيرة" والتي نسميها "بنية التجديد" لكن هذه الحركة ستصير مع الزمن حركة شعبية وستنسب إلى الأمة.
وهذا المستوى له بعدين بشكل عام: أحدهما البعد الذي على شكل طراز الحياة المنطوي على الداخل "الإنسان الكامل"؛ والآخر هو البعد الظاهر على شكل حركة للخارج. وأهم مؤسسات طراز الحياة المنطوي على الداخل هي: العدالة، الشفقة، العفة، الحكمة، المعرفة، الإحسان، والإقتصاد. وفي الأصل أن طراز الحياة المنطوي على الداخل يكون أهم وأكثر مردوداً من طراز الحركة للخارج والذي هو على شكل أفعال، إذا تحققت الصفات المذكورة أعلاه. يعني،كما يقول A. Toynbee إن هذا الإنزلاق من "العالم الكبير-الكون" إلى "العالم الصغير دليل على ديمومة الحضارة"6 وإلا فإن الحركات والأفعال الموجهة للخارج مثل انعدام العدالة والشفقة والعفة والحكمة ستكون قصيرة العمر وبلا روح وبعيدة عن الشاعرية وأثناء تقييم "ماكس ويبر" للصفحات المختلفة للدين الإسلامي بيّن أن بعد الانطواء إلى الداخل كان مسيطراً على الصفحة النبوية والصحابية الأولى عند الحديث عن دين النجاة.7
والبعد الذي هو على شكل حركة للخارج إنما يظهر في الساحات الإقتصادية والإجتماعية، والعلمية ويجد مضمونه في العلاقات الدولية. وهذه المرحلة تفيد عن بناء اجتماعي-إقتصادي بحيث يصل إلى قوة وإمكان وسعة تمكنه من تقديم وزرق المبادئ العظيمة للأمة مثل "المعرفة" و "التوحيد" و "العدالة" و "الشفقة" و "الإحسان" لجميع ذوي العقل والشعور الذين يعيشون في هذه الأرض في كل آن وفرصة وبشكل مستمر ومؤثر. ولنوضح الموضوع قليلاً: أي لتصل الأمة المذكورة في مجال العلم، والتكنولوجيا، والإقتصاد، والثقافة، والفن، والآداب، والسياسة، والأخلاق، والعسكرية، والاتصالات، والمخابرة إلى مستوى بحيث تستطيع هذه الأمة القيام بوظيفة تقديم ايديلوجيتها ومبادئها المذكورة أعلاه، وأنماط السلوك المتعلقة بهذه المبادئ وميكانيكيتها وفق المقاييس الدولية على شاشات التلفاز والسينما ومحطات الراديو وعلى صفحات الجرائد والكتب، وبواسطة جميع أجهزة الإعلام دون ضغوط ولا إجبار.
إن التوصل إلى مثل هذا المستوى هو عند سعيد النورسي فرض كفاية. فبعد وصول الأمة إلى هذا المستوى تستطيع إيصال أوامر الله إلى البشرية. وفي هذا المستوي فقط تتمكن من المحافظة على "عزة الإسلام"، لذا فإن هدف "إعلاء كلمة الله" هو دفع أفراد الأمة على طراز حياة حركية، ووضع المثالية والآفاق الواسعة أمامهم وإن التوصل إلى هذه الصفحة هو أمر ضروري لكل مجتمع مسلم كالصلاة والصيام. والغريب أن بديع الزمان يُقيّم التطور العلمي والفن والصناعة "فرض كفاية".
ولنعرض بعض العبارات الأصلية التي ذكرها بديع الزمان في كتابه المحاكمات العقلية: "إن الامتثال والطاعة لقانون التكامل والرقي للصانع الجليل -الجاري في الكون على وفق تقسيم الأعمال- فرض وواجب" لم تبد الأمة الاطاعة الواجبة لهذا الأمر: لكن بالنسبة لبديع الزمان "قد أودعت في ماهية البشر استعدادات وميولاً، لأداء العلوم والصناعات التي هي في حكم فرض الكفاية لشريعة الخلقة" فقد كسرت الأمة هذا السوق وأطفأته بسوء الاستعمال. وقد أدى ذلك إلى نتائج سلبية جداً في الدنيا والآخرة."8
وكما بينا أعلاه بشكل مختصر أن طراز إعلاء كلمة الله يختلف في كل مرحلة. ويتشكل هذا الطراز حسب احتياجات وتطلعات القطاع الذي سميناه "الأقلية الرائدة" وتطلعات الأقلية الرائدة تُعيّن من طرف تسلط وإجبار البيئة الكبيرة. ومن الغريب أن الإمام الغزالي وأتباعه المنظّرين بشكل واسع لطراز إعلاء كلمة الله في القرن الخامس عشر والسادس عشر، قد قاموا بالإصرار على التوجه "للإنشاء المنطوي على الداخل" يعني "الإنسان الكامل". وكتاب "الإحياء" مليء بمعاني الإنشاء المنطوي على الداخل مثل؛ الإخلاص والرياضة، التوكل، والقناعة، والرضا، والصبر. وكما أن إعلاء كلمة الله لم تذكر بشكل جدي من طرف التجارة والصناعة والعلم والإعمار، فإنه يشاهد وكأن هناك إهمال خفي لذلك. وأن سبب ذلك بالنسبة لي هو احتياجات وتطلعات الناس في تلك المرحلة. أما في هذه المرحلة فرغم امتلاك الأمة للعلم، والتقنية، ورأس المال، والصناعة، والتجارة وغيرها من المجالات المادية بشكل كاف، إلا أنها من الناحية الأخلاقية والدينية في حالة انهيار عميق. والحقيقة إن الأمة في هذه المرحلة تتلوى في "يأس" عميق. واحتياجاتها للوسائط المادية محدودة. لذلك فقد انزلق إصرار "بيئة التجديد" إلى الرياضة، والخلوة، والصبر، والاطاعة، والإخلاص، وقد صار تشكل إعلاء كلمة الله على هذا الطراز.
ويجب أن نوضح الموضوع هنا أكثر كي لا يحدث بلبلة في الذهن. إنه ليس من الممكن أن نبين ونعرف بوضوح طراز إعلاء كلمة الله المستقبلية. لكن من الممكن تخمين الخطوة العريضة والاستشعار من أطراف الخيوط المعينة. وبالانطلاق من فكر بديع الزمان القائل أن إعلاء كلمة الله لا تتم إلا "بالترقي المادي"،فإننا نتحدث عن العلم،والتقنية، والصناعة، والاتصالات، والفلسفة والتنظيمات العسكرية. لكن هذه المؤسسات ليست تقليد لأمثالها من المؤسسات الموجودة بكثرة في الغرب، بل المؤسسات التي يطورها "المجتهد الإسلامي" بالاستفادة منها.
وهناك نقطة أخرى مهمة في موضوع إعلاء كلمة الله. في هذه الصفحة يمكن أن تتشكل بعكس استقامة تخميناتنا. نحن نتحدث الآن من التقنية، والصناعة، والتضخم المالي وغيرها، فربما تقوم البشرية في القرون المقبلة بترجيح طراز حياة بعكس ذلك. فربما تكره التطور الاقتصادي، وتشمئز من البناء والتعسكر السياسي وترجح الرجوع إلى الطبيعة والتوحد معها، وقد بينت إحدى الدراسات في انكلترا أن حوالي 70 بالمائة لا يريدون طراز الحياة التكنولوجية الموجود. والناقدون الغربيون اليوم بدأوا يعدّون الأرضية النفسية والايديولوجية لطراز حياة مثل هذه الحياة.
إن الواقعية التي ستشكل في مثل هذا الوسط الذي تسيطر فيه الفكرة اللا علمية واللاتقنية، ستكون موافقة لطراز هذه الحياة.
ومهما كانت وجهة النظر وشكلها التي ستظهر في المستقبل، فإن الواقعية المسيطرة الآن، وفي المستقبل القريب تستند إلى "الترقي المادي"، لذلك فإن إعلاء كلمة الله لا يتم إلا بالترقي المادي. ومن أجل الترقي مادة فإن هناك فاعلين بشريين مهمين. ونسمي أحدهما "إسلام الحرفيين" ولندرس دوره في الطريق المؤدي إلى إعلاء كلمة الله.
إسلام الحرفيين وأخلاق المنهج العوفي
لنبحث أولاً عن جواب قصير لسؤال "لماذا الحرفيين؟" وحسب قناعتي إن أول وأهم مهندس لوتيرة إعلاء كلمة الله هو "الحرفي".
ونقصد هنا من مؤسسة "الحرفي" الوحدات الانتاجية التي تملك البناء اللازم للانتاج والتوزيع ذوالمردود الجيد والمرن والتي تبدأ من حجم النشاطات ذات الحجم المتوسط والتي تميل نحو الحجم الكبير، والكوادر التي تنظم هذه الوحدات. لكننا لا نقيم الوحدات التي تنشر الملكية على القاعدة والتي تؤدي إلى تخريق عاطفة الملكية، والتي تتعدى الحدود القومية وتؤسس شبكات استعمار مكثفة على شكل شركات عالمية، والتي تسعى وراء الكسب الحرام والمشوب كالتخمين وانتهاز الفرص والبنوك الربوية وغيرها من الأعمال المشوبة، والتي تحصر نشاطاتها في مجالات الاستغلال الربوية والتي لا تنشط في الساحات الحقيقية ذات المردود، ضمن حدود "الحرفيين". وإننا نعتقد أن بمثل هذا البناء لن تتحقق فائدة من الزاوية النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وإلى جانب ذلك فإن وحدة الإنتاج التي وصلت إلى البناء الفعال والمرن إلى أبعد الحدود في مجال الإنتاج وحجم نشاطها والذي تعدى الحدود المتواضعة والمضغوطة لمفهومنا التقليدي للحرفي، ستأخذ مكانها في تعريفنا "لإسلام الحرفيين". والخاصية التي تجلب الانتباه أولاً هو أن المؤسسة المقترحة هي مؤسسة متوسطة أو فوق المتوسطة وحجم فعالياتها. لماذا لا تدخل التجمعات الكبيرة والشركات داخل "إسلام الحرفيين"؟ لا يمكننا هنا أن ندرس هذا الموضوع التقني إلى أبعد الحدود بعمق. لكن أود أن أقول أن لكل قطاع أو قلم إنتاج مقياس الإدارة، الإدارة الأفضل الخاص به. وفي حالة تخطى هذا المقياس، لا مفر عندها من حدوث النتائج السلبية لأبعد الحدود من الزاوية الإقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاخلاقية. وأننا نعرف ونعيش في يومنا التأثيرات الهدامة التي تقوم بها الشركات العالمية التي هي على مستوى العالم. والغريب أن ماكس ويبر الذي تحمل وظيفة تقديس الرأسمالية ونجح فيها إلى حد ما، يربط تطور الرأسمالية واستمرارها بمؤسسات الإنتاج المتوسطة أو فوق المتوسطة، والحرفيين الصغار وقطاع التجار.
بالنسبة لويبر إن الأساس في تطور الرأسمالية الأوروبية هو الجو الديني في المدينة الذي شكلته مجموعات معينة مثل الحرفيين وصغار التجار في المدن المستقلة ذاتياً، وفي تطور هذه المدن. إن ويبر لم يرى المخمنين في البورصات ولا الربويين المنطلقين خلف الأعمال القذرة والمشوبة، ولا القرويين المقيمين في الأرياف عنصراً ضرورياً من أجل التطور الرأسمالي. وكما يدعي ويبر أن القروي يهتم بإدارة الطبيعة بالطرق السحرية، بينما المدني يبتعد عن الطبيعة فيزيائياً واقتصادياً، وإن البعد الحقيقي والأخلاقي للتدين النصراني أعدّ طراز الحياة للحرفيين وصغار التجار المدنيين وإلى جانب عنصر المحاسبة فالنشاط الثقافي للحرفي يحمل صفة الصدق، والعمل الجيد، والثقة واللعب حسب القواعد وغيرهما من الميزات. إن للحرفين وبعض أصحاب الحرف -مثلا عمال النسيج- وقتاً من أجل التفكر، ولذلك فإنهم قريبين من الاندفاع وراء الأفكار الدينية المنظمة. أما القرويون فهم على العكس حيث يشاهد ميل قطعي نحو دين المجتمع في الأصناف تحت المتوسطة، ودين الخلاص، دين الأخلاق الحقيقي في النهاية.9
ويمكن أن نشاهد نفس التوجه عند عالم الاقتصاد الغربي Schumpeter. وبالنسبة له إن الذين طوروا الرأسمالية وجعلوها نظاماً يسيطر على العالم هم رجال الأعمال الذين يحملون "روحاً مبدعة" لكن كلما تطورت الرأسمالية ازدادت سيطرة الشركات الأهلية والشركات العالمية على السوق وافتقد عنصر رجال الأعمال، لذلك فإن "الهدم الخالق" يموت. وبالنسبة للمفكر، إنه كيف هدمت الرأسمالية الهيكل التأسيسي للمجتمع الاقطاعي فإنها تحفر تحت أساسها بنفس الأسلوب تقريباً. إن وحدات المراقبة العملاقة التي ظهرت في النظام الرأسمالي أبعدت الإقطاعية عن مراقبة الملكية. كما أن وتيرة الرأسمالية تهاجم دون مفر الأرضية الإقتصادية للمنتج والتاجر الصغير وتخربها. وتعمل للأصناف الصناعية الدنيا الرأسمالية ما فعلته للأقسام قبل مرحلة الرأسمالية. فمن طرف تقتل المنتج الصغير ومن طرف آخر تضخم الملكية وتجعلها أهلية ثم تقتل الملكية. وإن الوتيرة الرأسمالية، تضع بدل جدران المصنع وآلاته علبة من الأسهم وتقتل حيوية التفكير في الملكية، ولا تبقي على قيمة يكافح من أجلها الناس. حيث إن "صاحب السهم" يفقد الارادة في العراك من أجل المصنع الذي يحمل إسمه ومن أجل مراقبته، وحتى الموت على سلّمه.10
ومن هذا المنظور فإننا نفكر بأن القطاع الذي سميناه إسلام الحرفيين، كونه مخصوصاً بالوحدات الموجودة في الوسط وفوق الوسط، ستصير في بناء غير مرغوب به من زاوية العاطفة الإسلامية حيث يفقد العزم للعمل وعاطفة الملكية، والتطور الاقتصادي لمجمعات الشركات التي تستثمر الأوساط البشرية والطبيعية.
إن التطورات الإقتصادية الاجتماعية التي ستتحقق أثناء التوصل إلى صفحة إعلاء كلمة الله لن تتم بالوسائط وأخلاق الحرفة الرأسمالية. بل سيصير بالأخلاق الحرفية للمسلم التي ينتجها من مصادره الذاتية. ونحن هنا نقترح بتسمية الأخلاق بــ "أخلاق المنهج العوفي".
المنهج العوفي وإعلاء كلمة الله
لقد بينا في دراسة أخرى لنا أن مفهوم المنهج العوفي اشتق من إسم الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
من المعلوم أنه في الغرب يعبر عن أخلاق العمل والمنهج الحقيقي والفعال بمفهوم البوريتانى. حتى إن كثيرا من المفكرين الغربيين عندما يدرسون أخلاق المسلك والعمل في الإسلام يقومون بالعطف على أخلاق بوريتان. حتى إن البعض يسمون هذه الميزة في الإسلام إسم أخلاق مسلك البوريتاني، وأن هذا المفهوم يميل إلى الانتشار. لكن أخلاق مسلك البوريتاني تصدر عن البروتستانية بشكل مباشر. وتسمو فوق القيم البروتستانية. مع العلم أن مصادر الالهام والمؤهلات عند المسلمين في هذا الموضوع هي الإسلام أو بمعنى آخر المبادئ العامة في القرآن والحديث وحياة الصحابة. ومن هذا المنظور يجب أن يكون المفهوم متناسباً مع مصادر المؤهلات. وبهدف إلغاء هذا التناقض فإنني أعتقد أنه يجب إيجاد مفهوم جديد يعكس الفرق بين أخلاق المسلك البروتستاني والإسلامي بشكل واضح، لكي يوضح الحادثة بمعناها. والمفهوم الذي أريد أن أقترحه والذي يعكس أخلاق مسلك إسلام الحرفي والذي ينسب إلى عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة وهو "أخلاق المنهج العوفي". وهنا يخطر على عقل الإنسان لماذا لم نقل "أخلاق المنهج الإسلامي". وحسب قناعتي إنه ليس من الصحيح أن نسمي هذه الحادثة "أخلاق المنهج الإسلامي"، وذلك لأن أخلاق المنهج الإسلامي تشمل في نفس الوقت أخلاق أبي ذر رضى الله عنه ورؤيته للدنيا والتي تعتزل الدنيا وتستند إلى الرياضة والزهد. لكن المقصود هنا ليس أخلاق منهج أبي ذر، وإنما أخلاق منهج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما.
ونرى أنه من المفيد أن نوضح باختصار سبب اختيارنا لهذا المفهوم، وتبيان القيم التاريخية التي وفقنا لذلك. من المعلوم أن عبدالرحمن بن عوف كان من كبار التجار في مكة، وقد هاجر من مكة إلى المدينة وترك كل ما يملكه في مكة. وتوجد مواد كثيرة في كتب الحديث حول نشاط عبدالرحمن بن عوف وربحه وتصدّقه. وسنكتفي هنا بنقل حادثتين تتعلقان بالموضوع. لنذكر أولاً هذه الحادثة التي نقلتها عائشة رضى الله عنها:قال: "أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي قال: قال أبو المليح عن حبيب بن أبي مرزوق قال: قدمت عيرا لعبد الرحمن بن عوف، قال فكان لأهل المدينة يومئذ رجة فقالت عائشة: ما هذا؟ قيل لها: هذه عير عبد الرحمن بن عوف قدمت، فقالت عائشة: أما إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول. كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط يميل به مرة ويستقيم أخرى حتى يفلت ولم يكد، قال فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فقال: هي وما عليها صدقة، قال وما كان عليها أفضل منها، قال وهي يومئذ خمسمائة راحلة."11
وهناك حادثة أخرى تتعلق بعبد الرحمن بن عوف: "قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد حدثنا ثابت وحميد عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الانصاري، فقال له سعد: أي أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً فانظر شطر مالي فخذه وتحتى امرأتان فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق. فدلوه فذهب واشترى وباع فربح فجاء بشئ أقط وسمن. ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ودع زعفران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مهيم؟" فقال: يا رسول الله تزوجت إمرأة، قال: "ما أصدقتها؟" قال وزن نواة بذهب، قال "أولم ولو بشاة".قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب فيه ذهباً وفضة".12
إن منهج عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه ومفهومه للحياة الفعالة وسلوكه الإسلامي في الإنفاق والإحسان، تشكل نموذجاً مهماً للمسلمين اليوم. وكون هذا الصحابي الجليل أحد العشرة المبشرين بالجنة يجعل هذا النموذج ذا مغزى أكبر.
إن الميزات العامة لأخلاق المنهج العوفي هي ميزات تستند إلى المبادئ القرآنية. ويمكن أن نرتبها من زاوية العمل والمنهج على الشكل التالي: 1- الشوق 2- الحكمة 3- الإحسان 4- الإتفاق 5- العدالة 6- القدسية 7- الرضا 8- المعرفة. وسنتناول هنا مبدأى الشوق والحكمة فقط. وسنسعى لإنتاج شكل الإنسان والتنظيمات الاجتماعية التي توجبها هذه المبادئ من المفهوم العام لبديع الزمان.
الميزة الأولى لأخلاق المنهج العوفي: الشوق
من المعروف أن الشوق هو مستوى من الرغبة والطلب أعلى من درجة الاحتياج. مع العلم أن بديع الزمان يقول في معرض لفت النظر لهذا المعنى "الاشتياق هو الاحتياج المضاعف، والانجذاب هو الاشتياق المضاعف" وبتعبيره الأصلي: "إن لكل شيء في الكون -كما يشاهد بالتجربة- نقطة كمال، وله ميل إليها، فتضاعف الميل يولّد الحاجة، وتضاعف الحاجة يتحول إلى شوق، وتضاعف الشوق يكوّن الانجذاب، فالانجداب والشوق والحاجة والميل... كلها نوىً لامتثال الأوامر التكوينية الربانية وبذورها من حيث ماهية الأشياء."13
"الشوق" و "الاشتياق" كلمتان مشتقتان من نفس المصدر. وإذا قيمنا عنصر الشوق من زاوية أخلاق المنهج نقول: يجب أن يكون الحرفي بشوق جدي لمنهج الإسلام ولإجراء حرفته. وعليه أن يتجرد من كل أشكال العطالة والكسل والخمول ويسعى للدنيا وللأشغال الدنيوية بكل حيوية ونشاط. ويجب أن يكون صاحب مستوى عال من النشاط والشوق وعلى معرفة بأن أعمال الدنيا هي عبادة وسُلّم للتوصل إلى إعلاء كلمة الله إنطلاقاً من المفهوم بأن الدنيا مزرعة الآخرة. وانطلاقاً من هذه الحقيقة كان بديع الزمان يشوق الأمة باصرار على الابتعاد عن العطالة والاكتفاء بالموجود ويحثهم على العمل بشوق: ".إن أشد الناس شقاءً واضطراباً وضيقاً هو العاطل عن العمل، لأن العطل هو ابن أخ العدم. أما السعي فهو حياة الوجود ويقظة الحياة"14 فضلا عمّا بيناه سابقاً من أن بديع الزمان يعدّ التطور الصناعي والاقتصادي فرض كفاية تتحمله الأمة.
إن أهم ميزة للشوق هي قوة الروح العملية العليا واتحاد الشخص مع حرفته. أو بتعبير أوضح، يجب أن يكون إسلام الحرفي صاحب هوية فعالة وروحانية عالية. وأن يكون في حيوية ونشاط بحيث لا يستوي يوماه. وما دامت إعلاء كلمة الله صفحة اجتماعية تتحقق نتيجة هذا النشاط والانطلاق، لذلك يجب أن نرى ونقيّم النشاطات التجارية والإقتصادية وقرارات إسلام الحرفيين أنها نشاطات وقرارات موجهة لإعلاء كلمة الله بشكل مباشر.
ويرى بديع الزمان أن من أسباب تخلف المجتمعات الإسلامية من الزاوية الإقتصادية والتجارية في القرون الأخيرة هو كسر شوق الأمة وميولها للعمل وإلغاؤه من طرف بعض القطاعات المختارة. أما بالنسبة لبديع الزمان؛ فإنه يقول أن روح الآية ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾،النجم:39 يتفجر منها الميلان إلى السعي. وقد كسر هذا الميلان والشوق بتلقينات البعض، وقد انتشر بين المسلمين بذلك تواكل وكسل". والذين كسروا هذا الميلان والشوق هم الذين لا يعرفون أن إعلاء كلمة الله في هذا الزمان "متوقف على الترقي المادي" والذين لا يفهمون أن الدنيا مزرعة الآخرة، والأهم من ذلك ربما يكونوا الوعاظ الذين لم يستطيعوا التفريق بين "إلجاءات" القرون الوسطى والزمن الذي نعيش فيه.15
وكأن بديع الزمان بتعبيره هذا يوجه كلامه إلى إبراهيم حقي وأمثاله. حيث يقوم إبراهيم حقي بتشميل مفهوم التوكل الذي عرضه الإمام الغزالي والمخصوص بالنخبة في موضوع الرزق بمعنى "التخلص من الأسباب والتوجه إلى الله".16
"التوكل ابتعاد عن الخلق والاعتماد الكامل على الله. وقطع الأمل من يد الخلق والاعتبار والثقة بما عند الله. وترك التدبير والتوصل إلى التقدير، وترك العمل للغد.17
إن التوكل على الله في موضوع الرزق وفي سائر الاحتياجات لازم لكل شخص لأمرين. الأول هو التفرغ للعبادة والخشوع. وذلك لأن الذي لا يتوكل على الحق وينشغل بتأمين الرزق والاحتياجات لا يستطيع الإنشغال بالعبادة.. وصاحب التوكل لا يخزن الأرزاق للغد ولا يشعر بالغم في مسألة رزق الغد. وذلك لأنه يكون قد وجد نفسه غارقاً في بحر نعمة الله الواسع."18
لكن بديع الزمان يحمل مفهوم "التوكل" و "التفويض" معاني مختلفة، ويتفق مع الإمام الغزالي الذي يسميه أستاذي في كثير من النقاط. يقول:" إن تفويض الأمر إلى الله في ترتيب المقامات كسل، أما في ترتّب النتيجة فهو توكل. والرضا بقسمته وثمرة سعيه قناعة، تقوّي من ميل السعي أما الاكتفاء بالموجود فتقاصر في الهمة.
فكما أن هناك طاعة وعصياناً تجاه الأوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعةٌ وعصيانٌ تجاه الأوامر التكوينية.
وغالباً ما يرى الأول -مطيع الشريعة والعاصي لها- جزاءه وثوابه في الدار الآخرة. والثاني -مطيع السنن الكونية والعاصي لها- غالباً ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا.
فكما أن ثواب الصبر النصرُ، وجزاء البطالة والتقاعس الذلُّ والتسفّل. كذلك ثواب السعي الغنى وثواب الثبات التغلب.
إن العدالة التي لا مساواة فيها ليست عدالة."19
يطرح بديع الزمان موضوع التوكل بشكل واضح ويخلص الأمة من الأزمة في هذا الموضوع: "فالإيمان إذن يقتضي التوحيدَ، والتوحيدُ يقودُ إلى التسليم، والتسليم يُحقق التوكلَ، والتوكلُ يسهّل الطريقَ إلى سعادة الدارَين. ولا تظنن أن التوكل هو رفضُ الأسباب وردّها كلياً، وإنما هو عبارةٌ عن العلمِ بأن الأسباب هي حُجُب بيَدِ القدرة الإلهية، ينبغي رعايتها ومداراتها، أما التشبثُ بها أو الأخذ بها فهو نوعٌ من الدعاء الفعلي. فطلبُ المسَبَّباتِ إذن وترقّب النتائج لا يكون إلا مِن الحقِّ سبحانه وتعالى، واَنّ المنةَ والحمدَ والثناءَ لا ترجعُ إلا إليه وحدَه."20
والميزة الثانية لسوق العمل هي اتحاد إسلام الحرفي بحرفته، وحتى بتعبير بديع الزمان "الفناء في حرفته"، "إن ترك المستعد لما هو أهل للقيام به، وتشبثه بما ليس أهلاً له، عصيان كبير وخرق فاضح لطاعة الشريعة الكونية "شريعة الخلقة". إذ من شأن هذه الشريعة: إنتشار استعداد الإنسان ونفوذ قابليته في الصنعة واحترام مقاييس الصنعة ومحبتها وامتثال نواميسها والتمثل بها. وخلاصة الكلام: إن شأن هذه الشريعة؛ الفناء في الصنعة."21
كي يستطيع كل إنسان التوحد مع حرفته والفناء فيها يجب أن يرجح الشخص حرفة تتناسب مع استعداده وقابليته وخبرته في هذه الحرفة. وإلا فإن النتيجة ستكون سلبية بلا شك.
والميزة الأخرى لأخلاق المنهج العوفي الذي يوصل إلى صفحة إعلاء كلمة الله، هي كون إسلام الحرفي صاحب روح عملية لأبعد الحدود. وينعكس ذلك أولاً على فهم الحرفي لحرفته ومعرفة دقائقها واستيعابها بأفضل شكل وأسلمه. وبعد هذه المرحلة، قيامه بتطوير هذه الحرفة بالمقدار الذي يمكن تطويرها. إن العقلية الحرفية التي توجبها إعلاء كلمة الله هي طراز حياة حيوي وحركي يسعى وراء الجديد دوماً. أما إجراء الحرفة بأخلاق حرفية خاملة ومغلقة وكما شاهدها من والده وجده يدل على أخلاق حرفية ساكنة وخاملة، وبمثل هذا المفهوم لا يمكن تطوير الميول التي توجبها إعلاء كلمة الله.
إن أكبر مأزق تواجه إسلام الحرفيين والتي سيضطر لمصارعتها، هي قوالب العادات والتقاليد. إن تحريك العادات والأصول والأعراف المتراكمة على مدى القرون الطويلة والمتلاحمة مع بعضها من مواضعها عمل يتطلب مقاومة إرادة عالية وصرف طاقة كبيرة. وإذا كانت هذه الأمور موجودة كعنصر أساسي في كتب "بعض الذوات" الذين تثق بهم الأمة، فإن هدمها وإقامة ما هو متني "كتابي" مكانها صعب جداً. لكن إذا كانت هذه العادات والأعراف تطرح وتفرض طراز حياة ساكن وخامل، فإن اقتلاعها من مكانها وإقامة طراز وأصول كتابية هو نشاط ضروري وذو مغزى. فمثلاً إذا بحثنا عن أسباب الفقر كما فعل إبراهيم حقي حيث قال إن أسباب الفقر هي حرق ورق البصل والثوم، وكنس البيت ليلاً، وتجميع القمامة في المنزل، ونكش الاسنان بالعيدان الوسخة، والجلوس في عتبة الباب، والاستناد إلى جناح الباب، والذهاب إلى السوق مبكراً، وتمشيط الشعر بمشط مكسور الاسنان، وإطفاء القنديل بالنفس22 وغيرها من الأمور غير العقلية أو متنية "كتابية"، فإن على عاتق إسلام الحرفي أعمالاً كثيرة وعليه أن يهدم جبالاً كثيرة.
ومن هذه الزاوية فإن الأولوية التي سيقوم بها في تقنية نشاط الإنتاج وموضوع طراز الإنتاج هي تحريك البناء الساكن التقليدي من مكانه أولاً وهدمه مع مرور الزمن. ومن أهم عوامل إسلام الحرفي تنسيق كل أشكال تقنيات الإنتاج التي تكسب السرعة في التوصل إلى إعلاء كلمة الله وذلك انطلاقاً من مبدأ "الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا."23
وبالطبع يجب أن لا يستنتج من ذلك تخريب جميع التقاليد. وإن مبدأنا في هذا الموضوع هو عدم الارتباط المطلق بالتقاليد، فإذا كانت توافق المبادئ القرآنية تقبل ويصر على الاستمرار بها.
وخلال تطوير أخلاق الحرفة الكتابية الجديدة والحركية يجب أن نفسر من جديد التلقينات الموجودة في تقاليد حرفنا وخاصة عند الحرفيين على شكل: "سد باب الحرص، وفتح باب القناعة والرضى، وسد باب الشبع واللذة، وفتح باب الجوع والرياضة، وسد الباب الذي بجانب الخلق، وفتح الباب الذي بجانب الحق.." ووضع "إلجاءات" زماننا بعين الاعتبار. ويجب تناول مفاهيم "القناعة" و "الرضا" و"الرياضة" بشكل خاص وتحميلها معاني جديدة بوضع القرآن والحديث وحياة الصحابة بعين الإعتبار.
الميزة الثانية لأخلاق المنهج العوفي: الحكمة
الحكمة في المراجع الإسلامية هي "التناسق بين العقل والقول والفعل"؛ "الصفة القيّمة الناتجة عن اتحاد العلم والعدل والأخلاق". أما معناها الاصطلاحي فهو كثير الشمول. وخلال تفسير الآية الكريمة... ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً...﴾البقرة:269
يحمل الماليلي حمدى يازير الحكمة ثلاثة وعشرين معنى. ولنذكر بعضها هنا ونسعى للوصول إلى مغزى الحكمة: "الحكمة؛ هي الإصابة في القول والفعل. الحكمة؛ علم العمل. الحكمة؛ فهم معاني الأشياء. الحكمة؛ إيجاد شي جديد. الحكمة؛ وضع الأشياء في موضعها و..."24
ويقول بديع الزمان: "إن تعقب الصانع الجليل-بمقتضى اسم 'الحكيم‘ لألطف صورة في كل شيء وأقصر طريق، وأسهل طراز، وأنفع شكل... يدل دلالة واضحة على أن الفطرة لا إسراف فيها قط ولا عبث، فما من شيء إلا وفيه نفعه وجدواه، وإن الاسراف مثلما ينافي اسم 'الحكيم‘ فالاقتصاد لازمُه ومقتضاه ودستوره الأساس."25
وانطلاقاً من المفاهيم العامة التي طرحها الماليلي وبديع الزمان للحكمة نستطيع تعريفها على الشكل التالي: "الحكمة هي استخدام النية والتخطيط والقرار وجميع المعطيات العلمية والبحث وإيجاد الأفضل. وبشكل عام إننا نستطيع تقييم الحكمة بأنها الإبتعاد عن جميع الأهواء والهواجس والتمايل والعادات اللاكتابية خلال الإنتاج والاستهلاك والتوزيع وتنظيم العمل، والعلاقات الفردية والسياسية، واتخاذ القرارات الدنية، وأنها وتيرة حركة موضوعية ومتزنة وعقلية وعلمية وحقيقية. إن الحكمة ببعض جوانبها وإن لم تكن بجميع أبعادها صاحبة وجهات متوازية مع "العقلية" بمعنى Weberyen. وخاصة إن ابتعادها عن الكيفية والهوى في النقاط العلمية والموضوعية يجعلها تتقاطع بشكل واسع مع عقلية Weberyen.
إن "العقلية" بالنسبة لويبر هي حادثة زيادة المحاسبة والرقابة المنظمة لحياة الإنسان والمستندة إلى التعليمات والقواعد العامة التي تترك جانباً المقاييس التقليدية والرجوع إلى المواطن السحرية في جميع وجهات حياة الإنسان. إن وسائل المراقبة والمشاهدة البيروقراطية التي تمنع الإرتباط بالمؤسسات التقليدية في الحياة العقلية والدنيوية، تسيطر مع مرور الزمن على النشاطات الصناعية والسياسة. وإن العلاقات الاجتماعية في الحياة العقلية والدنيوية غير شخصية وتستند إلى أساس الرسمية. لأن البيروقراطية تقدم للبشر أكثر الطرق تأثيراً من أجل الوصول إلى الغايات المعينة. وإن الأنظمة الحقوقية العقلية في الحقوق تأخذ مكان كيفية التقاليد المقدسة، وعدالة القاضي واستخراج القرار الحقوقي. ويدخل المجتمع تحت حكم شروط المصنع من زاوية التنظيم والتوصل إلى البناء الواقعي مع مرور الزمن.26
يتابع ويبر طراز تعبير Schiller ويشير إلى شرط المجتمع الدنيوي المعاصر "تخليص العالم من الشعوذة". ويقصد ويبر بذلك أن الناس لم يعودوا مغلقين في العالم السحري والخارق المقدس. ومبدؤه "لا توجد قوى مبهمة مؤثرة لا يحسب لها حساب... ولا حاجة بعد للرجوع الي الطرق السحرية من أجل التغلب على الأرواح أو استمداد المساعدة منها مثل المجتمعات البدائية". ورغم ذلك إن التقدم والتمدن الذي حققه التطور العلمي، يأتي بمعنى أنه لم تبق حياة طبيعية أو حدود لا ينبغي تجاوزها في حياة الفرد. والنضوج لم يعد بمعنى تعلم الفرد اوالعشيرة أو المجتمع العلم والعرفان، بل يأتي بمعنى توصل الفرد إلى مخزون معين من المعرفة التي تكبر باستمرار.27
ورغم أن بديع الزمان لا يرى كما يرى ويبر أن المجتمعات ستستقل عن جميع المصادر الخارقة وستنظم حياتها تحت ضوء العقل والتجارب فقط، إلا أنه يرى أن الناس في العصر الحديث لن تنظم حياتها كما فعلت في العصور السابقة على الحس والهوى والتمايل، بل على العلم والعقل والبرهان. ويطرح بديع الزمان كلامه في هذا الموضوع على الشكل التالي: "إن البشرية في أواخر أيامها ستنساب إلى العلوم، وتنصب إلى الفنون، وستستمد كل قواها من العلوم والفنون، فيتسلم العلم زمام الحكم والقوة".28 أوالحقيقة إن هذا التطور في الغرب كان تطوراً مهماً جداً من زاوية هدم التعصب، والارتباط الأعمى بالرهبان الذي استمر طيلة قرون في الغرب ورفع الستارة للبحث عن الحقائق. لكن العلم في الغرب صار كنيسة مع مرور الزمن، وصار عبارة عن إدارة واحدة استبدادية تعين طراز العيش والتفكير للمجتمعات. وقد كانت نتائج هذه التطورات هدامة جداً. "P. Feyeraberd".
أما وجهة بديع الزمان للحياة والرؤيا العالمية المستندة على العلم والعقل فتتخذ المؤهلات الكتابية أساساً لها بنفس الوقت وتناولها "بحيث يخرج ضياء العقل ونور القلب". وكي نستطيع التحرك بحكمة، فإنه على منتسبي الدين الإسلامي دين العقل والمنطق أن يعودوا بسرعة إلى الكتابي، وعليهم أن ينسلخوا عن السلوك اللاعقلاني واللامنطقي الناتج عن "إلجاءات، القرون السابقة. إن عقلية الإسلام تجاه الأديان الأخرى قبلت من طرف كثير من المفكرين الغربيين. وقد توصل المفكر الماركسي الشهير ماكسيم رودينسون الذي درس الموضوع بالتفصيل إلى نتيجة أن الإسلام دين عقلي.29
وعند إيضاح الجبهة العقلية والواقعية للإسلام يقول بديع الزمان: "نحن معاشر المسلمين خدام القرآن نتّبع البرهان ونقبل بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائقَ الإيمان، لسنا كمن ترك التقلد بالبرهان تقليداً للرهبان كما هو دأب اتباع سائر الأديان!
وعلى هذا فإن المستقبل الذي لا حكمَ فيه إلا للعقل والعلم، سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكامُه إلى العقل والمنطق والبرهان."30
إذا كان العلم شرطاً مهماً وأولياً لا يمكن العدول عنه من أجل العيش بشكل يوافق الحكمة فكيف سنحصل على هذا العلم؟ وما هي المراحل اللازمة للوصول إلى هذا المستوى؟ علينا أن نجد جواباً لهذه الأسئلة.
وبما أن القرآن سيحكم في المستقبل وسيتم استنباط جميع التنظيمات الاجتماعية من القرآن فإن الحكمة في هذه الصفحة تحتاج إلى أشخاص ناجحين وأصحاب معرفة وميزة على درجة مجتهد من أصحاب الاختصاص العالي من رجال الفكر والعلم.
عندما يتم تحويل الحياة الاجتماعية من صفحة الإيمان إلى صفحة الشريعة تجلب معها بشكل اضطراب الكوادر أصحاب النشاط العالي من زاوية الذهن والفكر. وكما بينا في دراسة أخرى 31 أن هناك حاجة لمنظّرين يضعون النظريات "لصفحة الشريعة" التي يطرحها بديع الزمان. ويمكن عد كل واحد منهم "مجتهداً" في مجاله. لكن هؤلاء لا ينتجون النظريات في موضوع العبادات وغيرها من المجالات بل في السياسة، والإقتصاد، والحقوق، والتنظيمات الاجتماعية العامة. لكن هؤلاء ليسوا مجتهدين مطلقين كالإمام الأعظم والإمام الشافعي بل هم أصحاب اختصاص عالي في بعض المواضيع المعنية "مجتهدي قضايا" وكي يكتسب تناول بديع الزمان للنظام العام والحكمة وحدة معينة يجب إكمالها بمؤسسة "المجتهد" إننا نستطيع عد الخواص العامة لمؤسسة "المجتهد الإسلامي" التي نظن أنها ستتشكل خلال 20-30 سنة المقلبة على الشكل التالي:
إسلام المجتهد سينشأ في مزرعة الكادر القدسي الذي يسير بخدمة الإيمان بشكل ناجح والذي سميناه إسلام الحرفي. والحقيقة أن عزيمة إسلام الحرفي موجهة لإعداد مثل هذا الكادر. لذلك فإن مهندسي صفحة الشريعة سيخرج من "جماعة" إسلام الحرفيين. وذلك لأن مخزون إسلام المجتهد من زاوية أصول المهنة، ومن زاوية التجهيزات الداخلية -كالتقوى، والثبات، والشفقة، والهدى، والرضا- لها أهمية كبيرة وموضحة. وهذا الكادر مثل "الهدي النابت" لا ينبت بشكل عشوائى. بل يجب أن يكون صاحب خلفية قوية التحكيم.
وبالاستفادة هنا من التوجهات والميول للتاريخ الإسلامي ومن تناول سعيد النورسي للموضوع بشكل عام نستطيع أن نشاهد أولياً الأوصاف الرئيسية لإسلام المجتهد:
إن أوضح وصف لإسلام الحرفي هو حريته إلى أبعد الحدود في الفكر والتفكير. وإنه بمعرفته أن الموضوع الذي يدرسه نسبياً وإضافياً إلى أقصى الحدود، يقوم بمناقشة كل موضوع خارج الساعة "المطلقة" بعمق ويقيّمه وينتقده. وكون مخزوناتهم محدودة جداً فلا توجد في عالم أذهانهم مقدسات. وبنفس الوقت لقد تطهر من جميع العلاقات المعيارية التي تشكل حدوداً في موضوع الفكر والتفكير. ولا يعطون أية قيمة تحدد وتعيق تفكيرهم الحر.
ومن ميزاتهم الأخرى أنهم تخطوا الأهواء البشرية كالارتباط بالمادة، والمقام، والمنصب. والوضع الاجتماعي لهذا القطاع يؤمن لهم المكانة العليا والدخل الجيد ومستوى من الثروة. وسيكونون من هذه الزاوية قد تطهروا من كل ارتباط مادي ومكانة يمكن أن تشكل لهم مخزوناً في المجال الذهني والعقلي. وكما سنشاهد فيما بعد، إن كونهم لا يحملون أي ضعف تجاه المادة والمقام، فإن الميكانيكية ونظام الفكر الذي سيشكلونه سيكون مطهراً من الميول البشرية بنفس القدرة والنقطة التي نريد أن نوضحها بشكل طبيعي؛ هي عدم كون النخبة مرتبطة بالمادة والمقام لحد "العبادة"، وإلا فإن لكل إنسان إحساس قلبي بالميل إلى المادة والمقام. لكن هذا الإحساس صار في المرتبة الصغرى عندهم وبعيداً عن كونه رابطاً لهم.
والميزة الأخرى أيضا أنهم عمروا عالمهم الداخلي بأوصاف "النبوة" والتي نسميها "الإنشاء المنطوي للداخل" إن أهم ميزة خلال وتيرة "الإنشاء المنطوي للداخل" هي جعل جميع أهداف إسلام النخبة لمرضاة الله، ويجب عدم تحديد أي هدف آخر لذلك. وكي يملكوا هذه التجهيزات الداخلية يجب أن تكون الخطط الخلفية محكمة بخدمات الإيمان والقرآن.
وكيف تحققت خدمة الإيمان وخلصت البشرية بنجاح من الكفر المطلق والظلم الخانق، فإن إسلام المجتهد سيخلص البشرية من الاستعمار، والنهب، والظلم، والتغريب، والمتاعية والعبودية بنفس النشاط والنجاح.
وبعد هذا المدخل فإننا نستطيع تعيين الحكمة بالاستناد على آراء بديع الزمان المختلفة على الشكل التالي.
1- يجب أن يتخد نموذج عيش "منهجي ونظامي" في الحياة كأساس. إن العيش المنهجي هو رفض جميع أشكال العيش غير المنظمة والعشوائية والفوضوية والتعبير عن أسلوب العيش المخطط والنظامي والواقعي32.
إن للعيش المنهجي وجهات وانعكاسات على الزمان والاستهلاك والإنتاج والتوزيع. إن الوجهة التي تنظر إلى الزمان للحكمة أوالعيش المنهجي الذي هو فرع من الحكمة هي كيفية استخدام الشخص للزمان بشكل مؤثر. وتحركه بعقلية أن الزمان هو أفضل رأسمال يملكه الإنسان إنطلاقاً من المثل الشعبي "الوقت نقد".
2- تقسيم الزمان إلى مرحلتين طويلة وقصيرة وإجراء المشاريع والخطط على هذا الأساس، وتعيين النشاطات التي ستتم على مراحل قصيرة والنشاطات التي ستتم على مراحل طويلة بالتفصيل. ويتم هذا على مستوى الشخص ومستوى الأمة بنفس المقياس. وعلى الأمة أن تقوم بخطط ومشاريع قصيرة وطويلة الأمد. ويمكننا أن نقيّم كلام بديع الزمان مع "سعيد وحمزة الذي يعيشون بعد ثلاثمائة سنة" بأنه يدل على محاولته لإعداد أرضية لمرحلة طويلة. وفي النتيجة أن المؤمن الذي يريد أن يعيش بشكل يناسب الحكمة أن لا يكون صاحب زمان فارغ وعاطل.
الحكمة في الإنتاج تعني الإنتاج الأفضل ذو المردود العالي. يعني أنه يري الإنتاج بأقل المصاريف وأفضل الأرباح. إن المجال الذي تكون فيه الحكمة أهم موضوعاً هو الطبيعة. إن الله عز وجل خلق مصنعاً في الكائنات، وهذا المصنع يعمل بأفضل مردود. حيث يحصل على أطنان من التين "الربح" من بذرة تين صغيرة "المصاريف". ويخزن آلاف الأطنان من الطاقة النووية في قطعة ذرة.
من أجل التوصل إلى الحكمة في الإنتاج يرى بديع الزمان أنه يجب تحكيم "دستور تقسيم العمل" وخلال الاختصاص في قطاع الإنتاج على كل إنسان أن يختص بالفروع أو الحرف حسب قابليته وميوله واستيعابه؛ وعدم اشتغاله في الحرف التي لا توافق قابليته حتى ولو كانت تلاقي الاهتمام من طرف الناس.
يرى بديع الزمان أن عدم اشتغال الناس بالحرف التي توافق قابلياتهم واستعدادهم وترجيحهم الحرف التي تلاقي الاعتبار من طرف المجتمع هو مرض يفيد "معصية قوانين الخلق بشكل مباشر". ونتيجة هذا البناء بدون شك هي الفشل، وحتى الانهيار. وانهيار نظام المدرسة "المدارس التقليدية" في المراحل الأخيرة للعثمانيين كان نتيجة مثل هذا البناء. ويرى بديع الزمان أنه بينما كان يجب أن يحل الكوادر المنتسبون للتعليم في المدارس صفات اللطف والإرشاد والنصيحة كي يؤدوا وظائفهم فيها، كان هؤلاء يتشكلون من الأشخاص أصحاب الميول للأغوات. وبدل أن يقدم هؤلاء بالعلم تحكموا بالآخرين.
والنقطة الأخرى المهمة في موضوع عيش الحكمة هي القضاء على العناصر التي تمنع تحول الطاقة والاستعداد الكامن عند الإنسان إلى حالة حركية. ويجب تنظيم بناء السلطة والتسلسل الاداري التي هي قطعة لا تتجزأ من أخلاق الحرفيين التقليديين من جديد بحيث لا تعيق التطور ولا تحدد استعدادات الإنسان. كما يجب أن نعيد النظر في العلاقة بين المعلم -الصانع- والقلفة، والمراحل التي أظهرتها هذه الحقائق، وتوفيقها مع الحياة الفعالة. كما تجب مواجهة المؤسسات التي تضغط على التطور والانكشاف باستمرار وتحد من كل ميل إلى الانفتاح بنفس الشكل. ومن هذا المنظور فإنه على إسلام الحرفين بشكل خاص أن يعلن التغير العام لإعداد أشخاص أصحاب آراء تقدمية وروح فعالة للجيل الجديد.
ويجب أن لا يكون الشباب الناشئين الجدد أشخاص أصحاب أخلاق مسالمة وإطاعة مطلقة، بل يجب أن يكونوا أحراراً تماماً خارج ساحة التسليم والاطاعة الكتابية. وخاصة يجب أن يكونوا أصحاب حرية كاملة في تطوير الأعمال والتنظيمات الجديدة وايجاد التقنيات. إن حرية الاشتغال والارادة التي تؤمن لهؤلاء الوسط الملائم لتطوير قابلياتهم وانكشافها داخل المجتمع الدولي. وفي حالة العكس وكما بين بديع الزمان في كتاب المناظرات، أنه إذا وضع الناس تحت ضغط المؤسسات أو المجتمع فإنهم يفقدون الفرصة لامتلاك إرادة وفاعلية حرة، وبذلك يفقد المجتمع قابليته في العمل وطرح الأمور الجديدة، ويظهر وكأنه يعمل بالسخرة، وإذا عمل عملاً جيداً يعمله برياء، ويعتاد الكذب والمداهنة في حرفته، ويحقّر من قبل الغير باستمرار ويشعر بحقارة نفسه. "ذلك لأن الشوق الذي هو بحكم البخار الممد لسعي الإنسان ينطفئ ويخمد، فيسيطر عليهم ساداتهم وكبراؤهم، كي يظهروا وحدهم في الميدان، فيسمنون بأكل لحومهم ويحولون دون تفتح الاستعدادات."33
لقد واجه بديع الزمان بقايا الاقطاعية في جميع مجالات الحياة، وسعى لتخليص الناس من أيديهم وكأنه في حرب معهم. إن الأهمية والصلاحية التي أعطاها للشخص ذات مغزى كبير: شخصية حرة ومستقلة. نوع من المثقفين المنورين الذي لا يقبل الفكر الذي يطرح أمامه مباشرة، بل ينقده، ويفسره وفي النهاية إما أن يقبله أو يرفضه. أليس هذا من واجبات المثقف المنور؟ إن سلوك بديع الزمان في هذا الموضوع واضح لأبعد الحدود.
"اَرَونى مفسداً يقول: اَنا مفسد، وما هو إلا مفسد إلا أنه يتراءى في صورة الحق، أو يري الباطل حقاً، نعم؛ ما من أحد يقول: مخيضي حامض... فلا تأخذوا شيئاً إلا بعد إمراره على المحك، لأن أقوالاً مغشوشة مزيّفة قد كثرت في تجارة الأفكار... حتى كلامي أنا لا تأخذوه على علاّته -بحسن ظنكم- لأنه صادر عني فقد أكون مفسداً، أو اُفسد من حيث لا أشعر، فعلى هذا تيقظوا! ولا تفتحوا الطريق إلى القلب لكل طارِق. فليظل ما أقوله لكم في يد خيالكم، واعرضوه على المحك، فإن ظهر أنه ذهب فأرسلوه إلى القلب، واحتفظوه هناك، وإن ظهر أنه نحاس، فاحملوا على عاتق ذلك الكلام
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Aralık 2012 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2012 Cilt: 6 Sayı: 6 |