منهج التربية عند النورسي
د.محمد قنديل1
مقدمة
يعتبر المنهج من أهم موضوعات التربية، فهو لب عملية التربية، والأساس الذي ترتكز عليه. كما يعتبر القنطرة الحيوية التي تصل الطالب بالعالم المحيط به.كما أنه الوسيلة الرئيسية التي يصل بها المجتمع من خلال الطالب إلى ما يبغيه من أهداف وآمال.
والمفهوم الحديث للتربية يقوم على أن "المتعلم" هو مركز عملية التربية، وذلك من خلال مكوناته العقلية، والجسمية، والوجدانية إذ هي ثلاثة أبعاد متوازية. كما أن هذه التربية تضع اهتمامات الفرد وحاجاته ومشكلاته موضع الاهتمام عند بناء المنهج التربوي أو تنفيذه وكذلك الأمر بالنسبة لخبراته السابقة.
كما يرتكز هذا المفهوم الحديث للتربية على "المعلم" الذي يقوم بدور التخطيط والتوجيه والمتابعة.
وعملية التربية إنما هي تخليه وتحليه؛ بمعني تمشيط القلب والنفس من الأخلاق السيئة، والتحذير منها، وتنظيف كيان الفرد مما علق منها، مع السعي إلى اكتساب الأخلاق الحسنة المنضبطة، وفعالية المسلم التربوية تستند إلى درجة التحقق بتلك المعاني في النفس قبل دعوة الآخرين إلى تجسيدها.
ساد الإسلام ربوع الأرض، وبلغ ما بلغ بفضل الله أولاً ثم بفضل رجال نذروا أنفسهم للدعوة لهذا الدين ابتغاء وجه الله تعالي، بعد أن أظهروا في شعاب الحياة تحقق قلوبهم وقلوهم بمعانيه مبادئه، لهذا لم ينتظروا من أحد من البشر جزاءً ولا شكوراً.
وفي عصرنا الحاضر يعد تكالب الأمم على أمتنا الإسلامية ومحاربة الدعاة في الداخل والخارج، أمتنا بحاجة إلي رجال بهمم عالية، كمثل هِمَّة ربيعة بن كعب الأسلمي عندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلني. فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال ربيعة: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو المربي الأول لأمة الإسلام وللعالمين: أعني على نفسك بكثرة السجود وليست التربية الإسلامية دنيوية عملية كما كانت عند اليونان مثلاً، وليست دينية محضة كما كانت عند اليهود قديماً، وإنما هي جماع بينهما."2
تعد التربية في الإسلام ضرورة حياتية وفريضة شرعية لإعداد الفرد الصالح، والأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح الذي يطلق عليه القرآن الكريم "الأمة الوسط"، والتي حملها الله تعالي مسئولية إقامة الحياة على منهاجه وشريعته، لتكون نظاماً حياتياً شاملاً حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وحتى يأمن الناس على دمائهم وأعراضهم، وعقائدهم.3
كما أن التربية في الإسلام هي تزكية للإنسان بمعني تهذيبه وإصلاحه، وتنميته روحاً وعقلاً، وجسداً وخلقاً، وسلوكاً… حتى يتمكن من كسب حياته الدنيا في مستوي يليق بكرامة الإنسان. وبذلك فهي تشمل كل المؤثرات في حياة الشخص، والتعليم هو وسيلة من وسائل التربية فقط، وحينما نتناول التربية، إنما نقصد بها ذلك المعني الأعم الذي يشمل التعليم، وغيره من وسائل.
ولقد صرف بديع الزمان سعيد النورسى جلّ جهده لتربية النفوس، وتقوية الإيمان، وتذكير الناس بالله واليوم الآخر، من خلال رسائل النور، والرسائل غنية ببيان الاتجاهات التربوية، وهوما نعرض له في الفقرة اللاحقة.
اتجاهات النورسي التربوية
يمكن استنباط اتجاه الشيخ بديع الزمان سعيد النورسى التربوية من رسائل النور من خلال المحاور التالية:
أولاً: تربية الفرد:
يري الشيخ بديع الزمان سعيد النورسى أن التعليم الفردي أساس تكوين المواطن المسلم. ويكون التعليم الفردي بتعلم مقدار معين يومي من رسائل النور، وهي رسائل في توضيح حقائق الإسلام ومحاسنه، وكيفيه تكوين الشخصية المسلمة، مع ضرورة أن يكون الفرد من طلاب النور -طوال حياته- يتعلم هذه الحقائق، وهذه المحاسن، ويشتغل بها.
وعن ضرورة التعليم الفردي يري الشيخ ضرورة تلازم العلم والإيمان معاً، قال الأستاذ "إنّ الإنسان قد جاء إلي هذه الدنيا لكي يرتقي ويكتمل عن طريق شيئين: العلم والدعاء" وهو بذلك يؤكد أن في التعليم الفردي مزج بين عمليتين: "التعليم والإيمان".4
يدرك طالب النور بعملية التعليم الفردي واجباته تجاه الله، وتجاه الحياة التي يحياها.5
وذلك من خلال الأمور الآتية:
1– إذا ما صان الشاب نفسه بتربيتها بالقرآن، والسنة النبوية الشريفة، فسيكون شاباً رائداً حقاً، وإنساناً كاملاً، ومسلماً صادقاً سعيداً، وسلطاناً علي سائر المخلوقات. نعم إن الشاب إذا ما دفع ساعة واحدة إلى إقامة الفرائض، وتاب عن سيئاته ومعاصيه وتجنب الخطايا والذنوب... فإنه سيعود بفوائد جمة على حياته، ومستقبله، وبلاده، وأمته، وأحبائه وأقاربه... فضلا عن أنه يكسب شباباً خالداً في النعيم المقيم يوم القيامة.6
2– إن كنت تريد أن تعادي أحدا فعادي ما في قلبك من العداوة، واجتهد في إطفاء نارها، واستئصال شأفتها. وحاول أن تعادي أعدى أعدائك، وأشد ضرراً عليك، تلك هي نفسك التي بين جنبيك. فقاوم هواها، واسع إلي إصلاحها ولا تعاد المؤمنين لأجلها. فإن عداءك للمؤمنين ظلم مبين. وإن أردت أن تغلب خصمك فادفع سيئته بالحسنة، فبها تخمد نار الخصومة. أما إذا قابلت إساءته بمثلها، فالخصومة تزداد، حتى لو أصبح مغلوباً -ظاهراً- فقلبه يمتلئ غيظاٌ عليك... بينما مقابلته بالإحسان تسوقه إلى الندم، وقد يكون صديقاً حميماً لك، فمن شأن المؤمن أن يكون كريماً، فإن أكرمته فقد ملكته، وجعلته أخاً لك، حتى لو كان لئيماً -ظاهرا- إلا أنه كريم من حيث الإيمان.7
3– أنْ يُرَوِّضَ الإنسان لسانه على الصوم عن الكذب والغيبة، والعبارات النابية، ويمنعه عنها، ويرطب ذلك اللسان بتلاوة القرآن الكريم، وذكر الله سبحانه وتعالى، والتسبيح بحمده، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، والاستغفار... ويغض بصره عن المحرمات، ويصون أذنه من الكلام البذيء... حتى يصل بنفسه إلى الإنسان الكامل، وذلك بالتوجه القلبي إلى الله تعالى طوال سيره وسلوكه، أي الوصول إلى مرتبة المؤمن الحق، والمسلم الصادق، ثم يلي ذلك أن يكون الإنسان عبداً خالصاً لرب العالمين...8
4– إن خلق الحواس والمشاعر في وجود الإنسان، وإدراجها ضمن فطرته إنما يستند إلى أساسين اثنين:
أ– الشكر تجاه كل نوع من أنواع النعم التي أسبغها علينا المنعم سبحانه وتعالى؛ أي واجب علينا الشعور بها، والقيام بشكره تعالى وعبادته.
ب– معرفة أقسام تجليات الأسماء الحسنى التي تعم الوجود كله.
5– عدم تزكية النفس. قال تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا اَنفُسَكُمْ ﴾.النجم:32
ذلك أن الإنسان حسب جبلته، وبمقتضى فطرته محب لنفسه بالذات، بل لا يحب إلا ذاته. ويضحي بكل شيء من أجل نفسه ويمدح نفسه مدحاً لا يليق إلا بالمعبود وحدة، وينزه شخصه، ويبرئ ساحته، بل لا يقر بتقصيره أصلا ويدافع عنه دفاعاً مستميتاً بما يشبه العبادة، حتى كأنّه يصرف ما أودعه الله فيه من أجهزة لحمده سبحانه وتقديسه إلى نفسه... فلابد إذن من تزكيتها، فتزكيتها في هذه الخطوة وتطهيرها إنما يكون بعدم تزكيتها... نعم إن من يعجب بنفسه ويعتد بها شقي بينما الذي يري عيب نفسه محظوظ سعيد.9
6– ومن عُمَد منهج التربية الإسلامية للفرد المسلم: -
أ– تربيته على معرفة الله معرفة صحيحة.
ب– تربيته على التعامل الصحيح مع المجتمع.
ج– تربيته على التعامل الصحيح مع الكون.
ثانياً: تربية البيت:
اعتمد الشيخ، حتى عام 1950م، في نشر مفاهيمه التربوية علي الجهود الفردية في البيوت، بمعني أنه يعلم الفرد نفسه، عن طريق فهم الإسلام من خلال رسائل النور داخل بيته.10
وبيت كل إنسان هي دنياه الصغيرة، بل جنته المصغرة. فإنْ لم يكن الإيمان بالآخرة حاكما ومهيمناً على البيت أفضى ذلك إلى اضطراب الأفراد والعائلة، فتتحول تلك الجنة إلي جحيم لا يطاق، ولكن ما أن يحل الإيمان بالآخرة في ذلك البيت حتى ينور أرجاءه مباشرة، ويستضيء لأن علاقة القربى والرأفة والمحبة التي تربطهم لا تقاس عندئذ ضمن زمن قصير جداً بل تقاس علي وفق علاقات تمتد إلى خلودهم، وبقائهم في دار الآخرة، والسعادة الأبدية فيقوم -عندئذ- كل فرد باحترام خالص تجاه الآخرين ويوليهم محبة صافية، ويظهر رأفة صادقة...11
أوصي الأستاذ النورسى بحسن المعاملة الزوجية إضافة إلى حسن تربية الأولاد. والزوج السعيد هو الذي يقلد زوجته الصالحة فيكون صالحاً مثلها لئلا يفقد رفيقته في حياة أبدية خالدة "الجنة" والزوجة كذلك لئلا تفقد رفيقها الأبدي فتفوز بسعادة آخرتها ضمن سعادة دنياها. والويل كل الويل للزوجين الذين يعين كل منهما الآخر في دفعه إلى الشر.
والبيت هي النواة الأولى للمجتمع، إذا صلح البيت صلح المجتمع، بذل الأستاذ النورسى كل ما في وسعه لأجل استعادة البيت هويته الإسلامية ظاهراً وباطناً، فوجه رسالته إلى أرباب البيوت، وخاصة طلاب النور قائلا: "اجعلوا بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد الذين هم ثمار تطبيق هذه السنة على الإيمان، فيكونون لكم شفعاء يوم القيامة، وأبناء بررة في هذه الدنيا. وبخلافه لو تربى الأولاد على التربية الأوربية وحدها، فإن أولئك الأولاد يكونون غير نافعين لكم في الدنيا من جهة، ومدعين عليكم يوم القيامة من جهة أخرى إذ يقولون لكم "لما لم تنقذوا إيماننا؟ فتندمون وتحزنون من قولهم هذا يوم لا ينفع الندم".12
ولأجل إصلاح الركن المهم فى البيت -المرأة- كتب الأستاذ النورسى رسالة "الحجاب" التي حوكم من أجلها، والتي نادى فيها بصيانة المرأة المسلمة من الأفكار الإلحادية الهدامة التي انتشرت في تركيا، وخاصة تلك التي تنادت بانسلاخ المسلمة من عقيدتها وشريعتها، وبالتالي من عفتها وطهارتها بحجة التقدم، ومسايرة ركب الحضارة الغربية... وأوصاهن بالتمسك بأوامر الله تعالى وعرفهن بالمدنية الغربية، وأوصاهن ببيوتهن، ورعاية الأولاد وتربيتهم على الإسلام.
ورأس ما ييسر تحقيق هذا المسعى حسن اختيار الزوجة، فإن لهذا الاختيار أكبر الأهمية وأعظم الأثر في بناء البيت المسلم، فهي أكثر ملازمة للبيت من الرجل -في غالب الأحيان- وهي التي تهيء البيت وتشرف عليه، ذلك أنّه يعد مملكتها الخاصة... فإذا أضفنا إلى ذلك أن المرأة هي التي تحضن الأولاد وتربيهم، وتؤثر فيهم قبل ذهابهم إلى المدرسة بأكثر مما يؤثر الأب، فضلا عن كونها المسئولة عن استقرار البيت وسعادته.13
وتبدأ تربية الأبناء في وقت مبكر، بل مبكر جداً منذ وعيهم بما يدور حولهم. وإذا ما قصر الآباء في ذلك، فقد خالفوا أمر الله تعالى، ذلك أنّهم بذلك ضيعوا من استرعاهم الله، وبتضييع الأبناء تسوء سلوكهم، فيكون أوّل من يجني علقم فساد السلوك الأولياء، ورأس ما يثمر الخلال الطيّبة أن يكون الأولياء قدوة في التحقق بالقيم التي يرغبون في تعليمها، فالصدق والأمانة، وسائر الفضائل وإن كانت تنال تعلما وموعظة، فإنما أوقع في النفس إن بدرت من قدوة.
ويستطيع الإنسان المسلم تكوين البيت المسلم من خلال: -
أ – حمل أهله على احترام فكرته الإسلامية.
ب– المحافظة على آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية.
ج– حسن اختيار الزوجة وتوقيفها على حقها وواجبها.
د – حسن تربية الأولاد والخدم، وتنشئتهم على مبادئ الإسلام.
والبيت المسلم إذا صح تكوينه، وإعداده، وصح عمله، وصحت ممارسة الحياة فيه على النظام الإسلامي، يكون لبنة قوية في بناء المجتمع المسلم الملتزم بمنهج الله تعالي في الحياة.
ثالثاً: تربية المجتمع "تربية الجماعة المحدودة" أو "المدارس النورية":
أخذ الشيخ النورسى يوجه اهتمامه إلي تأسيس أماكن تربوية وتعليمية أطلق عليها مسمي "المدرسة النورية"، في مكان واحد، لتدارس المسائل الإيمانية والحقائق القرآنية، من واقع كتابات الشيخ في رسائل النور. وعلى ذلك يمكن اعتبار هذه المدرسة النورية -في نفس الوقت- مؤسسة تعليمية. والواقع أن بديع الزمان سعيد النورسى قد ركز اهتمامه على هذه المدرسة النورية في خطابات له أرسلها إلى طلابه، وركز عليها أيضاً -اهتمامه- في أماكن مختلفة من كليات رسائل النور.
وعلى هذا، كان من المقرر على طلاب النور في حال الفراغ الاجتماع في هذه المدارس النورية، يتدارسوا رسائل النور لفترة وجيزة كل يوم يمكن أن تصل إلي ربع ساعة، ويعتبرون أنفسهم بذلك قد نالوا شرف وثواب "طلاب العلوم" الذين يكونون في عبادة، علاوة على تحول عاداته ومعاملاته الاعتيادية لمتطلبات معيشته عبادة يثاب عليها أيضاً، كما هو حال طالب العلم.14
ومما زاد من أهمية المدرسة النورية في استراتيجية حركة طلاب النور، أن القرارات الجمهورية التي ألغيت بموجبها التربية الدينية شملت بالضرورة مؤسسة "الدرس العام"، وهذه كان لها دورها البالغ الأهمية في المساجد الكبيرة، وكان المكلف بإلقائها، خريج المدرسة الدينية القديمة -الجامعة- والذي لا يقوم بها إلا من هو في درجة الأستاذ Professor، يلقي دروسا جادة في الفقه، وعلم الكلام والتفسير والحديث، وتاريخ الإسلام، وغير ذلك من العلوم الإسلامية، وكان لكل فرد مسلم أن يشترك في حلقات دروس "الدرس العام" هذه ليستفيد منها الجميع، ذلك أنّها لا تقتصر على سن معين، ولكن مع إلغاء التربية الدينية ألغيت حلقات الدرس العام، مما جعل المدارس النورية في مقدمة المؤسسات المحافظة على الدين.
ومن هنا نستطيع القول أن المدرسة النورية التي سعي بديع الزمان سعيد النورسى إلى إنشائها إنما كانت لنشر دعوته من ناحية ولملء الفراغ التربوي الذي حدث بإلغاء "الدرس العام" من المساجد من ناحية أخري.
ومما زاد من انتشار فكرة المدرسة النورية، إن لم يكن السبب الرئيسي في انتشارها، أنّ طلاب النور كانوا يتشكلون في مجموعات، بما فيها أهل كل منزل، إذ من السهل تكوين جماعة في المنزل الواحد، فتضم الأبناء البنات، فضلا عن الزوجة، فيتحوّل البيت بسهولة إلى "مدرسة نورية" إذا قرروا تدارس رسائل النور معاً. أما إذا كان الرجل وحيداً فليجمع عدداً -ولو قليلاً- من جيرانه المقربين إليه جداً، ويتخذ من المنزل الذي يقيمون فيه "مدرسة نورية" وبالذات في أوقات فراغهم.15
وقد كان للمدرسة النورية مقومات أساسية، كانت سببا في نجاحها، لعلّ أهمها:
1– أن يكون الخلاف أو الاختلاف إيجابي بناء، ومعناه أن يسعى كل واحد لترويج مسلكه وإظهار صحة وجهته وصواب نظرته، دون أن يحاول هدم مسالك الآخرين أو الطعن في وجهة نظرهم، وأبطال مسلكهم، بل يكون سعيه لإكمال النقص ورأب الصدع، والإصلاح ما استطاع إليه سبيلاً. أما الاختلاف السلبي فهو محاولة كل واحد تخريب مسلك الآخرين وهدمه، ومبعثه الحقد والضغينة، والعداوة.16
2– أن أهل الحق لا يستطيعون خدمة الحق إلا بترك "الأنا" حتى لو كانوا على حق وصواب في استعمالهم "أنا" فعليهم تركه، حتى لا يعبدوا أنفسهم، فلا تقولوا "أنا" بل قولوا "نحن"، وإذا نظرنا إلي نظرة الشيخ النورسى في تربية المجتمع بوجه عام نري أنه قد اعتمد علي عدة مبادئ تتمثل فيما يلي:
أ– أن الحسد هو أشد إيلاماً للحاسد من المحسود حيث يحرق صاحبه بلهيبه، أما المحسود فلا يسمه من الحسد شئ، أو يتضرر طفيفاً.
وعلاج الحسد هو: أن يلاحظ الحاسد عاقبة ما يحسده ويتأمل فيها، ليدرك أن ما ناله محسودة من أعراض دنيوية -من مال وقوة ومنصب- إنما هو أعراض زائلة، فانية، فائدتها قليلة، مشقتها عظيمة. ثم إن الحاسد في حسده يسخط على قدر الله. إن ما يسببه التحايز والعناد، والحسد من نفاق وشقاق في أوساط المؤمنين، وما يوغر في صدورهم من حقد وغل، وعداء، مرفوض أصلاً من قبل الإسلام، الذي يمثل روح الإنسانية كلها، فظلاً عن أن العداء ظلم شنيع يفسد حياة البشر الشخصية والاجتماعية.
ب– أنه لا يمكن العيش بسلام ووئام في مجتمع إلا بالمحافظة على التوازن القائم بين الخواص والعوام، أي بين الأغنياء والفقراء وأساس هذا التوازن هو رحمة الخواص وشفقتهم على العوام، وإطاعة العوام واحترامهم للخواص.17 ولا يتأتى ذلك إلا بالقضاء على الربا وأداء الزكاة لمستحقيها عن طريق الفرض العام. لأن أهمية الزكاة لا تنحصر في أشخاص وجماعات معينة فقط، بل أنها ركن مهم في بناء سعادة الحياة البشرية ورفاهها جميعاً، بل هي عمود أصيل تتوطد به إدامة الحياة الحقيقية للإنسانية وإلا ستنهال مطارق الظلم والتسلط على هامات العوام من أولئك الخواص وينبعث الحقد والعصيان اللذان يضطرمان في أفئدة العوام تجاه الأغنياء الموسرين. وتظل هاتان الطبقتان من الناس في صراع معنوي مستديم... حتى يؤول الأمر تدريجياً إلي الشروع في الاشتباك الفعلي والمجابهة. حول العمل ورأس المال كما حدث في روسيا.18
لقد أصبح الإسلام حصناً حصيناً للعوام اكثر منه للخواص، إذ لا يجعل الخواص مستبدين على العوام، بل يجعلهم خادمين لهم -من جهة- وذلك بتأدية فريضة الزكاة وتحريم الربا.
جـ– العمل على عفة المجتمع وطهارته: قال تعالي: ﴿يَا اَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّاَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾الأحزاب:59 صدق الله العظيم.
خلاف هذه الآية الكريمة تأمر بالحجاب، بينما تذهب المدنية الزائفة إلي خلاف هذا الحكم الرباني، إن رفع المدنية الحجاب وإفساحها المجال للتبرج، يناقض الفطرة الإنسانية. وإن أمر القرآن الكريم بالحجاب -فضلاً عن كونه فطرياً- يصون النساء من المهانة والسقوطً، ومن الذل ومن الرذيلة، والسفالة، وهن معدن الرأفة والشفقة، والرفيقات العزيزات لأزواجهن في الأبد.
د– تفضيل الإخوان على النفس في المراتب، والمناصب والتكريم، والتوجه، وحتى في المنافع المادية التي تهش لها النفس، وترتاح إليها، بل في تلك المنافع التي هي خالصة زكية كتعليم حقائق الإيمان إلي الآخرين.
هـ– إن وحدة المصلحة تجعل الترابط بين أفراد المجتمع ترابطاً لا يتخلخل ولا تنقطع عراه، أنهم ركاب سفينة واحدة، ناجية أو غارقة، فكيف يمكن أن ينفصل بعضهم عن بعض أو يتجاهل بعضهم وجود بعض؟ هذا بالإضافة إلي ترابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله وترابط التعاون على البر والتقوى، وليس ترابط التعاون على الإثم والعدوان.
و– يمكن إنقاذ البلاد، وإنقاذ الحياة الاجتماعية لأبنائها من الفوضى والانقسام بالاحترام المتبادل بين الناس، حاكم ومحكوم، ثم بالشفقة والرحمة والابتعاد عن الحرام، والحفاظ على أمن البلاد والعباد.
ز– ولقد دعا الشيخ النورسى أصحاب الاتجاهات الأخرى القريبين من دائرة رسائل النور إلي مدرسة النور "أرباب العلم، وأهل الطريقة، وأصحاب المشارب الصوفية"، ليمدوها بما لديهم من رأسمال علمي سابق.
ح– ومن أهداف المدرسة النورية الانشغال بالأصول والكليات دون الفروع والجزئيات، والانتقال من المختلف فيه إلى المتفق عليه، ومن التعالي على المجتمع إلى التغلغل فيه... ومن الأهداف السامية استغلال الوقت في الدعوة إلى الله تعالى "دعوة فردية" فى بعض الأحيان، ودعوة عامة الناس في أحيان أخرى. حيث تقرأ الرسائل على جماعات شتى، ويكون منهم أحيانا علماء.
رابعاً: اتجاهات تربوية يمكن للدولة العمل بها:
1– نوعية التربية وهدفها:
إن التربية فى نظر الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي هي: أخلاقية، تمنحها حكمة القرآن الكريم للحياة الشخصية. والإسلام كله هو: حسن الخلق.
أما حكمة القرآن الكريم، فهى تقبل الحق نقطة استناد فى الحياة الاجتماعية بدلاً من القوة، وتجعل رضى الله تعالى ونيل الفضائل هو الغاية بدلاً من المنفعة، وتتخذ دستور التعاون أساساً فى الحياة بدلاً من دستور الصراع. وتلتزم برابطة الدين، والصنف الواحد19 من الناس المنسجمين فى الميول، والأفكار، والأذواق والطبائع كأرباب الحرف والمهن، والوطن لربط فئات الجماعات بدلاً من العنصرية والقومية السلبية.20
بين التربية الإسلامية وحكمة الفلسفة، وللوصول إلي مدي الفرق بين التربية الأخلاقية التي يربي بها القرآن الكريم تلاميذه، والدرس الذي تلقنه حكمة الفلسفة، نري أن نضع تلميذيهما في الموازنة الآتية:
فالتلميذ المخلص للفلسفة "فرعون" ولكنه فرعون ذليل، إذ يعبد أخس شيء لأجل منفعته، ويتخذ كل ما ينفعه رباً له. ثم أن ذلك التلميذ يرضي لنفسه منتهى الذل في سبيل الحصول علي لذة. ثم أن ذلك التلميذ نفعي ومصلحي، لا يري إلا ذاته فغاية همته تلبية رغبات النفس والبطن والفرج، وهو "دساس مكار" يتحرى عن مصالحة الشخصية ضمن مصالح الأمة.
بينما تلميذ القرآن المخلص هو "عبد" ولكنه عبد عزيز لا يستذل لشيء حتى لأعظم مخلوق. ثم أنه تلميذ متواضع، لين هين، ولكنه لا يتذلل بإرادته لغير فاطره الجليل. ثم إنّه فقير وضعيف، موقن بفقرة وضعفه ولكنه مستغن عن كل شيء بما ادخره له مالكه الكريم من خزائن لا تنفذ في الآخرة. ثم أنه لا يعمل إلا لوجه الله، بل لا يسعى إلا ضمن رضاه بلوغاً إلي الفضائل.
وأما ما تعطيه حكمة الفلسفة من تربية للمجتمع الإنساني فهي أن حكمة الفلسفة تري "القوة" نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية وتهدف إلي المنفعة في كل شيء، وتتخذ الصراع دستوراً للحياة، وتلتزم بالعنصرية، والقومية السلبية رابطة للجماعات.
والذي يعمل في ساحة الفلسفة، والعلوم العقلية دون أن يفتح نوافذ نفسه على عالم الروح والقلب، لن يكون إلا فيروساً ينقل الأمراض، ولن يكون هو نفسه إلا علامة من علامات المرض والسقم.
2– صفات المُربِي
إنه لمن الخطأ المبني على الغفلة، تصور أن المربي قد بلغ من النضج الحد الذي يجعله في غني عن التربية، والتزود بالعلم والخبرة؛ والآن كل إنسان بحاجة إلي هذا التزود طالما هو مطالب بأن يعطي.21
قال تعالي: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾طه:114 صدق الله العظيم.
وبالتالي لابد للمربي أن يستمر في عملية التربية دون توقف عند حد معين، كما عليه أن يكون داعية إلي الله، لا تفارقه هذه الصفة حتى يلقي الله تعالي. كما لابد أن تتوفر فيه مهارة الاختلاط بالناس، والتأثير فيهم، وحبهم وحب الخير لهم والمربي البارع لا يترك أحداث الحياة تمر أمامه دون أن يستفيد مما فيها من عبر ومواعظ، ودروس... إذ أنها تحدث في النفس أثراً كبيراً، وتنفعل معها النفس الإنسانية انفعالاً خاصاً... مثال ذلك: حينما ظن المسلمون في غزوة حنين أنهم أقوي عدداً وعدة من الأعداء، وظنوا أن القوة وحدها سبيل النصر.
قال تعالي: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ اَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الاَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾التوبة:25 صدق الله العظيم.
وعلى المربي أن يتكلم على حسب المستويات التي تتلقى على يديه، سواء أكان المستمع من عوام الناس أو من خواصهم. وقد تكلم الشيخ النورسى مع أهل القرى أو الرعاة بنفس لغتهم ومستواهم وبنفس منكسرة متواضعة، بينما إذا تكلم مع أستاذ التعليم العالي (البروفسور) تكلم عن علم الفلك أو عن مساحة الكرة الأرضية.22
ولقد توجه الأستاذ النورسى إلي شرق الأناضول عام 1910م وبدأ بجولة واسعة بين مختلف العشائر الكردية، والتركية، وعقد معهم اجتماعات وندوات أجري فيها مناقشات حول أمور اجتماعية وسياسية، وأختار معهم أسلوب الحوار السهل المستساغ، القريب إلي الأذهان...23
وفي أثناء تجواله بين العشائر البدوية في شرق الأناضول دعاهم إلي التحضر وحثهم بلهفة وشوق على التمدن والرقي في مجالات حياتهم كلها.
والمربي لابد أن تتوافر فيه الصفات الجهادية، ولقد لمسنا ذلك عندما أوجد الأستاذ النورسى لطلابه بنادق الماوزر، وتحولت مدرسته إلي ما يشبه المعسكر، إذ الكتب جنباً إلي جنب مع البنادق.24
ولما قامت الحرب العالمية الأولي عام 1914م تطوع فيها برتبة ضابط، وكان يعود في أمسيات الحرب إلي المعسكر، حيث يتحلق حوله طلابه فيدارسهم علوم القرآن، كما ألف في تلك الفترة إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز وهو أول مؤلف له باللغة العربية.
وعلى المربي إظهار الخير في بعض الأحيان دون إخفائه لاستفادة الآخرين أو تنبيههم من الغفلة، أو إظهار العزة الدينية بما يشبه من إعلان للشعائر الإسلامية أمام الضال السادر في السفاهة، وغيرها من الفوائد... ولا سيما في هذا الزمان... بشرط عدم تدخل التصنع.25
ويري الشيخ بديع الزمان سعيد النورسى ان للمربي صفات لازمة، بدونها لا يكون ناضج الشخصية، ومن هذه الصفات:
1– عدم المبالغة إذا قام بتصوير مسألة من المسائل وعدم إهمال تحري الحقيقة، وإيجاد الدلائل إثبات تلك المسائل.
2– أن يحافظ على التوازن الشرعي، عندما يعرض مسألة بالترغيب والترهيب.
3– العمل على تطابق الحال مع مقتضى البلاغة؛ بمعني التكلم بكلام مناسب مع تشخيص العلة.26
4– عدم تلقينه لشيء يصعب على متلقيه هضمه.27
3– تلازم العلم والأيمان.
لم يفصل الإسلام أبداً بين الدين والحياة، بل اعتبر كل أمور الحياة، وما تستطيع أن تقدمه هذه الحياة للإنسان كي يعيش، جزءاً من الدين ووجه إلي ضرورة الإفادة به، والحث عليه.28
وما دام الإسلام لم يفصل بين الدين والدنيا، بل جعل الدنيا في خدمه الدين، واعتبر أن أشرف ما في هذه الدنيا هو العلم فإنه حرص على أن يوظف العلم لصالح الدنيا والدين.
ويرى الشيخ النورسى أن العلوم، إنما تقود إلي الإيمان... والإيمان يدفع إلي العلم. ولذا فامتزاج العلم والدين، أساس تكوين الشخصية التربوية. وقد أهتم الإسلام بالتربية العقلية، وذلك بربط جوانب المادة النظرية بالتجربة العملية المحسوسة. وقد أشار القرآن الكريم إلي دور التجربة العملية في ترسيخ اليقين في وقوله تعالي: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ اَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾البقرة:260 صدق الله العظيم.
هذه تجربة عملية محسوسة لما في ذلك من زيادة في اطمئنان العقل. كما قدم القرآن العلم على الإيمان والإخبات. قال تعالي: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْمَ اَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾الحج:54 صدق الله العظيم.
لذلك فإن الذين تعبدوا بدون علم كالخوارج، خرجوا بأسيافهم على المسلمين، ولو طلبوا العلم وربطوه بالعبادة ما دلهم على ما فعلوا.
وكان الشيخ النورسى يدلل على وجود الله تعالي بالعلوم الطبية نفسها، والتي تقول إن وراء كل تركيب دوائي كيميائياً، وصيدلياً حاذقاً. أفلا تقول -نفس هذه العلوم- أن وراء كيمياء الحياة المبثوثة في كل مخلوق على هذه الأرض خالقاً حكيماً مدبراً؟ خلق كل شئ بميزان، وصاغ كل مخلوق ضمن معادلة الحياة، وممارسة عمله، ووظيفته.
ولعل ظروف مجتمع الأستاذ النورسى القاسية قد دفعته إلي تجديد علم الكلام تجديداً واضح المعالم والأركان، بحيث أوجد علماً قرآنياً جديداً "علم الكلام" استطاع من خلاله نقل علم التوحيد من نظريات فكرية مجردة يفهمها الخاصة إيماناً عقلياً مجرداً إلي سلوك عملي في الحياة ينفعل به العقل وتثور العاطفة.
ويرى الشيخ النورسى، ضرورة تلازم عنصري "الدين والعلم" في العملية التربوية، وأن الإسلام هو سيد الفنون والعلوم، ومرشدها، وأنه -أي الإسلام- هو رئيس العلوم الحقيقية وأنه أبوها.29
ومعني هذا أن الشيخ يحث على تدريس العلم والإيمان جنباً إلي جنب، والإيمان يقتضي التوحيد، والتوحيد يقود إلي التسليم، والتسليم يحقق التوكل، والتوكل يسهل الطريق إلي سعادة الدارين. ولا تظن أن التوكل هو رفض الأسباب وردها كلياً، وإنما هو عبارة عن العلم بأن الأسباب هي حجب بيد القدرة الإلهية.
4– النظر للعلوم بنظرة عقدية:
يسلم الشيخ بأن المسلمين يأخذون العلوم والفنون من أوربا وأمريكا، ولكنه يرجع أصل هذه العلوم وهذه الفنون إلي الإسلام، ويعتبر أن هذه قضية منطقية تقوده إلي القول بضرورة تناول هذه العلوم، وهذه الفنون في ضوء الإسلام. وقوله في هذا هو: "إن العلوم والفنون التي نأخذها عن أوربا وأمريكا، والتي هي في الحقيقة علوم الإسلام وفنونه لابد أن نضعها في ضوء نور التوحيد، وينظر إليها بنظر التفكير الذي منحه لنا القرآن، وينظر المعني الحرفي للقرآن."30
5– مستوى الذكاء والسن والمستوى الواحد:
يضع الشيخ في اتجاهاته التربوية، ضرورة أن يكون مستوي الذكاء متقارباً في المجموعة التعليمية الواحدة ويعطي مثلاً على الأول هو عندما يتحدث أحد مع طفل من الأطفال، فينزل إلي مستواه، ويتحدث معه الأطفال، ويُفهمهم حتى يستطيع هذا الطفل أن يفهم. وأن الله تعالي قد خاطب الناس على قدر عقولهم حتى من الحقائق.31 وعلى سبيل المثال "هناك ملابس كثيرة تكون جميلة على قامة وقبيحة على أخري.
وتعليم الطفل بإحدى طريقتين: الجبر أو لمس الإحساس.32 ولنعلم أن عقيدة الآخرة هي أس الأساس لحياة الإنسان الاجتماعية والفردية، وأساس جميع كمالاته، وسعادته. فالأطفال الذين يمثلون نصف البشرية، لا يمكنهم أن يتحملوا تلك الحالة التي تبدو مؤلمة ومفجعة للموت والوفاة إلا بما يجدونه في أنفسهم وكيانهم الرقيق اللطيف من القوة المعنوية الناشئة من "الإيمان بالجنة". وذلك الإيمان الذي يفتح باب الأمل المشرق أمام طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكن من المقاومة والصمود، وتبكي لأدنى سبب. فيتمكنون به من العيش بهناء وفرح وسرور فيحاور الطفل المؤمن بالجنة نفسه: "إن أخي الصغير أو صديقي الحبيب الذي توفي أصبح الآن طيراً من طيور الجنة، فهو إذن يسرح من الجنة حيث يشاء ويعيش أفضل وأهنأ منا".33
6– مراعاة التخصص:
ويري الشيخ أن مراعاة التخصص جزء هام من العملية التربوية العلمية فلابد من تطبيق قاعدة تقسيم العمل بتمامها كقاعدة، وأن هذه العملية لابد أن تتشعب إلي شعب، وتخرج كل شعبه متخصصين فيها.34
فالأمور الاجتماعية، وقراءة الجرائد أصبحت على سبيل المثال من اختصاص طالب النور "زبير" والاتصال مع المسؤولين في الدولة وأخذ الرسائل إليهم من اختصاص طالب النور الأخر "وصونكور"، والذي يصلح في إلقاء الدروس العامة في المساجد لا يصلح في غيرها من الأعمال الأخرى كالطب، والهندسة، وهكذا.35
وفي مناقشة مسألة علم أو فن قال الشيخ: ينبغي أن لا تكون حجج وأحكام وكلام الرجال الذين هم خارج ذلك العلم وذلك الفن، مهما كان مقدار هم حججاً وأحكاماً، وكلاماً يُعمل بها، ولا يمكن اعتبارهم داخلين في إجماع علماء ذلك العلم. وعلى سبيل المثال: فإن مهندساً لا يمكن أن يكون كلامه معتبراً مأخوذاً به في كشف مرض أو علاجه قدر طبيب مبتدئ.36
7– مراعاة الاستعداد الفطري والقابلية:
وفيه يقول الشيخ بديع الزمان سعيد النورسى: "أنه لمن العصيان الكبير لشريعة الخلق الخليقة، وأن يقوم رجل بترك شئ يجد في نفسه له استعداداً وقابلية، وكذلك المحاولة في شئ ليس هو أهلاً له. ويمكن هنا استخدام تعبير الغناء في الفن.37
فالمرأة من حيث كونها مدبرة لشئون البيت الداخلية، ومأمورة بالحفاظ على أولاد زوجها وأمواله، وكل ما يخصه فإن أعظم خصالها هي: الوفاء والثقة. إلا أن تبرجها وتكشفها يفسد هذا الوفاء، ويزعزع ثقة الزوج بها.38
كما أن الفضل والسبق هو: أن لا يترك الطالب أخاه عندما يراه مبتلي بفساد، بل عليه أن يزيد أخوته معه ويسعى لإصلاحه. فهذا شأن الأوفياء الصادقين. والشرط الأول لكي يكون الإرشاد والتعليم تاماً ونافعاً، ضرورة أن يكون حسب استعداد الجماعة، والجماعة هنا تعني العوام من الناس وهم لا يستطيعون رؤية الحقائق عالية، وإنما يرونها تحت أردية وبأسلوب معلوم ومألوف لديهم.39
8– الحركة الإيجابية في التربية:
إن الحركة الإيجابية في مفهوم الشيخ التربوي تعني المحافظة على الأمن والأمان داخل البلاد. ولابد من التوضيح هنا أن الحركة الإيجابية عند الشيخ تعني الحركة الفكرية، والاجتماعية في إطار مبادئ رسائل النور. ومن المعلوم أن الشيخ يرفض تماماً العنف السياسي والاجتماعي، كما أنه يرفض العداء والخصومة. ولعل كلماته في رسائل النور توضح هذا:
"الاعتداء الخارجي يقابل بالقوة. أما الحركة في الداخل فهي ليست كذلك. إنها حركة إيجابية تسير بسر الإخلاص المعنوي ضد التخريبات المعنوية..."
"إن الله أعطاني ملايين الطلاب الحقيقيين (خدمة رسائل النور)، وإننا معاً سنتحرك حركة إيجابية في سبيل المحافظة على الأمن والأمان في الداخل".40
"سنجاهد ولكن بسلاحي: العلم والفن، وسنجاهد ضد الجهل والفقر. وسنجعل الجهاد الخارجي يتحول على السيوف الماسية القاطعة لرسائل النور، إلي براهين للشريعة الغراء. ذلك لأن الانتصار لا يكون إلا بالإقناع، وليس بالإجبار، نحن فدائيو المحبة، وليس الوقت وقت الخصومة".41
9– التربية ومقتضيات العصر:
إن بعض المربين يعتمدون على المبالغة في تصوير بعض المسائل التربوية وهم -لكي يحدثوا تأثيرهم- يبتعدون عن الإقناع، ويجرون وراء ضرورة إخضاع التربية المعاصرة لظروف مضت، وعهد سابق ولي، والشيخ بديع الزمان سعيد النورسى يعارض هؤلاء، ويقول: بأن العملية التربوية لابد أن تكون في إطار عصرها، وحسب مقتضياته. يعني أنه يعارض هذه الفئة التي نتحدث عنها من المربين، وينقدهم بقوله: إنهم يزوقون تصوير المسائل عندما يقارنون بين الزمن الماضي والزمن الحاضر. وإنهم يهملون إثبات حقيقة الأمر، ويهملون تحري الحقيقة لكي يحدثوا التأثير في النفوس، في الوقت الذي لابد لهم فيه من الإقناع.42
نخلص من ذلك أن تصادم الآراء ومناقشة الأفكار لأجل الحق، وفي سبيل الوصول إلي حقيقة، إنما يكون عند اختلاف الوسائل، مع اتفاق في الأسس والغايات فهذا النوع من الاختلاف يستطيع أن يقدم خدمة جليلة في الكشف عن الحقيقة وإظهار كل زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح ولكن إن كانت المناقشة والبحث عن الحقيقة لأجل أغراض شخصية، وللتسلط والاستعلاء وإشباع شهوات نفوس فرعونية، ونيل الشهرة، وحب الظهور، فلا نتلمس بارقة الحقيقة في هذا النوع من بسط الأفكار، بل تتولد شرارة الفتن.43
وكان الشيخ يري أن الأسلوب الذي يجب إتباعه في الدعوة إلي الله تعالي ينبغي أن يكون "فطرياً"؛ أي طبيعياً لا كلفه فيه، ولا تصنع، حتى لا يضيع المقصود من الكلام. كما ينبغي أن يرصع الكلام بفنون البلاغة... لذا رأينا الأسلوب اللين الرقيق جداً، كما رأينا الأسلوب العلمي الدقيق، والعبارات المنطقية الفطرية الداعية إلي أعمال الفكر والعقل معاً.
أهم النتائج
إن التعرف على الجانب التربوي في فكر بديع الزمان سعيد النورسى وهو شخصية إسلامية واسعة الشهرة، وذات فكر موسوعي دقيق - له تأثيره الهام على الفكر التربوي الإسلامي المعاصر، ولا شك أن إمكان التربية الشاملة للفرد، والبيت، والمجتمع على السواء بالأساليب التي أشار إليها الشيخ، واهتمامها بالقدرات الفردية للنشء، وتفتحها على استعداد الطالب الفطري، وقابليته للتعليم، تؤكد النظريات التربوية الحديثة في هذا المجال.
وإن اهتمام الشيخ بديع الزمان تسد احتياجات اجتماعية ضرورية لتكوين المجتمع الصالح الذي لا يهتم بالجانب العقلي على حساب الجانب الروحي، ولا يهتم بالجانب الروحي على حساب الجانب العقلي، وإنما يتوخى وسطيه الإسلام بين هذا وذاك.
ويلفت النظر، اهتمام الشيخ بديع الزمان النورسى بإقامة الجامعات الإقليمية وتخصصها، وضرورتها في تنمية المجتمعات وهذا ما سعت له الدول بعد ذلك بعقود.
ومما تقدم فإن التربية توجب على الفرد عدة واجبات تجاه مجتمعة منها ما يلي:
1– نشر دعوة الخير فيه.
2– محاربة الرذائل والمنكرات.
3– تشجيع الفضائل.
4– الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5– المبادرة إلى فعل الخير.
6– كسب الرأي العام إلي جانب الفكرة.
وذلك كله تحقيقاً لأهداف التربية الإسلامية المتمثلة في:
إعداد الإنسان المسلم، العابد لربه، الصالح في ذاته، الناجح في حياته الدنيا، المعد لحياته الآخرة.
هذا وقد استخدم الشيخ النورسى عدة وسائل في تربية طلابه من أجل تحقيق ذلك الهدف منها ما يلي:
1– توجيه الخطاب إلي العقل والقلب والروح معاً.
2– الدعوة إلي التعلم من كتاب الله تعالي وسنه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، من خلال رسائل النور، لأنها ملك القرآن الكريم ومشدودة به.
3– ضرب الأمثال لتقريب المعاني والألفاظ.
4– تقوية الأخلاق للمتربي، والتي بدونها تضيع الأمم وتزول.
5– الاهتمام بالتربية الخاصة للنساء وقد ظهر ذلك جلياً أثناء استنساخهن لرسائل النور، ونشرها بين صفوف أخواتهن وفي بيوتهن.
6– تربية طلاب يتحلون بالإخلاص الكامل والتفاني في العمل.
7– الدعوة إلي عدم الارتباط به شخصياً، حيث إنه إنسان عاجز، وله عيوب وتقصيرات
8– الدعوة إلي الوحدة وإلي الاتحاد دائماً، وتجنب الأمور التي تعيق ذلك فكان لا يشغل نفسه بأمور فرعية غير مهمة.
9– التخصص في أداء الواجب.
وهذا المقال قد يدفع الباحثين إلي الاهتمام بالجانب التربوي المقارن بين فكر الشيخ بديع الزمان سعيد النورسى -وهو فكر متقدم- وبين غيره من المفكرين المسلمين، والمفكرين الأوربيين على حد سواء. ومنه تتضح مكانه التربية في الفكر الإسلامي.
10– كان المسلمون في أول عهدهم بالتعليم يتخذون مدارسهم في الجوامع والمساجد، وكانوا يسمون التلاميذ المجتمعين حول أستاذهم لتلقي العلم "حلقة"، وقد عمل الشيخ النورسى بهذه الفكرة لمدارسة رسائل النور سواء في المسجد أو البيت.
كما لعبت المساجد دوراً تربوياً هاماً في أول الدعوة الإسلامية، وكانت مركزاً للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية وكانت تقوم بوظائف متعددة من. أهمها تصريف شؤون الدولة قبل إنشاء الدواوين الحكومية
* * *
المصادر والمراجع:
القرآن الكريم:
باللغة العربية:
1. إحسان قاسم الصالحي. مؤلف رسائل النور ومؤسس جماعة النور، بديع الزمان سعيد النورسى، نظرة عامة عن حياته وأثاره، إستانبول 1987.
2. أسيد إحسان قاسم. ذكريات عن سعيد النورسى. القاهرة، مركز الكتاب للنشر، 1997م.
3. الإمام السيد موسي الصدر. الإسلام عقيدة راسخة ومنهج حياة. بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1985م.
4. حسن البنا. تربية النشء. الزقازيق - مصر. أصالة للتجارة والتسويق ط1، 1999م.
5. بديع الزمان سعيد النورسى. الآثار البديعية، إستانبول.
6. بديع الزمان سعيد النورسى الآية الكبرى "مشاهدات سائح يسأل الكون عن خالقه" ترجمه إحسان قاسم الصالحي، ط2 - المنصورة - مصر - 1998م.
7. بديع الزمان سعيد النورسى "رسائل النور" القاهرة، سوزلر للنشر، 9 مجلدات.
8. بديع الزمان سعيد النورسى محموعة عصا موسى. بيروت ترجمة الملا محمد زاهد الملا زكردي، دار ابن زيدون، ط1، 1987م.
9. د. علي عبد الحليم محمود. منهج التربية عند الأخوان المسلمين. المنصورة، دار الوفاء ط1، جزءان، 1991م.
10. علي لبن، جمال عبد الهادي. المهام التربوية للآباء "مرحلة ما قبل البلوغ". القاهرة، مطابع دار الطباعة والنشر الإسلامية، 1998م.
11. فريد الدين أيدين. جامعة الزهراء مقال في كلية الدعوة الإسلامية، العدد الخامس، 1998، طرابلس - ليبيا.
12. محمد السيد قنديل. أثر بديع الزمان سعيد النورسى في إحياء الإتجاه الإسلامي المعاصر في تركيا. الزقازيق - مصر، ظافر للطباعة، 1998م.
13. د. محمد منير مرسي. التربية الإسلامية "أصولها وتطورها في البلاد العربية" القاهرة،
14. عالم الكتب، 1998م.
15. 14-مصطفي أمين. تاريخ التربية. القاهرة، مطبعة المعارف، ط2، 1926م.
باللغة التركية:
• Ozer Ozankaya, Atatürk Ve Laiklik, Istanbul 1983.
• Mithat Sertoglu, Osmanlý Tarih Lügati, Istanbul 1986.
• Gotthaed Iasckke, Yeni Turkiye'de Ýslam, Ãeviren: Hayrullah Ors, Istanbul 1972.
• Bediazzaman Said Nursi, Sözler, Istanbul 1980.
• Bediazzaman Said Nursi, Divan-i Harb-i Ãrfi , Istanbul 1977.
• Bediazzaman Said Nursi, Lem'alar, Istanbul 1976.
• Bediazzaman Said Nursi, Tarihçe-i Hayat, Istanbul 1976.
• Bediazzaman Said Nursi, Ýþârâtü'l-Ý'caz , Istanbul 1976.
• Bediazzaman Said Nursi, Þu'alar, Istanbul 1958.
* * *
الهوامش: 1 د.محمد قنديل: جامعة زقازيق، كلية الأداب، مصر. 2 حسن البنا: تربية النشء. الزقازيق، أصالة للتجارة والتسويق، ط1، 1999م. 3 علي ابن، جمال عبد الهادي. المهام التربوية للآباء "مرحلة ما قبل البلوغ". القاهرة مطابع دار الطباعة والنشر الإسلامية، 1998م، ص3. 4 B. S. N. Sözler, 23, S. 294. Istanbul 1980 5 بديع الزمان سعيد النورسى، "الآية الكبري"؛ مشاهدات سائح يسأل الكون عن خالقه، ترجمة إحسان قاسم الصالحى، ص293، الطبعة الثانية - المنصورة مصر، 1988م. 6 الشعاعات، ص522. 7 المكتوبات، ص 343. 8 المكتوبات، 519، 593. 9 المكتوبات، ص423، 595. 10 أنظر علي سبيل المثال في هذا العدد بديع الزمان سعيد النورسى، لاحقه أميرداغ (2) ص101. 11 الشعاعات: 282، 283. 12 اللمعات: 301. 13 د. علي عبد الحليم محمود. منهج التربية عند الأخوان المسلمين. المنصورة، دار الوفاء، ط1، 14 لاحقه أميرداغ، مرجع سابق، ص101. 15 بديع الزمان سعيد النورسى، الآثار البديعية، ص136، إستانبول. 16 المكتوبات: 347. 17 الكلمات: 474. 18 المكتوبات: 355. 19 التربية المهنية: لاستنفاد الطاقة البشرية في عمل مفيد، مع إكساب الفرد قيم الصدق، والإتقان، والاعتماد على النفس، والقدرة على الكسب وقوة الشخصية. 20 الكلمات، 145. 21 علي عبد الحليم محمود، مرجع سابق، ص1172. 22 أسيد إحسان قاسم ص 78 23 صيقل الإسلام ص 378. 24 الشعاعات ص 568. 25 الشعاعات ص 359. 26 B. S. N. Divan-ý Harb-i Ãrfî, S. 69. Istanbul 1977 27 Sözler: 656. 28 د. علي عبد الحليم محمود، مرجع سابق، ص592. 29 B. S. N. Muhakemat, S. 8. Istanbul 1911. 30 B. S. N. Tarihçe-i Hayat, Barla Hayatý, S. 140. Sözler Yayýnevi 1976. 31 B. S. N. Ýþârâtü'l-Ý'câz, S. 131. Istanbul 1976. 32 مناظرات، المرجع السابق، ص74. 33 الشعاعات، ص 228. 34 مناظرات، المرجع السابق ص73. 35 أسيد إحسان قاسم، مرجع سابق، ص55. 36 B. S. N. Þu'alar, S. 85. Istanbul 1958. 37 محاكمات، المرجع السابق ص46. 38 اللمعات، ص 303. 39 إشارات الإعجاز، ص 126. 40 لاحقة أميرداغ - مرجع سابق، ص 114. 41 ديوان حرب عرفي، مرجع سابق، ص 49. 42 المرجع السابق، ص 69. 43 المكتوبات، ص 347.
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Aralık 2011 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2011 Cilt: 4 Sayı: 4 |