مبادئ الإنسانية وتحديات العصر في نظرية سعيد النورسي
أ.د. تسفيتان ثيوفانوف1
لا ريب أن عنوان هذا اللقاء العلمي العالمي (المؤتمر) قد تم اختياره استجابة لمقتضيات وضع معقد نعيشه، ومرحلة متميزة نمرُّ بها في عصر العولمة المفسدة والأخلاق السيئة. لقد سادت في أواخر القرن الماضي نظريات حالمة مستبشرة بِنِعَم موعود بها سكان المعمورة في القرن الواحد والعشرين من نحو رَفاهية وأمن وسعادة، ولقد انبعث هذا التفاؤل نتيجة لشعور البعض بأن انتصار المعسكر الغربي الليبرالي أصبح بديهيا، فبعد سقوط الكتلة الاشتراكية، وفشل سياستها، وتقزم دورها واضمحلال دعاتها، بعد كل هذا لم يعد هناك -في ظنهم- نظام قادر على أن يكون بديلا ضامنا وضابطا لمسيرة الإنسان مثل الليبرالية الغربية.
وفي هذا السياق -سياق الأحادية الليبرالية، والنزعة الشوفينية- يتساءل أحد خريجي المدرسة الغربية، وهو (فرانسيس فوكوياما) يتساءل متحديا: هل هناك في الواقع الإنساني بعض التناقضات الأساسية التي لم تلق حلا، أوجوابا في الإطار الليبرالي الحديث؟ والجواب كان طبعا بالنفي، ذلك لأن في دولة نهاية التاريخ (وهو عنوان الكتاب الذي يضم هذه النظرية) دولة (فوكوياما) كل الرغبات سوف تلبى، كل ما يتمنى المرء يدركه، لن يكون فيها صراع حول المشاكل الكبرى، ولا حاجة إلى المؤسسات العسكرية ولا إلى رجال الدولة، ولن يبقى إلا شيء واحد يشد الناس ويجمعهم هو النشاط الاقتصادي وتحقيق الوفرة الاستهلاكية. وقد أظهرت مطالع القرن الواحد والعشرين، كم كانت هذه النظريات والتنبؤات بعيدة عن واقع الإنسان وفطرته وتطلعاته بكل ما تحمله كلمة "إنسان" من دلالات وأبعاد اجتماعية وروحية وعاطفية، وبكل ما تعنيه كلمة "تطلعات" من معاني الخير والسعادة والسلام والتعاون والوئام. ذلك أن هذه الأنظمة والمنظمات الاقتصادية والتجارية التي يبشر بها دعاة العولمة: في جوهرها نظم رأسمالية تطغى عليها لغة الرِّبْح والخسارة، وتوجهها المؤسسات المالية الضخمة والاعتبارات المادية بمنطق لا مكان فيها للعاطفة أو الفطرة الإنسانية ولا للدين والأخلاق.
لا جَرَمَ أن الذي يتصفح مؤلفات الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي ويتعمق في تأملاته يلاحظ اهتمامه البالغ بدور الإنسان ومنزلته العالية ومبادئ الإنسانية في ظل تحديات العصر. وقد وضَّح النورسي أسباب عنايته بهذه المسألة قائلا: "لقد تيقّظ الإنسان في عصرنا هذا، بفضل العلوم والفنون ونُذر الحروب والأحداث المُذهِلة، وشعر بقيمة جوهر الإنسانية واستعدادها الجامع، وأدرك أن الإنسان باستعداده الاجتماعي العجيب لم يُخلق لقضاء هذه الحياة المتقلّبة القصيرة، بل خُلق للأبد والخلود، بدليل آماله الممتدة إلى الأبد. وإنّ كل إنسان بدأ يشعر -حسب استعداده- أن هذه الدنيا الفانية الضيقة لا تسع لتلك الآمال والرغبات غير المحدودة..."2
إن الأستاذ النورسي القرآني العقيدة الذي قد سَمَّى نفسه بخادم القرآن استوعب معنى الإنسانية ومبادئَها ضمن وعي قرآني كوني مفتوح على العالمية. فكان الأستاذ يشرح ويكرر أن "ما يُطلق عليه بالإنسانية التي هي قصيدة حكيمة منظومة تعلن إعلانا لطيفا جميع تجليات الأسماء الإلهية القدسية، وهي مُعْجِزَة قدرة باهرة جامعة كالنَّواة لأجهزة شجرة دائمة باقية". فخطاب الأستاذ التجديدي كان يتوجه إلى الإنسان باعتباره صنعة خارقة للخالق الصانع وأرقى معجزة من معجزات قدرته وألطفَها وكائنا كونيا أو عنصرا جوهريا من عناصر العوالم المخلوقة ونسخة جامعة للكائنات وخلاصة الكون وفهرسته الجامع. ويرى الأستاذ في مخلوقية الإنسان معجزة إلهية فقال: "كذلك الإنسان الذي هو ثمرة شجرة الكائنات، إذ المقصود من إيجادها إنما هو الإنسان، وغاية إيجاد الموجودات هي الإنسان، وبَذْرة تلك الثمرة قلب الإنسان، وهو أنور مرآة للصانع الجليل وأجمعُها."3 ويكرر الأستاذ هذه الفكرة في رسائل مختلفة مؤكدا أهميتها في رؤيته الإنسانية: "إن الإنسان هو الثمرة النهائية لشجرة الخِلْقة، ومن المعلوم أن الثمرة هي أبعد أجزاء الشجرة، وأجمعها وألطفها؛ لذا فإن الإنسان هو ثمرة العالم، وأجمع وأبدع مصنوعات القدرة الرَّبَّانية، وأكثرها عَجْزا وضعفا ولطفا."4 و "خلقه الباري مظهرا لجميع تجليات أسمائه الحسنى، وجعله مَدَارا لجميع نقوشه البديعة جلّت عظمته، وصيّره مثالا مصغرا ونموذجا للكائنات بأَسْرها."5
لقد ارتكزت روحية رسائل النور على الاعتقاد بأن الإنسان أهمّ مخلوقات الله، وأن جميع الأنشطة البشرية لا بدّ وأن تؤدي إلى سعادته ورَفاهيته، وأن كل عمل يقصد به تحقيق هذه الغاية، هو عمل في سبيل الله، أي عمل إنساني في المقام الأول. إن الإنسان كائن طموح محدود القدرات عظيم التطلعات، ولعلمه بمحدوديته التي تعارض تطلعاتِه، نجده دائماً يَهْرُبُ من التفكير في تصرفات الدهر والموت ويتهرب من هذا الواقع المحتوم، ليعيش آماله ولوفي عالم الخيال ويسعى طول حياته في سبيل تحقيق الخلود. هذا والذي يجعل من هذا الكائن الطَّمُوح، كائنا دائم الوجود ودائم البقاء، ويَضْمَنُ له طاقات أوسع لتحقيق طموحاته الكبيرة في هذا العالم الفاني، ويصل وجوده بذلك العالم الباقي هو الله تبارك وتعالى. وقد يُضْطَرُّ الإنسان في أكثر الحالات للبحث عن قوة عليا يتجاوز بواسطتها إطار محدوديته ويلجأ إليها ليُعَوِّضَ عن إحساسه بالعجز عن تحقيق الأمان والاستقرار الذي يلازم تفكيره، وقد يكون بحثه عن هذه السعادة بعقله وقد يكون في أكثر الأحيان بعاطفته، إلا أن الطريق الصحيح لذلك ولتحصيل السعادة والكمال واجتياز المحدودية اليائسة إلى عالم البقاء عن طريق الالتزام بالدين الذي هو هداية الله للإنسان وعنايته به. ويشير الأستاذ إلى هذه الفكرة بقوله: "إن الإنسان مع صِغَر جِرْمه وضعفه، وكونه حيوانا من الحيوانات؛ ينطوي على روح غالية، ويحتوي على استعداد كامل، ويتبطن ميولات لا حَصْر لها، ويشتمل على آمال لا نهاية لها، ويحوز أفكارا غير محصورة، ويتضمن قوى غير محدودة، مع أن فطرته عجيبة كأنه فهرست للأنواع والعوالم."6
وما زال الأستاذ يذكرنا بأن الله تعالى كَرَّمَ الإنسان بالخلافة، وعلمه أسماء الأشياء كلها، يعني الأسماء الحسنى، وهو العلم الذي تفوق به على الملائكة، فلقد خص الإنسان في خلقه بالعقل والإرادة في وسطية جامعة بين مادة خالية من الوعي والإرادة، وبين روحية ملائكية بريئة مُمَحَّصة في إرادتها للخير، وهذا المعنى الجامع في الإنسان بين المادة والروح كان من ثمراته الوعي، والروحية، والإرادة المهيأة للاختيار بين السمو إلى أفق الملائكة، وبين الهبوط إلى عالم الماديات، ولقد أهلّه لهذه المهمة ما أودع الله فيه من قدرات ومهارات، أهمها العقل الذي هو مناط التكليف، لما خص به من قدرة على الاستيعاب لما هو غائب عن الإنسان من الحقائق. وهو ما تتحقق به السيطرة على البيئة الكونية، إذ يستطيع الإنسان بفضل هذه القدرات أن يُكَيِّف حياته في منع ما يضره واستثمار ما ينفعه، وهي عملية قابلة للاطراد لدى الإنسان لإنجاز الخلافة في الأرض، وهي الغرض من الوجود: "إن الإنسان من جهة الفعل والعمل وعلى أساس السعي المادي حيوان ضعيف ومخلوق عاجز، دائرة تصرفاته وتملكه في هذه الجهة محدودة وضيقة [...]، إلا أن الإنسان من جهة الانفعال والقبول والدعاء والسؤال ضيف عزيز كريم في دار ضِيافة الدنيا، قد استضافه المولى الكريم ضيافة كريمة حتى فتح له خزائن رحمته الواسعة وسخَّر له خدمه ومصنوعاته البديعة غير المحدودة."7
ولم يعد حياة الإنسان أحقابا تائهة في بحر الزمان تثير مشاعر الفقدان والحسرة على الأيام الخالية، فالقرآن الكريم في معظم سوره وسياقاته يربط الواقع بالغيبيات، ويلبي حاجة الإنسان إلى البحث عن الحقيقة، إلى الصراع مع عوامل الهدم، على العمل الدائم للتغيير نحو الأفضل، إلى معطيات الأمن والاستقرار، إلى فردوس يحقق الأمن والاستقرار للذات التي فقدت الأمن والاستقرار.
إن استخلاف الإنسان في الأرض ليس لمجرد الملك والقهر والغلبة والحكم إنما هو ذلك كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء، وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه، وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله. إن الاستخلاف في الأرض في نظر الأستاذ النورسي يعني القدرة على العِمارة والإصلاح، لا على الهَدَم والإفساد، والقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر، والقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارك الحيوان.
إن الغاية من استخلاف الله لهذا الكائن الذي هو الإنسان على هذا الكوكب تُجَلِّيه غاية التجلية الآية الكريمة التالية: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.البَقَرَة:30
لقد فهمت الملائكة تلك الغاية من خلال علمها بمراد الله من إيجاد الخلق كما قررت ذلك الآية وذلك هو تسبيح الله وتقديسه بدلالة قولهم النافي للحاجة إلى خليفة في الأرض ما دام التسبيح والتقديس قائماً، وأحقية المسبحين والمقدسين بالخلافة دون غيرهم، وهذه الغاية -أعني التسبيح والتقديس- هي رسالة الإنسان في هذا الوجود بأكملها وهي مسؤوليته على هذه الأرض، وهي منهج سعادته، ومحتوى عهده وميثاقه مع الله، فالتسبيح هو التنزيه الذي هو لب التوحيد المقتضى لنفي الشرك، والمقتضى للاستهانة بكل طاغوت وصنم ومقدّس غير الله مما لم يأمر بتقديسه.
فبالتسبيح تُسقط الإنسانية شوائب النقص ومظاهر الفساد من حياتها بعد أن تُنزِّه معبودها عنها وتَنْفِيها عنه، وبالتسبيح تنمو في الإنسانية روح الاتجاه إلى الكمال المطلق، وتشعر بالاتجاه نحوه والسعي إليه، وبالتسبيح لله وحده يعلن الإنسان تحرره من عبوديات الأرض وطواغيت البشر.
وبالتقديس تعظم الإنسانية الكمال الإلهي، وتراه غاية قُصْوَى تسعى نحوه على هذه الأرض لتَصُوغ من إنسانيتها صيغة تتشرف وتسمو بعبادة هذا المعبود المقدس، وتتفيأ ظلا يحاكي ذلك الملكوت في البعد المقدس، وظلا يحاكي ذلك الملكوت في البعد عن الشر والفساد، لتقديم في أعماقها موازنة الحساب بين غايتها العليا التي تشدّها إليها ودوافع التقديس والتسبيح وتوافه الحياة ونوازع الفساد التي تُلِحّ عليها بالخروج على هدف الاستخلاف ومسؤولية الخلافة الموكَّلة للإنسان.
إن القرآن ربط ربطا موضوعيا بين خلافة الإنسان في الأرض وقيام الحكم والسياسة على أساس مبادئ الحق والعدل، فجعل الحكم بالحق هدفا أسمى من أهداف الخلافة الإنسانية في الأرض وجانبا مهما من جوانب تحققها، لأن الحكم في نظر القرآن هو إحقاق لمبادئ الحق والعدل، وتطبيق لإرادة الخير في كل المبادئ والأهداف.
إن أهم الشروط التي يتأهل بها الإنسان لأن يكون خليفة الله في أرضه: الإيمان، ذلك الإيمان الذي يستغرق النشاط الإنساني كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه. إن الإيمان الذي يؤهل الإنسان لتلك الخلافة هو ذلك الإيمان المتمثل في منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به: توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى التي هي لب العمل الصالح. والعمل الصالح هو الذي يكون مُنْطَلقه قاعدة الإيمان، فبدون الإيمان لا يعد العمل شيئا مفيدا حتى ولو كان صالحا، كما أن الإيمان لا يتبلور في الواقع المنظور وفي ساحة الوجود إلا إذا أبرزه العمل الصالح، فهما جناحان متوازيان لا يُحَلِّقُ الإنسان إلى مستوى المسؤولية -مسؤولية الاستخلاف في الأرض- بدونهما معا، وهما تياران متعادلان كالمُوجَب والسالب يُحَوِّلان إرادة الإنسان والتي هي من أخص خصائص الإنسانية إلى أفعال نبيلة يسعد بها عالم المخلوقات، وفي مقدَّمة من يسعد بها هذا الإنسان الذي هو ميدان المعركة بين الخير والشر في هذا الوجود، وهو وحده الخاسر والرابح.
ولا تتحقق الخلافة الإنسانية على ما اسْتُخلِف عليه الإنسان على أكمل وجوهها، وفي أجمل صورها، وأوسع معطياتها، وأثبت ما يكون من دعائمها إلا بأمرين أساسيين، فإذا فُقدا معا انعدمت تلك الخلافة ولم يُعْثَرُ لها على أثر، وبوجود أحدهما بدون الآخر توجد شَوْهاء منقوصة ليس لها في الحياة دور مؤثر وإن ارتفعت أعلامها إلى حين أو برزت معالمها في مكان.
أول الأمرين الأساسيين: الإيمان باعتباره صلة بالله، الصلة التي تٌؤَمِّنُ للحياة مُقوَّماتها، وتُضْفِي على كل من المستخلَف والمستخلَف عليه الجمال والكمال، وهذه الصلة لا يمكن أن تتجسد أو تتبلور إلا حيث النظافة والطُّهْر والنَّماء، حيث التزكية، تلك التزكية التي تعنى تطهير الضمير والقلب والشعور والخواطر والنفس في كل أغوارها، وتلك هي تزكية الباطن، كما تعنى تطهير السلوك والعلاقات المؤدية إلى تطهير الأعراض والقيم والجوارح وسائر الارتباطات، وتلك تزكية الظاهر، إن التزكية أول مبدأ من مبادئ الرسالة التي جاءت لترتفع بالإنسانية من دركاتها وسفوحها التي طالما تردّت فيها وتَمَرَّغَت في أوحالها تلك الرسالة التي جاءت لتضع أقدام الإنسانية على الجادّة حِيَالَ تلك الخلافة لتؤهله لها. إن أول ما يطالعنا في بيان مبادئ هذه الرسالة: التزكية التي تعني أكثر من تحصيل النمو والتربية الصحيحة على أقوم منهج والطهارة النقية الشاملة.
إن الإنسان المُزًكّى هو الذي يتم تخليصه وتنقيته من كل المُعَوِّقات التي تحول دون اضطلاعه بمهام الخلافة سواء أكانت تلك المُعَوِّقات أمراضا جسمية أم أمراضا عقلية ونفسية أم روحية وخلقية. وقد ذكر الأستاذ النورسي في الخطبة الشامية أمراض البشرية الاجتماعية وقام بتحليلها، وتلك الأمراض هي: "حياة اليأس الذي يجد فينا أسبابه وبعثه؛ موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية؛ حبّ العداوة؛ الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض؛ سَرَيَان الاستبداد، سريان الأمراض المعدية المتنوعة؛ حَصْر الهَمَّة في المنفعة الشخصية. وكان الأستاذ يتحدث في اغلب دروسه عن الأُخُوَّة والإخلاص. فكان يشخص مرض زماننا هذا بالغرور والأنانية وحب النفس. وكل صلة مُنْبَتَة عن الصلة بالله ففيها شيء من التطهير والشِّفاء من هذه الأمراض. وما أنزلت الكتب ولا أرسلت الرسل إلا لتزكية الإنسان وتطهيره وتصفيته وتنقيته من كل بادرة شر أو شائبة رذيلة.
أما الأمر الثاني، فإنه العلم، بكل معطياته وأبعاده وآفاقه الواسعة وأرجائه الفسيحة. إن التنويه بشأن العلم وإبراز اعتبار دين الإسلام إياه أقوى ركائز الاستخلاف ودعائمه. وإذا لم يكن بُدَّ من الإشارة إلى حكمة ذلك، فما علينا إلا أن ندرك -ولو بإطلالة- الحجة والبرهان على الملائكة في الحوار معهم على أحقية هذا الإنسان بالخلافة، حيث قال الحق سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.البَقَرَة:31-33
إن الملائكة الكرام لما أدركوا ما عسى أن يصدر عن هذا الخليفة من تدمير وهدم وإفساد وإزهاق للأرواح إما بإبهام من الله أو بشواهد من الحال أو إدراك نابع من تجارب سابقة لما أدركوا قصور هذا الخليفة أو تقصيره المتوقع بما ركب فيه من ميل إلى الإفساد لم يُقِم الله سبحانه عليهم الحجة على أحقية الإنسان بالخلافة وتأهله لها بأن ينزهه عن تلك العيوب، أو تكون فطرته كفطرتهم لا تعرف إلا الخير ولا تألف إلا الطهر، وإنما أقام عليهم الحجة على تلك الأحقية بأنه سيكرمه بالعلم الواسع الآفاق المتجدد العطاء، فسلّوا وأذعنوا مستخدمين نفس الأسلوب في التعبير، مكررين كلمة العلم ومشتقاته: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾البَقَرَة:32 والعلم والحكمة قرينان حيث وجد هذا وجد الآخر، وذلك بصرف النظر عن كيفية ذلك التعليم أو سعة ذلك العلم الحاصلين في أروع حفل لتكريم الإنسان الذي أُمِر الملائكة فيه بالسجود له إجلالا وإكبارا بعد نفخة الله فيه من روحه.
ومثلما منَّ الله سبحانه وتعالى على الإنسان باستخلافه إياه في الأرض، فإنه عرض عليه الأمانة، وهي فضيلة جليلة وخطيرة لحاجة البشر إليها. ومن الجدير بالذكر أن الخالق سبحانه لم يبدأ بعرض الأمانة إشفاقا منه على البشر، فعرضها منذ البداية على السموات بما حوت من الكواكب، وعلى الأرض بما حفلت من براكين وبحار وأنهار، والجبال بما حملت وتحملت، فأبت السموات والأرض والجبال خوفا من خطر الأمانة وأهميتها عند الخالق ومخلوقاته، وإشفاقا على كونهن من الرسوب في الامتحان، وعدم الاستطاعة بالوفاء بتحملها، فعرضها المولى على الإنسان، وكان الإنسان في حِلّ من عدم قبول العرض، وما كان الله ليعاقبه على ذلك فقد أبى حملها من هُنَّ أقدر على ذلك منه، ولكنه حملها لأنه ظلوم جهول.
ولا ننسى أن النورسي عاش في عصر تأجج فيه الصراع الحضاري بين الغرب والشرق بصورة قاسية وقد انعكست في مرآة العالم الإسلامي الآثار السلبية لانتشار المقوَّمات والتقاليد والأفكار والفلسفات المادية الغربية على مستوى العلاقات الاجتماعية والأخلاق البشرية والمدنية والعَلمانية المُعادية لمبادئ القرآن الإنسانية. وكان الأستاذ يدرك أن هذا الصراع الحضاري في جوهره يكشِف التصادم بين موقفين ومذهبين أساسيين، هما الكفر الذي يعبد القوة ويسعى إلى التخضيع، والإيمان الذي يعتمد على السماحة والمحبة واحترام الآخرين باعتبارهم أبناء آدم. ونتيجةً لهذين الاتجاهين ظهر نوعان ونموذجان إنسانيان، هما إنسان قرآني وإنسان فرعوني، وكل واحد منهما يختلف تماما عن الآخر.
فنحن لو أخذنا منهم المدنية -بسوء حظنا وسوء اختيارنا- بما يوافق الهوى والشهوات -كالأطفال- تاركين محاسنها التي تحتاج إلى بذل الجهد للحصول عليها، نكون موضع سخرية كالمخانيث أو كالمترجلات، إذ كيف إذا لبست المرأة ثياب الرجل ولبس الرجل ثياب المرأة يكون كل منهما موضع سخرية واستهزاء. ألا ما يكون لنا أن نتجمل بمساحيق التجميل...8
فالتغريب هيأ الأوضاع التي تشكلت فيها شخصية الفرد المستلب وقرر مزاياه الغرورية والانتهازية والتهافتية بحيث "صيَّر تلميذه الخاص فرعونا لكن يعبد أخس الأشياء ويرى كل سبب نافع أنه ربه... متمردا لكن يتمسك بنهاية الذِّلّة للذته. ويقبِّل رجل الشيطان لمنفعة خسيسة. وجبارا لكن لعدم نقطة الاستناد عاجز في ذاته بغاية العجز. وإن غاية همة تلميذك: بطنه وفرجه أو منفعة قومه، لا لقومه بل لأجل منفعة نفسه أو تطمين رقة الجنسية أو تسكين حرصه وغروره، ولا يحب إلا نفسه ويَفْدي لها كل شيء".
أما الجهد القرآني، لا سيما جهد رسائل النور، فقد تسنى له بفضل الله أن يخرج النموذج الأعلى الذي يُسهم في إنقاذ أمته وإعادة العزة إليها: "وأما خالص تلميذ القرآن فـ"عبد" لكن لا يتنزل للعبودية لأعظم المخلوقات ولا لأعظم المنفعة ولو كانت جنة. ولين هين لكن لا يتذلل لغير فاطره إلا بإذنه.. وفقير لكن يستغني بما ادخر له مالكه الكريم... وضعيف لكن يستند بقوة سيده الذي لا نهاية لقدرته.. ولا يرضى تلميذه الحقيقي حتى بالجنة الأبدية مقصدا وغاية، فضلا عن هذه الدنيا الزائلة".9
الخلاصة
إن عالم النورسي الفكري العميق غاية العمق يتضمن عددا من أفكار تتعلق بالإنسان والإنسانية، منها:
– للإنسان خاصِّيتان، أولاهما الأنانية المحصورة في الحياة الدنيا، وثانيتهما العبودية الممتدة إلى الحياة الأبدية، أو بعبارة أخرى، جهة التخريب والعدم والشر والسلبية والانفعال، وجهة الإيجاد والوجود والخير والإيجابية والفعل؛10
– وظيفة الإنسان الحقة هي العبودية لله واجتناب الكبائر، والعبادة تَصْرف وجه الإنسان من الفناء إلى البقاء.
– سجايا الإنسان وماهيته تظهر بالتوحيد.
– "إن الإنسان يسمو بنور الإيمان إلى أعلى عِلِّيِّين فيكتسب بذلك قيمة تجعله لائقا بالجنة، بينما يتردى بظلمة الكفر إلى أسفل السافلين فيكون في وضع يؤهله لنار جهنم، ذلك لأن الإيمان يربط الإنسان بصانعه الجليل."
* * *
الهوامش:1 أ.د. تسفيتان ثيوفانوف: جامعة صوفيا، بلغاريا.2 صيقل الإسلام، الخطبة الشامية، 295.3 الكلمات، الكلمة الثانية والعشرون، ص 7344 الكلمات، الكلمة الخامسة عشرة، ص 204.5 الكلمات، الكلمة الثالثة والعشرون، ص 3496 إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تفسير: يا أيها الناس اعبدوا... 7 الكلمات، الكلمة الثالثة والعشرون، ص 3658 صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية، ص: 4689 الكلمات، الكلمة الثانية عشرة.10 الكلمات، الكلمة الثالثة والعشرون، ص: 360
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Aralık 2011 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2011 Cilt: 4 Sayı: 4 |