الرؤية النُورسية لبعض القضايا الحضارية الشائكة
أ.د. عبد الحليم عويس
نوادر البحوث
[وفاء وإكراما لمن عشق رسائل النور فتعلّمها وسهر على تعليمها في مصر وفي كثير من بلاد المسلمين، رأت إدارة المجلة نشر ورقة تقدّم بها الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس (رحمه الله)، لمؤتمر علمي دولي عن رسائل النور، عقد في إسطنبول. غادرنا الأستاذ إلى عالم الخلد، ونسأل الله العلي القدير أن يتغمّده برحمته الواسعة، وقد وافاه الأجل في اليوم العاشر من ديسمبر 2011م، الأستاذ عويس من مواليد المحلة الكبرى بمصر سنة 1943. نال الشهادات العليا (الماجستير والدكتوراه) من جامعة القاهرة. ثم أصبح أستاذا في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض -السعودية- وتولى منصب نائب رئيس الجامعة لسنين في الجامعة نفسها. نشر له أكثر من خمسين مؤلفا في التاريخ الإسلامي وثقافته. أشرف على ما يقرب من ثلاثين رسالة ماجستير والدكتوراه. كما تولى منصب نائب رئيس جامعة روتردام الإسلامية، وحاضر في كثير من الجامعات في العالم الإسلامي، عمل مستشارا في كثير من المؤسسات العلمية في العالم الإسلامي كرابطة العالم الإسلامي، ورابطة الجامعات الإسلامية، كما شغل منصب نائب رئيس رابطة الأدب الإسلامي، عمل في السنوات الأخيرة رئيسا لتحرير مجلة التبيان التي تصدر عن الجمعية الشرعية في مصر، كرّم في كثير من البلاد الإسلامية، كان آخرها تكريمه الرسمي في جمهورية السودان... وغيرها كثير، كما عرفناه محاضرا ومناقشا ومنافحا عن الرأي الذي ترجّحت عنده أدلته، كان عالما معطاء سخيا كريما يأنس ويؤنس، كما كان خطيبا مفوّها، رحمه الله الأستاذ ورزق أهله وأحبته الصبر والسلوان، إنّا للّٰه وإنا إليه راجعون.]
توطئة:
عند الحديث عن بعض الجوانب الحضارية في فكر النُورسي تتزاحم قضايا كثيرة يشد بعضها بعضاً...
ذلك أن النُورسي عاش هموم أمته، محللاً أسباب تخلفها، باحثاً عن وسائل نهضتها، يقرأ – بعمق – كتاب الله المسطور "القرآن" ويتأمل –كذلك– كتابه المنظور "الكون" ليجد ما يقوده إلى علاج الحاضر وبناء المستقبل.
وقد كان صعباً أن نلم بكل الجوانب، ولهذا انتقينا ثلاث قضايا دالة على منهجه، يقود الوعي بها إلى خير كثير في فقه التاريخ والحضارة من منظور قرآني كوني متناغم متكامل...
وهذه القضايا هي:
الإنسان بين وظيفة المرآة العاكسة والفاعلية الحضارية.
مدرسة قرآنية تواجه حضارة الغرب المادية.
سائلين الله التوفيق والقبول.
الإنسان بين وظيفة المرآة العاكسة والفاعلية الحضارية.
لم يقدم لنا "بديع الزمان سعيد النُوْرْسي" -فى كلام مباشر- نظرية فلسفية يفسر من خلالها حركة التاريخ.
إنه أصلاً لم يحاول أن ينطلق من قواعد الانطلاق الفلسفية؛ لأن قاعدة انطلاقه كانت قرآنية خالصة، وكان يحافظ عليها من عوامل التأثير – أو التشويه الفلسفية؛ لا لأن قواعد الانطلاق القرآنية كافية فحسب، بل لأن إقحام فكر فلسفى مكون من أخلاط مشوبة بالتأثيرات المادية أو السوفسطائية من شأنه إفساد الرؤية أو قاعدة الانطلاق القرآنية!!
ومع ذلك فعندما أمعنت النظر في الرؤية "النُورسية" التي لاشك في أنها جديدة ورائعة حول كليات أسماء الله الحسنى وانعكاساتها فى الإنسان الذى جعله الله "مرآة" تنعكس عليها أسماؤه الحسنى، فتظهر قدرة الله المطلقة من خلال قدرة الإنسان النسبية ويظهر علم الله المطلق في مرآة علم الإنسان النسبي...
وهكذا تظهر آثار سمع الله "السميع" وبصر الله "البصير" وحكمة الله "الحكيم"...
أقول: عندما أمعنت النظر في هذه الرؤية التي يكاد (النُورسي) ينفرد بها على هذا النحو التفصيلي والتطبيقي والتمثيلي الرائع، أيقنت أن النُورسي كان يقدم رؤيته لأسماء الله الحسنى رؤية تركيبية ذات إطار معرفي قرآني يفسر به حركة الإنسان... الإنسان كفرد... الإنسان كمجموع "تاريخ وحضارة"... الإنسان وحركة الكون... وأما الآثار أو ما يسميه المنظرون لفلسفة التاريخ بالعامل الإقتصادي أو العامل الإجتماعي، أو الروحي أو النفسي... أو الفردي "الصفوة – النخبة" أو "الجماعي – الإشتراكي"...
أما كل هذه العوامل فليست إلا بعض مظاهر لفاعلية الأسماء الحسنى في حركة الإنسان والكون، فاعلية رحمةٍ من (الرحيم الرحمن) فتنتهى إلى سعادة وصعود... أو فاعلية نقمةٍ من (المنتقم الجبار) فتنتهى إلى شقاء وسقوط!!
إن الله هو الفاعل فى التاريخ، وإليه يجب أن تعزى حركة الإنسان والحضارة والكون... و(الإنسان) هو المرآة العاكسة لتجليات الأسماء الحسنى... وهو بالتالي - المأمور بنقل صورة هذه الأسماء إلى الحياة، إبداعا وإرادة وقوة وعدلاً وقدرة ورحمة... إنه المستخلف، وليست حقيقته الكبرى الأنية "أنا" إلا في القيام بوظيفة نقل أسماء الله الحسنى إلى عالم الأرض والكون... لأنه الوحيد من بين كل الكائنات -حتى الملائكة- الذى يملك الإرادة والحرية وعصيان الله وأيضا -طاعة الله - بطريقة اختيارية!!
إن "أنا" مفتاح، يفتح الكنوز المخفية للأسماء الإلهية الحسنى، كما يفتح مغاليق الكون. فهو في حد ذاته طلسم عجيب، ومعمى غريب، ولكن بمعرفة ماهية "أنا" يحل ذلك الطلسم العجيب وينكشف ذلك المعمى الغريب "أنا" ويفتح بدوره لغز الكون، وكنوز عالم الوجود.
وقال: "إعلم أن مفتاح العالم بيد الإنسان، وفى نفسه، فالكائنات مع أنها مفتحة الأبواب – ظاهراً– إلا أنها منغلقة –حقيقة– فالحق سبحانه وتعالى أودع من جهة الأمانة في الإنسان مفتاحا يفتح كل أبواب العالم، وطلسماً يفتح به الكنوز المخفية لخلاق الكون، والمفتاح - هو ما فيك من "أنا" إلا أن "أنا" أيضاً معمى ومغلق وطلسم منغلق فإذا فتحت أنا بمعرفة ماهيته الموهومة –وسر خلقته– انفتح لك طلسم الكائنات كالآتي:
إن الله جل جلاله وضع بيد الإنسان أمانة هي: "أنا" الذى ينطوي على إشارات ونماذج يستدل بها على حقائق أوصاف ربوبيته الجليلة وشؤونها المقدسة أي يكون "أنا" وحدة قياسية تعرف بها أوصاف الربوبية وشؤون الألوهية.1
ويقدم لنا النُوْرْسي -من خلال الكلمة العاشرة في مبحث الحشر- بعض الحقائق التي تومئ إلى تجليات الأسماء الحسنى فى التاريخ والكون:
الحقيقة الأولى: باب الربوبية والسلطنة، وهو تجلى اسم "الربّ".2
الحقيقة الثانية: باب الكرم والرحمة، وهو تجلى اسم "الكريم والرحيم".3
الحقيقة الثالثة: باب الحكمة والعدالة، وهو تجلى اسم "الحكيم والعادل". 4
الحقيقة الرابعة: باب الجود والجمال، وهو تجلى اسم "الجواد والجميل". 5
الحقيقة الخامسة: باب الشفقة وعبودية محمد صلى الله عليه وسلم، وهو تجلى اسم "المجيب والرحيم".6
الحقيقة السادسة: باب العظمة والسرمدية وهو تجلى اسم "الجليل والباقي"7
الحقيقة السابعة: باب الحفظ والحفيظة، وهو تجلى اسم "الحفيظ والرقيب"8
الحقيقة الثامنة: باب الوعد والوعيد، وهو تجلى اسم "الجميل والجليل"9
الحقيقة التاسعة: باب الإحياء والإماتة، وهو تجلى اسم "الحى القيوم والمحيي والمميت".10
الحقيقة العاشرة: باب الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، وهو تجلى اسم "الحكيم والكريم والعادل والرحيم".11
الحقيقة الحادية عشرة: باب الإنسانية، وهو تجلى اسم "الحق".12
الحقيقة الثانية عشرة: باب الرسالة والتنـزيل وهو تجلى "بسم الله الرحمن الرحيم".13
فنحن بإزاء فاعلية وظيفية محددة تتجلى فيها الأسماء الحسنى فترعى حركة الإنسان والحياة والكون، بحكمة وقدرة وعلم وعدل.
وفى الوقت نفسه قد تكون الرحمة أو الرأفة - مع الحكمة والعلم والقدرة والعدل متألقة في صورة من الصور، وقد تكون الجبارية أو الانتقامية متألقة فى صورة أخرى تستوجب حالتها العقوبة والتأديب.
إن المساحة الفسيحة للكون والحياة وتقلبات الأمور عبر هذه المساحة بين انسجام وصدام وعدل وظلم ورعاية الله العليم الخبير لهذه المساحة كلها، من خلال "مفاتيح الغيب" التي لا يعلمها إلا هو... هذه الرعاية تشرق عبر مساحة الحياة والكون بتجليات إلهية تناسب كل حالة على حدة، وتحقق عدل الله ورحمته.
ولا يمكن القول بأن (الأسباب) الإنسانية أو الكونية الظاهرة أو غير الظاهرة، أو العوامل التي يبصرها الناس ويسمونها العوامل المادية أو الإقتصادية أو النفسية المحركة للتاريخ هي "الفاعلة" فليست إلا الشكل الذى يستطيع الناس أن يفهموه أو يبصروه أو يتعاملوا معه... أما الفعل الحقيقي فليس هو الظل الذى انعكس في المرآة وإنما هو الأصل أو هو الحقيقة المؤثرة نفسها، والتي قد يبصر الإنسان انعكاساتها في مرآة نفسه وقد لا يبصرها...
إنني أعتقد أن النُوْرْسي من خلال معالجته الرائدة لأسماء الله الحسنى قد اقترب بنا على نحو غير مسبوق من محورين خطيرين:
أولهما: لقد أصبح بإمكاننا إلى حد ما أن نفهم بعض ملامح تدبير الله للكون. لقد تطور فقه العبادات أو الدعاء الجاف الساكن بأسماء الله الحسنى... إننا نكاد نستشعر بقوة معنى كلمات الله التي لا تنتهي، وهى تقود حركة التاريخ والكون انطلاقاً من الأضواء التى ألقاها النُوْرْسي على تجليات أسماء الله الحسنى، ولعل هذه الأضواء النُوْرْسية تعيننا على فهم أعمق لقوله تعالى فى القرآن الكريم: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾.الكهف:109
قال النُوْرْسي:
"إن القرآن الكريم يمنح تلاميذه سماءً سامياً للروح وانبساطاً واسعاً لها، إذ يسلم إلى أيديهم بدلاً من تسع وتسعين حبة من حبات المسبحة، سلسلة مركبة من ذرات تسع وتسعين عالماً من عوالم الكون التي يتجلى فيها تسع وتسعون اسماً من الأسماء الحسنى، ويخاطبهم: هاؤم اقرأوا أورادكم بهذه السلسلة، وهم بدورهم يقرأون أورادهم بتلك المسبحة العجيبة، ويذكرون ربهم الكريم بأعدادها غير المحددة."14
وفى خطابه للإنسان ليعرف حقيقة دوره "المرآة" يقول النُوْرْسي أيضاً:
"أيها الإنسان إن ما تملكه من نفس ومال ليس ملكاً لك، بل هو أمانة لديك فمالك تلك الأمانة قدير على كل شئ عليم بكل شئ، رحيم كريم يشترى منك ملكه الذى عندك ليحفظه لك لئلا يضيع في يدك، وسيكافئك به ثمناً عظيماً، فأنت لست إلا جندياً مكلفاً بوظيفة فاعمل لأجله واسع باسمه فهو الذى يرسل إليك رزقك الذى تحتاجه ويحفظك مما لا تقدر عليه.
إن غاية حياتك هذه ونتيجتها هي أن تكون مظهراً لتجليات أسماء ذلك المالك، ومعكساً لشؤونه الحكيمة. 15
إن اسم الله "القدوس" تتألق تجلياته في حملات تطهير الكون الصباحية بالندى الذى يغمر الكون، وتصل قطراته إلى البراعم والثمار، فتزيدها خصوبة وروعة، وتهيئها مواجهة يوم جديد لا يخلو من أتربة أو شمس حارة.
وأما أثر رحمته فتكاد تلمسها في كل فصل من فصول السنة... إنها عملية بعث داخلية وخارجية عامة تتجدد بها الحياة كلها: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.الروم:50 إنها أثواب تلمسها الطبيعة في كل فصل من فصول السنة بحيث تتكيف مع طبيعة كل فصل!!
وهكذا... وعلى هذا النحو... تتجلى بقية أسماء الله الحسنى على الإنسان والكون... تجليات تظهر من خلالها الرعاية الربانية الكاملة.
وثانيهما: إن دور الإنسان في التاريخ الإنساني –بل والكوني– قد أصبح أكثر وضوحاً وألقاً وروعة... إن الإنسان هو "أنا" التي حملت الأمانة الواردة في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾.الأحزاب:72
وليست الأمانة في المنظور النُوري هي "الإرادة أو التكاليف" كما كان "التفسير الشائع" وإنما الأمانة هنا أعظم من ذلك كله... إنها إظهار بعض تجليات الأسماء الحسنى المطلقة في عالم الإنسان النسبي، حتى يبصر الأحياء إبصار معاينة وتعقل بعض ومضات الفاعلية المطلقة لأسماء الله الحسنى في مرآة هذا الإنسان المحدود النسبي... فقدرة الله المطلقة تُرى بعض ومضاتها فى قدرة الإنسان النسبية المحدودة، وعلم الله المطلق تُرى بعض آثاره في علم الإنسان النسبي المحدود. وهكذا الرحمة والعدل والحلم والكرم إلى آخره.
وهكذا فإن صفـات الله سبحـانه وتعالى -كالعـلم والـقدرة– وأسماءه الحسنى –كالحكيم والرحيم– لأنها مطلقة ولا حدود لها ومحيطة بكل شيء، لا شريك لها ولا ندّ، لا يمكن الإحاطة بها أو تقييدها بشيء، فلا تُعرف ماهيتها، ولا يُشعر بها، لذا لا بد من وضع حدّ فرضى وخيالي لتلك الصفات والأسماء المطلقة، ليكون وسيلة لفهمها –حيث لا حدود ولا نهاية حقيقية لها– وهذا ما تفعله "الأنانية" أي ما يقوم به "أنا" إذ يتصور في نفسه ربوبية موهومة، ومالكية مفترضة، وقدرة وعلماً.16 وهكذا...
ويقول النُوْرْسي أيضاً: "فقد اندرجت في "أنـا" آلاف الأحوال والصفات والمشاعر المنطوية على آلاف الأسرار المغلقة التي تستطيع أن تدل وتبيّن -إلى حد ما– الصفات الإلهية وشئونها الحكيمة كلها.
أي أن "أنـا" لا يحمل في ذاته معنى، بل يدل على معنى في غيره، كالمرآة العاكسة والوحدة القياسية، وآلة الانكشاف.17
لقد عمّق الفقه النُوْرْسي دور الإنسان في صناعة الحضارة وأبرز حقيقة الصلة بين الله والإنسان، وفد أصبح هناك معنى أكثر ألقاً لمعنى الاستخلاف، وكذلك لمعنى الإنسان الرباني الموصول بالله، ولمعنى تفضيل الله لآدم على الملائكة. بل إننا نكاد – بالمنظور النُورسي – نفهم إضافات جديدة لمعنى تعليم الله آدم الأسماء كلها، فليست هذه الأسماء مجرد مفردات تتصل بعالم الأشياء أو عالم القيم والمعنويات. إنها قد تتصل ببعض القدرات والمواهب الفطرية التي تدفع الإنسان لفتح مغاليق السنن الكونية والاجتماعية وفقهها، واستخدامها لتحقيق وظيفة الاستخلاف، ولإظهار بعض آثار تجليات الأسماء الحسنى، التي لا تطلق –في حدودها النسبية– على أحد إلا على هذا الإنسان... الإنسان المستخلف... الإنسان المرآة... الإنسان الذى يسمح الله له وحده بأن يحمل بعض أسمائه - مع محدوديته ونسبيته، فيكون أحياناً... الإنسان اللطيف الخبير الحكيم الكريم الرحيم... ويكون –فى أحيان أخرى– الإنسان الجبار المتكبر العظيم... إنها مكرمة كبيرة... وإنها لأمانة عظيمة... لكن هل يؤدى الإنسان "المرآة" حقها... أم يخون الأمانة... إنه كان ظلوماً جهولاً.
مدرسة قرآنية تواجه حضارة الغرب المادية
عندما تصفو المشارب، ويستقيم المنهج، وتتحد الغايات يلتقى الفكر حتى ولو وقع خلاف في بعض الاجتهادات الجزئية...
والتقارب الفكري الكبير الذى نلحظه بين العلامة محمد إقبال (1877-1938م) والعلامة بديع الزمان سعيد النُوْرْسي (1876-1960م) هو تقارب من هذا القبيل...
لقد كان الرجلان ينتميان إلى مدرسة القرآن، ويتتلمذان عليها بصفاء وإيمان وطلب صادق للحق، كما أنهما كانا يعيشان قلقاً واحداً هو تخلف المسلمين العملي في مواجهة تقدم الحضارة الأوربية القوىّ.
كما كانا يسعيان إلى غاية واحدة هي بعث المسلمين بعثاً قرآنياً يستوعب حضارة العصر، لكنه لا يحمل أوزارها وأوساخها وجراثيمها وتضحيتها بالدين والأخلاق.
إن العلامة "سعيد النُورسي" يكاد يعلن في كل صفحة من صفحات "رسائل النور" أنه "تلميذ للقرآن" وأن "أستاذية القرآن" هى التى ألهمته كل رسائل النور، وجعلته يبصر الكون والتاريخ والحياة بعين تستوعب الأشياء، لكنها تنفذ إلى ما وراء الأشياء وتفسر "حركة التاريخ" تفسيراً جامعاً للعوامل المنظورة المادية والعوامل المعنوية غير المنظورة.
يقول النُورسي: "القرآن الكريم مرشدنا وأستاذنا وإمامنا ودليلنا في كل أعمالنا."18
ويقول: "إن القرآن الكريم "المقروء" هو أعظم تفسير وأسماه وأبلغ ترجمان وأعلاه لهذا الكون البديع الذى هو قرآن آخر عظيم (منظور).
نعم إن ذلك الفرقان العظيم الحكيم هو الذى يرشد الجن والإنس إلى الآيات الكونية التي سطرها قلم القدرة الإلهية على صحائف الكون الواسع ودبجها على أوراق الأزمنة والعصور وهو الذى ينظر إلى الموجودات التي كل منها حرف ذو مغزى بالمعنى الحرفي... أي ينظر إليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل".19
ولئن كانت كلمات النُورسي التي اقتبسناها سابقاً تؤكد لنا أن النُورسي (إنسان قرآني) فتح الله عليه ببصيرة قرآنية سامية وأنه نموذج للمسلم العصري الذى رباه القرآن فأصبح من الصفوة الذين اقتدوا برسول الله (عليه الصلاة والسلام) الذى كان قرآناً يمشى على الأرض...
ومع ذلك -بل لأجل ذلك- فهموا طبيعة العصر ومدنيته العوراء المادية فهماً موضوعياً... فاعترفوا بحسناتها... لكنهم حذروا الإنسانية -ولاسيما المسلمين- من بنيتها الإلحادية ومنهجها الدنيوي العنصري اللاأخلاقي.
ولئن كان النُوْرْسي هو هذا الرجل القرآني -فإن العلامة محمد إقبال كان -كذلك- ينتمى إلى هذه المدرسة القرآنية نفسها ويبصر -كذلك- بالبصيرة القرآنية كل حقائق الحياة والكون ولا تخدعه "المادية الأوربية العوراء"، مع أنه كان يعرف حسنات أوربا... وقد عاش في أعماقها ونال شهاداته وشطراً كبيراً من ثقافاته من جامعاتها...
قال الشيخ أبو الحسن الندوي (رحمه الله رحمة واسعة) في حديثه عن الأستاذ محمد إقبال:
أما الأستاذ الثاني الذى يرجع إليه الفضل في تكوين شخصيته وعقليته فهو أستاذ كريم لا يخلو منه بيت من بيوت المسلمين، إنه القرآن الكريم الذى أثر فى عقلية إقبال وفى نفسه ما لم يؤثر فيه كتاب ولا شخصية، لقد أقبل على قراءة هذا الكتاب إقبال رجل حديث العهد بالإسلام فيه من الاستطلاع والتشوق ما ليس عند المسلمين الذين ورثوا هذا الكتاب العجيب فيما ورثوه من مال ومتاع ودار وعقار، وقد وصل هذا المهتدى إليه بشق النفس وعلى جسر من الجهاد والتعب، وكان سرور محمد إقبال باكتشاف هذا العالم الجديد من المعاني والحقائق أعظم من سرور "كولمبس" لما اكتشف العالم الجديد ونـزل على شاطئه... أما الذين ولدوا ونشأوا في هذا العالم الجديد فكانوا ينظرون إلى كولمبس وأصحابه باستغراب ودهشة ولا يفهمون معنى لما كان يخامره من سرور وفرح، فإنهم لا يجدون في هذا العالم شيئا جديدا.
لقد كانت قراءة محمد إقبال للقرآن تختلف عن قراءة الناس... ولهذه القراءة الخاصة فضل كبير في تذوقه للقرآن، واستطعامه إياه.
ولم يزل "محمد إقبال" إلى آخر عهده بالدنيا يغوص في بحر القرآن، ويطير في أجوائه يجوب في آفاقه فيخرج بعلم جديد، وإيمان جديد، وإشراق جديد، وقوة جديدة، وكلما تقدمت دراسته واتسعت آفاق فكره ازداد إيماناً بأن القرآن هو الكتاب الخالد، والعلم الأبدي وأساس السعادة ومفتاح الأقفال المعقدة وجواب الأسئلة المحيرة وإنه دستور الحياة ونبراس الظلمات ولم يزل يدعو المسلمين وغير المسلمين إلى التدبر في هذا القرآن العجيب وفهمه ودراسته والاهتداء به في مشكلات العصر واستفتائه في أزمات المدنية وتحكيمه في الحياة والحكم، ويعتب على المسلمين إعراضهم عن هذا الكتاب الذى يرفع الله به أقواما ويضع به آخرين... قال في مقطوعة شعرية له:
إنك أيها المسلم لا تزال أسيراً للمتزعمين للدين، والمحتكرين للعلم، ولا تستمد حياتك من حكمة القرآن رأسًا، إن الكتاب الذى هو مصدر حياتك ومنبع قوتك، لا اتصال لك به إلا إذا حضرتك الوفاة، فتقرأ عليك سورة "يس" لتموت بسهولة، فواعجبا قد أصبح الكتاب الذى أنـزل ليمنحك الحياة والقوة يتلى الآن لتموت براحة وسهولة.20
وكما نرى فإننا -من خلال هذه النصوص- نشعر أننا أمام نصوص تختلف في الألفاظ لكن مضامينها واحدة ورؤيتها واحدة، ذلك لأن إقبال والنُوْرْسي معاً قد صفت مشاربهما، واستقام منهجهما، واتحدت غاياتهما الربانية والإنسانية القائمة على التكامل بين الوحى والعقل والآخرة والدنيا... لا على التصادم والرؤية الإلحادية المادية العوراء...
وهما من خلال هذا المنهج الذى لن تسعد البشرية إلا به ولن يستأنف المسلمون قيادتهم للحضارة إلا عندما ينطلقون من قواعده - قد استطاعا تقديم أصول وكليات لتحقيق النهضة الإسلامية التي تستفيد من كل ما أفرزته الحضارة الأوربية من إيجابيات علمية... لكنها تضم إلى ذلك المنهجية الإنسانية الموصولة بالله وبرسالة الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، لتحقق إنسانية الإنسان التي ترتفع فوق مستوى الذوبان في المادية والشيئية والغرائزية.
وانطلاقا من هذا المنظور القرآني لم تخدعهما المدنية الأوروبية، ولم ينسحقا أمام مقولاتها وفلسفاتها، ولم يفقدا موازين العدل وموضوعية الرؤية أمام أضوائها الخادعة التي سقط تحت إغراءاتها الأخسرون أعمالاً: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.الكهف:104
كان إقبال –بعد أن عاش في أوروبا وسبر– عن كثب –غور مدنيتها– يسميها بالمدنية الفاجرة الناعمة الملمس التي تقتل الناس وهى تظهر هيامها بهم... وكان يحذر المسلمين من أن يقعوا في حبائل المدنية الأوروبية منبهرين بتقدمها العلمي والتكنولوجي، ناسين مخططها الجهنمي (العالمي) لإبادة غيرها بطريقة عنصرية.
لقد أبصر "إقبال" عن خبرة عميقة ومعايشة دقيقة جوانب الضعف الأساسية في مركب الحضارة الأوروبية، والفساد الذى عجنت به طينتها، لاتجاهها المادي، وثورة أصحابها على الديانات والقيم الخلقية والروحية في عصر النهضة، وقد عزا فساد القلب والفكر الذى اتسمت به هذه الحضارة إلى أن روح هذه المدنية ملوثة غير عفيفة، وقد جردها تلوث الروح من الضمير الطاهر ومن الفكر السامي والذوق السليم، وقد تسلط عليها - رغم المدنية الباذخة، والحكومات القوية، والتجارة الرابحة - القلق الدائم.
كما نوه بأساس حضارتها اللاديني، وبأنها عجنت مع الثورة على الدين، فهي في خصومة دائمة مع الدين والأخلاق، وبالتالي فهي عاكفة على عبادة آلهة المادة، وتؤسس في كل يوم لها معبدا جديدا.21
إن شعار هذه الحضارة الغارة على الإنسانية، والفتك بأفراد النوع البشرى، وإن شغلها الدائم التجارة... إن العالم لا يسعد بالسلام والهدوء، وبالحب البريء النـزيه، والإخلاص للّٰه إلا حين تنهار هذه الحضارة الجديدة. 22
ويقول إقبال فى شعره: "إن شعار الحضارة الحديثة الفتك بالإنسان الذى تقوم عليه تجارتها، وتنفق سلعتها... ليست هذه المصارف العظيمة إلا وليدة دهاء اليهود الأذكياء، ذلك الدهاء الذى انتزع نور الحق من صدور بنى آدم... إن العقل والحضارة والدين حلم من الأحلام، ما لم ينقلب هذا النظام رأساً على عقب". 23
وفى مواجهة مشروعات هذه الحضارة الإبادية العولمية كان (إقبال) يحث المسلمين على أن يتمسكوا بذاتيتهم الإسلامية، وقد أدار كثيرا من شعره وفلسفته حول (الذات المسلمة). وإذا كان واجبا على المسلمين -كما يرى إقبال- أن يدرسوا العلوم الحديثة، فمن الأوجب عليهم -أيضا- أن يقرءوا القرآن كأنه أنـزل عليهم (كما كان والد إقبال ينصحه) وأن يمارسوا التعاليم الإسلامية في حياتهم.
وبينما رفض إقبال منصب نائب الملك في إحدى مستعمرات بريطانيا حتى لا يعرض امرأته للسفور والاختلاط، فكذلك كان إقبال -باستعلاء المؤمن- يأسف لأنه أضاع بعض سنوات عمره في الغرب (الغرب الذى يعبده بعض المسلمين).. وكان –بثقة المسلم– يقول: إن أوروبا تنتحر، والروح تموت عطشا في سرابها الخادع... إنها حضارة شابة– بحداثة سنها، والحيوية الكامنة فيها– ولكنها تعانى من سكرات الموت، وإن لم تمت حتف أنفها فستنتحر وتقتل نفسها بخنجرها، ولا غرابة فى ذلك، فإن كل وكر يقوم على غصن ضعيف ليس له استقرار، ولا يستغرب أن يرث تراثها الديني ويدير كنائسها اليهود، إن أساس هذه الحضارة ضعيف منهار.
إن الفكر المارد الذى أزاح الستار عن قوى الطبيعة أصبح بمجموعه يهدد وكر الغربيين ومهدهم، إن العصر يتمخض عن عالم جديد، وإن العالم القديم الذى حوله الغربيون مكاناً للقمار (يقامر فيه بأمن العالم وكرامة الأمم) يلفظ أنفاسه الأخيرة.24
إن عقلها الجريء يغير على ثروة الحب وينمو على حساب العاطفة... إن عماليقها وثوارها قد طغى عليهم التقليد فلا يخرجون -حتى في ابتكاراتهم وثوراتهم- عن الطريق المرسوم والدائرة المحدودة.
إن تجارتها قمار، يربح فيه واحد، ويخسر ملايين، إن هذا العلم والحكمة والسياسة والحكومات التي تتبجح بها أوروبا مظاهر جوفاء، ليس وراءها حقيقة، إن قادتها يمتصون دماء الشعوب وهم يلقون دروس المساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية... إن البطالة والعرى وشرب الخمر والفقر هي فتوح المدنية الإفرنجية.25
إننا نشعر ونحن نقرأ كلمات إقبال والنُوْرْسي وكأنهما يتحدثان عن العولمة– الأوروبية –أو الأمريكية– المعاصرة التي يخدعون بها الشعوب، بينما يعترف عقلاؤها ومفكروها بأنها تخطيط جهنمي لإبادة أربعة أخماس العالم...
ونحن قد نشعر أكثر بحقيقة هذه الحضارة عندما نقـرأ أفكارهما بوعي… ثم نقرأ –في الوقت نفسه– بنود (اتفاقية الجات) المفروضة قهرا على العالم ليزداد الغني غنى ويزداد الفقير (وهم معظم الإنسانية) فقراً… فيتأكد لدينا صدق النُوْرْسي وإقبال، وأن (شعر) إقبال كان شعرا إسلاميا يستشرف المستقبل، ويبصر -من خـلال المعايشة والرؤية القرآنية– أعماق هذه الحضارة، وحقيقة مخططاتها تجاه الإنسانية!!.. وكذلك كان فكر النُوْرْسي ممثلا في موسوعته رسائل النور!!.
وليس عجيبا - مع استقامة المنهج وصفو المشرب، أن نجد اتفاقا شبه كامل بين رؤيتي محمد إقبال وسعيد النُورسي... حتى في أسلوب النقمة والكراهية لفلسفة أوروبا ومخططاتها الجوهرية التي لا تريد مدنية أوروبا أن تحيد عنها، مع كل ما عانته من حروب عالمية وأمراض اجتماعية وأخلاقية مستعصية!!.
بيد أننا -مع هذا القاسم المشترك بين إقبال والنُورسي- نجد النُوْرْسي أكثر وضوحا فبذي إنصاف الجوانب الإيجابية للحضارة الأوروبية... وإشادة بالجوانب العلمية والروحية القديمة التي كانت قد وفدت إلى أوروبا مع مسيحية (عيسى عليه السلام)...!!
إن النُوْرْسي لا ينكر إيجابياتها الواضحة... لكنه –كذلك– لا يعترف لها بأنها وحدها – صاحبة الحضارة، وأن الآخرين لم يقدموا شيئاً..، كما أنه لا يتجاهل مخازيها وماديتها ودنيويتها المهلكة... بالوضوح نفسه.
ولهذا نجد "النُوْرْسي" يزن الحضارة الأوروبية بموازين موضوعية عادلة، فيقدر لها إبداعها العقلي، وصناعاتها ووسائل اتصالها التي قربت المسافات، وجعلت الكرة الأرضية قرية واحدة. لكنه في الوقت نفسه يرفض أوروبا المتعفنة بالفلسفة المادية والوثنية الغارقة في الانحلال والحيوانية...
يقول النُورسي: "إنّ أوروبا اثنتان":
إحداهما: هي أوروبا النافعة للبشرية، بما استفاضت من النصرانية الحقة، وأدت خدمات لحياة الإنسان الاجتماعية، بما توصلت إليه من صناعات وعلوم تخدم العدل والإنصاف، فلا أخاطب – في هذه المحاورة – هذا القسم من أوروبا، وإنما أخاطب أوروبا الثانية، تلك التي تعفنت بظلمات الفلسفة الطبيعية، وفسدت بالمادية الجاسية، وحسبت سيئات الحضارة حسنات لها، وتوهمت مساوئها فضائل، فساقت البشرية إلى السفاهة وأردتها الضلالة والتعاسة".26
وبالوضوح نفسه، والنقمة نفسها، والتحذير نفسه... راح النُوْرْسي يخاطب الحضارة الأوروبية –ممثلة في هذا الشق اللاديني اللاأخلاقي– قائلا لها وللمفتونين بها:
يا أوروبا الثانية (!!) اعلمي جيدا أنك قد أخذت بيمينك الفلسفة المضلة السقيمة، وبشمالك المدنية المضرة السفيهة ثم تدعين أن سعادة الإنسان بهما. ألا شُلّت يداك، وبئستْ الهديةُ هديتك، ولتكن وبالاً عليك، وستكون.
أيتها الروح الخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الجحود!! تُرى هل يمكن أن يسعد إنسان بمجرد تملكه ثروة طائلة، وترفله في زينة ظاهرة خادعة، وهو المصاب في روحه وفى وجدانه، وفى عقله وفى قلبه بمصائب هائلة؟ وهل يمكن أن نطلق عليه أنه سعيد؟!.27
لقد طغت أوروبا الثانية -أو كادت- على أوروبا الأولى، وأسوأ ما فى الأمر أن العالم الإسلامي يقتبس أكثر ما يقتبس من أوروبا الثانية، وتدفعه أوروبا نفسها بعيدا عن طريق أوروبا الأولى، فتمنع عنه علمها الإبداعي الدقيق، وتغدق على أبنائه أوراقا تسمى الشهادات الجامعية!!.
أما إذا وجدت من أحدهم إصرارا على العلم الحقيقي، وقدرة على الإبداع، فإنها تسعى إلى أن تحرم منه حضارته فتغريه بالمال والنساء حتى يقبل جنسيتها ويخدم حضارتها...!!
إنها تمنع خيرها الذى لا شك فيه، وتنشر–بكل الوسائل– شرها الذى لا خير فيه..!!
إن النُوْرْسي يعترف بهذا الجانب الإيجابي– أوروبا الأولي– فيقول: إن البشرية التي أخذت تصحو وتستيقظ بنتائج العلوم والفنون الحديثة، أدركت كنه الإنسانية وماهيتها، وتيقنت أنه لا يمكنها أن تعيش هملاً بغير دين.
لقد تيقظ الإنسان في عصرنا هذا، بفضل العلوم والفنون ونذر الحروب والأحداث المذهلة، وشعر بقيمة جوهر الإنسانية واستعدادها الجامع.28
وعندما يتكلم النُورسي –بإطلاق– عن المدنية فإنه يقصد المدنية بمعناها الصحيح "أوروبا الاولى"... أي أوروبا بمحاسنها وجوانبها النافعة للبشرية وليس ذنوبها وسيئاتها، كما ظن الحمقى من الناس أن تلك السيئات محاسن فقلدوها وخربوا الديار، وقدموا الدين رشوة للحصول على الدنيا فما حصلوا عليها ولا حصلوا على شيء !!29
إن أوروبا الثانية التي تكاد تقضى على أوروبا الأولى تحمل في أحشائها جراثيم الظلم... وجراثيم الدمار والفناء لنفسها وللبشرية... إنها تأسست على خمسة أسس سلبية مدمرة:
فنقطة استنادها: القوة بدل الحق، وشأن القوة الاعتداء والتجاوز والتعرض، ومن هذا تنشأ الخيانة.
وهدفها وقصدها: منفعة خسيسة بدل الفضيلة، وشأن المنفعة: التزاحم والتخاصم، ومن هذا تنشأ الجناية.
ودستورها في الحياة: الجدال والخصام بدل التعاون، وشأن الخصام: التنازع والتدافع، ومن هذا تنشأ السفالة.
ورابطتها الأساسية بين الناس: العنصرية التي تنمو على حساب غيرها، وتتقوى بابتلاع الآخرين، وشأن القومية السلبية والعنصرية: التصادم المريع، وهو المشاهد، ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك.
وخامستها: هي أن خدمتها الجذابة، تشجع الأهواء والنوازع، وتذليل العقبات أمامها، وإشباع الشهوات والرغبات، وشأن الأهواء والنوازع دائماً: مسخ الإنسان، وتغيير سيرته، فتتغير بدورها الإنسانية وتُمسخ مسخاً معنوياً. 30
ومن خلال هذه الأسس الخمسة المدمرة السلبية التي تقوم عليها المدنية الأوروبية ينتهى النورسي إلى كشف نتائج المشروع الحضاري (العولمي) الغربي تجاه الإنسانية، فيصل إلى النتائج نفسها التي انتهى إليها "إقبال"، وهى إبادة أربعة أخماس البشرية، ومن عجب أنها النتائج التي ينتهى إليها الفكر الإجتماعي والإقتصادي الحديث... يقول النُوْرْسي:
إن معظم هؤلاء المدنيين، لو قلبت باطنهم على ظاهرهم، لرأيت في صورتهم سيرة القرد والثعلب والثعبان والذئب والخنـزير.31
"ولأجل هذا فقد دفعت هذه المدنية الحاضرة ثمانين في المائة من البشرية إلى أحضان الشقاء وأخرجت عشرة بالمائة منها إلى سعادة مموهة زائفة. وظلت العشرة الباقية حيارى بين هؤلاء وأولئك، علماً بأن السعادة تكون سعادة عندما تصبح عامة للكل أو للأكثرية، بيد أن سعادة هذه المدنية هي لأقل القليل من الناس."32
وإذا قارنا هذا الكلام بما انتهى إليه الباحثان الألمانيان (مؤلفا كتاب فخ العولمة) اللذان ينتهيان إلى النتيجة نفسها، مع أنهما مفكران اقتصاديان معاصران ينطلقان من رؤية ليبرالية (اقتصادية بحتة) لكنها موضوعية إنسانية!!.. إذا قارنا كلام إقبال والنُوْرْسي السابق، بما انتهى إليه هذان الباحثان "مارتين" و "شومان"، أدركنا كيف أن المفكرين المسلمين الكبيرين ينطلقان من رؤية قرآنية موضوعية تلتقى مع رؤية العقل السليم العلمية الموضوعية، وأدركنا أيضا كيف أن الله يمنح المفكرين المسلمين المخلصين إلهاما يستشرف الغيب، ويستقرئ المستقبل، حتى ولو لم تتوافر لديهم وسائل البحث العلمي وأدواته الكاملة، ما دامت رؤيتهم قرآنية واعية...
لننظر، ولنقارن ما يقوله "مارتين" و "شومان" بما انتهى اليه النُوْرْسي وإقبال.. يقول مؤلفا كتاب (فخ العولمة) المترجم إلى العربية في أكتوبر 1998م (جمادى الآخرة 1419هـ):33
"لم يعد (أي في ظل العولمة الحديثة) مجتمع الثلثين (الأثرياء – والثلث الفقير) الذى كان الأوروبيون يخافون منه فى الثمانينات هو الذى يقرر توزيع الثروة والمكانة الاجتماعية بل سيحددها في المستقبل نموذج العولمة الجديد القائم على صيغة 20% "يعملون" و80% "عاطلون عن العمل". لقد لاح فى الأفق مجتمع الخمس، هذا المجتمع الذى سيتعين فى ظله تهدئة خواطر العاطلين فيه عن العمل بما يسمونه "Tittytainment" (الصدقة أو المعونة الاجتماعية).
ويقول المؤلفان –أيضا–: "إن 20% (عشرين بالمائة) من السكان العاملين ستكفى فى القرن القادم للحفاظ على نشاط الإقتصاد الدولي (...) ولكن ماذا عن الآخرين؟ ماذا عن الثمانين بالمائة العاطلين وإن كانوا يرغبون بالعمل؟ إن الثمانين بالمائة من الطبقة السفلي ستواجه بالتأكيـد –كما يرى الكاتب الأمـريكي جريمي ريفكن (Jeremy Refkin) مؤلف كتاب "نهاية العالم"- مشاكل عظيمة، ويعزز رئيس مؤسسة "سان" هذا الرأي مستشهدا بمدير شركته سكوت مك نيلي (Scoot Mc Nealy) إذ يقول: إن المسألة ستكون في المستقبل هي: "إما أن تأكل أو تؤكل (To have lunch or be lunch".34
ولهذه النتيجة المؤسفة كل الأسف يرى "مارتين" و "شومان" أن نموذج الحضارة الذى ابتكره الغرب لم يعد صالحا لبناء المستقبل.35 (وكأنهما كما نرى يتكلمان بلغة إقبال والنُوْرْسي نفسها!!) وهما يعتقدان أن الدعاية المفرطة لهذا النموذج كانت جزءا من الحرب الباردة، ولهذا فإن هذا النموذج الأوروبي الحضاري يجب أن يوضع –بتعبيرهما– فى متحف الأسلحة القديمة!! وتسود الآن-حسب اعتقاد المؤلفين- عملية تحول تاريخي بأبعاد عالمية واضحة ينعدم فيها -تحت ضغط النموذج الغربي- التقدم والرخاء، ويسود التدهور الإقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي، في ضوء حضارة التنميط...36 حضارة أوروبا وأمريكا..!!
وأعتقد أنه من حقنا – بعد هذه النصوص التي أوردناها للمفكرين الألمانيين الإقتصاديين "مارتين" و "شومان" والتي عرفها العالم العربي والإسلامي (وعرف كثيرا من أمثالها من الدراسات الجادة حول تأثير الهيمنة العولمية)...
من حقنا عندما نجد تطابقها الكبير –في مجمل الرؤى والحقائق والنتائج– مع ما ذكره وانتهى إليه إقبال والنُورسي المفكران المسلمان... منذ نصف قرن... أي مع تفاوت الزمان، وتفاوت الثقافة والمنطلقات والمكان.. من حقنا أن نستنتج عددا من الحقائق الأساسية، على رأسها المصداقية الكاملة والأحقية المطلقة للمنظور القرآني الذى انطلق منه إقبال والنُوْرْسي... فهو منظور (علم اليقين) وهو منظور (دراسة الإيمان الصحيح)...
ومن هذه الحقائق -أيضا- أصالة المفكرين المسلمين الكبيرين وسلامة منهجهما وموضوعيتهما وتجردهما للحق... فليس كل من يتعامل مع "الحق" قادراً على فهم دلالاته واستخلاص دروسه، وعلى التعبير عنه بطريقة علمية، وتوضيح الطرق الموصلة إليه والآليات المحققة له...
لكن إقبال والنُورسي نجحا فى تقديم الكثير في هذا الطريق!! وأخيراً فإن من الحقائق المستخلصة: التطابق –كما نرى فى الآراء السابقة– بين معطيات الوحى الصحيح، واستنتاجات العقل الصحيح.. عندما تصفو المشارب ويستقيم المنهج وتتحد الغايات!!.
المستقبل للإسلام وحضارته الايمانية:
ومع ذلك فان الصراع بين المدنية الغربية المادية ذات البنية الملحدة، وبين حضارة الإسلام ذات البنية الإيمانية، لابد أن ينتهى بالنصر للإيمان والحق. إذا كان مقدراً فى علم الله أن يبقى للبشرية بعض الوجود... فلا وجود إلا بالروح والضمير والعقل والمادة معا.. ولا إنسانية إلا بالوحي والعقل... والنبوة والعلم... وبما أن المدنية الأوروبية (والأمريكية) قد مزقت هذا النسيج المتكامل... واكتفت بالعقل والمادة... فإنها لم تعد قادرة على الإستمرار فى القيادة مهما كانت كثافة السحب التي تحجب الحقائق والقيادة بالتالي لابد أن تعود للإسلام وحضارته... ولابد أن يتقدم المسلمون الصادقون الصالحون لإنقاذ سفينة الإنسانية...
وفي رأى "إقبال" أن الحضارة الغربية قد أدت دورها، وشاخت وهرمت، وأينعت كالفاكهة، وحان قطافها، وأن العالم القديم الذى حوله مقامرو الغرب إلى حانة للفساد سينتهي قريباً، وأن الإنسانية سوف تتمخض عن عالم جديد. ويعتقد "محمد إقبال" أن هذا العالم الجديد لا يحسن تصميمه إلا من بنى للإنسانية البيت الحرام بالأمس فى مكة مركز الأرض، وورث إبراهيم ومحمدا صلى الله عليه وسلم في قيادة العالم وإرشاده. ولذلك يهيب "محمد إقبال" بهذا المسلم النائم، أن يقوم ويمسح النوم عن عينيه، فقد ظهر الفساد في البر والبحر، وعاث الأوروبيون في الأرض، وأفسدوا فيها بعد إصلاحها، وخربوا العالم وملئوه ظلماً وظلمات، وشروراً وويلات، وليست هذه الارض إلا بيتاً من بيوت الله جعلها مسجدا وطهورا، وأذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولكن الأوروبيين حولوها إلى خمارة، وبيت فسق ودعارة، ومكان نهب وإغارة، وقد آن لباني البيت الحرام وحامل رسالة الإسلام أن يقوم ويصلح ما أفسده الأوروبيون، ويعيد هذه البيت إلى قواعد إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، ويبنى العالم من جديد.37
أما النُوْرْسي فيحدثنا الحديث نفسه تقريبا.. ويقول: "إنه بطغيان ذنوب المدنية على محاسنها، ورجحان كفة سيئاتها على حسناتها، تلقت البشرية صفعتين قويتين بحربين عالميتين، فأتتا على تلك المدنية الآثمة، وقاءت دماءً لطخت وجه الأرض برمتها، وسوف تتغلب بإذن الله محاسن المدنية بفضل قوة الإسلام التي ستسود فى المستقبل وتطهر وجه الأرض من الأدناس وتحقق أيضا سلاماً عاماً للبشرية قاطبة..
نعم لما كانت مدنية أوروبا لم تتأسس على الفضيلة والهدى، بل على الهوس والهوى، وعلى الحسد والتحكم، تغلبت سيئات هذه المدنية على حسناتها إلى الآن. وأصبحت كشجرة منخورة بديدان المنظمات الثورية الإرهابية، وهذا دليل قوى ومؤثر على قرب انهيارها، وسبب مهم لحاجة العالم إلى مدنية آسيا "الإسلامية" التي ستكون الغلبة لها عن قريب!!.38
إنه استشراف ورؤية مستقبلية أخرى.. يلتقى فيها إقبال والنُوْرْسي، مع ما يقوله مؤلفا كتاب "فخ العولمة"..!!
وقد ظهرت الصحوة الإسلامية في العالم بعد عديد من النكبات والهزائم والاختبارات، وقد كادت الصحوة تمضى إلى غايتها... لكن الأشواك توضع في طريقها، ويدفع إلى الوقوف ضدها كثير من المنافقين المسلمين... وبدلاً من أن يرشدوها للصواب. يدفعها بعضهم إلى الخطأ... ويبنون على الخطأ الفردي والتطرف الشخصي سياسة مواجهة عامة للظاهرة... ومع ذلك فإنهم - كما أشار النُورسي - لم يكسبوا الدنيا حين باعوا الآخرة، ولم يرض عنهم الأعداء حين باعوا الإخوان والأصدقاء.
وفى كل يوم يصفعهم الأعداء -بأمر الله- صفعات قوية من الذلة والخيانة ونكث العهود... تحقيقا لقوانين القرآن التي لا تتخلف، قال تعالى ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾.39
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.المجادلة:14- 15
لكنها مرحلة من مراحل الهوان سوف تنتهى بإذن الله، وسوف تعقبها إفاقة إنسانية عامة تبحث عن الحق، وتسعى إليه بعد أن يصل الأمر إلى مداه...!!
وإن لدى الإسلام مؤهلات النصر والتفوق والسيادة... لديه الحقيقة الإسلامية أستاذ جميع الكمالات... ولديه حاجة البشرية الملحة إلى هذا الأستاذ الحقيقي والقائد الحقيقي للمدنية الصحيحة اللائقة بالإنسان.
ولديه الحرية الممزوجة بالشرعية، التي تمزق الاستبداد، وتقضى على الفوضى اللاإنسانية. ولديه الشهامة الإيمانية الممزوجة بالرحمة والصراحة. ولديه العزة الإسلامية التي تعلن إعلان كلمة الله.. بالوسائل المادية والمعنوية معاً.
وكما صدقـت توقعـات النُورسي في الماضي القـريب فسـوف تصـدق -بإذن الله- توقعاته بانتصار الإسلام فى المستقبل القريب... والبعيد أيضاً...!! والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
* * *
الهوامش:
1 بديع الزمان سعيد النُوْرْسي - كليات رسائل النور (الكلمات) ص 635، 636.
2 النُوْرْسي: الكلمات: طبع سوزلر للنشر ط2 - مصر - 1412هـ ص 65.
3 السابق ص 65.
4 السابق ص 68.
5 السابق ص 70.
6 السابق ص 72.
7 السابق 76.
8 السابق 81.
9 السابق 84.
10 التاسعة 85.
11 السابق 88.
12 السابق 94.
13 السابق 96.
14 اللمعات 182.
15 اللمعات 183.
16 بديع الزمان النُوْرْسي – الكلمات ص 636.
17 المرجع السابق ص 637.
18 انظر المكتوبات ص 476 فى المسألة السابعة من المكتوب الثامن والعشرين نشر سوزلر ط2/1413هـ، القاهرة.
19 بديع الزمان سعيد النُوْرْسي – الكلمات (كليات رسائل النور) ج 1 ص 143 نشر سوزلر ط2/1412 القاهرة.
20 روائع إقبال - أبو الحسن على الندوى - المجمع الإسلامي العلمي - ندوة العلماء لكنؤ - الهند - ص 51 - 53 ط 4/ 1401هـ.
21 روائع إقبال - أبو الحسن الندوى ص 82.
22 المرجع السابق ص 83.
23 المكان السابق.
24 روائع إقبال – أبو الحسن الندوى ص 83-84 .
25 المكان السابق ص 84.
26 النُوْرْسي: اللمعات: ترجمة أ / إحسان قاسم الصالحى 176، 177 ط2 / 1413هـ. القاهرة.
27 اللمعات 177.
28 النُوْرْسي: صيقل الإسلام - كليات رسائل النور ص 494 - نشر سوزلر ط3 / 1999 مصر.
29 صيقل الإسلام 501.
30 النُوْرْسي: الكلمات 855 طبع مصر سوزلر ط 2 / 1412هـ وانظر: النُوْرْسي: صيقل الإسلام 357 ط 3 / 1999 مصر "سوزلر".
31 بديع الزمان النُوْرْسي - الكلمات ص 855 - كليات رسائل النور - 1.
32 صيقل الإسلام ص 357 والكلمات 856 ويقول النُوْرْسي وكأنه عالم اقتصادى يعاصر عولمة أمريكا الكذوب: "وتتجمع الأرباح التجارية بأيدى أقلية ظالمة" الكلمات ص 856.
33 ضمن سلسلة عالم المعرفة: فخ العولمة: ال
عتداء على الديمقراطية والرفاهية - عدد 238 ص 28 - نشر المجلس الوطنى للثقافة - الكويت. مراجعة وتقديم د / رامز زكى - ترجمة د / عدنان عباس على.
34 فخ العولمة ص 26.
35 فخ العولمة ص 12 (المقدمة).
36 فخ العولمة: ص 12.
37 أبو الحسن الندوى - روائع إقبال ص 130 - 131 بتصرف. (وهذا لا يعنى الاستغناء عن ابداعات العقل الأوروبى التى أنجزتها أوروبا النافعة - الأولى - مع تسخيرها لخدمة الحق ونشر الإيمان والرحمة والتسامح.
38 صيقل الإسلام - بديع الزمان النُوْرْسي ص 501.
39 النُوْرْسي: بتصرف من الخطبة الشامية - صيقل الإسلام 499، 500.
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Haziran 2012 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2012 Sayı: 5 |