التربية السلوكية عند النورسي
أ.د. محسن عبد الحميد1
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. وبعد:
القرآن الكريم ينظر إلى كيان الإنسان نظرة موحدة متوازنة. فكينونة الإنسان شبكة متلاحمة من العقل والقلب والنفس والروح. أعطى كل جانب من تلك الجوانب نصيبه من المعالجة. حتى لا يطغى جانب على جانب، كي لا يستولي انحراف الجانب الغالب على الجوانب الأخرى. لأن الإنحراف يؤدي إلى فقدان الموازنة، وهو مخالف للفطرة التي خلق الله تعالى الوجود عليها. قال تعالى: ﴿وَالسَّمَآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ.﴾الرحمن: 6-9
ولما كانت فطرة الإنسان تحتوى على تلك الطاقات مجتمعة، لذلك فقد نوّع القرآن الكريم خطاباته الموجهة للإنسان فتارة ينبه الإنسان إلى الحجة العقلية ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ. وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ق:6-8
وتارة ينبه إلى الحواس ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾الأعراف:178 وثالثة يشير إلى حقيقة النفس ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا.﴾الشمس:7-10 وهكذا…
والسبب في ذلك كله التأثير المباشر على تلك الملكات وتربيتها ثم السيطرة عليها وتوجيهها وجهة موحدة، حتى لا تشذ قوة من تلك القوى، فتدمر القوى الأخرى المتوازنة معها. وشبيه ذلك في عالم المادة، عالم الذرة، فالذرة الواحدة تخضع إلى نظام داخلي متوازن دقيق جدا، فأية محاولة لإخراج أي كهرب "إلكترون" من مساره، ستؤدي إلى تحطيم الذرة، وتحطيم الذرة يدمر ما حولها من الموجودات.
وهذا القانون سار من الذرة إلى المجرة، ومنه الإنسان، الذي بملاحظة سلوكه نلاحظ أن إعطاء المجال للقوة العقلية وحدها، وإهمال القوى الأخرى، يؤدي إلى الإنحراف وتحطيم القوى جميعها، ثم يؤدي إلى الخراب في داخل النفس الإنسانية، ثم ينتهي إلى الخراب في المجتمع الإنساني.
وكذلك الحال بالنسبة للنفس والروح والقلب، التركيز على أي عنصر من تلك العناصر، سيكون على حساب العناصر الأخرى، فيحدث خلل كبير في داخل الكينونة البشرية.
إذن النظرة الأحادية في معالجة مشكلات الكائن الإنساني، سيؤدي إلى زعزعة كبيرة في حياة الإنسان، ثم المجتمع. بينما النظرة الشمولية التي تحاول أن تنظر إلى الكينونة الإنسانية نظرة متوازنة متكاملة، تحدث براحة كبيرة في كيان الإنسان، وتؤدي إلى إنتاج متوازن في تكوين حضارته، لأن كل قوة من تلك القوى ستسير في مسارها الفطري الصحيح.
ومن أجل ضبط القوى الإنسانية تلك في مساراتها الصحيحة، أنـزل الله تعالى كتابه الأخير شاملا لقضايا العقيدة والشريعة والسلوك، التي تربط بين حركة تلك القوى ربطا محكما.
فلأجل عدم الإنفصام بينها، يقتضي ألاّ نركز على العقيدة وحدها ولا على الشريعة وحدها، ولا على السلوك وحده، فنصنع منها جزرا منفصلة، يجهل أهل كل جزيرة ما يحدث في الأخرى.
ولم يكن عبثا أن الله تعالى أعلمنا بتفاصيل أسمائه الحسنى، في القرآن الكريم، كي يعرف الإنسان المسلم نصيبه من كل مجموعة من تلك المجموعات في إطار فطرته وطاقاته المنبثقة منها.
فأسماؤه: الخالق، البارئ، الأحد، الصمد، الوهاب، الرزاق، الفتاح، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، العظيم، العلي، الكبير، الحفيظ، القوى، المجيب، المحي، المميت... على سبيل المثال، ترسم له أساس عقيدته وصفاءها، وتحصنه من أن يقع بين براثن الشرك الجلي أو الخفي.
وأسماؤه: الملك، المهيمن، العزيز، الجبار، القهار، الحكيم، العليم، العدل، الخبير، الرقيب، المنتقم... تضبط له أسس الشريعة التي تضبط حركته الحضارية، وتحول بينه وبين الوقوع في شريعة الأهواء.
وأسماؤه: الرحمن، الرحيم، القدوس، السلام، الغفار، اللطيف، الحليم، الغفور، الشكور، الكريم، الودود، البر، التواب، العفو، الرؤوف، الصبور... توجهه إلى تصفية الروح والوصول به إلى الاستقامة التي يعلن الإنسان عندها عبوديته الخالصة لرب العالمين، خالقه وخالق الوجود.
إذن فهذه الجوانب متلازمة متلاحمة، ينصهر الواحد بالآخر، لكي يقود في النهاية إلى الوصول إلى الإنسان الأرقى المكرم عند الله، الذي قد يصعد في الطهر إلى مستوى الملائكة. ولا ينـزل إلى دركات الحيوانية.
وإذا جئنا إلى منهج التغيير في الكيان الإنساني الذي أتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجده متكاملا من خلال القرآن الكريم وسنته الشريفة، نجده منهجا شموليا أدمج المثلثات الثلاثة "العقيدة، الشريعة، السلوك" في "كل واحد" رصين متلازم، في ضوء القراءات الثلاث للوجود. قراءة القرآن الكريم وما فيه من شمولية الجمع بين العقيدة والشريعة والسلوك، وقراءة الكون بكل ما فيه من ترابط وتلازم وعظمة، تذكر الإنسان بالخالق العظيم ووحدانيته وشريعته الكونية السارية في كل خلية من خلايا الوجود، التي تهز كيان الإنسان وتحدث فيه نشوة روحية عارمة، تمثل قمة العبادة للخالق العظيم. وقراءة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي غدا موضع تجليات الأنصبة البشرية في شخصه الكريم من أسماء الله الحسنى، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم الرائد الأرقى إلى الله تعالى، ومحول شريعته الكونية إلى شريعته الاجتماعية، ومربى الإنسان المسلم في تربية نفسه الأمارة بالسوء، وتجسيد العبودية في كيانه القلق القابل لانطباع كل صورة فيه، بالنظام العبادي الذي يصفيه ويعليه في مراتب الآية الكريمة ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ.﴾فصلت: 30
وهكذا ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الأكرمين في هذه الدائرة الواسعة الشاملة، لكي يقوموا بعملية التغيير الشاملة التي تصنع مملكة الإنسان في هذه الدنيا على الأرض، وليست معلقة في السماء، في ظل إسلام العقيدة وإسلام الشريعة وإسلام تربية سلوك الإنسان في ظل أتباعهما إلى الأعلى والأرقى.
ولذلك لا نجد بينهم من اتجه إلى تربية نفسه وترك الحركة في عالم الصراع بين موكب الرحمن الذي يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم وموكب التمرد على الله الذي يقوده الشيطان الرجيم.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، عندما كان يبلغ أن أحد الصحابة قد أعطى مثلث تربية الروح والسلوك أكثر من الجوانب الأخرى يرده إلى التوازن.
ألم ينبه، أبا الدرداء، عندما علم بأنه تجاوز الحد في جانب العبادة، على حساب أهله ونفسه، فقال له: يا أبا الدرداء: هلك المتنطعون، إن لأهلك عليك حقا وإن لبدنك عليك حقا.
وعندما وجد أن أناسا يقطعون أنفسهم عن الزواج وآخرين يصومون الدهر كله، وآخرين يقومون الليل كله، ويخالفون بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو نفسه كان إمام العابدين ومع ذلك كان يصوم ويفطر، ويتهجد وينام، ويتزوج النساء، ولكنه في إطار إعطاء نفسه وأهله والمجتمع والدولة حقوقها.
والنظام العبادي الذي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته عليه، كان من أجل تقوية كياناتهم حتى يصمدوا أمام صراعات الحياة، ولا يتهربوا في معركة مواجهة الشيطان في مجالات الحياة كافة.
وهو نفسه صلى الله عليه وسلم، لما ضاق صدره من بعض وجوه الصراع الدموي الحاد مع المشركين في مكة احتاج إلى جولة روحية راقية، فأسرى الله تعالى به إلى بيت المقدس وعرج به إلى السموات العلى وأراه من آياته الكبرى، فتضلع من النشوة الروحية الربانية، ولم يمكث هناك إلا لحظات، فعاد إلى الأرض أقوى مما كان، لكي يبدأ بالرحلة الجديدة، في مواجهته الحاسمة للشرك الذي انتهى إلى الهجرة وإنشاء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية خاصة وبناء الحضارة الإسلامية عامة.
ولذلك فقد هاجم إقبال الولي الهندي عبد القدوس الجنجوهي الذي قال: "ذهب محمد العربي إلى المعراج وعاد إلى الأرض فو الذي نفسي بيده لو كنت مكانه لما رجعت أبدًا".2 وعدّ هذا انحرافا عن طريق الإسلام، فرحلة المسيرة الروحية إلى الله لابد أن يكون الغرض منها، تقوية الكينونة الإنسانية أمام صراعات الأرض في أداء الخلافة وتبليغ الأمانة. ولذلك فالعودة ضرورة إلى الحياة، والخطأ البقاء هناك.
وإذا رجعنا من هذه الجولة السريعة إلى المسلك الذي اتبعه النورسي في التربية السلوكية لصياغة الإنسان المسلم صياغة ربانية أمام مسالك الشيطان ومهالك العصر، ولا سيما هجمة اللادينية الشرسة، لوجدنا أنه انطلق من تجليات الأسماء الحسنى في عالم الأنفس والآفاق، من الذرة إلى المجرة، ومن أعماق النفس الإنسانية إلى مظاهرها المجلية، ولكن في شمولية وتكاملية، موزونة متلاحمة، في ضوء منهج قرآني متشابك، لا يفصل الجزء عن الجزء ولا الجزء عن الكل.
ومن هنا فإنه لم يدخل في نفق ضيق، أو معالجة مبتورة، وإنما أدرك أن صراع العصر يقتضي الشمولية المتكاملة المتوازنة، التي وجدها في القرآن الكريم، لأن الموقف الذي واجهه في الجاهلية الجديدة، والتي كانت تخطط للقضاء النهائي على الإسلام، لم ير مثيله إلا في أول الرسالة الإسلامية، عندما واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقائق الوحي الإلهي وتكامليته، عقيدة وشريعة وسلوكا.
نعم لقد عاد ذلك الموقف نفسه في عصره، عندما خرج المسلمون من وعاء الإسلام إلى وعاء الفلسفات الغربية المادية الإباحية اللاأخلاقية، فصبغت حياتهم بصبغتها في عالم السياسة والحكم والإقتصاد ونظام التربية والتعليم ونظام الحرب والسلم والأدب والفكر والفن والأخلاق. فكان هذا الصراع الشديد والسهام الموجهة بحاجة عصرية ماسة إلى مواجهة قرآنية، بعيدة عن النظرة الأحادية والحلول المرحلية والوصفات الجزئية، والإجتهادات التاريخية.
إنه على الرغم من دراسة النورسي للعلوم الإسلامية دراسة محكمة، وقراءته لنتاجات العلماء الأولياء الصادقين في أمتنا وأخذه في بداية حياته الطريقة النقشبندية والقادرية، فإنه لم يتبع أحدهم بعينه في منهجه ولا سلوكه إلى الله، وقيادة حركة الإنسان في ضوئه، لأن مسالكهم كانت تتفق مع عصورهم وظروف حياتهم، ولأن تلكم المسالك والمناهج لم تكن توافق همومه واستعداداته وأحواله الروحية.
يقول النورسي بعد مروره بالحيرة في الأخذ بمنهج معين: "وحينما كنت أتقلب في هذه الحيرة الشديدة. إذا بخاطر رحماني من الله سبحانه وتعالى يخطر على قلبي ويهتف بي: إن بداية هذه الطرق جميعها، ومنبع هذه الجداول كلها وشمس هذه الكواكب السيارة... إنما هو القرآن الكريم. فتوحيد القبلة الحقيقي إذن لا يكون إلا في القرآن الكريم... فالقرآن هو أسمى مرشد وأقدس أستاذ على الإطلاق. ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه".3
وفي ظل هذا المنهج القرآني ألّف النورسي رسائل النور. وهو منهج يقوم على ثلاث قراءات تستمد قوتها من تطبيقات أسماء الله الحسنى على الوجود كله، ضمن منهج القرآن الكريم في تحديد أسس المعرفة، من الحس إلى العقل إلى الوحي ثم المنهج الذي يجمع بين قراءة النص القرآني، وقراءة الكون في ضوئه وقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقا للنص.
وبناء على ذلك، فقد رفض الطريقة والتجأ إلى الحقيقة، لأن ضرر الأولى بالنسبة للوضع الجاهلي الجديد كان محتملا ونجاح الثانية كان مؤكدا ومرهما خالصا لأمراضه.
يقول النورسي: "وأن الشغف بالطرق الصوفية التي نفعها قليل لنا في الوقت الحاضر واحتمال إلحاق الضرر بوضعنا الحالي ممكن، قد سدَّ أمامه تنبيهي الشديد عليه… وإلا لأفسد ذلك الهوى وحدتنا، وأدى إلى تشتت الأفكار الذي ينـزل قيمة الترابط والتساند من ألف ومائة وأحد عشر الناشئة من إتحاد أربعة آحاد، ينـزلها إلى قيمة أربعة فحسب، ويؤدي إلى تنافر القلوب الذي يبدد قوتنا إزاء هذه الحادثة الثقيلة ويجعلها أثراً بعد عين".4
ويقول أيضاً: "فلئن رجحت المسائل البسيطة للنحو والصرف التي يقرأها الطلاب مثل: نصر نصرا نصروا... على الأوراد التي تذكر في الزوايا، فكيف برسائل النور الحاوية على الحقائق الإيمانية المقدسة في ‘آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر'. ففي الوقت الذي ترشد ‘رسائل النور' إلى تلك الحقائق بأوضح صورة وأكثرها قطعية وثبوتا حتى لأعتى المعاندين المكابرين من الزنادقة وأشد الفلاسفة تمردا وتلزمهم الحجة كم يكون على خطأ من يترك هذه السبيل أو يعطلها، أو لا يقنع بهـا، ويدخل الزوايـا المغلقة دون استئذان من الرسائل تبعا لهواه".5
"ومن هنا استغنت الحقيقة عن الطريقة، لأنها أشمل وأنجح في معالجة الأدواء والدليل على ذلك أن شيخا عظيما ومرشدا ذا جاذبية من أولياء الطريقة النقشبندية لم يستطع أن يقنع إلا واحدا من مجموع ستين طالبا من طلبة النور وبصورة مؤقتة، أما الباقون فقد استغنوا عن إرشادات ذلك الشيخ، بأنوار رسائل النور، لأنها رسائل تنقذ أصل الإيمان"6 والإيمان شامل لقضايا الحياة جميعا.
ومن جانب آخر فإن طالب الحقيقة النورية يضحي براحته وامتيازاته في الدنيا من أجل الآخرة عندما يدخل مع الإيمان في صراعه مع الكفر ويتحمل نتائجه، ومن طلاب الطريقة من يجعل رغبته في الآخرة وثمارها سلماً للوصول إلى مآرب دنيوية ضيقة، وهي الوصول إلى مرتبة نيل الكرامة الدنيوية كيما يعد من أهل الكرامات.
وإذا كان النورسي يرفض الطريقة منهجا للسلوك إلى الله تعالى في هذا العصر، فإنه يرفض أيضاً البقاء في دائرة الكلام والفقه وحلقاتها الضيقة، المنكبة على دراسة الكتب القديمة فحسب، والتي لا تولد الإخلاص والتضحية بل قد تدفع عن طريق الجمود والتأويلات المائعة أصحابها إلى أحضان الضلال والنفاق.
يقول النورسي: "فهذا العصر المشوؤم قد غرز الناس بهذه الأمور وما زال ولقحهم بأفكاره وما زال، بحيث جعل العلماء الذين هم خارج دائرة النور، بل بعض الأولياء ينـزلون حكم الحقائق الإيمانية إلى الدرجة الثانية والثالثة بسبب ارتباطهم بتلك الحياة السياسية والإجتماعية منجرفين مع تلك التيارات. فيولون حبهم للمنافقين الذين يبادلونهم الفكر نفسه، ويعادون من يخالفهم الرأى من أهل الحقيقة، بل من أهل الولاية وينتقدونهم، حتى جعلوا المشاعر الدينية تبعا لتلك التيارات".7
إذن فمسيرة السلوك إلى الله تعالى تبدأ عند النورسي من القرآن الكريم وموازناته الربانية، والذي يربي المؤمن على العبودية الخالصة لله تعالى. فإذا صار المؤمن عبدا حقيقيا لخالقه العظيم حينئذ يكون إنسانا متواضعا مستغنيا عن كل شيء بما ادخره مالكه الكريم من خزائن لا تنفد في الآخرة. والإستناد المخلص على هذا يدفعه إلى القوة، لأنه لا يعمل إلا لوجه الله، بل لا يسعى إلا ضمن رضاه، بلوغا إلى الفضائل ونشرها والتضحية بماله ونفسه من أجلها.
وهذا هو الفرق بين التربية القرآنية وتربية المناهج الأخرى.8
وإذا كان هدف التربية النورية جعل الإنسان عبدا لله تعالى وحده لا شريك له، فإنه لا بد أن يبدأ باسم الله ويعمل باسم الله ويأخذ باسم الله ويعطي باسم الله ويتحرك باسم الله، ويسكن ضمن دائرة مرضاته وأوامره. وقد يتعرض الإنسان عبر مسيرته إلى التقصير، فدونه باب الإستغفار والتضرع.
والعبودية لله تعالى لا تتحقق أبدا إلا باتباع الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم، لأنه "بذرة شجرة الكون، وأنور أثمارها وشمس قصر هذا العالم، والبدر المنوّر لعالم الإسلام والدال على سلطان ربوبية الله والكشاف الحكيم للغز الكائنات".9
وفي إطار موازنة القرآن الكريم للقراءات الثلاث "نصا وكونا ورسولا" استنبط النورسي طريقا قصيرا وسبيلا سوية في التربية السلوكية، حصره في أربع خطوات هي:
ـ العجز: لأنه يوصل إلى المحبوبية عن طريق العبودية، وشاهده قوله تعالى ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾.النجم:32
ـ الفقر: الذي يوصل إلى اسم "الرحمن" وشاهده قوله تعالى ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَاَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾.الحشر: 19
ـ الشفقة: الذي يوصل إلى اسم الله "الرحيم" وشاهده ﴿مَا أصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾.النساء:79
ـ التفكر: الذي يوصل إلى اسم الله "الحكيم" وشاهده ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾.القصص: 88 10
وبعد شرح مفصل لهذه الخطوات المتسلسلة التي توصل إلى علم الحقيقة أي حقيقة الشريعة وحكمة القرآن الكريم، يقول النورسي: "ثم إن هذا الطريق أسلم من غيره، لأن ليس فيه شطحات أو إدعاءات فوق طاقتها، إذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده. ثم إن هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لأنه لا يضطر إلى إعدام الكائنات ولا إلى سجنها… بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الإعدام ويطلق سراحها من السجن. فهذا الطريق على منهج القرآن ينظر إلى الكائنات أنها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله. وإنها مظاهر لتجليات الأسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات".11
هذا النهج القرآني القويم لم يبقه النورسي في دائرة التجريد الفكري، وإنما حوله عبر رسائله النورية إلى صياغة جيل رباني مخلص لربه، ومحارب لأنانيته يعي حركة عصره وتعقيداته، ويشعر بالواجب الشرعي الملقى على عاتقه في ترشيد التغيير الإجتماعي والوقوف أمام الطغيان والدجل، وتزيين الحياة المادية الغربية المغرية للمسلمين، بل فرضها عليهم بقوة الحديد والنار.
جيل مؤمن واجه الطغيان والتربية المنحرفة دون عنف بالسلوك القرآني والتربية النبوية، التي تكاملت فيه الربانية مع العقلانية مع الحركية الواعية والحكمة السديدة والدعوة الحسنة، في معالجة أمراض العصر، في ضوء أخوة متعاونة على البر والتقوى، ورحمة حانية بالفرد والمجتمع، جعل من جهاده الكلمة الصائبة والحركة المنتجة والعلم النافع والأدب مع الجميع، حتى مع الأعداء في الداخل، فانتهى به الأمر إلى إنقاذ الملايين، ونقلهم من موكب الشيطان إلى موكب الرحمن. بينما انتهى بعض أهل الطريقة الضيقة في تربيتها إلى الأنانية واحتكار التجربة الذاتية، في ظل إدعاء السلوك إلى الله بلا عودة، تاركين المجتمع نهباً بيد الطغاة اللادينيين. وانتهى أهل الكتب الكلامية والفقهية المجردة من أنصاف العلماء إلى الجبن والخور والسكوت عن جرائم اللادينيين، بل ممالئتهم، وسباحة الكثيرين منهم في حوض النفاق لهم.
ولأجل ذلك، نجح المشروع النهضوي النورسي الإسلامي في إخراج الشعب عامة من مستنقع الإنحراف إلى مروج الإيمان اليانعة. وكل من درس أوضاع المجتمع التركي في العصر الأخير يدرك ذلك تمام الإدراك.
بينما أخفقت مشاريع الآخرين لأنها بدأت من التاريخ وبقيت في التاريخ، ولم تنطلق من الوحي الإلهي إلى العصر، في معالجته أفكاره وانحرافاته.
رحم الله سعيد النورسي، الإمام الممتحن، ورجل القدر، والداهية الرباني الحركي الثبت، وحكيم المرحلة الصعبة، وحشره تحت لواء النبي الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، مع الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقا.
والحمد لله رب العالمين.
* * *
الهوامش:
1 كلية التربية- جامعة بغداد العراق.
2 تجديد الفكر الديني ص 142.
3 النورسي، بديع الزمان سعيد، سيرة ذاتية، إعداد وترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1995. ص 162 .
4 سيرة ص 296.
5 النورسي، بديع الزمان سعيد، اللمعات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي. سوزلر، إسطنبول 1993.ص 430.
6 النورسي، بديع الزمان سعيد، الملاحق، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1995. قسطموني ص 114، 132، 142..
7 الملاحق- قسطموني/ 149 وأنظر أيضا سيرة ذاتية ص 311.
8 النورسي، بديع الزمان سعيد، الكلمات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، إسطنبول 1992.
9 الكلمات ص 343.
10 الكلمات ص 558.
11 الكلمات 561.
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Haziran 2011 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2011 Cilt: 3 Sayı: 3 |