من معالم التجديد عند النورسي
أ.د. محسن عبد الحميد1
بسم الله الرحمن الرحيم
درستُ رسائل النور دراسة دقيقة في الأقل مرتين كاملتين، فكتبتُ في ضوئهما كتابي "النورسي متكلم العصر الحديث"2 وقدمت لكتاب النورسي النفيس "الآية الكبرى" ولكتابه القيم "إشارات الإعجاز" وألقيت محاضرات علمية عنه وعن أفكاره وعصره في أقسام الدراسات العليا في كلية الآداب بالرباط وكلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد، واستمعت إلى البحوث العلمية المتنوعة التي ألقيت في مؤتمري فكر النورسي في إسطنبول عامي 1995 و 1998م ثم قرأت كتباً وأبحاثاً كتبت عن رسائل النور والنورسي في العراق وخارجه، فتحصل عندي أن الإمام النورسي من أكابر المجددين، ليس في العصر الحديث فحسب، بل في تاريخ المسلمين كله، ولاسيما في عصرنا، عصر الفتن الكبرى، وعصر النكبة والهلاك عصر بداية التراجع الحضاري الإسلامي، عصر سيطرة الغرب على توجيه الحركة الحضارية في العالم الإسلامي، سواء بالطريق المباشر أو غير المباشر، عصر التمزق والهزيمة الكبرى للمسلمين أمام النظام السياسي والعسكري والحضاري الغربي، عصر تأسيس دولة اليهود الباغية العدوانية في قلب العالم الإسلامي المقدس "فلسطين" عصر إعلان اللادينيات المختلفة في أنحاء العالم الإسلامي كله.
لقد كان الإمام سعيد النورسي الابن البار لزمنه، استوعب الأفكار، واستخلص العبر، وتعمّق في فهم المأساة، وعرف طرق الإفساد، وأطّلع على أسباب التمزق والفرقة، وراقب مسرحية الانتقال الخبيث من المنظومة الإسلامية إلى المنظومة الغربية اليهودية الصليبية الإلحادية، مع تفهم حقيقة المرحلة، وطبيعة المؤامرة، وتطور الأحداث في تركيا والعالم الإسلامي برمته. فكان ذلك المجدد الذي عبر عن عصره، تعبيرا شموليا متوازنا ابتداء بنمط شخصيته، وانتهاء بالمخطط المتكامل الذكي في الوسيلة والغاية التي اتبعها، من خلال مادته المعرفية العلمية الغزيرة، بقصد إحداث هزة عنيفة عميقة في كينونة الإنسان مسلما أو غير مسلم، في عقله وقلبه وروحه ونفسه.
أما نمط شخصيته فهو شخصية فريدة في تربيته ونظافته، وذكائه الخارق وصلابته وعزته وأنفته وتوكله ورضاه وزهده.
وأما شخصيته في اكتشاف الوجود وأعماقه، وتذوقه لجماله الباهر وجلاله الأخّاذ، في دائرة الطاقة البشرية، فهي عبقرية تقترب من نهايات الولاية العظمى في مستويات الأولياء العظام من غير الأنبياء والمرسلين. أي أنه شخصية ذابت في حب الكون وما فيه من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، التي تدل على توحيد الخالق، وعظمة وقداسة أسمائه الحسنى التي أنارت الوجود من الذرات إلى المجرات. وفي مقابل ذلك الحب العظيم فإنه شخصية صمدت بصلابة حاسمة منقطعة المثيل بوجه قوى الشر الشيطاني، التي تقود ظلام الشرك المطلق في هذا العصر.
أما مادته المعرفية التي كان يمتلكها، فقد دفعته إلى أن يعالج بنفسه كل جزئية من جزئيات الانحراف في المجتمع الإسلامي والإنساني على السواء، كي يعيدها إلى الفطرة والتوازن والعبودية الخالصة لرب العالمين، والابتعاد النهائي، ولو معرفياً، عن موكب الشرك والمشركين بقيادة الشيطان الرجيم وأوليائه المتآمرين على فطرة الوجود من الإنس والجن.
وقارئ رسائل النور يدرك هذا تمام الإدراك، ويستطيع أن يميز مؤلفها الإمام النورسي عن بقية المجددين في زمانه، كالأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال وحسن البنا وعبد الحميد بن باديس رحمهم الله تعالى.
فهؤلاء لم تلجئهم ظروفهم الزمانية والمكانية إلى معالجة كل جزئية من جزئيات الإسلام بأدلتها التفصيلية وقواعدها المنطقية، ولا ردّوا كل الشبهات المثارة في زمانهم حول الإسلام، ولا دخلوا في صراع فكري تفصيلي مع الكفر، وإنما حددوا المنهج والتوجه والحركة، وبينوا أسس الفكر الإسلامي الحديث، وتركوا لأتباعهم الكثيرين القيام بمثل تلك الدراسات والمواجهات والمعالجات.
بينما الظروف "الزمكانية" للشيخ النورسي جعلت منه فارس الميدان الوحيد بحيث ملأ مجتمعه علماً وتوجيهاً ومعالجة ومعارك فكرية، استعمل فيها عبقريته العلمية، ومادته المعرفية، وخصص لها كل ما أوتي من الفكر والحكمة والشجاعة والإقدام. ولاشك ان عزلته ووحدته وسجنه والإقامات الجبرية الدائمة التي فرضت عليه، كانت سببا مهما من أسباب هذا التوجه والتي جعلها الله سببا لتنقية قلبه وتصفية فكره، وإدماجه في أعماق الوجود الكوني والإنساني.
أما مخططه المتكامل فيظهر من معالم التجديد الآتية في حياة النورسي:
1- العودة إلى القرآن الكريم في الرؤية والمعرفة:
مصدر إنه تلميذ أمين من تلامذة القرآن الكريم، لا يتبع التجربة الصوفية الضيقة، ذات النفق الواحد، حتى في قمة صفائها ولا يعدها مصدرا مناسبا من مصادر المعرفة التي يمكن أن تواجه اكتساح الحضارة الغربية المادية المعاصرة لحياة ملة الإسلام والإنسانية فالعصر ليس عصر التصوف وإنما هو عصر إنقاذ الإيمان والإسلام.3
ولا يتبع فهم الفلاسفة الذين يسلمون أنفسهم للعقل وحده، فيتيهون عبر طرق ملتوية في جبال وعرة، وإنما يذهب إلى النبع الصافي مباشرة، ويأخذ معه الجيل كله، ليشربوا من الماء الصافي النمير بلا كدورة الأرض ولا المواد المختلطة بها عبر التضاريس المتنوعة.
ويرفض منهج المتكلمين السابقين الذين كتبوا لعصر غير عصره، من حيث المعالجة والمواجهة وطبيعة المادة المعرفية، وإنما يستقي أدلته من عالم الأنفس والآفاق على أصول العقائد الإسلامية.4
قال النورسي: "فطريق المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، لا يوازيه طريق في الإستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه وأقربه إلى الله وأشمله لبني الإنسان ونحن قد اخترنا هذا الطريق".5
ومن الجدير بالذكر أن منهج النورسي هذا لا يصطدم مع أي منهج من تلك المناهج مباشرة، وإنما يستطيع صاحب كل طريق الاستفادة منه، من خلال عرض منهجه المتفرد.
وهو لا ينقل لهم في منهجه ذلك علما مصطلحيا محدودا، وإنما ينقل لهم كيانه القرآني في تجربة كونية معرفية خصبة جدا، فانية في القرآن الكريم، ليقدم من خلالها مشاعره المتأججة وآلامه المحرقة، حتى يهتاجوا كما اهتاج هو، ليحصل لهم اندماج رباني كامل في الوجود، من أجل إعادتهم إلى صف العابدين لخالق الكون ومبدع الوجود.
لقد أراد النورسي أن يدفع المسلمين إلى قلب القرآن في إطار الصراع الحضاري المعاصر، من خلال تفسير شهودي لكتاب الله سبحانه وتعالى. يشمل ثلاث قراءات متطابقة:
قراءة الكون الرحيب من خلال تجليات أسماء الله الحسنى،
وقراءة القرآن الكريم في ضوء تلك القراءة،
وقراءة سيرة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، حتى يستطيع أن يعيش مع أرقى نموذج مخلوق بعثه الله تعالى قدوة أعلى ومثلا واقعيا للكائن الحي في عوالم الإمكان.
وفي ذلك، كان النورسي صاحب إدراك عميق بحقيقة تجديد الإسلام، في هذا العصر
إنه مجدد حقا، لأنه لا يدعو إلى النكوص إلى الوراء، ولا سحب التاريخ الماضي بتفاصيله إلى الزمن الجديد، وإنما يؤمن أن الفكر الإسلامي بروافده يمكن أن يتجدد في هذا العصر، وفي كل عصر قادم، حسب المستوى الحضاري الذي وصل إليه.
لقد هضم النورسي المعارف الإسلامية بأدق أجزائها، والمعارف الكونية العلمية بتفاصيلها، ولم يعرضها كما يعرضها العلماء التقليديون، ولكنه تسلسل بجزئياتها خلف قراءاته الثلاث، ليخرج للجيل نمطاً من الحديث يدخل في كينونة الإنسان بسهولة ويسر، من أجل انتشاله من وهدة الإلحاد والمادية واللادينية إلى سوح الإيمان الرحب والشريعة السمحة والقيم المنبثقة من الصفات الإلهية.
لقد دفعت الظروف القاسية التي أحاطت بالنورسي ومجتمعه، تلك التي أراد فيها أعداء الإسلام فرض الإلحاد واللادينية بقوة التصفيات الجسدية الجماعية والإعلام الوحيد الكذوب والثقافة المخزية ذات البعد المظلم على الناس، إلى اتجاه معرفي كلامي جديد. وهو إيجاد علم كلام جديد، ينقل من خلال علم التوحيد من نظريات عقلية مجردة ومناقشات منطقية جافة إلى أسلوب جديد يصوغ حياة المسلم صياغة ربانية، تقود إلى المعنى الحقيقي للتوحيد بكماله من حيث إنّ التوحيد صلة بين الإنسان والخالق المعبود والحاكم مطلق في الوجود.
لقد استطاع النورسي أن يحدد المشاكل الكبرى في حياة الأمة الإسلامية والإنسانية، فعالجها معالجة قرآنية من خلال أدلتها التفصيلية العقلية الفطرية، فحول عقيدة التوحيد بذلك إلى حياة مفعمة بمعاني الإخلاص والاستقامة والتضحية والسلوك والتربية الجماعية، فنجح نجاحا باهرا في إلحاق الهزيمة باللادينية في نفوس ملايين من الناس في تركيا في زمانه، وفي العالم بأسره بعد وفاته، عندما ترجمت رسائله إلى اللغات الحية في العالم، فبدأت تغزو العقول والقلوب ليتوجه بها إلى رب العالمين، ويعيد الخطاب في المجتمع الإسلامي والإنساني إلى الله تعالى بعد أن حوله الملاحدة واللادينيون في العصور الأخيرة إلى الإنسان وحده.
إذن كان النورسي يعمل في العصر بتخطيط وعلم وقدرة وذكاء، ولم يكن ككثير من علماء زمانه يعيش في متحف التاريخ.
والآن لنعرض قضايا تفصيلية من خطته في تجديد الحياة الإسلامية في تركيا والعالم الإسلامي، وإنقاذ الإيمان الإنساني وانتزاعه بالبرهان العلمي والعقلي من بين براثن المادية التي كانت تجتاح العالم يومئذ.
2- منهج التغيير البدأ بالبنى التحتية:
يعتقد النورسي أن التغيير الشامل في الحياة الإسلامية، لابد أن يبدأ من البنى التحتية؛ المعنوية منها والمادية، وليس بوصفات مؤقتة لملء الثغرات الخطيرة في البنيان الفوقي، أي إن التجديد يجب أن يدخل في الخلايا العميقة حتى تسترجع الأمة عافيتها. فاللادينيون ما تمكنوا من المجتمع التركي إلا من خلال فراغ داخلي في الأعماق. يظهر ذلك في ضعف الدين، وانحراف العقل وخواء الروح واضطراب الأحوال والهزائم النفسية.
وكان النورسي على يقين تام أن إصلاح الأعماق سيؤدي إلى وحدة العقيدة ووحدة الأفكار، ووحدة الصف ووحدة القلب ويقظة العقل، واستقرار الأحوال، وهو الذي سيحض المسلمين ويوقظهم أمام الحضارة الغربية التي أتتهم بعقيدة جديدة وأفكار جديدة.6
وهذا المنهج هو الكفيل بإخراج المسلمين من المنظومة الإلحادية المادية إلى المنظومة الإيمانية الإسلامية بمعناها الشامل، وهو منهج الإسلام وطريقه، وهو منهج وطريق مستقل عن الوجود والحياة، يختلف اختلافا جذريا عن مناهج المادية والروحية الكنسية.
وفي سبيل النجاح الأكيد في هذا الحوار الحضاري، واجه النورسي الحضارة الغربية في مواجهتها للإسلام والقيم الدينية والأخلاقية مواجهة تفصيلية. فالقضايا التي أثارتها الحضارة الغربية أجاب عنها، وأظهر بأدلة واضحة أن الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا، كان أعمق في معالجاته لتلك القضايا وأقرب إلى الفطرة الإنسانية وأكثر انسجاما مع قوانين الحياة.
ونجاح النورسي في هذا الحوار ينطلق من أن رسائله النورية، سلكت مسلك الحوار، مع النفس والعقل والروح والقلب، ومع الآخرين من البشر على اختلاف أديانهم، بل الدخول في الحوار مع الوجود كله، من الذرة إلى المجرة إلى الكون كله.
وقد يقول قائل كيف يدخل النورسى في الحوار العقلي مع الغير وهو ينكر الفلسفة أساسا؟
نقول: إذا نظر القارئ نظرة سطحية تجزيئية إلى ما كتبه النورسي حول الفلسفة، قد يأخذه ظاهر عبارته العامة إلى تأكيد معاداة المنهج الفلسفي. بينما إذا قرأ ما كتبه الأستاذ بدقة في رسائله حول الفلسفة، توضح أمامه الأمر، لأنه لا يرفض المنهج الفلسفي مطلقا، وإنما هو يقسم الفلسفة إلى قسمين، قسم يعده فلسفة مؤمنة صالحة تتفق مع حقائق القرآن الكريم، فهذا لا يرفضه الأستاذ. وكيف يرفض النورسي الفلسفة الصحيحة، وهو الذي ملأ رسائله بالأدلة المنطقية، وأدلة العلم التجريبي في إثبات حقائق القرآن الكريم والسنة النبوية، فجعل بذلك الحس والعقل مصدرين مهمين من مصادر المعرفة في الوجود.7
وأما الجانب الآخر من أفكاره التجديدية، فهو دمجه لأنصبة البشر من أسماء الله الحسنى في الصراع الحضاري المعاصر في العالم الإسلامي لاستخلاص المبادئ الأساسية، والشروط الواجبة للنجاح المضمون في عملية إنقاذ المسلمين من براثن المادية المعاصرة وبنائه على جزئيات تجليات تلك الأسماء المقدسة في الوجود. إنني أستطيع أن أجزم أن النورسي بنى رسائله كلها على تلك التجليات. من خلال قراءته للكون، لأنه انطلق من الاقتناع الكامل بأن الله تعالى ما ذكر في القرآن الكريم أسماءه الحسنى، إلا لكي يأخذ الإنسان منها نصيبه في إطار بشريته، سواء في مجاله الفردي أم في بنائه الاجتماعي. إنه لم يبين تلك كما فعل ذلك الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه النفيس "المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" وإنما أدمجها في تفاصيل الصراعات الحضارية بين الإسلام وغيره من المبادئ والأفكار، منبها إلى ان الإنسان إبتداءا من أسرار نفسه وأعماق حياته إلى جزئيات الكون الواسع إن لم يتلق معاني تلك الأسماء في حياته لتنورها، فإنه سيعيش في الفساد المطلق والشرك المطلق والمادية المطلقة.
ومن هنا نجد أنه يعالج قضايا العقيدة والشريعة والأخلاق وتفاصيل النظام الإجتماعي والإقتصادي والسياسي والعسكري والتربوي وغيرها، في ظل مقدار التمثل لتجليات تلك الأسماء المباركة، لأن الكون في فطرته، ومن خلال كل خلية من خلاياه، يسير في ضوء تلك التجليات، وبدونها لا تقوم للكون والإنسان والوجود قائمة قط. لأن الموجودات كلها إنما هي مظاهر لتلك التجليات، بحيث لا تدع مجالا للغفلة، بل تكسب متأملها مرتبة واسعة من الاطمئنان بسعة الكون، وتفتح أمامه عبودية واسعة ودائمية سعة الكون كله. وهذه الروحانية الوجدانية من جهة أرقى للحصول على الطمأنينة من بعض أرباب الطرق الصوفية الذين وصلوا إلى الفناء بإنكار الكائنات أو نسيانها. ومن جهة أخرى فإنّه أقصر طريق للوصول إلى الخالق العظيم، لأن هذه الأسماء متعاضدة تتجلى في إحداث وإنارة كل ذرة من ذرات الوجود.
فكل اسم له فعل في جانب، فقد تشترك صفات القهر والرحمة والعدل والحكيم والحفظ في تنوير وجود فعل لا يمكن أن يفسر إلا عند من يتصف بتلك الأسماء، وليس هناك في الوجود من يتصف بشمولية تلك الأسماء الحسنى وعملها المتوازن في تنسيق كامل إلا الله سبحانه وتعالى الخالق.8
3- تجديد أسلوب الدعوة:
هنالك ناحية أخرى تجديدية، يتسم بها المنهج النوري، وهو تجديده في أسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وهو عدم الدخول في تصادمات وصراعات داخلية مع التيارات الإسلامية الأخرى وتوجيه الجهود الدعوية كلها إلى الجاهلية المعاصرة، التي كانت تتمثل في زمانه بحركة الزندقة اللادينية التي فرضها الطغاة بقوة الحديد والنار على المجتمع التركى، بل إن معرفة طبيعة العصر جعلته لا يتخذ موقفا معاديا دعويا أو سياسيا مُعَيَّنًا تجاه الدعوات والجماعات السياسية الأخرى، بل وجّه إليهم الدعوة جميعا، لأنهم في رأيه يدخلون جميعا في دائرة ملة الإسلام، على الرغم من أخطائهم المنهجية وانحرافاتهم السياسية.9
ومن هذا المنطلق، فإنّه لم يدع قط إلى الثأر للنفس على الرغم من الظلم الذي تعرض له هو وطلابه وإنما كان يدعو للإسلام في هذا العصر، والتأثير لا يكون بالقوة والغضب، وإنما يكون بالحكمة والشفقة والرحمة وتبليغ دعوة الإسلام وإنقاذ الإيمان. ومن المعلوم أن إنقاذ الإيمان عند النورسي يعني إنقاذ الإسلام من حيث هو كل لا يتجزأ من براثن مخططات الملاحدة والعلمانيين.
قال النورسي موجها طلابه إلى هذه المسألة الخطيرة في الدعوة الإيجابية:
"إن واجبنا نحوهم طلب الهداية لهم فحسب، فلا يرد في قلب أي طالب من طلاب النور الثأر ولو بمقدار ذرة، بل أوصيهم دائما مقابل ما لاقوه من العنت الثبات في خدمة رسائل النور والوفاء بها."10
وانطلاقا من منهج دعوته "حسن الظن أساس بالنسبة إلى المسلمين" اجتنب تكفير أهل القبلة، وفي هذا قال (رحمه الله):
"إن من يعرف ‘سعيد' عن كثب يعلم أنه يتجنب تكفير الآخرين تجنبا شديداً ما استطاع إلى ذلك سبيلا، بل يحاول أن يجد تأويلا حتى لو رأى كفرا بواحا."11
ومن جهة أخري فإن دعوة النورسي قامت على أساس إنكار الذات والتواضع، والإخلاص وعدم اللهاث وراء الشهرة وحظوظ النفس وراء الدنيا والدعوة بالحسنى وعدم الإخلال بالمحبة والوحدة. وعدم تضييع الوقت بالجدل والنقاش الفارغ، والاشتغال بالأصول ثم التدرج إلى الفروع، والحركة إلى الأمام دائما وعدم الفتور وعدم الاشتغال بغير قضية الإسلام المركزية والصبر على المصائب، ومحاولة تكوين وضع اجتماعي آمن واجتناب السياسات اليومية الفاسدة.
ولقد ربى النورسي في مجال الدعوة طلابه على الأمل بدل اليأس والتبشير بدل التنفير أساسا لها.
إنه يشبه مخافة الله بلجوء طفل إلى حضن أمه المليء بالشفقة. وهذه الخاصية استنبطها من أسماء الله تعالى، الرحمن، الرحيم، الرؤوف.
والدين عند النورسي شيء طاهر ونظيف ولا يجوز استخدامه بزعم مصلحة الدعوة بشيء سيء أبداً. إنه لابد أن يبقى صافيا طاهرا بعيدا عن الحقد والمذهبية والطائفية والسياسات الآنية، كي ينهل منه الشاردون، ويرجع إليه الضالون، ويرضع منه المؤمنون، كل على قدر حاجته، وما قدر الله له.
4- إنقاذ الجيل من التصوف المنحرف:
هناك جانب آخر من الحركة التجديدية لهذا الشيخ الجديد وهو إنقاذ الجيل من براثن المتصوفة المنحرفين، الذين قادوا الأجيال إلى الركون والسكون تحت مظلة السير إلى الله تعالى بلا عودة، بينما السابقون من الأولياء الربانيين كانوا يسلكون الطريق إلى الله من أجل العودة إلى الأرض، وهم أكثر إيمانا وقوة وعزما وإقداما في القيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
نعم أثبت النورسي للجيل المثقف الحالي والقادم أن العصر ليس عصر التصوف، لأن التصوف تجربة ذاتية، ولا يستطيع أن يقود حملة الصراع الحضاري الإسلامي مع عوامل النكوص والانحراف ومع هجمة اللادينية المادية الحديثة والزندقة الآتية من الغرب الكافر.
قال النورسي: "لقد كنت أقول أن هذا الزمان ليس زمان الطريقة فالبدع تحول دون ذلك، مفكرا في حقائق الإيمان وحدها. ولكن الزمان أظهر أنه يلزم لكل صاحب طريقة بل الألزم له أن يدخل دائرة رسائل النور التي هي أوسع الطرق."12
لماذا؟ يجيب الأستاذ:
"إن أخطر شيء في هذا الزمان هو الإلحاد والزندقة والفوضى والأوهام وليس تجاه هذه المخاطر إلا الاعتصام بحقائق القرآن الكريم".13
وموقف النورسي من التصوف واضح في رفضه لمدارج السالكين الطويلة ولنظريات وحدة الوجود ووحدة الشهود والحلول وتقديس المشايخ، وبعد بيان موقفه يعرض البديل، الذي لخّصه في الرجوع إلى أوراد السنة النبوية الشريفة.14
5- التعامل مع المجتمع وحدة متجانسة:
من معالم النورسي التجديدية، أنه ركز على وحدة المجتمع الإسلامي، وعارض الإخلال بنظامه الداخلي، واستعمال العنف في سبيل زعزعة أركانه، تحت مظلة إعلان الجهاد على الكافرين اللادينيين. وأكد أن الجهاد في الشريعة لا يوجه إلى المسلمين داخل العالم الإسلامي، وإنما يوجه إلى العالم الخارجي.
أما في داخل العالم الإسلامي فإن الجهاد يكون جهاد دعوة وعلم وبذل ونصيحة لإعادة المسلمين إلى حقيقة الإسلام حسب قانون التدرج الكوني.15
إن الحرب التدميرية داخل العالم الإسلامي تؤدي إلى قتل المسلمين بعضهم لبعض، وتنتهي إلى سلب الاستقرار من العالم الإسلامي، فتعيق بذلك نهضته العلمية والعمرانية التي هي مقدمة مهمة لتقدم العالم الإسلامي وهذا التخريب لا يستفيد منه غير الأعداء الكافرين على المدى البعيد.
قال النورسي:
"إن من يشق طريقا في الحياة الاجتماعية ويؤسس حركة لا يستثمر مساعيه ولن يكون النجاح حليفه، ما لم تكن الحركة منسجمة مع القوانين الفطرية التي تحكم الكون، بل تكون جميع أعماله لأجل التخريب والشر."16
والحق أن هذه السياسة الحركية قد أنتجت ثمارا يانعة في تركيا، إذ في ظلها انتشرت رسائل النور، وغزت العقول والقلوب وانتهت إلى جهاد معنوي كبير وشامل انتهت إلى تكوين جيل مؤمن انطلق في المجتمع ينشر حقائق الإسلام بالتلمذة على رسائل النور في المدارس ودورات تحفيظ القرآن والمدارس الابتدائية والثانوية والجامعات والمؤسسات الثقافية والعلمية، بالنظر أو الاستماع إلى الإذاعات المرئية والمسموعة وقراءة الجرائد اليومية السياسية والعلمية والمتخصصة في شؤون الحياة المختلفة.
بينما لو أن النورسي واجه السلطة يومئذ بالتحدى والعنف، لكان يواجه بالعنف والتصفية الجماعية له ولمن يسير معه، واستمرت المحنة زمنا طويلا، ولم نكن لنرى تلك النتائج الباهرة التي ذكرناها قبل قليل.
6- التعامل مع الغرب قاعدته الحجة:
هناك جانب تجديدي مهم في دعوة النورسي الإسلامية في تركيا. وهو تأكيده على أن الصراع بين العالم الإسلامي والعالم الغربي اليوم، ليس صراع القوة والسيف. لأن الإفلاس الغربي الفكري سيولد فراغا هائلا في الغرب. ومن هنا فإن جهاد المسلمين للعالم الغربي يجب أن يكون جهاد فكر وشرح لحقيقة الإسلام لهم. والدليل على ذلك أن طلائع دخول الغرب للإسلام قد ظهرت، لكون الصراع في هذا الزمان ليس صراع قوة، وإنما هو صراع ثقافي وفكري. أي أن المسلمين عليهم أن يواجهوا الغرب بسيف القرآن، إذا أرادوا هداية شعوبه إلى نور الإسلام.
والحق أن إدراك النورسي السديد لحقيقة الصراع المستقبلي بين المسلم والعالم دفعه إلى توجيه رسائله ليس إلى المسلمين فقط، وإنما إلى الإنسان في أي مكان من حيث العموم. فقد عرض الإسلام ومشكلات العالم الإسلامي، لاسيما الصراع بين الإيمان والكفر وكأنها مشكلات الإنسانية جميعها.
أجل كانت دعوة النورسي موجهة إلى الغرب والإنسانية أيضا لأنه:
أ - يثبت الإيمان عن طريق نتائج العلم الذي يفهمه الغربيون.
ب - ينقد مساوئ الحياة الغربية ومناوأتها للدين.
ج - يرد الاعتراضات الفكرية على الدين والتي خرجت أساسا من الغرب.
د - يضع نظما فكرية في المجالات التي يفهمها الغربيون.17
4- الاهتمام بتوجيه الأمة إلى التفوق العلمي:
من معالم التجديد في حياة النورسي، اهتمامه الكبير بالتوجه العلمي والتقني للأمة وبالسير على نظام اقتصادي متوازن، من أجل الوصول إلى البناء السليم للأمة وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.
فالإسلام بأمس الحاجة إلى إعلاء كلمة الله، ليس بالكلام فحسب، وإنما بصياغة حياة الأمة الإسلامية صياغة ربانية في ظل طاعة الله. ولا تستطيع الأمة المحافظة على عزة الإسلام وإعلاء كلمة الله، إلا بأن تعيد بناءها العلمي والتقني والصناعة التخصصية، بتحكيم دستور تقسيم العمل وإبعاد العشوائية والفوضى من حياتها.
وأما في مجال الإقتصاد، فإن النورسي يقدم مخططا دقيقا وعميقا لإيصال الأمة إلى نظام اقتصادي متوازن، من الممكن أن نسميه بـ "اقتصاد القناعة" مع الحركة الدائبة في الحياة والاشتغال بالحرف التي توافق قابليات واستعدادات الناس.18
هذه بكثير من الإجمال والاختصار، هي معالم فكر النورسي التجديدي. قادها منهج أصولي شمولي عصري، متكامل متوازن، مع قدرة ذاتية فائقة في التخطيط والحركة والاجتهاد، مستندة إلى فهم عميق لأصول الإسلام وفروعه ومعركة ذكية بتطور الزمان العالمي، وملامح عصره ومجتمعه ومشكلاته المستعصية، وكيفية علاجها بالتلمذة على القرآن الكريم ثم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ثم قراءة الكون بقدرة سَرَيانية عجيبة حتى أبعد خلية مدركة فيه.
* * *
الهوامش:
1 أ.د. محسن عبد الحميد: أستاذ الفكر الإسلامي وتفسير القرآن الكريم بكلية علوم التربية، بغداد، العراق.
2 صدر في القاهرة عام 1995م.
3 النورسي، بديع الزمان سعيد، الكلمات، ص: 239، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، استانبول 1992.
4 انظر كتابي "النورسي متكلم العصر الحديث "ص 110 وما بعدها.
5 النورسي، بديع الزمان سعيد، صيقل الإسلام، المحاكمات ص 122، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، استانبول 1995.
6 صيقل الإسلام، الخطبة الشامية.
7 كان بحثي الذي قدمته إلى المؤتمر العالمي لفكر النورسي في إستانبول الذي عقد في ايلول 1998 بعنوان "مصادر المعرفة في القرآن الكريم من خلال رسائل النور".
8 الكلمات: ص 290، 749.
9 النورسي، بديع الزمان سعيد، الشعاعات، ص 424. ترجمة إحسان قاسم الصالحي. سوزلر، استانبول 1993.
10 المصدر السابق ص 135.
11 النورسي، بديع الزمان سعيد، الشعاعات، ص 536، دار سوز للطباعة والنشر، استانبول 2006.
12 الملاحق - ملحق أميرداغ/1، ص: 263.
13 النورسي، بديع الزمان سعيد، الملاحق، ص 344، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، استانبول 1995.
14 الملاحق: قسطموني 208.
15 النورسي، بديع الزمان سعيد، اللمعات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي. سوزلر، استانبول 1993، اللمعة الثلاثون، ولاسيما النكتة الخاصة باسم "الحكيم".
16 اللمعات ص 160.
17 الدعوة والإرشاد في الغرب- سعيد ابراهيم - بحث ضمن المؤتمر العالمي الثالث لبديع الزمان سعيد النورسي ص 185.
18 راجع البحث القيم "المنهج العوفي وإعلاء كلمة الله عند بديع الزمان"للدكتور بنيامين دوران، ضمن أبحاث المؤتمر العالمي الثالث لبديع الزمان سعيد النورسي.
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Haziran 2012 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2012 Sayı: 5 |