BibTex RIS Kaynak Göster

تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي

Yıl 2011, Cilt: 4 Sayı: 4, - , 01.12.2011

Öz

تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي

د. محمد عبد النبي1
لكل رؤية أو اجتهاد في الفكر والسلوك نسق تنتظم فيه جزئيات ومفردات، والوصول إلى تحديد ذلك النسق مهمّة تقتضي إلماماً وإحاطة، بل قدراً غير يسير من التعاطف والتفهم يبعدانه عن مبغض للنهج وقالٍ للخيار، وينئيان به في الوقت نفسه عن مريد لا يهمه التأمل في روعة البناء بقدر ما تستهويه لذّة العيش في الأكناف والجنبات، ولا يمكن لهذه الأنساق أن تنشأ أو تبنى بمعزل عن الظروف والملابسات، وقد يصعب تمييز قدر الإكراه أو الاختيار في هذا النهج أو ذاك، لكن زعم التنصّل أو النجاة من الخضوع له لا يسلم كلاهما من مبالغة في الادعاء، وهذا التأثير هو نفسه الذي يمنع التماثل أو التطابق في الأفكار والدعوات، حتى مع اتحاد المناشئ والمنابت لدى الدعاة، ولذلك توحي أدبيّات هذه الدعوات بغلبة نفس على نفس، أو هيمنة اتجاه على آخر، والبحث يؤكّد هذا الانطباع أو ينفيه، وقليلة هي المناهج التي تقلّ فيها نسبة التأثير، وتندر فيها ردّات الفعل، إيجاباً أو سلباً، تبعاً للظروف يسراً أو عسراً.
وحين نـزعم بأن دعوة بديع الزمان النورسي يهيمن عليها الخطاب التربوي والمنـزع السلوكي، فليس هذا انتقاصاً من شمول لم يُدّع، بل هو شرف يحرص على التفاخر به تابع ومريد، وتزلّ قدم من يحصر النهج كله فيه خضوعاً لظرف طارئ، أو اغتناماً لهامش يُحرص عليه، والدعوة التي تنضح أفكارها وأقوالها بصور الإكراه والإعنات لا يُفهم أن لا يُلجأ إلى التعويض عن ذلك بمعاني التربية والتزكية يُتضلّع منها، ويُملأ بها فراغ يحرص على توسيعه الغريم والخصيم.
وقد يحلو لمن تستهويه المقارنة أن يصدر حكماً بالتقاء هذا المسلك مع مسالك أخرى تتمحض مساعيها في ترسيخ قيم التصوّف وتثبيت أقدام السالكين، لكن مثل هذا الحكم يفتقر إلى الدقّة ولا يلتفت صاحبه إلى فوارق القياس، إذ هناك فرق بين خيار يُتوارث تنضح منه صور وأشكال لا يُعرف إلا بها، وبين خيار يخضع للتجربة، وينبني على اجتهاد فيه القديم والجديد، كما أنّ هناك فرقاً آخر بين دعوة تحيّدها الظروف، وقد توظّفها، وبين أخرى تعاندها، فلا يزيدها العناد إلا تميزاً وتألقاً. صحيح أن للبلاء صوراً قد يكون أشدُّها وطأة على النفس بلاءُ النعمة والرخاء، ومجاهدة النفس والهوى، لكن الصحيح أيضاً أن البلاء الذي نختاره، أو تقل فيه أنصبة الإكراه غير البلاء الذي ينـزل بساحة الدعوة والدعاة، ولا يبقى فيه أدنى حظ من حظوظ الاختيار.
ولعلّ هذا الأمر الذي يُراد به أن تُشاع به خصال العبيد إكراهاً، هو الذي ألجأ بديع الزمان إلى التركيز على خلال العبودية اختيارا، "...لأنها شرف عظيم... وفيها من اللذة وراحة الوجدان ما لا يوصف"2 وهذا يعني أن ممارسة وظائفها نعمة في حدّ ذاتها، والذين يترقبون الجزاء على التكليف واهمون، بغفلتهم عن كونها ثوابا و" نتيجة لنعمة سابقة، وليست مقدمة لثواب لاحق".3 وهذا يتفق مع اعتبارها المقصد الأسمى والغاية القصوى من خلق الكون4 ولا يمكن للمكلَف أن يقوم بحقّها إلا إذا وقف على حقيقتها وأداها بإخلاص وتذلّل "مظهراً عجزه مع عدم التدخل في إجراءات ربوبيته، أو الاعتراض عليها، ومسلما للأمر والتدبير كله إليه وحده مع الاعتماد على حكمته دون اتهام لرحمته ولا القنوط منها".5
العجز والعشق... أو طريق العبودية:
وفي لفتة تنمّ عن ذوق ومكابدة يزيد سبيل العجز تأكيداُ للوصول: "إن العجز كالعشق طريق موصل إلى الله..."6 ثم يستدرك على هذه التسوية بأن الوسيلة الأولى "أقرب وأسلم"7 مبررا ذلك بأنه "يوصل إلى المحبوبية بطريق العبودية"8 والآخر تتّحد فيه الوسيلة بالغاية، وتنـزع منه اللذة في المكابدة ذلة تُبتغى وانكساراً يُراد، فضلاً عن كونه طريقاً لا تصفو دلاؤه، وقد يسلكها من لا يرجو للشريعة قدرا. وبإشهار العجز المطلق تتفجر عطايا العبودية "فالإنسان بقوة ضعفه وقدرة عجزه أقوى وأقدر بمراتب، إذ يُسخّر له بالدعاء والاستمداد ما لا يقدر على عشر معشاره باقتداره، فهو كالصبي يصل ببكائه إلى ما لا يصل إليه بألوف أضعاف قوته، فيتفوّق بالتسخير لا بالغلبة... فعليه أن يعلن عجزه وضعفه وفقره وفاقته بالاستمداد والتضرّع والعبودية."9
ولما كانت حياة بديع الزمان تطبيقا حيا لما يعلنه من حكم وحقائق، فإنه يقول -تأكيدا للإكرام الملازم للعجز-: "عرفت بالعجز والفقر غير المحدودين الكامنين في حياتي القدرة المطلقة لخالقي ورحمته الواسعة، من حيث إزالة حاجاتي التي لا تنتهي، ودفع أعدائي الذين لا يُعدّون، فعلمت وظيفة العبودية، وتزودت بالسؤال والدعاء والالتجاء والتذلل."10
وفي مفارقة لافتة يذكرها الرجل للتدليل على صدق كلامه في هذا المجال -مما قد يقف عليه كل واحد منا- يقول: "ولقد ساق وجود قوة الاقتدار والاختيار والذكاء -المثير للحرص القائد إلى الحرمان على الأغلب- أولئك الأدباء الذين يستشعرون بها، إلى التذلل، وإلى ما يشبه التسول، بينما أوصل عدم الاقتدار المكلل بالتوكل أغلب العوام البله إلى الثراء والغنى..."11
وقال في موضع آخر بأن "كثيرا من الأدباء والعلماء يعيشون عيش الكفاف، في حين يُثري كثير من البلداء والبلهاء، كل ذلك يدل على أن وسيلة جلب الرزق ليست بالذكاء والاقتدار، بل بالعجز والافتقار، وبالتسليم المتسم بالتوكل، وبالدعاء بلسان المقال والحال والفعل".12
وحتى لا تذهب بعيدا ظنون من يتلقف الكلام ولا يحققه، أو من يتشوق لسماع ما يميل إليه ويبتغيه، أو من يستسهل الأشكال والرسوم وتعييه المقاصد والمعاني ينبه النورسي إلى "أن المقصود بالعجز والفقر والتقصير إنما هو إظهار ذلك كله أمام الله سبحانه، وليس إظهاره أمام الناس".13
وفي التشبيه السابق للعجز بالعشق إشعار ضمني باللذة التي تصاحبه، صرّح بها في موضع آخر -حين ربطها بالخوف والرجاء حكمة تلازم التذلل نفَسا في مسلك العبودية- فقال: "إن العارف بالله يتلذّذ من عجزه وخوفه من الله سبحانه، وحقا إن في الخوف لذّة، فلو تمكنا من الاستفسار من طفل له من العمر سنة واحدة، مفترضين فيه العقل والكلام: ما أطيبُ حالاتك وألذُّها؟ فربما يكون جوابه هو: عندما ألوذ بصدر أمي الحنون، بخوفي ورجائي وعجزي… ومن هنا وجد الذين كمل إيمانهم لذّة تفوق أية لذّة كانت في العجز ومخافة الله، حتى أنهم تبرءوا إلى الله براءة خالصة من حولهم وقوتهم، ولاذوا بعجزهم إليه تعالى، واستعاذوا به وحده، مقدمين هذا العجز والخوف وسيلتين وشفيعين لهم عند البارئ الجليل".14
الخوف اللذيذ... أو طريق المحبوبية:
إن الشعور بالمعية والرعاية يولّد في النفس ما يسميه بديع الزمان "بالخوف اللذيذ"15 الذي يقود إلى المحبة واتخاذ الوضع الجميل حسبما يحبه الله ويرضاه. والخوف أيضا "سوط تشويق يدفع الإنسان إلى حضن رحمته تعالى… ولئن كان للخوف من الله لذّة إلى هذا الحد فكيف بمحبة الله سبحانه؟"16 فيكون بإشهار العجز والخوف لذة في العلاقة مع المحبوب، تنشأ عنها المحبة، التي تقود إلى الانصياع والطاعة والإخبات.
ويجمع بين معاني الربوبية والعبودية وما ينشأ عنهما من خوف وتذلل ورجاء وتحلية في معرض تفسيره لسورة الفاتحة فيقول عند قوله تعالى: ﴿غَيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾: "...إن هذا المقام لكونه مقام الخوف والتخلية يناسب المقامات السابقة، فينظر بنظر الحيرة والدهشة إلى مقام توصيف الربوبية بالجلال والجمال، وبنظر الالتجاء إلى مقام العبودية في ﴿نَعْبُدُ﴾، وبنظر العجز إلى مقام التوكل في ﴿نَسْتَعِينُ﴾، وبنظر التسلي إلى رفيقه الدائمي أعني مقام الرجاء والتحلية، إذ أول ما يتولّد في قلب من يرى أمرا هائلا حس الحيرة، ثم ميل الفرار، ثم التوكل عند العجز، ثم التسلي بعد ذلك الأمر".17
إن الذي يستشعر عظمة الله ويخشاه في الغيب والشهادة تهون أمامه المصائب، أو تخفّ وطأتها على قلبه، وبما يُرزقه أيضا من رجاء يقوي الأمل في الله، ويدفعه للطمع في رحمته، فيلجأ مخبتا للدعاء ليرتفع البلاء أو يُقضى باللطف فيه، و "يتحصّن من كل مصيبة مستندا إلى التوكل، فيمنحه إيمانه هذا الأمان التام والاطمئنان الكامل…"18 ثم يضرب لأثر الإيمان مثلا فيقول: "فلو أصبحت الكرة الأرضية قنبلة مدمّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابدا لله ذا قلب منوّر، بل قد ينظر إليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصمدانية، ويتملاّها بإعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت -ولو كان فيلسوفا ممن يعد ذا عقل راجح- إذا رأى في الفضاء نجما مذنبا يعتوره الخوف ويرتعش هلعا ويتساءل بقلق: ألا يمكن لهذا النجم أن يرتطم بأرضنا؟…"19 بل إن انعدام الاطمئنان والأمان أدى ببعض كبار العلماء والأدباء في نهاية حياتهم إلى الانتحار.
إن للمعصية أثرا ماديا وآخر معنويا، يفوقه بما يتركه من ندوب قد لا تزول، فالأول يتنـزل عقابا وابتلاء بما يأخذه معه من بريء بجريرة مذنب مجاهر بالآثام، وذلك كما يحدث في كوارث الزلزال، حيث علّق بديع الزمان على واقعة معينة فقال بأنها أذاقت الناس "…مصيبة معنوية أدهى من مصيبتها المادية الفجيعة، تلك هي الخوف والهلع واليأس والقنوط التي استولت على النفوس …وعم القلق والاضطراب أغلب مناطق البلاد…"20 وهذا هو الأمر الثاني الذي جاء وصفه "بالأدهى".
إن القلب الذي لا يعمره الإيمان سدا في وجه الخطوب، ولا تملؤه الخشية من الله ردءا من خشية الأغيار: يتملكه الخوف من كل متكبر جبار، ويتحسّب لكل صيحة يترقب وقوعها عليه، فهذا علاجه أن يوجّه خوفه إلى من يُهاب حقيقة، "و الذي يخاف من الله ينجو من الخوف من الآخرين…21 وعليه أن يتأمل في مدلول الواحدية، وانطلاقا من معانيها يوصيه النورسي بالقول: "... فلا تتعب نفسك بمراجعة الأغيار، ولا تتذلل لهم فترزح تحت منتهم وأذاهم، ولا تحني رأسك أمامهم وتتملّق لهم، ولا ترهق نفسك فتلهث وراءهم، ولا تخف منهم وترتعد إزاءهم، لأن سلطان الكون واحد، وعنده مفاتيح كل شيء… تنحل عقد كل شيء بأمره، وتنفرج كل شدة بإذنه، فإن وجدته فقد ملكت كل شيء، وفزت بما تطلبه، ونجوت من أثقال المن والأذى، ومن أسر الخوف والوهم".22
هذا هو الحل الذي يقترحه بديع الزمان حتى لا يستغل الطغاة "الشعور العميق بالخوف" المركوز في فطرة الإنسان، "..فيلجمون به الجبناء …ويلقون في روعهم المخاوف، ويثيرون فيهم الأوهام …فيدفعونهم إلى التخلي عن أمور جسام من جراء مخاوف تافهة لا قيمة لها…"23 ويصوّر حالة هؤلاء بمن يدخل في فم الثعبان لئلا يلسعه البعوض.24
إن الشفاء من ألم الخوف الذي يزيل لذّة الحياة الدنيوية "…أن ينصت الإنسان بالتسليم لدعوة القرآن، فينقلب العجز تذكرة دعوة للاستناد إلى القدير المطلق، والاتصال بسر التوكل بنقطة استناد فيها أمن وأمان من الأعداء… "وكان قد ذكر أنّ التداوي بالقرآن يحيل "..الفقر المطلق الأليم شوقا لذيذا إلى ضيافة الرحمة، واشتهاء لطيفا لتناول ثمرات رحمة الرحمن، فتزداد لذة الفقر والعجز بمراتب على لذة الغناء والقوة…"25
ويذكر واقعة في هذا المجال يستعين بإقناع الخائف فيها بالعقل بعدما أعيته الوسائل الأخرى، فقد ذكر أنه كان بصحبته عالم جليل يتهيب ركوب الزوارق، ولم يكن لهم بد من عبور الخليج إلاّ بها، فكان الحوار التالي: "…أخاف، ربما نغرق، قلت له: كم يقدر عدد الزوارق في هذا الخليج؟قال: ربما ألف زورق، قلت: كم زورقا يغرق في السنة؟ قال: زورق أو اثنان، وقد لا يغرق في بعض السنين، قلت: كم يوما في السنة؟ قال: ثلاثمائة وستون يوما، قلت: إن احتمال الغرق الذي استحوذ على ذهنك، وأثار فيك الخوف هو احتمال واحد من بين ثلاثمائة وستين ألف احتمال، فالذي يخاف من هذا الاحتمال لا يعد إنسانا ولا حيوانا، ثم قلت له: ترى كم تقدّر أن تعيش بعد الآن؟ قال: أنا شيخ كبير، ربما أعيش عشر سنوات أخرى، قلت: إن احتمال الموت واقع في كل يوم، حيث الأجل مخفي عنا… أي لك ثلاثة آلاف وستمائة احتمال للموت، فليس أمامك إذن احتمال واحد من بين ثلاثمائة ألف احتمال -كما في الزورق- وإنما احتمال من بين ثلاثة آلاف احتمال، فلربما يعدّ ذلك خوفاً مشروعاً من باب الحيطة والحذر. أما إن كان الخوف ناشئاً من احتمال واحد من بين عشرين أو أربعين احتمالاً فليس هذا خوفاً، وإنما وهمٌ يستولي على الإنسان ويجعل حياته عذاباً وشقاءً".26
التسليم وخفايا الابتلاء:
تتأرجح حياة الإنسان بين معاقد الأمل، تراوده في الحقيقة تارة وفي الخيال تارة أخرى، وبين فترات ألم قد تسلمه -إذا طالت- إلى يأس يقعده أو تبرم يضيره، ولا ينجيه إلاّ التسليم بسنة الابتلاء يقدّر، واعتقاد في حكمة البلاء يتنـزل، يُفتتن بخيره وشره من يدين لله بالوحدانية، تنمو به بذرة الخوف في النفس حينا، وتزهر به نبتة الرجاء حينا آخر، ولذلك ينبغي اعتبار الآلام والأوجاع الروحية "...أسواطا ربانية تحثّ على المجاهدة والصبر، إذ تقتضي الحكمة الحيلولة دون الوقوع في اليأس، وكذلك دون البقاء في الاطمئنان والأمان، وذلك بالموازنة بين الخوف والرجاء، مع التجمل بالصبر والتحلي بالشكر".27
ويعرض بديع الزمان لتجربة شخصية أفضت به إلى شعور باليأس والأسف على ما صدر منه -بسبب غفلة الشباب- من "آثام وذنوب… فصرخت من أعماقي أطلب إمداد العون وضياء الرجاء، وإذا بالقرآن الحكيم المعجز البيان يمدّني ويسعفني، ويفتح أمامي باب رجاء عظيم، ويمنحني نورا ساطعا من الأمل والرجاء، يستطيع أن يزيل أضعاف أضعاف يأسي، ويمكنه أن يبدد تلك الظلمات القائمة من حولي".28
والموت باعتباره بلاء يحيق بالإنسان من كل جانب لا يمكن تجاوز القلق الذي يحدثه إلاّ بالاستسلام والتسليم بوجود حكمة في كل ما يفعله الله، ومنها أن يبقى القلب معلقا بين الخوف والرجاء، ولو كان العمر معلوما لكان القلق أشد، فمن رحمة الله -عند المقارنة- أن يؤثر نفسه بمعرفة الآجال، وإلاّ "…لقضى هذا الإنسان المسكين نصف عمره في غفلة تامة، ونصفه الآخر مرعوبا مدهوشا، كمن يساق خطوة خطوة نحو حبل المشنقة، بينما تقتضي المحافظة على التوازن المطلوب بين الدنيا والآخرة ومصلحة بقاء الإنسان معلقا قلبه بين الخوف والرجاء: أن تكون في كل دقيقة تمر بالإنسان إمكان حدوث الموت، أو استمرار الحياة، وعلى هذا يرجح عشرون سنة من عمر مجهول الأجل، على ألف سنة من عمر معلوم الأجل".29
ويذكر النورسي سرا آخر من أسرار الإخفاء، فلو كان يوم القيامة معلوما "...لدخل قسم من الحقائق الإيمانية ضمن البدهيات، أي يصدق بها الجميع، سواء أرادوا أو لم يريدوا، ولاختلّ عندئذ سر التكليف وحكمة الإيمان المرتبطان بإرادة الإنسان واختياره."30
ومن بواعث الخوف والرجاء، ودواعي التذلل والتضرع، وأسرار الابتلاء في المنع والعطاء: تغييب تفاصيل بعض الظواهر الكونية التي لا تخضع للضوابط والقوانين وإن وسعت ظواهرَها الكلية عوالم الأسباب. ومن ذلك ظاهرة المطر إذ لا يستطيع علم البشر أن يحدد وقت نـزول الغيث قبل اقترابه من عالم الشهادة، وحكمة ذلك أن "...يضطر كل فرد في كل وقت وفي كل أمر إلى الشكر وإظهار العبودية، وإلى السؤال والتضرع والدعاء، إذ لو كانت تلك الأمور (جزئيات الغيث) على وفق قاعدة معينة لانسدّ باب الشكر والرجاء منه تعالى استنادا إلى القاعدة المطردة… "وحتى لا يتهم النورسي بالجهل بقوانين الطبيعة أو تجاهلها، أو بالعجز عن تفسير العلاقة بين عالم الغيب وعالم الشهادة في هذا المجال يسارع إلى البيان فيقول: "…أما الإحساس بالأجهزة في المراصد عن مقدمات وقت نـزوله... فليس علما بالغيب، بل هو علم بالاطلاع على بعض مقدمات نـزوله، حينما يقترب إلى عالم الشهادة بعد صدوره من الغيب…"31
وفي تفسير فلسفي للعلاقة يراعي التقيد بالأسباب سعيا وكسبا، والإيحاء الإيماني بطلاقة القدرة فعلا وتأثيرا فيؤصّل الرجل لمثل هذه الظواهر الغيبية فيقول: "...إن العزّة والعظمة تقتضيان أن تكون الأسباب حجبا بين يدي القدرة الإلهية أمام نظر العقل، إلاّ أن الجلال والوحدانية يقتضيان أن تسحب الأسباب أيديها وترفعها عن التأثير الحقيقي".32
الرزق... أو طريق الإذلال:
ومن المسائل التي أّبهمت أسباب المنع والعطاء فيها، وتفلّتت بإذن ربها عن قانون التلازم الصارم، لتتجلى بذلك حكمة الإخفاء بإشهار التذلل والترقب، ولتمتحن عقائد الناس فيزداد تعلق البعض بربهم، أو تسقط همم بالحرص والطمع: مسألة الرزق التي وصفها النورسي بأنها "أغنى منبع يعبّ؟ (يفيض) بالشكر والحمد، وأجمع كنـز للعبودية والدعاء وضروب الرجاء..." وذكر بأنه يبدو "...كأنه مبهم ومشدود إلى المصادفة..." والغرض من ذلك أن لا "...يوصد باب طلب الرزق بالدعاء من الرزاق الكريم في كل حين، ولئلا ينغلق باب الالتجاء والتوسل المشفع بالحمد والشكر لله تعالى…" ثم ذكر سبب هذا الإبهام أو الإخفاء فقال: "...لو كان الرزق معينا كشروق الشمس وغروبها... لكانت أبواب الرجاء ومنافذ التضرع ومعارج الدعاء الملفعة كلها بالشكر الجميل والرضى الحسن قد انسدّت عن آخرها، بل لكانت أبواب العبودية الخاشعة الضارعة قد انغلقت نهائيا".33
والحديث عن الرزق قد أولاه النورسي عناية خاصة من حيث تعلقه بالعبودية والتوكل تحقيقا أو انتقاضا، والكلام السابق جزء من تلك العناية، أما الجزء الذي قد يفوقه أهمية فهو الاعتقاد الشائع بتلازم سببي بين السعي وبين الكسب والتحصيل، تُسند فيه العطايا إلى الساعي، وتذوي به رسوم عبادة تعلن، فضلا عن عبودية تقوّض أركانها أنفاس زهو مكتوم بتحصيل كسب أو تحقيق ظفر.
ويعالج هذا الأمر وغيره بالقول: "الإنسان مغرم بالرزق كثيرا، ويتوهم أن السعي إلى الرزق يمنعه عن العبودية، فلأجل دفع هذا التوهم، ولكي لا يتخذ ذريعة لشرك العبادة تقول الآية الكريمة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾الذاريات:56 وتحصر الغاية من الخلق في العبودية لله، وأن السعي إلى الرزق -من حيث الأمر والنهي- عبودية لله أيضا… والرزق أنا به زعيم، فواجبكم الأساس هو العبودية، والسعي على وفق أوامري للحصول على الرزق هو بذاته نوع من العبودية".34
وبسبب الغفلة عن عقيدة الرزق، وخلو القلب من معانيها ينشأ الحرص بديلا، تنمو بوادره شيئا فشيئا، فيحيله التكاثر إلى طمع يذل صاحبه، وإذا غلبت هذه الطباع على المجتمع يغدو التنازع على الحطام مسلكا يقود إلى إفساد العلائق وخراب الذمم، يقول بديع الزمان: "...الحرص داء كالعداء، بل هو أضر على الحياة الإسلامية وأدهى عليها، نعم، الحرص بذاته سبب الخيبة والخذلان، وداء وبيل ومهانة ومذلة، وهو الذي يجلب الحرمان والدناءة..." ثم يضرب لذلك مثلا بمن شاعت عنهم هذه الطباع والخصال، وغدوا عنوانا للمذلة والهوان "...إن الشاهد القاطع على هذا الحكم على الحرص هو ما أصاب اليهود من الذلة والمسكنة والهوان والسفالة، لشدة تهالكهم على حطام الدنيا أكثر من أية أمة أخرى… "ثم يربط بين ذلك وبين التوكل فيقول: "...والحرص يظهر تأثيره السيّء بدءا من أوسع دائرة في عالم الأحياء، وانتهاء إلى أصغر فرد فيه، بينما السعي وراء الرزق المكلل بالتوكل مدار الراحة والاطمئنان، ويبرز أثره النافع في كل مكان".35
وكعادة الرجل في ضرب الأمثلة لتأكيد المعنى يلفت الأنظار إلى مفارقة عجيبة بين النبات والحيوان، حيث تساق الأرزاق سوقا إلى من لا يبرح مكانه، ويُعيي الحراكُ من عُرف بالعدو فلا يبلغ بعض غايته إلاّ بالجهد الجهيد يبذله "…فالأشجار ...تهرع إليها أرزاقها سريعة وهي منتصبة في أماكنها متسمة بالتوكل والقناعة، دون أن يبدو منها أثر للحرص، … أما الحيوانات فلا تحصل على أرزاقها إلاّ بعد جهد ومشقة، وبكمية زهيدة ناقصة، ذلك لأنها تلهث وراءها بحرص…"36
التسليم والصبر... أو سياج العبودية:
و إذا كان سرّ العبودية هو التذلل والتضرّع فإن من خصائصها التسليم والصبر، وكلٌّ من الأمرين يستدعي أحدهما الآخر، وقد يكون التسليم أضمن لتحمل مشاقّ العبادة بمفهومها الشامل، وقد يُقال: إنّ التسليم إذا افتُقد لم تصحّ معه العبودية وإن صحّت العبادة، وهذا مأخوذ من استلزام العبودية "للتسليم دون اختبار وتجربة وامتحان، إذ أن للسيّد أن يختبر عبده، وليس للعبد أن يختبر ربّه".37 وجدوى التسليم أنه ييسر مدارج الصابرين في تطلّبهم لمقام العبودية الكامل، ولما كان الحرص سبباً للحرمان فإن الصبر طريق للفرج، وفي معرض شرحه لمعية الله للصابرين والمتّقين يذكر الصبر عن المعصية الذي يقود إلى التقوى، والصبر عند المصيبة الذي تُنال به محبّة الله وَاللّٰهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾"آل عمران:146 وعدم الصبر يتضمّن الشكوى من الله... واتهام رحمته ورفض حكمته... والإنسان الضعيف العاجز يتألم ويبكي من ضربات المصيبة ويشكو، ولكن يجب أن تكون الشكوى إليه لا منه كما قال سيّدنا يعقوب ﴿إِنَّمَا اَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّٰهِ﴾.يوسف:86 38
و الدرجة الثالثة من أقسام الصبر: الصبر على العبادة "الذي يمكن أن يبلّغ صاحبه مقام المحبوبية فيسوقه إلى حيث المحبوبية الكاملة التي هي أعلى مقام".39 والتعبير من النورسي بـ "يمكن" يعني أنه لمّا يبلغها بعد، وذلك -ربما- لأن هذا المقام ببلوغه تخلو حال السالك من المعاناة التي تقتضي الصبر، ويدخل في مكابدة الشوق والتلذّذ باللقاء، ويغدو حينها الصبر ترقّباً للمناجاة.
الحذر من الإدلال أو مزالق العبودية:
وحذّر النورسي أيضا من العلل التي تتسرّب في ثنايا الطاعة، فتحيلها إلى معصية أشدّ فتكاً من المعصية التي تُجترح، ويعيش بذلّها العاصي مخبت القلب، حيي المسلك، يتحسّس من فداحة الجرم، ويتوجّس من مكرٍ يحيق، أو عقاب يتنـزل. يقول في هذا الصدد: "ويُخشى أن ينقلب من التضرّع والتذلل لله اللذين هما سرّ العبودية إلى الإدلال والطلب والدعاوى، فيطيش صوابه ويتحرّك مختالاً بمحبته دون ضوابط أو موازين."40 فهذه غفلة عن حقيقة العبودية، وذهول عن نواقض تتبدّى من خلال تذلّل يعقبه تمنّن، ويصيبها الإدلال في مقتل، إذ يُتوسَّل برسومها إلى استشراف ينفي عنها سراً يلازمها.
وفي تمييز لا تخفى دِلالته- لمنهجه عن الطرائق الأخرى يؤكّد المعاني السابقة من خلال ربطها بصنيع "أهل الأذواق والأشواق من أصحاب الطرق عندما ينصرفون إلى الفخر والادّعاء، وإشاعة الشطحات وطلب توجه الناس، ونيل المرجعيات الدينية، ويفضّلون هذه العجالات على الشكر والتضرّع والحمد والاستغناء عن الناس، بينما عبودية محمد صلى الله عليه وسلم هي أسمى مرتبة في العبودية، تلك العبودية التي نستطيع وصفها بالمحبوبية أو عبودية المحبة."41
لعل من أعظم الوسائل التي تحققها في النفس وترسّخها في الوجدان هي الصلاة والدعاء، فأما الصلاة "فأساس العبودية"42 والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه "يحتاج إلى الصلاة من حيث العبودية"،43 وأما الدعاء "فسرّ من أسرارها"،44 ويتجلّى ذلك في صلاة الاستسقاء أيضاً، حيث يؤدي انحباس المطر إلى كلّ الشرور "ويدرك الإنسان حينئذ عجزه وفقره، فيلوذ بالدعاء والتضرّع إلى باب القدير المطلق..."45 وما أروع التعبيرات التي تستعمل للنفاذ بالمعاني إلى القلوب إذ يصف تأثير القرآن الكريم في هذا المجال "بجلباب العبودية"46 وفريضة الصيام بوشاح يتقلده الصائم.47
أما عبدة الأسباب "فسدوا سبيل العبودية إلى الله، وغلّقوا أبواب العجز والضعف والفقر والحاجة والقصور والنقص المندرجة في فطرة الإنسان، فضلوا في أوحال الطبيعة، فما نجوا من حمأة الشرك كلياًّ ولا اهتدوا إلى باب الشكر الواسع."48 وهم مع ذلك يعقدون صفقة خاسرة حين يستبدلون الأدنى بالذي هو خير، فيهربون من التذلل للخالق ليقعوا في ذل أمام المخلوق، "والذي يستنكف من العبودية ويتجاهلها، فسيكون عبداً ذليلاً أمام المخلوقات العاجزة..."49 ويحذّر بديع الزمان هؤلاء من أن تقودهم أنانيتهم شيئاً فشيئاً إلى خصال الطغاة الذين تستغرقهم لذائذ الدنيا فتحجزهم عن وظائف العبودية50 وينقاد الذليل إلى الذليل حتى ولو نافس الأذلّ منهما ربّه في أردية الكبر والاستعلاء. وما دام التعلّق بالأسباب هما للضعاف فستبقى المذلة والمهانة تسكن النفوس حتى وإن تظاهر من يتجرعها بعكس ذلك لإيهام الناس، وهو يعلم أنه لا يستطيع أن يوهم نفسه.لكن التعلق بها شيء وإهمالها شيء آخر، والثاني منهما غير مراد "لئلا يكون متمردا في مقابلة النظام المودع بحكمته ومشيئته تعالى، لأن التوكل في تلك الدائرة (أي دائرة الأسباب) عطالة كما مر".51
وهذا الأمر يوليه الرجل أهميّة تلفت النظر من حيث ربطه بنـزق النفس التي يستهويها التمرّد حتى تبلغ شأواً لا يمكنها التراجع عنه، وذلك مثلما حدث من "مدعي الألوهية والربوبية من الملوك والأباطرة والفراعين... وما خلّفوه وراءهم من جروح وآلام في حياة الشعوب والحضارات."52 وكأن النورسي يريد أن يصرف الأنظار قليلاً عن هؤلاء الفراعنة، ليشير إلى أن كلّ إنسان يحمل بين جنبيه نفساً قد تورده المهالك، بما تحمله من جموح لا يُشترط أن يتبوّأ أصحابه المناصب حتى يصرّفوه ويأثموا، وكل نفس يصدر عنها قدر من الظلم على قدر حجمها وقوّتها، وقد يكون حينها البلاء أشدّ مع العائل أو الضعيف حين يتطاول زهواً واستكباراً، ولذلك يحذّر الرجل من هذا الداء الذي لا تقتصر الإصابة به على من يدّعيه أو يمارسه، فقد تصيب الإنسان نـزغة من نـزغات الربوبية والمالكية تسدّ عليه طريق العبودية إلى نهايته، وبقدر "علمك ببعدك عن الربوبية والمالكية تصير عبدا محبوبا".53
"وحرصاً من الإسلام على أن تظلّ نفس المسلم صحيحة: فقد حثّ القرآن على مجاهدة نـزق هذه النفس وحذّر من تمرّدها وعصيانها لخالقها، واعتبر مجاهدتها واجباً إيمانياً لا يقلّ أهمية عن واجب مجاهدة العدوّ، بل يزيد عليه، لأن العدوّ الذي يريد الشرّ بالبلاد والعباد بيّن ظاهر للعيان بسلاحه وعدته وعدده، نواجهه ونحن نرى ونسمع، فيجتمع عليه كياننا كله، وتتهافت عليه حواسّنا جميعاً، وتتعاون على قهره طاقاتنا بأسرها، أما النفس العاصية لله فهي عدو خفيّ لا نراه ولا نحسّ بعداوته، لأنها تسري في وجودنا كله وتجري منا مجرى الدمّ.. ولا نعرف من أين تهاجمنا، ومن أي ثغرة تتسلّل إلى مقاتلنا وأيَّ سلاح رهيب من أسلحتها تجربه فينا، لذا يتعيّن علينا أن نبقى حذرين دائمي الحذر، متيقظين دائمي التيقّظ، نرصد حركاتها ونراقب مناوراتها، ونأخذ منها زمام المبادرة..." 54
ولعل جزءا من علاج التذلل لما سوى الله هو في تحقيق معنى العبادة والاستعانة الواردة في قوله تعالى ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فهذا النظم "كنظم الأجرة مع الخدمة، لأن العبادة حق الله على العبد، والإعانة إحسانه تعالى لعبده، وفي حصره "إياك" إشارة إلى أن بهذه النسبة الشريفة التي هي العبادة والخدمة لله تعالى يترفع العبد عن التذلل للأسباب والوسائط، بل تصير الوسائط خادمة له، وهو لا يعرف إلاّ واحدا، فيتجلى حكم دائرة الاعتقاد والوجدان... ومن لم يكن خادما له تعالى بحق يصير خادما للأسباب ومتذللا للوسائط".55
إنّ للنفس الأمارة مسارب تنفذ منها للتشويش والتشويه، فتعمد إلى المعاني النبيلة التي تنبئ عنها الرسوم والأسماء، فتشرك معها في الدلالة أحوالاً تدَّعى بها القربى من المحبوب، وإنما هو الهوى يُلبَس لبوس القيم الجميلة لاشتراكها في الإطلاق، فتختلط القصود، وينصرف القلب عن وجهته الأولى، وهو ما يشير إليه بديع الزمان حين يحذّر من "أن تتحوّل المحبّة من المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي أثناء توجّهه بالمحبة إلى ما سوى الله، فتنقلب عندئذ من دواء شافٍ إلى سمّ زعاف، إذ يحدث أحياناً أنّ المحبّ يتوجّه إلى صفات المحبوب -من دون الله- وإلى كماله الشخصيّ وجماله الذاتي من دون تذكّر الله ورسوله، مع أن الواجب عليه عند التوجّه بالحبّ لما سوى الله أن يكون هذا الحبّ في الله ولله، فيربط قلبه به من حيث كونه مرآة لتجلّي أسمائه الحسنى..."56 ويزيد الأمر بياناً فيقول: "إنّ مثل هذا الحبّ بالمعنى الاسمي لا يكون وسيلة لحبّ الله، بل ستاراً من دونه..."57
العبودية... وسبيل ترسيخ الحرية:
وقد يُثار ههنا على بديع الزمان سؤال مهم مفاده: ألا يوحي تأكيد معاني العبودية بأنه لم يترك للحرية مجالاً تسيح فيه؟ أو بعبارة أخرى: ألا يمكن القول بأن ترسيخ معانيها على وفق الرؤية النورية تجعل العبد ذليلاً مستكيناً أمام الله وأمام الناس أيضاً، فيصاب بعطالة على مستوى حياته الدنيا لا ينقذه منها إلاّ شعار في الجهة الأخرى يتفلّت به من كلّ عقال؟
ويمكن القول جواباً على هذا السؤال: إن العبودية التي يريدها الرجل هي تلك الحالة التي تجعل المسلم يستسلم لله وحده، ويسلم قياده له لا شريك له، ليخرج من قلبه كل الأرباب، ولتفقد كل الربوبيات بريقها أو سطوتها، فيغدو القلب العامر بذكر الله خالياً من كل خوف أو رجاء إلا منه سبحانه، "فمن كان عبداً لله لا يكون عبداً للعباد"،58 ومن "أراد العبودية الخالصة لربّ العالمين لا ينبغي له أن يذلّ نفسه فيكون عبداً للعبيد، وإن جني فوائد الحرية الحقة والاستفادة منها استفادة كاملة منوط بالاستمداد من الإيمان."59 و "المؤمن حرّ في ذاته، فالذي هو عبد لله رب العالمين لا ينبغي له أن يتذلل للناس، بمعنى: كلّما رسخ الإيمان قويت الحرية."60 ومفهوم هذه القاعدة عند بديع الزمان أنه كلما قلّ الإيمان كلّما ازدادت فرص الوقوع في الأسر، أو كلما آنست طبائع الاستبداد فراغاً في القلوب ملأته بالدينونة للربوبيات التي تنشئها، وفي عبارة رائعة يؤكد فيها الترابط السابق فيقول: "فبمقدار قوّة الإيمان تتلألأ الحرية وتسطع"،61 ويذهب أبعد من ذلك حين يقرر -على خلاف ما هو شائع- بأنّ "الحرية بالنسبة للإنسان تولّد العبودية لله سبحانه"،62 والمعنى أن الاستبداد قد يلجئ الأفراد إلى ممارسة حرّياتهم في جوف الليل وأجواء السحر، أما الحرية فتشيع العبودية هواء يتنفسه الناس جهراً، وتتحقق بذلك الدينونة لله على مستوى المجتمع كله.
ولا يتردد الشيخ في الحسم، ولا يتعثّر في بيان الحقائق -كما جرت عادة بعض الذين يكبر عليهم التجرّد أو تأسرهم أهواء التعصّب أو التحزّب- فنراه يردّ على شبهة يمارسها الأتباع، باعتقاد أو بغيره، وهي تغليب بعض المعاني المشار إليها على حساب الحرية، يورد السؤال فيقول: "نحن عوامّ، كيف نصير أحراراً تّجاه الشخصيات الكبار، أو الأولياء والصلحاء والعلماء العظماء، أوَليس من حقّهم أن يتحكموا فينا لمزاياهم، فكيف لا نكون أسارى فضائلهم؟"63 والسؤال قد لا يكون بهذا البيان من السائل المفترض، ويبدو أن الشيخ -على افتراض توجيه السؤال فعلاً- قد زاده بما يعرف من خفايا النفوس ومزالق التقليد توضيحاً وجلاءً، وكثيراً ما نلاحظ هذا المسلك عند أتباع المدارس الطرقية مما كان أتباع المدارس الفكرية ينعونه عليهم حتى وقعوا في مثله، أو أسوأ منه في بعض الحالات.
يقول بديع الزمان في الجواب: "إنّ شأن الولاية والمشيخة والعظمة: التواضع والتجرّد، وهما من لوازم الفضيلة وخصائص الكمال ورفعة الشأن، لا التكبّر والتحكّم، فمن تكبر فهو صبيّ متشيّخ وطفل متكهّل فلا تعظّموه."64 ويبدو أن الرجل ذهب بعيداً وهو يجلّي هذه الحقائق، حتى أشفق عليه الأتباع مما يمكن أن يلحقه من أذى قد لا يقدر عليه، ذلك أنه قد يأتي ممن يُفترض فيهم القرابة الروحية والفكرية، ولأن "مناكفتهم" تُفهم على غير حقيقتها، وليست كتلك التي يواجه بها خصوماً لا يتورّعون عن إعلان التحلّل والتهتّك. وفي هذه الأجواء سأله السائل: "الهجوم على المشايخ الذين وقعوا في البدع فيه خطر عليك، لأن فيهم أولياء، ألا تخاف أن تصيبهم بجهالة فتصبح على ما فعلت من النادمين؟"65 فأجاب: "إن المولى جلّ جلاله قد وسم بقدرته على جباههم الرفيعة نقش الحقيقة، ومرادي أن أرشد من طاش فهمه عن ذلك النقش، نعم إن هجومي ليس عليهم بل لهم، وذلك لئلا يقلل من شأنهم غير الكفوئين "كذا" الذين يتزيون يزيّهم، فعلى هذا أعلن ولا أبالي: أني على عزم جازم أن أقتحم المهالك -أيًّا كانت- أمام ما أصبو إليه من سلامة الإسلام، ولن يثنوني عن عزمي بالتهديد والتخويف."66
الحرية الشرعية... وأحابيل الاستبداد:
ولكي يميّز الرجل نفسه عن الدعاة المزيفين للحرية -والذين أشار إليهم في أكثر من موضع، حيث يتخذون الشعار ستاراً لممارسة صور للاستبداد أبشع، أو يقصرونها على مظاهر التهتك والتخلّع- يضفي عليها وصف الشرعية قيداً للتميز، مع الحفاظ على أهمّ أركانها، وهو التحلّل من كل خضوع لما سوى الله، وذلك في قوله: "إن الحرية الشرعية النابعة من الإيمان إنما تأمر بأساسين: ألا يذلَّل المسلم ولا يتذلّل، من كان عبداً لله لا يكون عبداً للعباد، وألاّ يجعل بعضكم بعضا أرباباً من دون الله..."67 ويبرّر ذلك بأن" من لا يعرف الله حقّ معرفته يتوهم الربوبية في كل شيء، في كلٍّ حسب نسبته فيسلّطه على نفسه".68 ولمّا كانت المعاني والمفاهيم تتميز أكثر بالأضداد عرّف الحرية التي ينتفي عنها وصف الشرع فقال: "إن الحرية الخارجة عن دائرة الشرع إنما هي استبداد أو أسر بيد النفس الأمارة بالسوء، أو بهيمية أو وحشية..."69
ويبين في موضع آخر آثار الابتعاد عن هذه الحرية، وهو ما ينبئ عن خبرة بطرائق الاستبداد، وتوق إلى الحرية الحقيقية فيقول: "إن لم تنضبط الحرية بالشريعة فإن ما أطلقتموه من استبداد ضعيف جزئي اضطرّ إليه شخص، يصبح استبداداً عظيماً يوزّع على الناس كافة، ويغدو كل شخص مستبدا بذاته، فيتولّد عندئذ استبداد مطلق، وينقلب الاستبداد الواحد إلى الألوف، بمعنى أن الحرية ستموت، ويولد استبداد مطلق".70
إن فهم الرجل لحقيقة العبودية وفقهه بنوازع الاستبداد جعلاه يحذر من كل الدعوات التي عاصرها، ولاحظ بعضها وهي تطلّ بقرنها لتسُوس الناس بنفس الاستبداد السابق أو بأقبح منه مع تجديد في الوسائل والأساليب، ومع تسليم الرجل بما لا يزال يتردد إلى اليوم من قلة وعي الدعاة، أو انعدام خبرة تؤدي إلى الوقوع في الفخاخ المنصوبة، يباهي الرجل بأن المسلمين ينخدعون ولا يخدعون، ومع ذلك -ولحساسيته المفرطة فيما يبدو تجاه أساليب الخداع التي عايشها- فإنه يستدرك قائلاً: "...ولكن لأنني قد عاهدت المشروطية الحقيقية المشروعة سأصفع الاستبداد إن قابلته في أي لباس كان، حتى ولو كان لابساً لباس المشروطية، أو تقلّد اسمها".71
إنه وعي مبكّر لدى هذا المربي، أفلح به في تجاوز أحابيل الاستبداد غير المرئيّة، كما تجاهل به صوراً للتعصب وولاء غير مبصر، فتتكرّر الخطيئة تحت شعار آخر، وهذا مردّه إلى إهمال المقاصد والتعلّق بالمظاهر، فتنطلي على الناس دعاوى تتستّر بها على ما يناقضها، أو شعارات تطمئن الناس إلى حين، ثم لا تلبث أن تنتج لهم نفس السلعة التي يكرهون.
هناك أقوال تصدر عن الرجل، أو تصحيح لفهم يقيم به وعي من يحب، لا يملك من يقرؤه أو يقف عليه إلاّ أن يُسرّ إعجابا يتملّكه، أو يكتم تقديرا لفقه في القضايا الشائكة تخطه يمينه، ويتلقفه منه التابع والمريد، فقد جاءه مزهوا بحاله من يسأله مستدركا: "...نحن معاشر البدو أحرار منذ القدم، وولدت حريتنا توأما معنا، فليفرح بها الآخرون من غيرنا، والأمر لا يهمنا".
وكان جواب الرجل مزيجا من ثناء يشبع الغرور المعلن، يكسره له بعد ذلك في سياق البيان الدقيق لمعنى الحرية الذي ينبغي أن "تهذّب" به طباع البداوة المرسلة، ليتمتع بشمسها المشرقة الآخرون أيضا، قال بديع الزمان للسائل المستنكر: "نعم، إن حب تلك الحرية والشغف بها هو الذي جعلكم تتحملون مشقات البداوة التي لا تطاق، وإن سلوككم المفعم بالقناعة هو الذي أغناكم عن محاسن المدنية البراقة، فزهدتم فيها، ولكن أيها البدو: إن ما لديكم من الحرية هو نصفها، والنصف الآخر هو عدم المساس بحرية الآخرين، ثم إن الحرية الممزوجة بالبداوة وبالعيش الكفاف توجد منها أيضا في حيوانات الجبال والبراري القريبة منكم… ولكن أين أنتم من تلك الحرية الإنسانية الساطعة كالشمس، وهي معشوقة كل روح، وصنو جوهر الإنسانية، وما هي إلاّ التي تربّعت على قصر سعادة المدنية، وتزيّنت بحلل المعرفة، وحليّ الفضيلة والتربية الإسلامية."72
التوكل والتواكل... أو محاذير الأسباب:
تعرّض مفهوم التوكّل من قبل طوائف وجماعات إلى تفسيرات أسلمته إلى مسلك التواكل الذي عُدّ من قبل بعض المصلحين والدعاة من أهمّ أسباب الوهن الذي يعصف بالأمة، باعتبار أن المفاهيم المغلوطة تؤثر سلباً على وعي المجتمع، فيستقرّ في روعه أنه على الجادّة، ولا يسعى إلى تغيير يقلع به عن أسباب التخلّف، وهذه من أخطر حالات المرض حين يعتقد العليل سلامته فلا يبحث عن شفاء.
والفضل في تصحيح هذه المفاهيم يرجع إلى دعوات تنبهت منذ بدايات القرن الماضي لمثل هذه الأدواء، وأعملت في وعي الأمة مبضع جرّاح أفلح في استئصال معظمها، ومنها ما أصاب الأمة من تواكل وكسل، وفهمت الأجيال الجديدة أهميّة الأخذ بالأسباب والسعي للتغيير، غير أنّ الإيغال في هذا قاد إلى التعلّق الذي أدّى بدوره إلى الغفلة عن خالق الأسباب، فوقع البعض في غلوّ آخر قد يكون أخطر من سابقه.
ومن الكتابات التي تألّق فيها بديع الزمان -بالرغم من ظروف الموقع زماناً ومكاناً- موضوع التوكّل تحقيقاً وممارسة، والمتعلّقون بالظاهر قد يصدرون حكماً على الرجل يضعونه به ضمن التصنيف التقليدي المعروف، فيهضمونه حقه وحق الأجيال في المعرفة والوفاء، وكأنه خشي أن يُفهم خطأ بتركيزه على معاني العبادة والعبودية، فراح يسرع إلى وضع الأمور في نصابها، تارة بتقييد كلامه في إطلاق سبق، وتارة بإلحاق التقييد والاستدراك في الموضع نفسه، وهذا هو الذي سلكه مع مفهوم التوكل، حيث يربطه بمفاهيم عديدة يأخذ بعضها بحجز بعض: "فالإيمان إذن يقتضي التوحيد، والتوحيد يقود إلى التسليم، والتسليم يحقق التوكل، والتوكل يسهل الطريق إلى سعادة الدارين".73 ويوضح سعادة الدنيا بالتوكل فيقول: "نيل مقام التوكل ودرجة الرضى ومرتبة التسليم، هذه المقامات هي السبيل إلى تذوّق السعادة الحقيقية، والتسلية الخالصة، واللذة التي لا يشوبها حزن، والأنس الذي لا تقربه وحشة".74 ويوضّح سبل الوصول إلى هذه السعادة فيقول: إن المتوكل" يسلّم أعباءه الثقيلة أمانة في يد القدرة للقدير المطلق، ويقطع بذلك سبيل الدنيا مطمئن البال في سهولة وراحة حتى يصل إلى البرزخ ويستريح، ومن ثَمّ يستطيع أن يرتفع طائراً إلى الجنة للدخول إلى السعادة الأبدية، أما إذا ترك الإنسان التوكل فلا يستطيع التحليق والطيران إلى الجنة فحسب، بل ستجذبه تلك الأثقال إلى أسفل سافلين".75
وبعد التقرير والتأكيد يستدرك قائلاً: "ولا تظنّن أن التوكل هو رفض الأسباب وردّها كليا، وإنما هو عبارة عن العلم بأن الأسباب هي حُجب بيد القدرة الإلهية، ينبغي مراعاتها ومداراتها، أما التشبّث بها أو الأخذ بها فهو نوع من الدعاء الفعليّ، فطلب المسبَّبات إذن وترقب النتائج لا يكون إلا من الحقّ سبحانه وتعالى، وأن المنة والحمد والثناء لا ترجع إلا إليه وحده".76
إنّ تشبيه التسبب بالدعاء لا يضفي الشرعية على اقتفاء الأسباب فحسب، بل يرغب في اتباعها ترغيب الشارع في الدعاء، ولكنه في الوقت نفسه ينفي تعلّقاً يفضي إلى الاعتقاد فيها وفي تأثيرها، ويكون التوجه في الحالين لله وحده.
وفي جواب عن التخلّف، يبيّن أهمّ أسبابه بما يدعو إلى الإعجاب بنصاعة فكر يسوقه في أسلوب -إذا اقتُطع من السياق- لا ينبئ إلا عن مفكّر ندَبَ نفسه لتشريح واقع الأمة والهداية إلى أسباب الرقيّ والسعادة في الدنيا، بما ينأى به عن صورة تُرسم له، توحي بشخص متبتّل يلهج بالذكر والأوراد.
وحين نفهم من خلال كلامه أن السبب الأوّل في ذلك هو الفتور في السعي والتخلّف عن الكسب استناداً إلى الآية الكريمة: ﴿وَاَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾،النجم:39 فإن رسالته تكون قد وصلت، ولكنه حرص على إيصالها في أسرع فترة وأبهى حلة بتعبيره عما سبق "بانطفاء جذوة شوق الكسب"77 الذي يرجع بدوره إلى طائفة من الوعّاظ الجاهلين "الذين لم يدركوا أن إعلاء كلمة الله في الوقت الحاضر يتوقف على الرقي المادي، ولم يتفهّموا قيمة الدنيا من حيث هي مزرعة الآخرة... ولم يفرّقوا بين قناعتين بعيدتين عن بعضهما: القناعة في التحصيل والكسب، وهي المذمومة، والقناعة في المحصول والأجرة، وهي الممدوحة، ولم يتبيّنوا البون الشاسع بين التواكل الذي هو عنوان الكسل، والتوكل الذي هو صدفة الإخلاص الحقيقيّ."78
ولا يكتفي بما سبق حتى يزيد التواكل توضيحاً والتوكل بياناً وجلاء، والعلاقة الدقيقة بينهما كما ينبغي لها أن تستقرّ، فيقول عن التواكل: "هو تكاسل في ترتيب المقدمات، وهو في حكم التمرّد على النظام القائم بين الأسباب التي هي مقتضى مشيئة الله تعالى، والآخر (أي التوكل): هو توكّل إيماني في ترتب النتائج، وهو من مقتضيات الإسلام، والذي يقود صاحبه إلى التوفيق حتى في النتائج شريطة عدم التدخّل في التقديرات الإلهية."79
وعن السبب الثاني للتخلّف يذكر أمراً أزعم أنه يحوز سبقاً -وينبغي أن يلقى ذكراً وثناءً- بالتنبيه إليه، وذلك إذا استحضرنا عوائق الزمان والمكان، وظروف عزلة تُبعد عادة عن مجاراة وإحاطة، وتصنع وعياً قاصراً تفلّت منه الرجل بالإشارة إلى أمر استدركته الدعوات المشابهة لاحقاً بعد الخبرة والتجربة، يقول: "إن الطريق المشروع للمعيشة والسبيل الطبيعي والحيوي إليها هو الصناعة والزراعة والتجارة، أما الطريق غير الطبيعي فهو الوظيفة الحكومية والإمارة بأنواعها، وعندي أن الذين جعلوا مدار معيشتهم الإمارة -وإن تسمّت بأي اسم كان- فهم في زمرة الشحاذين العاجزين المتسوّلين..."80
وفي تلخيص آخر بديع يفكّ به الاشتباك بين التوكل والتواكل يقول: "فلكل مرتبة من هذه المراتب درجتها وقيمتها ومقامها، لا تتزاحم هذه المراتب، وإنما تشتبك فينشأ الاشتباه، ولا بدّ من التمييز، إذ كما لو مُزجت دائرة الأسباب بدائرة الاعتقاد تتولّد البطالة والكسل تحت اسم التوكّل، أو ينتج مذهب الاعتزال باسم مراعاة الأسباب، فإن المراتب والدوائر هذه إن لم تُفرز تنتج مثل هذه النتائج".81
* * *
الهوامش:1 د.محمد عبد النبي: جامعة الجزائر 1 (بن يوسف بن خدة)، كلية العلوم الإسلامية. 2 الكلمات: 1/52. 3 الكلمات: 1/413 بتصرف وانظر أيضا: المثنوي 6/341. 4 الكلمات: 1/292 بتصرف يسير. 5 الكلمات: 1/357. 6 الكلمات: 1/558. 7 المصدر السابق. 8 المصدر السابق. 9 المثنوي العربي النوري: 6/363. 10 الشعاعات: 4/83. 11 الشعاعات: 4/220. 12 المكتوبات: 2/540. 13 الكلمات: (1/558) وانظر 1/29. 14 الكلمات: 1/28-29. 15 الكلمات: 1/34. 16 الكلمات: 1/411. 17 إشارات الإعجاز في مظانّ الإيجاز: 5/35. 18 الكلمات: 1/13. 19 الكلمات: 1/13-14. 20 الكلمات: 1/195. 21 الكلمات: 1/411. 22 المكتوبات: 2/290. 23 المكتوبات: 2/535. 24 المصدر نفسه. 25 المثنوي العربي النوري: 6/361. 26 المكتوبات: 2/536. 27 الملاحق: 7/102. 28 سيرة ذاتية: 9/153. 29 الكلمات: 1/390. 30 الشعاعات: 4/106. 31 اللمعات: 3/168 وانظر: 3/562. 32 اللمعات: 3/562. 33 الشعاعات: 4/686. 34 اللمعات: 3/437. 35 المكتوبات: 2/351. 36 المكتوبات: 2/351. 37 المثنوي العربي النوري: 6/257. 38 المكتوبات: 2/362-363. 39 المكتوبات: 2/363. 40 المكتوبات: 2/582. 41 المكتوبات: 2/590. 42 الكلمات: 1/41. 43 الملاحق: 7/67. 44 الكلمات: 1/357. 45 المصدر السابق، وانظر أيضا الملاحق: 7/242. 46 الكلمات: 1/761. 47 المكتوبات: 2/513. 48 الكلمات: 1/642. 49 الكلمات: 1/360 بتصرّف يسير. 50 الكلمات: 1/448. 51 إشارات الإعجاز: 5/31. 52 المثنوي العربي النوري: 6/10. 53 المثنوي العربي النوري: 6/293. 54 المثنوي العربي النوري: 6/10- 11 المدخل. 55 إشارات الإعجاز: 5/31. 56 المكتوبات: 2/582. 57 المصدر نفسه. 58 صيقل الإسلام: 8/514. 59 صيقل الإسلام: 8/531 بتقديم وتأخير. 60 سيرة ذاتية: 9/98. 61 صيقل الإسلام: 8/395. 62 صيقل الإسلام: 8/394. 63 صيقل الإسلام: 8/395. 64 المصدر نفسه. 65 صيقل الإسلام: 8/421. 66 المصدر نفسه. 67 صيقل الإسلام: 8/514. 68 المصدر نفسه. 69 صيقل الإسلام: 8/535. 70 سيرة ذاتية: 9/78. 71 صيقل الإسلام: 8/453، وانظر: 9/84. 72 صيقل الإسلام: 8/394. 73 الكلمات: 1/353. 74 المكتوبات: 2/592. 75 الكلمات: 1/352. 76 الكلمات: 1/353. 77 صيقل الإسلام: 8/402. 78 صيقل الإسلام: 8/403. 79 المصدر السابق. 80 صيقل الإسلام: 8/403. 81 صيقل الإسلام: 8/60.

Yıl 2011, Cilt: 4 Sayı: 4, - , 01.12.2011

Öz

Toplam 0 adet kaynakça vardır.

Ayrıntılar

Birincil Dil Arapça
Bölüm ARTICLES
Yazarlar

د. محمد عبد النبي Bu kişi benim

Yayımlanma Tarihi 1 Aralık 2011
Yayımlandığı Sayı Yıl 2011 Cilt: 4 Sayı: 4

Kaynak Göster

APA النبي د. م. ع. (2011). تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, 4(4).
AMA النبي دمع. تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. Aralık 2011;4(4).
Chicago النبي د. محمد عبد. “تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 4, sy. 4 (Aralık 2011).
EndNote النبي دمع (01 Aralık 2011) تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 4 4
IEEE النبي د. م. ع., “تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي”, النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, c. 4, sy. 4, 2011.
ISNAD النبي د. محمد عبد. “تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 4/4 (Aralık 2011).
JAMA النبي دمع. تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2011;4.
MLA النبي د. محمد عبد. “تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, c. 4, sy. 4, 2011.
Vancouver النبي دمع. تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2011;4(4).