BibTex RIS Kaynak Göster

من ملامح التربية السلوكية عند النورسي

Yıl 2011, Cilt: 4 Sayı: 4, - , 01.12.2011

Öz

من ملامح التربية السلوكية عند النورسي

ذ. أديب إبراهيم الدباغ1
1– مدخل إلى حكمة "النورسي" التربوية
لو شئنا أَنْ نلخص حكمة "النورسي" التي تُوَجِّهُ منطلقاته في "التربية السلوكية" للأفراد والجماعات لقلنا إنَّها كلمتان اثنتان لا يعدوهما، وهما "الجمال والجلال"، فالجمال عنده هو لُبُّ الحقيقة الإنسانية، ولُبُّ كُلِّ الحقائق في الوجود.
فجمال الحقيقة الإنسانية لا بُدَّ له من مِرْآةٍ ينعكس عليها ويتجلَّى فيها، والسلوك البشري في الفكر والحياة هو المرآة التي تعكس من صور هذا الجمال على قَدْرِ استشعار الإنسان بقيمته الجمالية النفيسة في هذا العالم، ومن حيثُ كَوْنُه سيدَ الكائنات، وأعلاها قَدْراً، وأعظمها قدرةً على ترجمة إشارات الجمال في سويداء الروح إلى سلوكٍ حياتي، وشعورٍ وجداني، ومنهج ذهني يمارس من خلاله شؤونه المعيشية والحياتية، ويُقَوِّمُ على ضوئه ما يعرض له من أفكار ومذاهب، فيحكم لها أو يحكم عليها، في إطارٍ من رُؤى ذوقية سامية المنشأ، رفيعة المنبع، يتناول برهافتها المعاني والمباني، ويتعامل بموجبها مع كليات الأفكار وجزئياتها وتشكلاتها في بُنَى الإنسان الحضارية والمدنية، ونشاطاته الفنية والأدبية.
وَقَدْ رَأَيتُ تجليات هذا الجمال منعكساً على السلوك الإيماني العملي لقراء رسائل النور ولطلبتها، رأيتُه رأي العين، ولَمَسْتُهُ لمسَ اليد، حيثما تكررت زياراتي لهم في بيوتهم ومدارسهم ومكاتبهم، وأماكن أعمالهم، فإِذا واحدهم كأنَّه جَمَالٌ قُرْآنيٌّ مسكوبٌ في قالبٍ بشريٍّ، ومرآة صقيلة شفّافة تعكس من صور الذوق والخُلقُ والأدب ما يكاد يكون نادر الوجود في هذا العصر المجدب الكسيح، وليس هذا رأياً رأيْتُهُ أنا وحدي، بل هو رأي جمهرة من كبار الأساتذة والمربّين مِمَّنْ تهيأتْ لهم فرصُ رؤية "طلبة النور" على الطبيعة في أماكن وجودهم وتجمعاتهم، فأعربوا عن الرأيّ نَفْسِهِ.
2– الجمال والجلال:
والجمال والجلال صنوان لا يفترقان، فكُلُّ جمالٍ هو جلالٌ في الوقت نفسه، وكُلُّ جلالٍ هو جمال في الزمن ذاته، ولو شئتَ لقَلتَ: إنَّ الجلال هو العظمة والكبرياء اللتان يحتجبُ وراءهما الجمال، وهو هالةٌ من المهابة والحشمة تحيط بالجمال فتحفظهُ وتَصُونَهُ من أنْ تطاله الأيادي الطامعة والعيون المسمومة، والإيمان بمسكوباته الجمالية والجلالية في الأرواح والقلوب هو الذي يصنع المؤمنين الذين يُشَكِّلون المعنى الجلالي الذي يحيط بالإيمان ويصونه مِمَّنْ يريد به الأذى، وينوي به الشرّ وقد قامت الحضارة الإسلامية في الماضي ولن تستأنف قيامها في المستقبل إلاّ على هذين العنصرين، الجمال والجلال، جمال في القلب والروح والفكر يَعْقُبُه جلالٌ مُجَسَّمٌ في رجولة الرجال، وفي عظمة البناء والإعمار.
وما أفْزَزَتْهُ هذه الحضارة من بطولات إنسانية في مختلف مناحي الحياة، وما تركته من هياكل البناء والمعمار في أرجاء العالم الإسلامي ينبئ عن ذلك ويشير إليه، وقد ظلَّ القرآن والسيف في الرايات المرفوفة فوق رؤوس الجموع رمزاً من رموز هذه الحضارة للجمال والجلال.
والفكر التربوي الذي تحول لدى طلبة "النورسي" إلى سلوكٍ يمارسه "الطالب" في حياته اليومية ويكاد يكون علامة عليه وحدَه من بين الناس، هو مزيج من روح الجمال وروح الجلال، وقد لمستُ ذلك بنفسي حيث وجدتُ لدى طالب النور وداعةً تكاد تكون طفولية، ولكن ليس عن ضعفٍ بل عن قوة إيمانية تمتلئ بها نفسه، وطالعتني منه رحمةٌ تكاد تذوب رقةً ليس عن هوانٍ نفسي بل عن عِزّةٍ قعساء لا تتطامنُ إلاّ لربِّ العالمين، ورأيتُ إشفاقاً دونه إشفاقُ الأُمِّ على وليدها نابعاً من طاقة رجولية ترى في الإشفاق على المتجانفين عن طريق الله تعالى معنىً من معاني الإنسانية الإيمانية.
و "طالب النور" هيّنٌ سهلٌ موطأُ الأكناف يضع خَدَّه على التراب تواضعاً إنْ أخطأ في حق أحد أو أساء إلى أحد، إلاَّ أنّه لا يفعل ذلك بانكسارٍ نفسي بل بشعورٍ من تواضع العِزّة التي تستعصي على أي معنىً من معاني الإذلال والخنوع.
و"النورسي" الأستاذ والقدوة، هذا الرجل الذي لم يكن له مأوى يُؤويه على ظهر الأرض سوى المنافي والسجون والزنـزانات، وعلى الرغم من أهوال العذاب الذي كان يَصُبُّهُ عليه سَجَّانوه، إلاّ أنَّ قلبه المفعم بالإشفاق والرحمة كان يمنعه من رفع يديه والدعاء على جلاَّديهِ، وعندما فعل ذلك ذات مَرّةٍ فتوجَّهَ بقلبه الكسير إلى الله تعالى رافعاً يديه بالدعاء على واحد من سجَّانيه مِمَّنْ أفرط غاية الإفراط في إيذائه وتعذيبه، ولم تكد شفتاه تتحركان بالدعاء حتى رأى من كوةِ زنـزانته صبياً لهذا السجَّان يلعب في شرفة المنـزل المطلّ على باحة السجن ببراءة طفولية عذبة، فإذا به يُنـزلُ يديه ويعدل عن الدعاء إشفاقاً ورحمةً بهذا الصبي الذي لم يُرِدْ أن يعكر صفو براءته بالحزن على والده الذي ربما كان سيتأذّى بدعائه عليه.
3– تربية الوجدان:
تُعَدُ صياغة الوجدان البشري وتربيته من أصعب مهمَّات قادة الفكر والدعوة في كُلِّ الأوقات. وقد سعى "النورسي" -على ضوء التربية الإيمانية التي أرادها لتلامذته- أن يسمو بوجدان "طالب النور" إلى آفاق الجمال والجلال في النفس والكون والحياة، واستطاع من خلال "رسائل النور" أن يملأ خيال هذا الوجدان بصور باهرة من جمال العالم الأبدي حيث استطاع أن يعكس على العالم الخارجي أعظم الصفحات في تاريخ الفتح الإيماني العتيد على هذه الأرض، وذلك باستثارة عنصر الرجولة فيه لمواجهة التحديات والمخاطر مهما كان نوعها.
إنَّ قهر الخوف وتركه وراء الأذن، وتحت القدم، هو من أولويات ما يعرف به "طالب النور" لأنّ جلال الشجاعة هو ينبوع جمال الرحمة والصدق والشرف والكرم والمروءة، هكذا كان "النورسي" وهكذا أراد أن يربي تلامذته.
وأودُّ أَنْ أُنبِّهَ إلى أنَّ الإمام "النورسي" رحمه الله، كان يوصي طلبته دائماً وفي كل مناسبة، بعدم التعلق بشخصه الفاني، وكان يؤكد على أنَّ "رسائل النور" التي كتبها هي شخصه المعنوي الذي يمكن أن يزوروه ويحاوروه في كل وقت إذا أحبُّوا ذلك، فَمَنْ يُحبُّ التقاءَهُ فليْلْتقِه عبر "رسائل النور".
والذين لم يلتقوا "النورسي" في حياته التقوه بعد وفاته رحمه الله من خلال "رسائل النور" فهذه الرسائل هي التي ربَّتهم وارتقت بسلوكياتهم الإسلامية المثالية التي أشرنا إلى بعض ملامحها في الصفحات الماضية من هذا البحث، وإني شخصياً أعرف جَمَّاً غفيراً من شباب "النور" انصبغت حياتهم بالصبغة السلوكية نفسها التي كان قد انصبغ بها الجيل الأول من الذين التقوا "النورسي" وعاصروه، وهذا يؤكد وجهة نظرنا بأنَّ المربي الحقيقي والأساس هو الرسائل وليس غيرها.
وعلى قدر علمي لم أعرف كتاباً كان له من التأثير السلوكي التربوي في قرائه كما وجدت ذلك في أولئك المنكبّين على قراءة "الرسائل" من طلاب "النور" في هذا العصر، وهذه شهادة أسجلها على نفسي وأرجو الله تعالى ألاَّ أكون حانثاً فيها، لأنَّها نتيجة المشاهدة والمخالطة والمعاملة.
4– مع الكون وجهاً لوجه:
ومن أجل أن يحفز التفكر الإيماني في أذهان تلامذته يتقدمهم "النورسي" ليوقفهم على الكونيات وجهاً لوجه من دون واسطة من الكلمات التي قد تتحول أحياناً إلى حاجز فكري يحجز الإنسان عن الكون مسبباً له شيئاً من الجمود العقلي والكسل الروحي الذي يريد أن ينأى بتلامذته عنهما، فأشَدُّ الأشياء بداهةً جديرة بالاهتمام من لدن "طالب الإيمان" فهي تنطوي على الكثير من موجبات الدهشة والعجب. فالأشياء الكونية ذات سلك واحد يربط بينها جميعاً، فالشيء يفضي إلى الشيء، والشيء طريق لكل شيء وعلى صلة بكل شيء، فالذين ينكفئون تحت ظل الكلمات قد يفقدون مع الزمن الاستمتاع الناشط الإيجابي، والفرح الاستكشافي من خلال معالجة المعطيات الكونية بالحسيِّات مباشرةً ومن غير واسطة، فتاريخ الكون يمكن قراءته في جزء من أجزائه دون مشقة، وجلال الربوبية، وجمال الألوهية يمكن مشاهدتهما في أية جزئية من جزئياته، والنظام والقصد والعلم والإرادة في الخلق والإيجاد تتكشف بكل سهولة عند الفحص والتدقيق في الأشياء.
فإثارة تدقيق العقل عند "طالب الإيمان" في تفكره بالأشياء وفي استكناه أسرارها وخفاياها من مستلزمات تكوين العقل العلمي الاستكشافي والاختراعي، وهي في الوقت نفسه من مهمات السلوك التربوي العملي عند "النورسي".
يحدّثُ أحد "طلاب الإيمان" قائلاً:
"كان الأستاذ يرتقي التلال التي تشرف على مدينة "إسبارطة" ليشاهدَ من فوقها مناظر الفطرة، ومشاهد الطبيعة، وكانت الطريق مكسوةً بأشجار الفواكه وبخاصة "العنب". فيمسك الأستاذ بعنقودٍ منها -دون أن يقطعه- وَيَعُدُّ حبَّاته مبيناً لنا ما فيه من بدائع الصنعة الإلهية والإتقان الربَّاني فيقول: انظروا وتأملوا في حلويات القدرة الإلهية هذه…
فكان يعلمنا هكذا كيف نفكر في مخلوقات الله المبثوثة في معرض الله… وهكذا كنا نتلقّى دروساً إيمانية في التدبر وِفْقَ منهج القراءة في كتاب الكون المفتوح أمامنا.
وذات يوم وقف على مقبرة وقال: "إنَّ شواهد هذه القبور الحجرية تذكّرنا بالآخرة، وتنذرنا. فهي كالمعلم الحي لنا. ألا ترون أن هذه الأحجار ترشدنا إلى دروس بليغة بلسان حالها، وكأنها تقول لنا: أنتم أيضاً قادمون إلى هنا… لا مناص. هكذا كان يعلمنا كيفية التفكير في الأمور كلها".2
5– السلوك والخلود:
إنَّ السلوك البشري ذو المنظور الروحي المستهدي بفكرة الخلود الأبدي في عالمٍ أخروي. يبقى القاعدة الثابتة والمقيمة في أغوار النفس يعود إليها الإنسان المسلم مهما طوحَتْ به أحداث الزمن في دروب الحياة وشعابها ليستأنف دورة جديدة من عملية تزكية النفس وبنائها على ثوابت الإيمان، وبذلك يبقى المسلم في شدٍّ وجداني متيقظ لدواعي الانحرافات عن الثوابت إياها، فلا يسترخي ولا يستنيم، أو هكذا ينبغي أنْ يكون طوال حياته.
كما أنَّ الائتلاف بين الفضيلة والطبيعة، وبين الإيمان والكون، هو واحد من توكيدات "النورسي" التربوية على طلابه، ففي الإنسان تكمن روح الطبيعة، أو بعبارة أخرى روح "الفطرة" بطهرها ونقائها.
ومن أجل هذا الطهر والنقاء الذي يُرادُ "لطالب الإيمان" أن يتحلَّى به عَمَدَ "النورسي" إلى تعزيز قوى الحواس في طلابه، وفتح نوافذ الروح على عالمي الغيب والشهادة باعتبارهما وجهين لعملية خلاَّقية واحدة، هذه الخلاَّقية التي يحثُّ "النورسي" طلابه على الغوص في معانيها وأسرارها لينعم الطالب بعد ذلك بفيضٍ من حُبٍّ إلهيّ أبدي يجعله مركز جذبٍ وإنجذابٍ للقلوب النـزيهة الطاهرة.
والآلام المركوزة في طريق هذه التزكية للأفراد والجماعات هي مصفاة عظيمة تصفي النفوس وتنقيها من بقايا أدرانها أو أخطائها، فالآلام رغم قسوتها هي جمال لأنها طريق النفوس إلى الصفاء والنقاء، والصفاء والنقاء هو الجمال كل الجمال، وما من ألمٍ أو حزنٍ يصيب المؤمن إلاَّ وهو خيرٌ له، لأنه يزيد في خصب روحه وقوتها، فالسجون والزنـزانات والمنافي هي مدارس يوسفية كما يصفها "النورسي" لطلابه فكما كان السجن ليوسف عليه السلام طريقاً إلى ارتقاءاته الروحية والدنيوية معاً، كذلك هي عند "النورسي" وعند طلابه. وعلى ضوء الآية الكريمة ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾يوسف:42 يقول النورسي:
"نفهم من أسرار هذه الآية الكريمة أن يوسف عليه السلام هو قدوة المسجونين ورائدهم. فيصبح السجن إذاً نوعاً من (مدرسة يوسفية). وحيث إن عدداً غفيراً من طلاب النور قد دخلوا هذه المدرسة مرتين، لذا ينبغي لهم أن يتدارسوا ويُدرِّسوا قسماً من خلاصة المسائل الإيمانية التي أثبتتها رسائل النور ولها مساس بالسجن، للاسترشاد بها ولتقويم الأخلاق والسلوك في هذه المدرسة المفتوحة لتلقي التربية". ويقول كذلك:
"أما إذا صرفنا ساعة واحدة في أداء الصلوات الخمس، فكل ساعة من ساعات الابتلاء وأوقات المحن تتحول إلى يوم من العبادة، فكأن الساعات الفانية قد اكتسبت - ببركة هذه الساعة - صفة الخلود، وأصبحت في حكم ساعات أبدية باقية.. فتنـزاح عن القلب سحب اليأس ويتبدد عن الروح ظلام القنوط.. وتصبح هذه الساعة من العبادة كفّارة لبعض ما ارتُكب من أخطاء وذنوب، ربما كانت السبب في الدخول إلى السجن.. وبذلك نكتشف حكمة ابتلائنا بالسجن ويغدو السجن مدرسة نتلقى فيها الدروس النافعة.. ونجد فيه مع اخوتنا في المصيبة والبلاء العزاء والسلوان".3
6– إخفاق التربويات غير الإيمانية:
والبلقع الرهيب، والجدبُ المُمْحِلُ في روح الإنسان ووجدانه، وجفاف ينابيع الإيمان في قلبه، هو موضع نظر "النورسي" وأعظم اهتماماته الفكرية من إنسانِ هذا الزمان، حيث يبدو واضحاً إفلاس التربويات غير الإيمانية في تنشئة النفوس العظيمة الراغبة باستيعاب المعارف الإلهية بجانب ما تزخر به الأذهان من أكداس من المعلومات لم تُجْدِ في تحصين الفرد من مغريات الجريمة وتعاطي المخدرات، وفضائح المال والجنس والانتحار، والسقوط المخيف في الغلظة والقسوة، وممارسات الابتزاز والقهر على الأفراد والجماعات دون وازع من ضميرٍ أو خُلُقٍ. وقد تَحَدَّى "النورسي" مرةً رجال الشرطة والأمن ومكافحة الإجرام في بلاده أن يكونوا قد سجّلوا على أي طالب من طلاب النور البالغ عددهم مئات الألوف ومنذ عشرات السنين مخالفة تخدش أمنَ البلاد، أو جنحة أو جريمة أمكنَ تجريم واحد منهم بسببها ويمضي قائلاً:
أليس هذا دليلاً كافياً على أن مسلكنا التربوي الإيماني هو أقوم المسالك. وإذا كانت الدولة تريد تجفيف منابع الجريمة في البلاد فما عليها إلاَّ أن تسمح لنا بحرية العمل لكي نسلّمَ لها البلاد -في يوم ما- نظيفةً وخاليةً من الجريمة والفساد.
ثم إذا كان لكل حقيقة حياة قائمة بذاتها وهي لا تموت أبداً حتى عندما لا يكون لها وجود في حياة الناس وفي أذهانهم وسلوكياتهم، فكذلك حقائق الإيمان فهي تبقى حيةً عندما تُقْفرُ العقول والقلوب منها، إلاَّ أنها تظلُّ تمارس الحياة في الخفايا المطوية من النفوس والأكوان وفي فضاءات القرآن الكريم، وكل ما تحتاجه لتظهر على السطح شيءٌ من التنبيه والتذكير، وحتى عندما تصمت لأي سبب من الأسباب بعضَ الوقت إلاَّ أن صمتها يظل همساً يحاور أسماع القلوب والأرواح شاءت ذلك أم أبَتْ، ولا بدَّ أن تنتبه في لحظة ما وتبدأ الفهم وتذعن للتذكير فتبادل هذا الصامتَ المتكلمَ الحديث والحوار والفهم والإدراك.
غير أنَّ الناس وبخاصة شباب هذا العصر مشغولون بقضايا بعيدة عن نقطة المركز في دائرة وجودهم، بينما ينبغي أن تكون أولويات انشغالاتهم هي التركيز على هذه النقطة لأنها هي الأساس في بناء هذا الوجود وفي تكويناته النفسية والفكرية، فلياليهم وأيامهم سكرى بلذائذ لا تُشْبَع، وعذابات من الحرمان لا تنتهي، وبشهواتٍ نَهَّاشةٍ لا تنفكُّ تنهش القلوب والعقول ولا تتركها إلا بقايا قلوب محطمةٍ، وعقول ممزقة، لأنَّ كُلَّ لذة تورث ألماً إذا هي زالت -كما يقول النورسي- وكل فرح يورث حزناً إذا مضى وانقضى، وكُلُّ وصال فهو إلى فراق، وكل اجتماع فهو إلى افتراق، فالمطلوب إذن لذة لا تزول، وفرح مقيم، ووصال دائم، واجتماع بالأحباب تحت سماء البقاء والخلود، وهذا ما لا يمكن أن يحظى به المرء إلاَّ في الإيمان والتربية الإيمانية التي تهيؤه لهذا الكسب العظيم الذي هو مطمح كل عاقل أريب.
ولا جدال في أنَّ إنسان هذا الزمان لا يستطيع مهما حاول أنْ يغمض عينيه، ويسُدَّ أذنيه عما يجري حوله من أحداث في هذا العالم الذي غدت الأمكنة فيه -بفضل التقنيات الحديثة- مكاناً واحداً، والأزمنة زماناً واحداً. وصار العالم الوسيع قرية صغيرة كما يقولون يمكن أن يجوبه الإنسان خلال ساعات، فلا بدّ لهذا الإنسان الواقع تحت ضغوط هذه التقنيات المذهلة أن يهتمَّ بالعالم ويتابع أحداثه وَيُكِّونَ رأياً حولها. إلا أنَّ أحداث "القلب والنفس" وما يخوضانه من تجارب. وما يتقلبان فيه من أحوال، وما يعتورهما من انقلابات وتقلبات، وما يحتربان من أجله، ويسعيان لبنائه، ينبغي أن يكون لهما سبق الاهتمام والتعرّف والفهم والإدراك، وأن تكون لهما الأولويات من التفكر قبل الخوض في مجريات العالم من حولهما، فانصباب الإنسان وانكبابه ينبغي أن يبدأ بخويصة نفسه، وبالسويداء من روحه، ثم ينتقل من هناك نحو الأوسع من الدوائر ثم الأوسع حتى يصل إلى دائرة العالم من حوله، وهذا هو الأساس في البناء الفكري والنفسي لطالب النور كما أراده "النورسي" وبهذا الخصوص يقول:
"إن رأس مال العمر قليل، ورحلة العمر هنا قصيرة، بينما الواجبات الضرورية والمهمات التي كُلّفنا القيام بها كثيرة، وهذه الواجبات هي كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز حول الإنسان"
فابتداءً من دائرة القلب والمعدة والجسد والبيت والمحلة والمدينة والبلاد والكرة الأرضية والبشرية وانتهاء إلى دائرة الأحياء قاطبة والعالم اجمع كلها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر، فكل إنسان له نوع من الوظيفة في كل دائرة من تلك الدوائر. ولكن أعظم الواجبات وأهمها، بل أدومها بالنسبة له هي في أصغر تلك الدوائر وأقربها إليه، بينما أصغر الواجبات وأقلها شأناً ودواماً هي في أعظم تلك الدوائر وأبعدها عنه. فقياساً على هذا: يمكن أن تتناسب الوظائف والواجبات تناسباً عكسياً مع سعة الدائرة، أي كلما صَغُرَت الدائرة -وقَرُبَت- عَظُمَت الوظيفة، وكلما كبرت الدائرة -وبَعُدت- قَلَّتْ أهمية الوظيفة... ولكن لما كانت الدائرة العظمى فاتنة جذابة، فهي تشغل الإنسان بأمور غير ضرورية له، وتصرف فكره إلى أعمال لا تعنيه بشيء، حتى تجعله يهمل واجباته الضرورية في الدائرة الصغيرة القريبة منه، فيهدر - عندئذ - راس مال عمره، ويضيّع حياته سدى".4
7– القلب البشري بين المجاز والحقيقة:
إنَّ القلب البشري هو ينبوع كل العواطف والأشواق والمحبَّة والوَجْد والحب، فيظلُّ يَضُخُّ من هذه المعاني فيوضاً هائلة مع كل نبضة من نبضاته، ومع كل دقة من دَقّاته على أبواب الحياة وجدران الوجود.
أرأيتَ أنَّ الله تعالى الذي خلق الإنسان ليُعْرَفَ ويُذْكَر ويُشْكَر ويُعْبَدَ ثمَّ لا يخلق فيه الأداة التي بها يعرفه ويذكره ويشكره ويعبده، أو لا يخلق فيه المرآة التي تتجلّى عليه صفاته الجلالية والجمالية لكي يزداد به شغفاً، ويهيم به محبةً وعِشقاً، ويمتلئ له شكراً وتعبُّداً.
إلاَّ أنَّ القلب المسكين الذي مُنِحَ حرية الاختيار قد يَضِلُّ الطريق، وينحرف في سيره عن الغاية والهدف، فيتعلق بالضلال، وينجذب للأطياف، ويغرق في المجاز، ويشغف بالاستعارة، بينما الحق والحقيقة تظلُّ في متناول إدراكه، وهي أقرب إليه من حبل الوريد، وأقرب مِمَّا يتوهمه من أوهام ويسبح فيه من خيالات فيجره ذلك إلى الاستغراق في أهواء حسيَّةٍ جسدية تبدد فيه من الطاقات الخارقة ما كان يمكن أن يدير أجنحة أعظم أشواقه إلى صاحب الجلال والجمال الحقيقي، الذي كُلُّ جمال وجلال في هذا العالم إنما هو ظلٌّ من ظلال جماله، وقبسة من نور جلاله.
أما مراهقو السلوك الأرعن مِمَّنْ لم يحظوا بتربية إيمانية رشيدة، فشأنهم دائماً التحويم حول خضر الدِمّنَ، والتلهي كالأطفال بالدُّمى، والوقوف على الرسوم والأطلال، والركون إلى الظلال، واصطحاب أشباح بلا أرواح، يجذبهم إلى ذلك ما في الهبوط السلوكي من سحر أسود وما في اقتراف الفسق من غباء أحمق، ولأنَّ هذه الممارسات تخالف الفِطَرَ السليمة، فأنها تعقب ردودَ أفعال نفسية حزينة مؤلمة، وشعوراً بالحِطّةِ والانحطاط وهذا هو الهلاك الروحي الذي حذَّر منه "النورسي" وعزا إليه ما نشاهده في السجون والمستشفيات والخمارات من مآسٍ إنسانية تفطّر القلب، وتملأه إشفاقاً وحزناً.
إنَّ الرجل كُلَّ الرجل هو الذي يتجاوز هذه المراهقات السلوكية الفجَّة، ويعلو فوقها، ويرتفع بظمأ قلبه وأشواق روحه إلى منابع الجمال الحق، والجلال الصدق، ليروي ظمأ القلب، ويطفئ لهب الروح، فيسمو به الإيمان إلى بحار هذه المنابع ليَرِدَهَا ثمَّ يَصْدُرُ عنها وقد أطفأ غلَّةً وَبَلَّ أُواماً…
يقول "النورسي" محذراً: إن الحب المحرم، أو العشق لغير وجه الحق، فيه من الآلام ما ينغّص اللذة الجزئية فيه، منها الشعور بألم الغيرة والحسد، ومنها ألم الفراق عن المعشوق، ومنها ألم عدم مقابلة المحبة بالمثل.. وغيرها كثير من المنغصات التي تجعل تلك اللذة الجزئية بحكم عسل مسموم.
فإن كنت تريد أن تفهم أن سوء تصرّف الشباب وإسرافهم في أمرهم يسبب فيهم من الأمراض ما يسوقهم إلى المستشفيات أو المقابر..
وإن كنت تريد أن تفهم أن غرور الشباب وطيشهم يدفعهم إلى السجون.
وإن كنت تريد أن تفهم أن ما يصيبهم من آلام معنوية وهموم نفسية - من الخواء الروحي والجوع القلبي والفراغ - يسوقهم إلى أبواب الحانات والملاهي.. نعم إن كنت تريد أن تتحقق من هذا، فاسأل المستشفيات والسجون والخمارات والمقابر، فستسمع حتما أنات وآهات، وبكاء مريراً، وحسرات الندم، وأصوات الأسى والأسف، يطلقها -على الأغلب- شباب أشقياء، تلقوا الصفعات الموجعة والضربات الأليمة لخروجهم عمّا أباح الله لهم من الطيبات بدافع نـزواتهم وإسرافهم وسيّء أعمالهم، وارتكابهم المحرمات، وانسياقهم وراء اللذات المشؤومة".5
8– قوى النّفس وطاقاتها:
الإمام "النورسي" ومن خلال قراءاته المُعَمَّقة للنفس البشرية على ضوء كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، يرى أنَّ قوى النّفس وطاقاتها الهائلة في الإعمار والتخريب، وفي السلب والإيجاب حبيسة "إِنيَّةِ" الإنسان أو "أناه" كما يعبّر هو نفسه، فـ "أنا" الإنسان عالمٌ فسيحٌ ذو أُفقٍ واسع، تسبح في أجوائه صور الوجود، وظلال الأكوان، فانعدام "أنا" الإنسان أو غيابه لأيّ سبب من الأسباب يعني نوعاً من أنواع انعدام العالم قُبَالَتَهُ، لأنه هو الذي يرسم صورة العالم على صفحة وجدانه كما تتراءى له، أو كما يُحِسُّها ويشعر بها.
ويرى "النورسي" كذلك أنَّ "أنا" إذا ما نَفَذَ ببصيرته عميقاً في كيان نفسه، فأنَّ سِرّ الخلق والإيجاد الإلهيين سيتوضحان أمامه، قياساً على ما عنده من نازع استشرافيٍّ خَلاَّق يعمل دوماً على خلق دنياه وعالمه الخاص به. وفي معرض حديثه عن عَالَمِ "أنا" الموّار بالأعاجيب يقول "النورسي": "وهكذا…فقد اندرجت في ‘أنا' آلاف الأحوال والصفات والمشاعر المنطوية على آلاف الأسرار المغلقة التي تستطيع أن تدلُّ وتبين -إلى حدٍّ ما- الصفات الإلهية الحكيمة كلها".6
ولا بُدَّ من اختراق طبقات "النفس" وحتى لو كان ذلك عبرَ طوفان من الحقارات والتفاهات المتراكمة لكي نصل إلى العمق النهائي الذي يستقُّر فيه النّازع الإلهي الذي فُطِرَت عليه.
وهذا الوازع الإلهي الفطري هو الذي جعل "النورسي" ينبش عنه بقلمه طبقات النفس لكي يصل إليه، ويطلعه على السطح ويكون مُعْتَمَدَهُ في فكره الدعوي والتربوي على حدٍّ سواء.
9ـ الدين والعلم:
لقد حذّر "النورسي" الإنسان المسلم من أنَّ سقوطاً مريعاً يمكن أن ينتظره حينما ينساق مع التيار المستغرب، فيرى في قوة العلوم قوةً تفوق قوة الدين. ونبَّهَ إلى أنَّ هذه العلوم لا يمكن أن تكون دائماً هي المرآة المطلوبة لكي يرى المسلم روحه فيها، فيقع في الشَرَكِ نفسه الذي وقع فيه الإنسان الغربي حين ظنَّ أنه قادرٌ على اتخاذ "العلم" ديناً يقوم مقام الدين ذي المصدر الإلهي.
و "النورسي" لا ينكر بل يؤكد على أن هذه العلوم ترسل كثيراً من الأحيان بروقاً والتماعات ذات مستويات عالية تومئ إلى الأصل الإلهي للإنسان، إلاَّ أنها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشكل البديل عن شفافية الدين وروحانيته والطمأنينة التي يبثها في النفس، وحين تنكرت المدنية الغربية للدين انقلبت إلى وحشٍ كاسرٍ بلا قلب ولا ضمير ينهش في أوصال الإنسانية في كل مكان، الأمر الذي جعل "النورسي" يعبر عنها بأبشع التعابير حيث قال: "لقد قَاءَتْ هذه المدنيةُ وحشيةً فاقت جميع وحشيات القرون السابقة".7
10– أنواع النفوس:
ذكر القرآن الكريم ثلاثة أنواع من النفوس يتراوح بينها الإنسان، أدناها "النفس الأمارة بالسوء" ثمُّ "النفس اللوامة" والأرقى وهي "النفس المطمئنة".
وقد حذر "النورسي" طلبته من "النفس الأمارة" تحذيراً شديداً، ووصفها في رسائله بأنها نفس زئبقية لا تلبث على حال واحدة، وتتشكل بأشكال مختلفة، تطل برأسها إذا وجدت من صاحبها فرصة ضعف، وتتوارى إذا خافت، تلبس لكل حال من أحوال صاحبها الملبوس الذي يناسبه، وربما أفسدت على المطيعين طاعاتهم وعلى المتعبدين عباداتهم، وعلى المخلصين إخلاصهم، وهي بارعة في المناورة والمراوغة والخداع، فصارت بذلك مبعث كل شر. يقول "النورسي" محذراً:
"وهكذا… يا أخوتي…
تأملوا جيداً وراقبوا أنفسكم لئلا تخدعكم نفوسكم الأمارة بالسوء من زاوية قياس الآخرين بالنفس ومن حيث سوء الظن بالآخرين، ولا تساوركم الشبهة بأن ‘رسائل النور' لا تربي طلابها".8
أما "النفس اللوامة" وهي الأرقى في درجات النفوس، إلاَّ أنها الأكثر تعباً، والأشدُّ معاناةً والأرهف شعوراً، والأعنف توتراً، والأعظم تألماً، والأعمق حزناً، فهي لَوَّامةٌ عَتَّابة، نَقَّادة عيَّابة، لا تعرف السكينة، لأنها ضمير الوجدان، والعصب الذي يهزه الغلط، ويوتره الانحراف، تلوم صاحبها إذا أخطأ، وتذكره إذا نسي، وتعنفه إذا اعوجَّ، وتوخزه إذا سكن إلى باطل، وتنذره إذا مارس فسقاً أو أتى فجوراً. وتكبح جماحه، وتلجم أهْواءهُ وهي في صراع دائم مع نفسه الثانية "الأمارة بالسوء" حين تطلُّ برأسها من مخبئها بين تارة وأخرى، فالحرب بينهما سجال، كرٌّ وفرٌّ هزيمة وانتصار، وهي البوصلة الهادية إلى الطريق المستقيم، ولبيان أهمية هذه النفس ربط جلَّ وعلا في قَسَمه بينها وبين يوم القيامة، فقال: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾.القيامة:1-2
فبين يوم القيامة بأهواله الرهيبة وبين "النفس اللوامة" سلكٌ نورانيٌّ خفي ينقل صراخ هذه النفس إلى مسامع "القيامة.. أملاً في شمول صاحبها بالرحمة الإلهية.
وإذا ما قُدِّر لمعدن "النفس اللوامة" أن يتصفَّى في بودقة الاختبار من الشوائب والأخباث، وأن يُنَقَّى سرُّها، ويتطهر لُبُّها، وتخرج من جحيم "النفس الأمارة بالسوء" سالمة مبرأة، صارت نفساً مطمئنة، ودرجت لتأخذ مكانها في صفوف المرضيين المطمئنين، وصارت هي المعينة بخطابه جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.الفجر:27
إلاَّ أنَّ هذه النفوس التي استعرضنا بعضاً من سماتها وملامحها في صدر هذا الكلام لا يفصل إحداها عن الأخرى في الإنسان حَدٌّ فاصلٌ، أو حاجزٌ لا يمكن تجاوزه واختراقه، فـ "النفس الأمارة بالسوء" موجودة حاضرة مع كل نفس، تتوارى أحياناً إلى حدّ الظنّ بأنها لم يعد لها وجود، ثم لا تلبث حتى تخرج رأسها من بعض ثغورٍ ضعيفة غفل الإنسان عن تحصينها جيداً، وقد تضعف وتهزل وربما دخلتْ مرحلة الاحتضار إلاَّ أنها لا تموت، وسرعان ما تتراءى وكأنها قد استردّت قوتها وعافيتها حتى أن أكابر الأولياء والأصفياء والبررة الأتقياء يستغيثون بالله منها، ويرجون عونه تعالى ليظهروا عليها، وإلى هذا المعنى يكتب "النورسي" إلى طلبته موجهاً: "إخوتي الأعزاء الأوفياء:
لقد خَطَر إلى قلبي أن أبين لكم حقيقة لئلا يتهم بعضكم بعضاً بالأنانية وعدم الوفاء لقد رأيتُ -يوماً- من وليٍّ عظيم قد ترك الأنانية وانْمَحْت نفسه الأمَّارةُ، رأيتُ منه يشكو بشدّةٍ من النفس الأمَّارة. فحرتُ في الأمر. ثمَّ عَرَفْتُ يقيناً إنه لأجل إدامة المجاهدة المثابة عليها إلى نهاية العمر تتحول أعتدة النفس الأمارة بموتها إلى العروق والمشاعر.
وهكذا يشكو أولئك الأولياء العظام من هذا العدو الثاني الوارث للنفس الأمَّارة".
ويمضي "النورسي" قائلاً: "بل إنَّ بعضاً مِمَّنْ هم في أعلى المقامات يعدون أنفسهم أكثر الناس ضعفاً وعجزاً وإفلاساً لأنهم لا يستشعرون إحساناً إلهياً أُنعم عليهم (أي لا يجدون أنفسهم ممن يستحقون هذا الإنعام الإلهي عليهم)، مما يدل على أن الكشف والكرامة والأذواق والأنوار التي تعتبر في نظر العوام مدار الكمالات لا تكون قطعاً محكاً ولا مداراً لتلك المقامات والقيمة المعنوية".9
11– حياة النورسي وانعكاساتها على حياة طلبته:
عاش "النورسي" طوال حياته عميقاً في كل شيء، ولم تَسْتَهوِهِ أبداً المُسطَّحاتُ في الدين والفكر والحياة. إنه جوهري في أموره كلها، سبّار أغوار، حمّال أثقال، غوّاص أعماق، ما جافى أحداً مجافاته للنفوس الباهتة، والعقول الساهية، والأرواح الفارغة.
إنه يتساءل دائماً: هذه الحياة التي أُعطيناها، ماذا نفعل بها..؟ وكيف نصرفها..؟! إنه لا يكره شيئاً كراهيته للكسل والفراغ لأنهما سبب لكل انحلال وتدهور، إنَّ زيادة الإدراك والتفتّح على الحياة هي إحدى مهمات عقله، وهي نفسها المهمة التي حَثَّ طلابه على السّموِ إليها، إنَّ لسان حال رسائله يقول لهم: كونوا على أعلى مستوى من التوتر الروحي، اربطوا أنفسكم بأعمدة الوجود، تحركوا بحركته، واحيوا بحياته، انتقلوا من كونكم مستهلكين لحياتكم إلى مستثمرين لها، ومن أن تعيشوا إلى أن تحيوا، ما زمان مضى لم تكونوا موجودين فيه ولا زمان سيمضي لا تكونون موجودين فيه… ليبعثكم النفير القرآني من قبور أنفسكم قبل أن يبعثكم من قبور أجسادكم… إنَّه الإسراء من حرم الإسلام إلى أقصى الإيمان، ومن هناك إلى سدرة منتهى الإِحسان.10
* * *
الهوامش: 1 ذ.أديب إبراهيم الدباغ: مركز النور للدراسات والأبحاث، إستانبول. 2 ذكريات عن سعيد النورسي ص 97-98. 3 الشعاعات ص 252. 4 الشعاعات ص 252. 5 الشعاعات ص 255-256. 6 أنظر رسالة "أنا". 7 سيرة ذاتية، ص 140. 8 الشعاعات/ 389. 9 الشعاعات 389. 10 في إحدى اللقاءات مع طلاب النور، قال واحدٌ من المعنيين برسائل النور: أرى أن الأستاذ استطاع أن ينقلكم بسرعة عجيبة ومن خلال رسائله من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان، ثم مقام الإحسان. فأنتم ترون اللّٰه تعالى فيما تأخذون وتعطون، وتأتون وتتركون، فإن لم تكونوا تروه فإنه يراكم، وهذا هو مقام الإحسان كما ورد في الحديث الشريف.

Yıl 2011, Cilt: 4 Sayı: 4, - , 01.12.2011

Öz

Toplam 0 adet kaynakça vardır.

Ayrıntılar

Birincil Dil Arapça
Bölüm ARTICLES
Yazarlar

ذ. أديب إبراهيم الدباغ Bu kişi benim

Yayımlanma Tarihi 1 Aralık 2011
Yayımlandığı Sayı Yıl 2011 Cilt: 4 Sayı: 4

Kaynak Göster

APA الدباغ ذ. أ. إ. (2011). من ملامح التربية السلوكية عند النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, 4(4).
AMA الدباغ ذأإ. من ملامح التربية السلوكية عند النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. Aralık 2011;4(4).
Chicago الدباغ ذ. أديب إبراهيم. “من ملامح التربية السلوكية عند النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 4, sy. 4 (Aralık 2011).
EndNote الدباغ ذأإ (01 Aralık 2011) من ملامح التربية السلوكية عند النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 4 4
IEEE الدباغ ذ. أ. إ., “من ملامح التربية السلوكية عند النورسي”, النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, c. 4, sy. 4, 2011.
ISNAD الدباغ ذ. أديب إبراهيم. “من ملامح التربية السلوكية عند النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 4/4 (Aralık 2011).
JAMA الدباغ ذأإ. من ملامح التربية السلوكية عند النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2011;4.
MLA الدباغ ذ. أديب إبراهيم. “من ملامح التربية السلوكية عند النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, c. 4, sy. 4, 2011.
Vancouver الدباغ ذأإ. من ملامح التربية السلوكية عند النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2011;4(4).