التجرد ونبذ الأنانية عند النورسي
أ.د. جمال الدين عبد العزيز شريف1
توطئة:
التربية منظومة متكاملة من العلوم والمعارف والعمليات والأنشطة التي تهدف إلى تنمية الفرد وتساعده على تكوين منظومة من القيم الأخلاقية والعادات الإيجابية التي تؤهله للتعاون والتعامل مع الآخرين وتعدّل سلوكه باكتساب الفضائل ونبذ الرذائل.2 وترتكز هذه التربية على مجموعة من الأسس؛ منها الأسس الفلسفية والأسس الإجتماعية والأسس الثقافية والأسس النفسية والأسس الأخلاقية وغيرها.
وهذه التربية من الأمور المهمة جداً، وليست أمراً عارضاً أو قضية هامشية؛ وإنما هي ضرورة ملحة ومسألة لازمة؛ يقول الغزالي: "وكما أن البدن في الإبتداء لا يُخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء فكذلك النفس تُخلق ناقصة قابلة للكمال؛ وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق؛"3 ولشدة أهمية هذه التربية فقد بدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ ربى أصحابه -وكانوا قلة بمكة- في دار منعزلة بعيداً عن المجتمع الجاهلي ورذائله؛ حتى أنتج جيلاً رفع الله ذكره وخلّد سيرته، وما ذاك إلا لأن هذه التربية الإيمانية جزء مهم من حياة الأمة وسلوكها وأخلاقها، والأخلاق في الإسلام ترتبط ارتباطاً وثيقًا بالإيمان بلله ومعرفته والتعلّق به؛ وهي بذلك تستلزم التجرّد والسمو عن الأنانية والأهواء والحظوظ الدنيوية؛ وذلك لأن الإنسان يترك هوى نفسه ويتبع ما أمر الله تعالى به، وقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان والأخلاق وكيفية التعامل بين المسلمين؛ فقال: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ."4
وقد فقدت الأمة كثيراً من أخلاقها الحميدة فتفككت أجزاؤها وتنازع أفراها وذهبت ريحها وظهر فيها حب النفس وعبودية الذات والأنانية المفرطة والعجب والغرور والرياء والتطلع إلى الشهرة، ويؤكد الإسلام أن المعايير الأخلاقية السامية يجب أن تنظم شئون الحياة بدلاً من تحكّم الشهوات والأنانية والمصالح الضيقة.
وذكر النورسي أن التجرد ونبذ الأنانية من دساتير القرآن؛ بل هو من أوائل الدروس التي تلقاها من القرآن كما سيأتي، وقد تناول النورسي داء الأنانية وعكف على دراسته ثلاثة عقود من الزمان وعمل على علاج أفراد الأمة منه؛ مستعيناً في ذلك بتأملاته في القرآن وما استخرجه منه من علاجات وحلول، ولم يقتصر النورسي على الجانب النظري للتجرد ونبذ الأنانية؛ وإنما كان ذلك منهجاً انتهجه قولاً وعملاً؛ وتفصيل ذلك كالآتي:
أولاً: التجرد ونبذ الأنانية في فكر النورسي.
يتناول هذا الجزء من البحث التجرد ونبذ الأنانية في فكر النورسي من خلال رسائل النور؛ فيشتمل على مكانة هذا الموضوع في فكر النورسي كما يشتمل على مسألة الضعف البشري إزاء الأنانية، وعلاج القرآن لهذه الأنانية ونتائج التجرد وعواقب الأنانية عند النورسي؛ وتفصيل ذلك كالآتي:
أ- مكانة التجرد ونبذ الأنانية في فكر النورسي:
كان القرآن العظيم هو الأساس الذي انطلق منه النورسي في بلورة فكره وتأسيس منهجه، ولم يقتصر على ذلك فحسب بل اعتمد على السنة والسيرة أيضاً؛ وذلك لأن السنة والسيرة هي الجانب العملي للقرآن الذي أظهره النبي صلى الله عليه وسلم في أسمى صوره وأعلى نماذجه؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم هو نموذج الإقتداء وأكمل مرشد للإتباع وأحكم دستور وأعظم قانون يتخذه المسلم في تنظيم حياته، وليس ذلك فحسب بل عدّ النورسي أن ما اجتمع فيه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق العالية إنما هو أعظم معجزة بعد القرآن؛ إذ كان في الطبقة العليا من كل خصلة،5 وقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم هو القرآن؛6 إذ كان يطبقه في أقواله وأحواله وحركاته وكان متمسكًا بآدابه وأوامره ونواهيه وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن؛7 ولهذا كان على خلق عظيم كما شهد له الله تعالى بذلك،8 ومن دساتير القرآن الذي طبقه النبي صلى الله عليه وسلم عند النورسي التجرد ونبذ الأنانية؛ فلا يحسب الإنسان أن ما سوى الله أعظم منه فيرفعه إلى مرتبة العبادة ولا تسيطر الأنانية عليه بحيث يتكبر على خلق الله تعالى؛ إذ يتساوى ما سوى الله في البعد عن المعبودية وفي نسبة المخلوقية.9
ولما ركّز النورسي في فكره على التحلي بالسجايا السامية والخصال الحميدة التي يأمر بها الله تعالى فقد ركّز على التجرد ونبذ الأنانية وكبح جماح الذات؛ وليس ذلك فحسب بل ذكر النورسي أن له ثلاثين عاماً وهو في مجادلة مع طاغوتين هما الـ "أنا" في الإنسان والطبيعة في العالم،10 وقد ذهب النورسي إلى أن من أهم الأمور التي فهمها من القرآن -التجرد ونبذ الأنانية؛ يقول: "إن أول درس من دروس رسائل النور الذي تلقيته من القرآن الكريم هو التخلي عن الأنانية وحب الذات حتى يتم إنقاذ الإيمان بالتقلد بالإخلاص الحقيقي."11 ويقول أيضاً: "ومن لا يترك الأنانية يترك الصلابة الدينية وقسماً من الدين."12
وقد اهتمت النبوة -عند النورسي- بوجه معين لـ "أنا" وركزت الفلسفة اهتمامها على الوجه الآخر؛ فالوجه الأول الذي يتطلع إلى حقائق النبوة هو منشأ العبودية الخالصة لله؛ وهو أن يعرف الإنسان أنه عبد لله ومطيع لمعبوده ويفهم أن ماهيته حرفية وأنه دال على معنى في غيره، ويعتقد أن وجوده تبعي؛ إذ إنه قائم بوجود غيره وبإيجاده، كما يجب على هذا الإنسان أن يعلم أن مالكيته للأشياء وهمية مؤقتة ظاهرية بإذن مالكه الحقيقي، وحقيقته ظلية وليست أصيلة، وأنه مخلوق هزيل وظل ضعيف يعكس تجليًا لحقيقة واجبة حقة، أما وظيفته فهي القيام بطاعة مولاه طاعة شعوريًة كاملة؛ لكونه ميزانًا لمعرفة صفات خالقه. أما الوجه الثاني فقد اتخذته الفلسفة، وقد رأت هذه الفلسفة أن "أنا" يدل على نفسه بنفسه وقضت بأن معناه في ذاته، ويعمل لأجل نفسه وأن وجوده أصيل ذاتي وأن له ذاتية خاصة به وليس ظلاً؛ إذ إن الإنسان عندهم مالك حقيقي في دائرة تصرفه، وهكذا أسندوا مسلكهم إلى أسس فاسدة وبنوه على قواعد منهارة واهية؛ فاعتقد عظماء الفلسفة وروادها أمثال أفلاطون وأرسطو وابن سينا والفارابي بناء على تلك الأسس الفاسدة بأن الغاية القصوى لكمال الإنسانية هي التشبه بالخالق جلّ وعلا، فأطلقوا حكمًا فرعونيًا طاغيًا، ومهدوا الطريق لكثير من الطوائف المتلبسة بأنواع من الشرك، وذلك بتهييجهم "الأنانية"، فسدّوا سبيل العبودية إلى الله، وأغلقوا أبواب العجز والضعف والفقر والحاجة والقصور والنقص المندرجة في فطرة الإنسان، فضلّوا في أوحال الطبيعة ولم ينجوا من مستنقع الشرك ولم يهتدوا إلى باب الشكر الواسع. 13
والملاحظ أن خطوات طريق النور نفسه تفضي بصورة مباشرة إلى الإخلاص والتجرد وكبح جماح النفس ونبذ الأنانية؛ إذ إن هذه الخطوات هي العجز والفقر والشفقة والتفكر،14 والمقصود بالعجز والفقر إنما هو الإفتقار إلى الله تعالى وإظهار العجز أمامه لا أمام الناس، ولا شك أن اكتشاف هذه الأمور في النفس إنما هو عنصر فعال في تنمية القدرات الإيمانية؛ وبذلك يرتفع الإنسان إلى تمام العبودية السامية فيتخلّص من أنانيته ويتجرد لله تعالى، ومرتبة الفقر هي مرتبة التجرد وقطع كل علاقة تحول بين القلب وبين الله تعالى، والإخلاص عند النورسي هو روح العبادة،15 والإيمان بلا إخلاص عنده ليس بإيمان؛16 وذلك لأن من لم يتحلى بالإخلاص لم يأمن على نفسه من الشرك الخفي.17
ب - الضعف البشري إزاء الأنانية والتعاظم:
إن الإنسان –عند النورسي- ليس بمالك لما منحه الله إياه وأباحه له من نعم؛ وإن كان متصرفاً فيه؛ فهو بهذه الإباحة لا يصبح مالكاً لهذه النعم يتصرف فيها كما يشاء؛ بل يجب عليه أن يتصرف كما يرضى من أعطاه هذه النعم؛18 قال تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾الحديد:7 أي: جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، وما أنتم فيه إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى، وليهن عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه،19 ولا شك أن الظن بملكية الأشياء إنما هو وجه من الأنانية تتولد منه جميع أنواع الشرك والضلال؛ وقد أشفقت السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة لأنها خافت من وقوع شرك مفترض يأتي من هذا الوجه من الأنانية.20
وقد ذكر النورسي أن الله تعالى قد أدرج في الإنسان عجزًا لا حد له وفقرًا لا نهاية له إظهارا لقدرته المطلقة وإبرازًا لرحمته الواسعة،21 ولما كان الأمر كذلك فقد أنكر النورسي إعجاب الإنسان بنفسه وتعاظم أنانيته وعجبه وغروره، وقد قال الله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾؛النساء:28 ولهذا يجب على الإنسان أن ينظر إلى عجزه وفقره ومسكنته،22 وليس له الحق في الفخر بما يناله من المواهب والنعم؛ بحيث يعزو ذلك إلى نفسه ويعجب بالشهرة ويهيم وراء المدح والثناء؛ فما هو إلا كالبذرة الصغيرة التي نشأت منها ألوف الثمرات، فليس الثمرات من فعل البذرة ومهارتها؛ ولهذا فإن الإنسان ليس له الفخر بما منحه الله؛ بل عليه الشكر والتواضع والخجل والإستغفار وملازمة الندم؛23 فالإنسان ضعيف يتألم من الشيء البسيط كما يتألم من زلزلة الأرض وهزاتها ويتألم من الزلزال العظيم يوم القيامة ويخاف من جرثومة صغيرة كما يخاف من المذنبات الظاهرة في الأجرام السماوية، وما دام الإنسان هكذا ضعيفاً لا حول له ولا قوة فلا ينبغي النظر إلى نفسه؛ بل ينبغي له أن يتجرّد ويظهر افتقاره وعجزه لله عز وجل؛ إذ لا معبود له ولا رب ولا مولى ولا ملجأ إلا من بيده مقاليد السموات والأرض وزمام الذرات والمجرات وكل شيء تحت حكمه وطوع أمره.
وهذا الإنسان الضعيف له حاجة ماسة دائمًا في التوجه إلى بارئه والتضرع إليه؛24 لأنه لا تناسب بينه وبين خالقه العلي القدير؛ فالإنسان عجز مطلق وفقر مطلق، أما الخالق فلا نهاية لقدرته وغناه،25 ومن غايات الحياة عند النورسي إظهار الإنسان لعبوديته أمام عظمة خالقه وإدراك درجات المقدرة الإلهية بموازين العجز والضعف والحاجة المنطوية في النفس؛ إذ كما يدرك الإنسان أنواع الأطعمة ودرجاتها ولذاتها بدرجات الجوع وبمقدار الإحتياج إليها فكذلك تفهم درجات القدرة الإلهية بالعجز والفقر البشري.
وإذا أباح الله تعالى للإنسان النعم فهو بهذه الإباحة لا يصبح مالكًا، ولكن من أعاجيب الإنسان في وقت الغفلة التباس المسائل؛ فيصبح كالمجنون الذي يظن أن ما يصل إليه بصره يمكنه إدراكه ونيله بيده، وكذلك الإنسان الغافل لا تصل يد اقتداره إلى أدنى جزء من أجزاء نفسه فيتطاول بغروره وسعة خياله إلى التحكم في أفعال الله تعالى،26 والنفس البشرية عند النورسي لها طريقان هما:
طريق الخير؛ وفي هذا الطريق تتجرد النفس لله عز وجل وتتخلى عن أنانيتها وتحس بضعفها، وتعرف أن الإنسان غير فاعل؛ بل هو عاجز عن إيجاد أي شيء؛ إذ هو يقبل الإفاضة عليه فحسب؛ قال تعالى عن هذه النفس: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾الشمس:9 وحينئذ يترك الإنسان ألوهيته المزعومة ومالكيته وأنانيته27 وإذا أراد الله بالنفس خيراً بصّرها بعيوبها وضعفها.28
2- طريق الشر؛ وهذا الطريق عندما تتجه إليه النفس يحسّ الإنسان حينئذ أنه فاعل وصاحب فعل؛ وبهذا تكون النفس قد خابت؛ قال تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾،الشمس:10 وهذه النفس الأخيرة تتولد منها جميع أنواع الشرك والشرور والضلالات؛29 ولهذا قال النورسي: "من أعجب بنفسه واعتمد عليها فهو شقي."30
ولا شك أن غفلة النفس عن المالك الحقيقي سبب مباشر لفرعونية النفس، وهذه النفس غير مالكة حتى لنفسها، ولهذا فإن توهم التملك والأنانية يوقع النفس في ألم أليم ويعرضها للمروق من الدين،31 والذي يعطيه الله النعم لا يظنن أنه انتخب من دون الناس بل ربما أعطى هذه النعم لأنه أحوج الناس إليها.32
ج - علاج القرآن للأنانية عند النورسي:
للذكر أثر فاعل في كبح جماح النفس ونبذ الأنانية عند النورسي؛ إذ إن الحبة إذا ثُقب قلبها لا تتكبر بالتنبت؛ فكذلك حبة الـ "أنا" إذا ثقبت بشعاع ذكر الله لا تتعاظم بالأنانية متفرعنة بالغفلة ولا تبارز بالعصيان جبار السموات والأرض،33 وقد عالج القرآن الكريم عند النورسي مرض الأنانية بعدة أمور34 هي:
1- قال تعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾النجم:32 أي لا تمدحوها على سبيل الفخر والإعجاب،35 وهذه دعوة لكبح جماح النفس وتجريدها عن الأنانية؛36 فالله الذي يستر العيوب هو أعلم بنفوس الناس فلا ينظروا إليها بعين الرضا، أو ينسبوا إليها في ذاتها شيئًا من الكمالات،37 ولكن الأناني الذي يحب نفسه يضحي بكل شيء من أجلها ويمدحها مدحاً لا يليق إلا بالمعبود ويدافع عنها دفاعاً يشبه العبادة، والنفس البشرية إذا لم تهذّب فإنها تميل إلى الظلم وحب الذات وتتمادى بشكل مخيف فتتحرى المصلحة الفردية والأنانية،38 والإنسان إذا لم يوجّه نفسه الوجهة الصحيحة فإنها تسفل بالأنانية حتى يكون هو وأصغر ذرة سواء. فللنفس من النقائص ما لله من الكمالات، فلا ينبغي للعبد أن يُزكي نفسه، ولو بلغ فيها من التطهير ما بلغ، ولا يرضى عنها ولو عملت من الأعمال ما عملت؛ فأصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، ولهذا قال الحكماء: "أصل كل طاعة ويقظة وعفة: عدم الرضا منك عن نفسك، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه؟! وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟!"39
2- قال تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنْسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾؛الحشر:19 فنسيان الله هو سبب الأنانية وفرعونية النفس وتوهّم ملكيتها؛ وبذلك ينسى الإنسان نفسه أيضًا ويغفل عنها؛ فإذا فكّر في الموت صرفه لغيره، وهذا الأناني ينسى نفسه أمام التكليف ويتذّكرها في مقام الأجرة والحظوظ؛40 فهو يتعلّق دائماً بالنعم المحسوسة ويتشبث بها بمعزل عن الله الذي أنعم عليه بها، وكل من لم يعرف إلا المدركات الحسية فقد نسى الله؛ إذ ليس ذات الله مدركاً في هذا العالم بالحواس الخمس، وكل من نسى الله أنساه الله لا محالة نفسه ونزل إلى رتبة البهائم وترك الترقي إلى الأفق الأعلى وخان الأمانة؛ فيكفر حينئذ بنعمة الله ويتعرض لنقمته،41 وقد كشفت هذه الآية الشريفة عن سنة من سنن الله تعالى: وهي أن من غفل عن تذكر الله فنسيه وألهته دنياه عن العمل للدار الآخرة أنساه الله نفسه التي بين جنبيه فلا يسعى لما فيه نفعها ولا يأخذ في أسباب سعادتها وإصلاحها ولا يسعى في إزالة عللها وأمراضها التي تفضي بها إلى الفساد والدمار والهلاك. ومعلوم أن أكثر الخلق قد نسوا أنفسهم وضيعوها وأضاعوا حظها، وهؤلاء هم الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين. وأما الرابحون فهم الذين أنار الله قلوبهم للحق فعرفوا الدنيا وقيمتها وعرفوا مقدارها فلم يبيعوا حظهم من الله تعالى والدار الآخرة بها.
3- قال تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾النساء:79 والنفس الأنانية تنسب إلى ذاتها الخير مما يفضي إلى الفخر والعجب؛ وكان الواجب أن ترى هذه النفس في ذاتها القصور والنقص؛42 فالحسنة تأتي من الله المنعم؛ قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾؛النحل:53 فجود الله جود مطلق؛ لا يخلو عنه مخلوق من المخلوقات؛ إذ وسع غناه كل فقر، وعم جوده جميع الكائنات، فما أصاب الناس من نعمة فهو محض فضل الله، وليس بأعمالهم ولا باكتسابهم ولا باستحقاقهم؛ بل إن أعمالهم تضعف عن أن يستحقوا بها هذا الفضل وهذه النعمة؛ ولكن الله هو الذي يتفضل عليهم بالنعم والخيرات والعطاء والصحة؛ فالعبد لا خروج له عن نعمة الله وفضله ومنته وإحسانه؛ ولهذا ذم سبحانه وتعالى من آتاه شيئاً من نعمه فقال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾القصص:78 وذلك يكون عند إعجاب المرء بنفسه والوقوف عند النعمة ونسيان المنعم، وتحت تأثير بريق المواهب وسلطانها تحدثه نفسه أنه ما أصابته هذه النعمة إلا لما لديه من خبرات وميزات وعلوم، وقد ذكر الله تعالى أن السيئة قد تأتي بسبب ذنوب الإنسان وأوزاره ومعاصيه؛ قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾الشورى:30 ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصيب عبداً نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب."43
4- قال تعالى: ﴿كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾القصص:88 والنفس الأنانية تتوهم أنها حرة مستقلة؛ لذا تدعي نوعاً من الربوبية وتضمر عصياناً حيال معبودها الحق، وهي إزاءه زائلة حادثة مفقودة معدومة،44 إذ إن الموجود الحق هو القائم بنفسه وما ليس له بنفسه قوام فليس له بنفسه وجود؛ بل هو قائم بغيره فهو موجود بغيره، والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقى موجوداً؛ فإن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره فهو قيوم، ولا قيوم إلا الله الواحد الأحد، ولا يتصور أن يكون غير ذلك؛ فإذن ليس في الوجود غير الحي القيوم وهو الواحد الصمد والكل منه مصدره وإليه مرجعه.45
د- نتائج التجرد وعواقب الأنانية:
للأنانية وحب الذات عواقب على نفس صاحبها؛ ومن ذلك الآتي:
1- الأنانية قد تفضي إلى الشرك والكفر عند النورسي؛ إذ إنها تنمو داخل نفس صاحبها رويداً رويداً في خفاء وتسيطر عليه، ثم تنفتح هذه الأنانية إلى أنانية النوع فتنفخ فيه روح العصبية النوعية والقومية، ثم يبدأ الإنسان حينئذ بقياس كل الناس بنفسه؛ فيقسم ملك الله على الأشياء فيتردى في الشرك و﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾،لقمان:13 ومعلوم أن اللصّ الذي يسرق مبلغاً كبيراً من المال لابد أن يُرضي أصحابه الحاضرين معه فيعطيهم جزءاً من المال، وهذا المثل ينطبق على هذا الأناني فيقول إنني مالك لنفسي، ولأجل ذلك فلابد أن كل شيء مالك لنفسه، وهكذا تصير الأنانية أسوأ شيء في الوجود وأخطره؛ لأنها تعطل الخالق من صفاته الجليلة حتى يفضي الأمر إلى إنكار وجوده حتى ولو امتلأ الكون بآلاف الشواهد والآيات التي تدل عليه،46 والأناني ينسب خلق الأفعال إلى غير الله تعالى ويؤمن بأن العلاقة التي تربط بين الموجودات وبين هذه الأفعال إنما هي علاقة سببية بعيدة عن الخلق والتقدير الإلهي؛ ولهذا يرى النورسي أن الإنسان إذا خضع لله عز وجل فإنه يتذكر إنعامه عليه بالإيجاد والخلق والعقل والعلم والإرادة والقوة؛ وبذلك يعرف أن الأنانية تعارض التوحيد؛ والأنانية قد تتحول من مرحلة إلى أخرى حتى تنقلب شركاً وكفراً وتعطيلاً؛ يقول النورسي: "إن الشرك الخفي الناشئ من الأنانية إذا تصلّب انقلب إلى شرك الأسباب، وهو إذا استمر تحوّل إلى الكفر، وهو إذا دام تبدل إلى التعطيل، والعياذ بلله"47 ويقول: "ومن لم يكن خادما له تعالى بحق يصير خادماً للأسباب ومتذللاً للوسائط."48
2- يتحول العقل عند الأناني إلى عضو مزعج؛ إذ إن الأناني يجعل عقله سبيلاً لهوى النفس ووسيلة إليه؛ فيحمل آلام الماضي ومخاوف المستقبل؛ فيحاول الهروب وينغمس في اللهو إنقاذاً لنفسه من إزعاجات عقله، أما المتجرد فهو بخلاف ذلك؛ إذ إنه يستخدم عقله في سبيل الله؛ وبهذا يكون العقل مفتاحاً رائعاً فيفتح خزائن الحكمة الإلهية في كل شيء ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية في الوجود؛ فيرتقي العقل إلى مرتبة مرشد رباني يهيئ صاحبه للسعادة الأبدية، وبهذا يكتسب المؤمن خاصية تليق بالجنة،49 والعقوبات الدنيوية بسبب المعاصي من مقدمات العقوبات الأخروية، وكذلك يعجل الله لأوليائه الذين تجردوا له وضحوا في سبيله من نفحات نعيم الجنة وروحها ما يجدونه ويشهدونه بقلوبهم مما لا تحيط به العبارة حتى قال بعضهم: "إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيب؛"50 ولهذا قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾؛النحل:97 فالمؤمن المتجرّد يعيش عيشاً طيباً في الدنيا، والأناني المعرض عن الدين يستولي عليه الحرص والإزدياد من الدنيا ويسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق؛ فعيشه ضنك وحاله مظلمة، كما قال بعض العارفين: "لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه، وكان في عيشة ضنك؛"51 ولهذا يقول النورسي: "إن رسائل النور التي هي تفسير حقيقي للقرآن الكريم ببيان إعجاز معانيه الجليلة تبين أن في الضلالة جحيمًا معنويًا في هذه الدنيا، كما تثبت أن في الإيمان نعيمًا معنويًا في الدنيا أيضًا، وهي تبرهن أن في المعاصي والفساد والمتع المحرمة آلامًا معنوية مبرحة، كما أن في الحسنات والخصال الحميدة والعمل بالحقائق الشرعية لذائذ معنوية أشبه ما تكون بملذات الجنة."52
الأنانية تفضي إلى الإحساس بالاغتراب وتحرم من التمتع بنعمة الحياة، وهذا بخلاف التجرد الذي يتصالح صاحبه مع الكون ويتمتع بالحياة؛ إذ إن الكائنات جميعها تؤدي وظائفها في الكون باسم الله؛ فالبذرة الضعيفة المتناهية في الصغر تحمل شجرة عظيمة ضخمة باسم الله، وجذور كل نبات باسم الله يشق الصخور الصلدة ويثقبها بشعيراته الحريرية؛ فالمتجرد المتوكل على الله يتحرك ويسكن باسم الله؛ كالجندي الذي يتصرف باسم الدولة رغم أنه فرد فلا يخاف ولا يخشى أحداً ويتكلم باسم الدولة والقانون فينجز الأعمال.53
4- الأنانية والتجرد يصبغان الكون؛ فيرى كل من الأناني والمتجرد حسب الذي في داخله، ويضرب النورسي مثالاً لذلك بقصة رجلين: أحدهما أناني مغرور، والآخر رباني متجرد متصالح مع الكون، وقد خرج كلا الرجلين في سياحة إلى بلد معين؛ فالأناني أينما اتجه رأى مناظر مؤلمة مخيفة ورأى كل أحد من أهل البلد عدواً يتربص به الدوائر؛ فظل في عذاب شديد حتى ارتمى في السكر، أما الرباني فقد رأى هذا البلد نفسه في منتهى الروعة والجمال ورأى الناس كلهم مسرورين سعيدين، فقد انعكس ما في داخل كل منهما على ما يراه وبه فسّر كل شيء وقع في نظره.54
5- الأنانية تورث صاحبها العناد وعدم التنازل للآخرين، وقد حكى النورسي قصة حقيقية حدثت له فحلّها بحكمته، إذ يروي أنه عندما كان أسيراً في روسيا ثار في السجن ضجيج عال وصخب شديد؛ فقال لأصحابه: "إذهبوا وساندوا المبطل دون المحقّ"؛ فقاموا بذلك؛ فانقطع الصخب والضجيج؛ فسأله أصحابه: لم قمت بهذا العمل الباطل؟ قال: إن المحقّ يكون منصفاً يضحي بحقه الجزئي في سبيل راحة الآخرين التي هي كثيرة كبيرة، أما المبطل فهو على الأغلب مغرور وأناني لا يضحي بشيء فيزداد الصخب.55 وقد عدّ القرآن الكريم من أوائل الصفات التي يتحلى بها عباد الرحمن المداراة العاصمة؛ قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾الفرقان:63 أي: إنا سلمنا من إثمكم وأنتم سلمتم من شرنا؛56 فالأناني الحريص على الدنيا ينتصر لنفسه حتى وإن علم أنه على خلاف الحق. أما المتجرد فيؤثر متاركة الأناني لما يصيبه من أوضاره وما يجره إليه من حظوظ النفوس الأمارة بالسوء؛ ولهذا فإن هذا المتجرد لله تعالى إن جُهل عليه لم يجهل57 ولا يلتفت إلى حماقة الحمقى ولا إلى سفه السفهاء؛ فيترفع عن السب والشتم والإستهزاء؛ إذ إنه أكرم وأرفع، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾القصص: 55 والمتجرد يكظم غيظه ولا يكون غرضه الأول هو الإنتصار للنفس ولا يحب طريقة الجاهلين التي تؤذي الآخرين؛ بخلاف الأناني الذي ينتصر لنفسه ولو آذى كل الناس؛ فللجدل سقطات وأحوال تستبد بنفس الأناني وتغريه بالمغالبة وتجعله يتصيد الشبهات التي تدعم جانبه كما يتصيد العبارات التي تروج حجته؛ فيكون حب الإنتصار عنده أهم من إظهار الحق، وهنا تبرز طبائع العناد والأثرة في صور منكرة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى الله الأَلَدُّ الْخَصِمُ،"58 وقال: "مَا ضَلَّ قَوْم بَعْد هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَل،"59 وهذا الحديث يعني أن من ترك سبيل الهدى لم يمش حاله إلا بالجدل والخصومة بالباطل.60
ولما كان الأمر على الوجه الذي ذُكر فقد ركز النورسي على التجرد ونبذ الأنانية وكبح جماح الذات على كافة الأصعدة، وقد تناول مسألة "الأنانية" في السياسة والعلم وغير ذلك، وقد ترك النورسي السياسة واستعاذ بلله منها لما رأى فيها من أنانية مفرطة، وذكر أنه رأى عالماً عليه علامات العلم يقدح بعالم فاضل ويكيل له الإتهامات بانحياز مفرط؛ حتى بلغ من أمره أن كفّره وأخرجه من الملة؛ وذلك لخلاف بينهما في أمور سياسية ورآه في الوقت نفسه يثني على منافق معروف يوافقه في الرأي السياسي، فأصابت النورسي من هذه الحادثة رعدة شديدة واستعاذ بلله مما آلت إليه الأمور في السياسة وما أفضت إليه الأنانية؛ فقال قولته الشهيرة: "أعوذ بلله من الشيطان والسياسة" ثم انسحب منذئذ من ميدان الحياة السياسية وتركها.61
ولا يقتصر أمر الأنانية هذه عند السياسة بل قد يمتد إلى أشرف المسائل كالعلم والمعرفة؛ إذ إن كثيراً من الناس قد يميل إلى السيادة ويدفعه حب التفوق والأنانية المفرطة إلى جعل هذا العلم الشريف المرشد اللطيف الناصح وسيلة قسر وإكراه لاستبداده وتفوقه؛ فبدلاً من أن يخدم العلم يستخدمه، وهذا نوع من الأنانية التي تفضي إلى فساد العلماء.62 كما أن الأنانية العلمية وعدم الإخلاص لله تعالى قد يولّد حسداً بين العلماء أنفسهم، فيحاول بعضهم الحط من قيمة الجهود العلمية للآخرين حسدا من عند أنفسهم رغم علمهم بقيمة تلك الجهود وتميّزها.63
ثانياً: تجرد النورسي ونبذه للأنانية في الواقع العملي.
لما كان منهج النورسي منهجاً عملياً وليست آراء نظرية مجردة فقد ظهر التجرد وظهرت التضحيات في كافة نواحي حياته؛ وتفصيل ذلك كالآتي:
أ- تضحية النورسي من أجل معتقداته وأفكاره:
دعا النورسي إلى نكران الذات والترك الكلي للأنانية وإلى التواضع المطلق؛ وبهذا يكون إخلاص النية والتجرد لله عز وجل؛ يقول النورسي موصيا طلابه: "إن أخاكم لم يبرز إلى الميدان بالأنانية ولا يجعلكم خادمين لأنانيته بل أراكم نفسه خادما قرآنيا بلا أنانية وقد اتخذ عدم الإعجاب بنفسه ورفض الموالاة لأنانيته مسلكا له، ومع هذا فقد أثبت لكم بدلائل قطعية: أن الآثار التي وضعت بميدان الإستفادة هي أموال أميرية، أعني أنها من ترشحات القرآن الحكيم فلا يستطيع أحد أصلا أن يمتلكها بأنانيته"،64 وقد رأى النورسي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام؛ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيُوهَب له علم القرآن ما لم يسأل أحداً،65 وبهذا عاش النورسي متجرداً لله تعالى مستغنياً عن الناس، وبهذا خدم القرآن الكريم دون أن يأمل في شيء من الأمور الدنيوية، وإنما كان يطلب الأجر من الله تعالى، وهذا سر إخلاصه ونجاحه كما سيأتي، وقد اتخذ النورسي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم قدوة في التجرد والإستغناء،66 وكان يكفيه في قوته اليومي قليل من الحساء وكأس من الماء وقطعة من الرغيف،67 وقد أتاه في رمضان المبارك طعام من بيتين فحاول أكله فأمرضه ذلك الطعام؛ فقال: "علمت أني ممنوع عن أكل طعام الغير".68
وقد تجرد النورسي لخدمة القرآن، وعندما قال وزير المستعمرات البريطاني "مادام هذا القرآن بين المسلمين فلن نحكمهم حكماً حقيقياً فلنسع إلى نزعه منهم" ثار النورسي وغضب وانقلب انقلاباً فكرياً كبيراً وتجرد لخدمة القرآن قائلاً: "لأبرهننّ للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاؤها،"69 ومنذ ذلك الحين سمى نفسه بخادم القرآن؛ فخدمه بهمة عالية وإخلاص كبير وتجرد تام.
وقد حاول أعداء النورسي المستترين استغلال الطمع والخوف والشهرة وغيرها من الأمور التي تفضي إليها أنانية النفوس، إلا أنهم لم يفلحوا مع النورسي ولم ينالوا منه شيئاً؛ لأنه لم يكن يعبأ بشيء مما عندهم لا بإغراءاتهم ولا بتهديداتهم،70 وقد بدأوا باستغلال ما تتطلع إليه النفوس من شهرة وتطلّع للمراتب أولاً، ولما لم يفلحوا وعجزوا في ذلك قاموا بالإهانة والتحقير والتعذيب، إلا أن ذلك كله لم يؤثر في النورسي ولم يقعده عن مهمته الأساسية وعن إخلاصه وتجرده؛ إذ كان مستعداً للتضحية بكل شيء من أجل خدمة القرآن؛ يقول: "إن القيام بخدمة الإيمان في هذا الزمان – تلك الخدمة التي تستند إلى سر الإخلاص وتأبى أن تستغل لأي شيء كان– تقتضي عدم البحث عن المقامات المعنوية بل يلزم عدم التفكير فيها أصلاً، وذلك لئلا يفسد سر الإخلاص الحقيقي."71
وعندما سيق النورسي إلى المحكمة العسكرية بسبب أحداث مارس وشاهد جثث خمسة عشر رجلاً مشنوقين؛ قال: "لو كانت لي ألف روح لكنت مستعداً للتضحية بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة".
ولما كان الأمر كذلك فقد أوتي النورسي من الشجاعة والإقدام ما جعله لا يخاف أحدا غير الله ولا يرهب ظالماً ولا طاغية؛ بل كان عزيز النفس أبياً؛ يقول: "أنا لا أطيق ذلاً ولا إهانة بنظرتي وجبلتي فإذا تعرضت لمثل هذا الحال لا أطأطئ رأسي مهما كان الذي يواجهني سواء كان جباراً أشد الناس ظلماً أو قائداً أو عدواً أو سفاحاً للدماء بل ألقى بظلمه ودمويته على وجهه،"72 وفي حياة النورسي ما يدل على ذلك الأمر، ومنه على سبيل المثال الآتي:
لم يكن النورسي يخاف أحداً في سبيل تنفيذ أوامر الله تعالى وطاعته بل كان يؤثر الموت على الحياة ويواجه الموت بكل تجرد، وعندما كان سجيناً في روسيا جاء القائد العام لجبهة القفقاس نيقولا نيقولا فيج -وهو خال القيصر- إلى السجن للتفتيش؛ فقام له الأسرى إلا النورسي الذي ظل جالساً؛ فمرّ القائد أمامه ثلاث مرات لينظر أمره؛ فظل النورسي جالساً، وعندما سأله القائد، قال إنه يخدم عقيدته ولا يمكن له تجاوزها؛ فحوكم بالإعدام لإهانة القائد وتحقيره، وعند التنفيذ توضأ النورسي وصلى؛ فعلم القائد إخلاصه وتجرده وصدقه فعفا عنه.73
حينما احتلّ الإنجليز إسطنبول سأل رئيس أساقفة الكنيسة الإنكليكية ستة أسئلة لإثارة الشبهات في القرآن وكلف النورسي -وكان عضواً في دار الحكمة الإسلامية- بأن يرد على هذه الأسئلة؛ شريطة الإقتصار على ستمائة كلمة؛ فقال النورسي: "إن جواب هذه الأسئلة ليس ستمائة كلمة ولا ست كلمات بل ولا كلمة واحدة وإنما بصقة واحدة."74
وقد كان النورسي يرى أن الخوف والذل وإظهار الضعف يشجع الظالمين على الظلم؛ فلو ألقى الظالم أحداً على الأرض وأراد سحقه؛ فإن قبل الرجل ذلك فإنه يسحق قلبه قبل رأسه وروحه قبل جسده ويشجع الظالم على ظلمه بإظهار الضعف له فيهلك عزته وشرفه، وإن بصق المظلوم في وجه الظالم فإنه ينقذ روحه وقلبه وإن مات صار جسده شهيداً مظلوماً؛ ولهذا قال النورسي لطلابه "ابصقوا على وجوه الظالمين التي لا حياء لها."75
ولم تأت عزة النفس هذه عند النورسي من فراغ؛ إذ إنه كان يأبى المداهنة والمجاملة والتذلل والنفاق؛ لكونه كان قوي الإيمان؛ ولقوة الإيمان أثر فاعل في مثل هذه الأمور؛ يقول النورسي: "إن للإيمان ثلاث خواص حقيقية، إحداها: عزة النفس، ومن شأن عزة النفس عدم التنزّل للتذلّل، والثانية: الشفقة التي من شأنها عدم التذليل والتحقير، والثالثة: احترام الحقائق ومعرفة قيمتها؛ لأن صاحبها غالي القيمة ذو حقيقة، وللنفاق أيضاً أضداد خواص الإيمان الثلاث؛ فخواص النفاق الناشئة منه: ذلة النفس، والميل للإفساد، والغرور بتحقير الغير، وإذا عرفت هذا فاعلم أن النفاق يولِّد ذلة النفس وهي تنتج التذلل، وهو الرياء وهو المداهنة وهي الكذب. ثم لما كان النفاق مفسداً للقلب وفساده ينتج يُتْمَ الروح؛ أي: عدم الصاحب والحامي والمالك؛ فيتولد الخوف وهو يلجئ صاحبه إلى التستر."76
وقد ضحى النورسي من أجل رسائل النور –وهي أفكاره التي استخرجها من القرآن- تضحيات جسام وتجرد لله تعالى وأخلص النية في عمله، ورغم قوة تأثير الرسائل وبهاء أسلوبها إلا أن النورسي لم يعزو ذلك إلى نفسه؛ وإنما ذهب إلى أن هذه الأفكار ما هي إلا لمعات ضرب الأمثال التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس له من حظ فيها إلا الطلب والسؤال من الله تعالى مع شدة الحاجة والفاقة إليه،77 وكان يقول: "وما مدحت القرآن بكلماتي ولكن مدحت كلماتي بالقرآن."78 وقد بذل النورسي ما في وسعه لكي يكبح نفسه ويصونها من العجب والتطلع إلى الشهرة والتفاخر؛ بل إنه قد جرح طلابه أكثر من مرة لحسن ظنهم بشخصه؛ وكان يقول: "أنا لست المالك لبضاعة النور؛ بل لست إلا دلّالاً ضعيفًا بسيطًا في حانوت مجوهرات القرآن،"79 وقد ترك النورسي كل الأمور الدنيوية لأجل خدمة القرآن وكان يقول: "إنني عازم على أن لا أضحي بالمناصب الدنيوية وأمجادها الزائفة وحدها؛ بل لو أسند إلي –فرضاً- مقامات معنوية عظمى فإنني أضحي بها أيضا لخدمتي للإيمان والقرآن خشية اختلاط حظوظ نفسي بإخلاصي في الخدمة."80
وكان النورسي يقول أنه لا يمكنه قبول حسن الظن المفرط نحوه ومنحه مقاماً عالياً، إلا إذا كان ذلك باسم رسائل النور وخدمتها وكونها داعية إلى جواهر القرآن، أما شخصه الضعيف فليس له أهمية على الإطلاق؛81 ولهذا نفر النورسي نفوراً شديداً من المدح والثناء وإبداء الإعجاب به؛ لأن ذلك يجلب عليه ضرراً عظيماً؛ إذ يفضي إلى الفخر والغرور،82 وقد كان النورسي يرى أن حقيقة الإخلاص والتجرد تمنعه من كل ما يمكن أن يكون وسيلة إلى كسب الشهرة أو بلوغ المراتب المادية والمعنوية؛83 يقول النورسي: "لأجل طغيان الأنانية وهيمنتها الواسعة في هذا الزمان أرفض حسن الظن المفرط بشخصي الذي يفوق حدي وطوقي؛ لأنني كإخوتي لا أحسن الظن بنفسي، وإن كنت أعلم أن نفسي أهلاً له –حاش لله– فهذا دليل على عدمه... والذي يرى أنه صاحب مقام فالأنانية ربما تتداخل معه."84
والأنانية عند أكثر الناس تدفعهم إلى حب الجاه والإشتهار وأن يكونوا أصحاب شرف وشأن ومقام عند العامة، وهذا منشأ كثير من الأخلاق السيئة؛ وهذا المرض لا يمكن دفعه إلا بالإخلاص الذي هو سر أساسي للإسلام عند النورسي.85
وعندما تعرّض النورسي للإهانات والتعذيب والأذى والتحقير حمد الله على سلامة رسائله والتضحية من أجلها؛ يقول -مخاطبًا طلابه-: "لا تتألموا يا إخوتي على الإهانات والأذى الذي ينزلونه بشخصي بالذات؛ لأنهم لا يستطيعون أن يجدوا نقصاً في رسائل النور؛ فينشغلون بشخصي الإعتيادي المقصر كثيراً؛ فأنا راضٍ عن هذا الوضع، بل لو أجد ألوفاً من الإهانات والتحقير والآلام والبلايا الشخصية لأجل سلامة رسائل النور وظهور قيمتها لشكرت الله شكرًا مكللاً بالفخر؛ وذلك مقتضى ما تعلمته من رسائل النور؛ لذا لا تتألموا عليّ من هذه الناحية."86
ولشدة تجرّد النورسي فقد كان يرفض العطايا والهدايا وغيرها؛ لأنه يرى أن ذلك منافٍ للإخلاص والتجرّد، وكان يرى أن أخذ الصدقة والهدايا مقابل الأعمال المتوجهة للآخرة يعني قطف ثمرات خالدة للآخرة بصورة فانية في الدنيا، وهو كمبادلة سراج باقٍ بسراج ينطفئ في دقيقة واحدة؛ إذ إن هذه الدنيا هي دار الخدمة وليست دار الأجرة والمكافأة وبناء على هذا السر فإن المتجرد يستطيب الخدمة والمشقة والمصيبة دون أن يشكو؛ 87 يقول النورسي: "إن التوكل والقناعة والإقتصاد خزينة وثروة لا تبدل بأي شيء، وإني لا أريد أن آخذ المال من الناس فأسد تلك الخزائن والدفائن التي لا تفنى،"88 وقد جُبل النورسي على القناعة والإستغناء عن الناس؛ يقول: "كنت أرفض قبول أموال الناس وهداياهم منذ نعومة أظفاري؛ فما كنت أتنازل لإظهار حاجتي للآخرين؛ رغم أنني كنت فقير الحال وفي حاجة إلى المال... ولقد فهمت حكمتها قبل بضع سنين أنها كانت لأجل عدم الرضوخ للطمع والمال ولأجل الحيلولة دون مجيء اعتراض على رسائل النور في مجاهداتها؛ فقد أنعم عليّ الباري عز وجل بتلك الحالة الروحية، وإلا كان أعدائي الرهيبون ينزلون بي ضربتهم القاضية من تلك الناحية."89 ولم يكن النورسي يستغني عن الناس فحسب بل كان يعيش حياة البسطاء ويدخر بقية مرتبه لأجل رسائل النور التي ينشرها مجانا.90
وحياة النورسي تزخر بأمثلة عديدة للتجرد والتضحية ونبذ الأنانية، وهذا من أهم أسباب نجاح دعوته، إذ قضى حياته متجرداً من كل متاع محروماً من اللذائذ الدنيوية، وقد استغنى عن ما سوى الله استغناء تاماً؛ بل واتخذ هذا الإستغناء مذهباً انتهجه طول عمره؛ ولهذا يبدو واضحًا جدًا أن صفة التجرد قد كان لها أثر كبير في انتشار رسائله، يقول: "لقد ضحيت بكل شيء وتحملت كل أذى؛ وبذلك انتشرت الحقائق الإيمانية في كل مكان، ونشأ مئات الآلاف؛ بل ربما الملايين من طلاب مدرسة النور ونهلوا من معارفها."91
هذا وقد ضحى النورسي من أجل الأمة الإسلامية وعمل من أجل رفعتها وكان يتألم غاية التألم لآلامها؛ يقول: "إنني أستطيع أن أتحمّل كل آلامي، ولكن آلام الأمة الإسلامية سحقتني، إنني أشعر بأن الطعنات التي وجهت إلى العالم الإسلامي وجهت إلى قلبي أولاً؛ ولهذا تروني مسحوق الفؤاد، ولكنى أرى نوراً سيُنسينا هذه الأيام الحالكة بإذن الله."92
ب- تضحية النورسي من أجل طلابه:
ذهب النورسي إلى أن الأنانية من أخطر الأمور التي تفكك الجماعة، وذكر أن بعض أصحاب الضلالة يحاولون سحب بعض إخوانه؛ مستفيدين من الأنانية والغرور الكامن في الإنسان، وذكر أن أخطر وأضعف عرق ينبض في الإنسان إنما هو عرق الغرور؛ إذ يمكن لأصحاب الضلالة بالتربيت عليه أن يدفعوا الناس إلى كثير من المفاسد؛ ولهذا دعا أصحابه إلى ترك الـ "أنا" ولو كانوا على صواب.93
وقد تجرّد النورسي عن حظوظ نفسه وضحى من أجل طلابه وإخوته؛ يقول: "إنني أرضى بجميع المشقات الآتية على شخصي وبكل سرور وامتنان وبكل ما أملك من روح وجسد بل حتى بنفسي من أجل سلامتكم، ويقول: نحن نضحي بأرواحنا رخيصة في سبيل إخوتنا إن استوجب الأمر." 94
وقد سمح النورسي لطلابه بالتبرؤ منه وتحقيره وإهانته إن كان ذلك سينجيهم من عذاب الظالمين، ولكن الأمر كان بالضد من ذلك؛ إذ كان يأتي بنتيجة عكسية، لأن ذلك لا يشفع لهم بل إنه سوف يشجع الظالمين على ظلمهم؛ يقول النورسي موصيًا طلابه في سجن دنيزلي: "لو كنت أعلم أن تبرؤكم مني ينجيكم من البلاء لكنت أسمح لكم بتحقيري وإهانتي واغتيابي، ولكن القوة الخفية التي تريد سحقنا تعرفكم جيداً ولا تنخدع بمثل هذه الأمور؛ بل تتشجع بسحق أكثر كلما رأت ضعفكم وانسحابكم من الميدان، ثم إن مسلكنا هو الخلة والأخوة فلا سبيل فيه للأثرة وحب الذات والحسد."95
ج- تجرد النورسي وصفحه عن أعدائه:
يذكر النورسي أن الحب والبغض إذا لم يكونا لله استولى على الإنسان النفاق وظهرت فيه الأنانية وحب النفس والإنتصار للذات؛ ويذكر النورسي أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه ألقى كافراً في الحرب على الأرض؛ فلما سلّ سيفه وأراد قطع رأسه بصق عليه ذلك الكافر؛ فتركه ولم يذبحه؛ فلما سأله الكافر عن ذلك؛ قال على: كنت أذبحك لله ولكن لما بصقت عليّ ثار بي الغضب فانتقض إخلاصي لأنه خالطه حظ نفسي؛96 فالإخلاص ونبذ الأنانية وعدم الانتصار للنفس أمر مهم عند النورسي حتى عند التعامل مع الأعداء.
وقد كان النورسي متسامحاً مع كل الناس حتى مع أعدائه؛ وذلك لتجرده لله تعالى ونبذه للأنانية وحظوظ النفس؛ ولهذا عفا وتنازل عن حقوقه تجاهه الذين عذّبوه طوال الثمانية والعشرين سنة التي قضاها في السجون والمحاكم والمراقبة والزنزانات؛97 وليس ذلك فحسب بل دعا النورسي طلابه الذين ابتلوا بشتى أنواع البلايا والمصائب وتعرضوا لصنوف العذاب والمتاعب أن يتجاوزوا عمن اقترف المظالم وهضم حقوقهم،98 وكان يقول: "أوصي طلابي أن لا يحمل أحد منهم شيئاً من روح الإنتقام في قلبه ولو بمقدار ذرة."99
وقد بلغ النورسي أن مديراً قد أساء له وقال فيه أقوالاً مزيفة مهينة؛ فسامحه النورسي، وقال إن صدق فإنه يدفعني لتربية نفسي وإنقاذها من الغرور؛ لأنه إن كانت في رقبتي عقرب فذكرها أحد لي لزم الشكر له، وإن كذب فذلك معونة لنجاتي من الرياء والشهرة.100
ولم يكن صفح النورسي عن أعدائه وعفوه عنهم شيئاً جديداً؛ بل كان أمراً مركوزاً في طبعه المتسامح؛ إذ إنه عندما كان صغيراً في سن الطلب ذهب إلى "سعرد" ودخل مدرسة الملا فتح الله أفندي، وظهر فيه الذكاء الخارق مع القابلية للحفظ، وبدأ أستاذه الملا فتح الله بالثناء عليه في جلساته مع العلماء، وانتشر خبره؛ فحسده طلاب العلم، ولما كانوا غير قادرين على منازلته علمياً قرروا منازلته بالعراك وضربه؛ فأنقذه أهل سعرد منهم، ووضعوه في غرفة حفاظاً عليه، ولكن لفرط حبه لأهل العلم دافع عن معارضيه حتى ولو قضوا عليه لئلا يكونوا هدفاً للعوام، وعندما حاول متصرف مدينة "سعرد" نفي المعارضين له أبلغ النورسي من أرسلهم بأن يخبروا متصرف المدينة بأنهم يتخاصمون ويتصافون كطلاب ثم إن الخطأ قد صدر منه.101
ولما كان النورسي خادمًا للقرآن فقد تيقن أن الله تعالى يدافع عنه وأنه يتحرك تحت إكرام إلهي وحماية ربانية، وقد حاول مديران إدعاء صداقته؛ فتجسسا عليه من أجل ترفيعهما؛ فعُزل الأول وسُجن الآخر في مسألة غير متوقعة.102
د- تجرد النورسي بعد موته:
لم يقتصر تجرد النورسي على حياته فحسب؛ بل أراد الله تعالى أن يمتد ذلك إلى موته أيضاً؛ إذ تمنى النورسي أن لا يُعرف مكان قبره عندما يموت، وقد وضح سبب ذلك بأن الغفلة الناشئة من الأنانية وحب الذات في هذا العصر تدفع الناس أن يولوا اهتمامهم إلى مقام الميت وشهرته الدنيوية؛ مثلما فعل الفراعنة في الزمن الغابر؛ إذ عملوا على تحنيط موتاهم ونصب التماثيل لهم ونشر صورهم رغبة في توجه الأنظار إليهم،103 ولهذا يقول: "أوصي بعدم إعلام قبري حفاظاً على سر الإخلاص ولئلا أجرح الإخلاص الذي في رسائل النور."104
وقد دفن النورسي في "أورفة" أمام مشهد الآلاف المؤلفة من الناس الذين عرفوا مكان قبره، إلا أن الله تعالى قد حقّق أمنيته رغم ذلك؛ إذ قررت الحكومة الناقمة عليه وبعد خمسة أشهر أن تنقل جثته؛ فأُخرجت الجثة من القبر وهي كاملة لم تتحلل ولم تتغير؛ بل كانت ترتسم على وجهه شبه ابتسامة، ثم نقلت الجثة إلى مكان مجهول لا يعرفه أحد،105 يقول النورسي: "لله الحمد لقد أعطاني الله تعالى برحمته -في الخدمة القرآنية والإيمانية- إخواناً؛ بحيث ستؤدي تلك الخدمة في مراكز كثيرة بوفاتي؛ بدلاً عن أدائها في مركز واحد، وإن لساني إن أُسكت بالموت فإن ألسنة قوية كثيرة جداً ستنطلق بدلاً عن لساني وتديم تلك الخدمة؛ حتى يصح أن أقول: كما أن حبة بذر تدخل تحت التراب فتنتج بموتها سنبلة فيباشر مائة حبة بالوظيفة بدلاً عن حبة واحدة، كذلك أتوقع الأمل بأن موتي يكون واسطة لتلك الخدمة أزيد من حياتي."106
النتيجة:
يمثّل التجرد ونبذ الأنانية دستوراً من دساتير القرآن وقسماً مهما من الدين ركّزت عليه النبوة عند النورسي، وذكر أنه أول درس من دروس رسائل النور الذي تلقاه من القرآن الكريم، وأن له ثلاثين عاماً وهو في مجادلة مع طاغوت الـ "أنا" في الإنسان، والملاحظ أن خطوات طريق النور نفسها تفضي بصورة مباشرة إلى الإخلاص والتجرد وكبح جماح النفس ونبذ الأنانية، وقد عالج القرآن الأنانية -عند النورسي- بعدة أمور؛ منها: عدم مدح النفس على سبيل الفخر والإعجاب، وعدم نسيان الله تعالى؛ لأن نسيان الله هو سبب الأنانية وفرعونية النفس وتوهّم ملكيتها؛ وبذلك ينسى الإنسان نفسه ويغفل عنها، ومن علاجات القرآن للأنانية عدم نسبة الخير إلى النفس؛ إذ إن ذلك يفضي إلى الفخر والعجب؛ وكان الواجب أن ترى هذه النفس في ذاتها القصور والنقص، ومن هذه العلاجات أيضاً عدم توهم النفس لاستقلاليتها؛ إذ إنها إزاء المعبود الحق زائلة حادثة مفقودة معدومة، ومن عواقب الأنانية عند النورسي أنها قد تفضي إلى الشرك والكفر، وقد يتحول العقل عند الأناني إلى عضو مزعج؛ إذ إن الأناني يجعل عقله سبيلاً لهوى النفس ووسيلة إليه؛ فيحمل آلام الماضي ومخاوف المستقبل؛ فيحاول الهروب وينغمس في اللهو إنقاذاً لنفسه من إزعاجات عقله، والأنانية تفضي إلى الإحساس بالإغتراب وتحرم من التمتع بنعمة الحياة، كما أن هذه الأنانية تصبغ الكون -في نظر صاحبها- بصبغة قاتمة، وهي تورث صاحبها العناد وعدم التنازل من أجل مصلحة الآخرين.
ولما كان منهج النورسي منهجاً عملياً وليس آراء نظرية مجردة فقد ظهر التجرد ونبذ الأنانية في كافة نواحي حياته؛ وبهذا التجرد خدم القرآن الكريم دون أن يأمل في شيء من الأمور الدنيوية، وهذا سر نجاحه، ولم يكن النورسي يعبأ بإغراءات أعدائه ولا بتهديداتهم، وقد ضحى من أجل رسائله التي ذهب إلى أنها لمعات ضرب الأمثال التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم وليس له من حظ فيها إلا الطلب والسؤال من الله، وقد كان النورسي يرى أن حقيقة الإخلاص والتجرد تمنعه من كل ما يمكن أن
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Haziran 2011 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2011 Cilt: 3 Sayı: 3 |