حركة التجديد والإصلاح في أواسط القرن العشرين
أ. د. جون أوبرت وول1
أثَّرت التغيرات والتقلبات الكبيرة التي حفل بها منتصف القرن العشرين في مختلف أوجه حياة الإنسان.
كما أثّرت تجارب الحداثة والعصرنة في العصرين الأخيرين على منزلة العقائد الدينية وعلى تقاليدها، وكان ومازال للدين دور مهم في تشكيل تجارب الحداثة للمجتمعات، وتعد فترة أواسط القرن العشرين من أكثر الأدوار الحرجة التي جلبت الاهتمام بموضوع التأثير المتبادل بين الدين والحداثة.
ويمكن النظر إلى أعوام الخمسينات من هذا العصر كأعوام بلغ التأثير فيها ذروته، كما بدت فيها أولى إشارات "عالم ما بعد الحداثة Post Modern". ولم يكن في الإمكان الإجابة عن بعض المناقشات الرئيسة للحداثة ما لم تتحوّل إلى توترات ومشاكل جديدة. ومع ذلك فإنّ الوعي واليقظة التي تمت في الخمسينات لا تشبه اليقظة الكبرى التي ظهرت لدى المسيحيين في المستعمرات الإنكليزية في أمريكا الشمالية في القرن الثامن عشر بقيادة "جوناثان إدوارد" Jonathan Edwards. فاليقظة التي تعوّد عليها المسلمون والتي شهدتها الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر وبدأها "محمد بن عبد الوهاب"، وإن شابهتها من بعض الوجوه، فإنّها لم تكن حركة "إحياء". ولم تأخذ حركة اليقظة التي تحققت في أواسط القرن العشرين شكل حركة "برانج ديفيديان" في الولايات المتحدة الأمريكية ولا شكل بعض الحركات الجهادية التي ظهرت في العالم الإسلامي في الربع الأخير من القرن العشرين المتسمة بطابع الشدة أو بالطابع الديني، كأغلب متديني زمانهم.
على العكس من هذا فإن اليقظة التي ظهرت في أواسط القرن العشرين كانت نتيجة حركة تجارب الحداثة في مسائل النظم الاجتماعية والدينية. فحركة الانبعاث الجديد -التي حدثت في الخمسينات- هيأت القواعد والأسس الثقافية واللاهوتية في العالم المسيحي وفي المجمع الكنسي الثاني للكنيسة الكاثوليكية -الذي عقد في الفاتيكان في بداية الستينات- للتحرر اللاهوتي. وكان الصعود الفجائي المتزامن للحركات الشيوعية المتطرفة وللحركات القومية من عوامل حجب إرساء حركة ذات طابع ثقافي ونظامي في مجال الأعراف والتعاليم والتقاليد في الإسلام والهندوسية والبوذية لأجل تجاوز المناقشات والتوترات التي أحدثتها المعاصرة.
قاوم بعض المفكرين تعبير "ما بعد الحداثة" بسبب بعض تماثله مع مدرسة أدبية معينة في النقد والفلسفة. ومع ذلك فمن المحتمل أنه أفضل تعبير ممكن في ملاحظة ووصف التغيرات الطارئة على النظرة السائدة في المجتمعات الصناعية القائمة على "خط الإنتاج"، والنظرة الشائعة في العلم حول الكون والقائمة على فيزياء "نيوتن". معظم ميول "ما بعد الحداثة" لها جذور قوية في التغيرات التي حدثت في الخمسينات. وقد يكون من المفيد القول بأن الحركات الدينية لهذا العقد عبارة عن تركيب ومزيج من "الحداثة" و "ما بعد الحداثة" في الأمور التي واجهتها هذه الحركات وفي الحلول التي قدمتها.
شهدت أعوام الخمسينات تغيرات مهمة جدا في العالم الإسلامي، فاكتسبت البلدان الإسلامية استقلالها السياسي بسرعة كبيرة. وكان نمط الكفاح لإحراز الاستقلال يحدد إلى درجة كبيرة طبيعة التنامي والتوسع في الساحة الدينية. وقد شابه النشاط الديني نسبيا النشاطات القومية، وهي السمة العامة في مجمل البلاد الإسلامية كتركيا وإيران ومصر، وكان التطور الديني في هذه البلدان ينحو منحى مختلفا، فقد كانت عناصر الحداثة وما بعد الحداثة ظاهرة في هذه البلدان أكثر من غيرها، وكانتا من أهم نقاط النقاش، وكان مزيج عناصر الحداثة و "ما بعد الحداثة" ظاهرا في هذه البلدان أكثر من غيرها، فصبغت مواضيع المناقشات بها، فاشتملت المناقشات على العلاقات الموجودة بين المؤسسات السياسية والثقافية الحديثة ممزوجة بالأجوبة الإسلامية عن قواعد الحداثة المؤسسة الراسخة. ويظهر هذا خاصة في مصر بعد القيام بقمع حركة الإخوان المسلمين المتسمة بالحداثة تلتها بداية ظهور حركة الإخوان المسلمين المتسمة بالطابع الثوري بعد وضوح قيام عبد الناصر بتأسيس حركة القومية العربية الاشتراكية المتطرفة. أما في إيران فقد كانت التطورات متعلقة ببرامج التحديث الغربية التي قامت بها السلطات الحاكمة فيها، وارتباط هذه السلطات بالولايات المتحدة الأمريكية كقوة أجنبية متدخلة في شؤون البلد. وبدأت المؤسسة العصرية تواجه تحديا متزايدا من قبل المعارضة ذات الطابع الإسلامي ولا سيما بعد فشل وسقوط القومية العلمانية التي قادها مصدق.2
أما تركيا فقد بدت في الخمسينات كبلد يحاول تجربة بعض أنواع الانبعاث الديني.3 الذي كان مثار نقاش و جدل و تأثير -في الوقت نفسه- في معظم التطورات السياسية آنذاك. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية دخلت تركيا عهد جمهورية ذات برلمان مكون من أحزاب متعددة، وكان من الطبيعي أن تأخذ المواضيع الدينية قسما أكبر من ذي قبل في المناظرات والمناقشات بين الجماهير وأفراد الشعب. وكان الفوز الذي حققه "الحزب الديمقراطي" في انتخابات عام 1950 مفتاح طريق التغيير في السياسة المتعلقة بالدين، فمثلا سمح للأذان الشرعي السابق وهُجِرَ الأذان باللغة التركية، كما سمح بحرية أوسع لتدريس الدين. على أي حال كانت هناك أيضا ميول ثقافية وفكرية أوسع لا تتعلق بالسياسة الحزبية آنذاك. وقد عرف هذا العصر مجموعة من المفكرين والقادة الروحيين الأتراك الذين نذروا أنفسهم لبيان المبادئ الإسلامية في ظل ظروف العصر الحديث وتجاه "ما بعد الحداثة" التي بدأت معالمها بالظهور. وكان على رأس الزعماء الروحيين "بديع الزمان سعيد النورسي"، وعلى الرغم من أنّه لم يكن معروفا كثيرا خارج تركيا إلا أنّه يُعد من أهم الشخصيات التي ساهمت بجهد بارز في هذه التطورات، فكانت أعوام الخمسينات (العقد الأخير من حياته) غنية بهذا السعي.
غطت حياة بديع الزمان سعيد النورسي قسما كبيرا من تاريخ تركيا الحديثة، فقد ولد في شرقي تركيا عام 1876 أي في الحقبة الأخيرة من عهد الدولة العثمانية وخدم في الجيش العثماني، وكتب مقالات وطنية في أثناء حرب الاستقلال التي أعقبت الحرب العالمية الأولى فنال بها تقدير حكومة "أنقرة" الوطنية. ولكنه فقد هذا التقدير عندما ذكّر رجال البرلمان في أنقرة بأن نجاحهم هذا لا يرجع ببساطة إلى جهودهم الشخصية بل إلى القدر الإلهي.4 ولكونه مرشدا دينيا يتمتع بشعبية كبيرة، فقد أصبح مثار شكوك الحكومة "التجديدية" لمصطفى كمال أتاتورك، مما كان سببا في قضاء بقية حياته في السجون أو النفي في أرجاء نائية من تركيا.5
مرّت حياة النورسي بثلاث مراحل، ففي المرحلة الأولى مرحلة "سعيد القديم"، كان إلى جانب اهتمامه النشط بالقضايا الإسلامية ذات الطابع المحافظ، جنديا وقائدا عسكريا فعّالا في الجيش العثماني. ووصف النورسي فيما بعد وضعه الفكري والثقافي في تلك المرحلة فقال: "إن ‘سعيداً القديم' والمفكرين، قد ارتضوا بقسم من دساتير الفلسفة البشرية، أي يقبلون شيئاً منها، ويبارزونهم بأسلحتهم، ويعدّون قسماً من دساتيرها كأنها العلوم الحديثة فيسلّمون بها. ولهذا لا يتمكنون من إعطاء الصورة الحقيقية للإسلام على تلك الصورة من العمل."6
بدأت المرحلة الثانية، مرحلة "سعيد الجديد" في السنوات التي أعقبت رجوعه إلى إستانبول من الأسر في روسيا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. في هذه المرحلة ضعف عنده جانب الفلسفة الإنسانية وظهرت لديه الحاجة إلى التغلب على الغرور الشخصي والحاجة إلى اتخاذ القرآن المرشد الوحيد له،7 أي دخل في تجربة يقظة معنوية وروحية. وكانت النتيجة أنه انسحب من العمل السياسي والاجتماعي ونذر بقية حياته لكتابة "رسائل النور". فملكت كتابة الرسائل بقية عمره، وتتألف الرسائل من مجلدات عديدة أدرج فيها تعليماته الموجهة إلى طلابه الذين تضاعف عددهم.
في أعوام الخمسينات دخل سعيد النورسي مرحلة "سعيد الثالث"، وقد أمّن العهد السياسي الجديد الذي دخلت فيه تركيا إمكانية انتشار رسائل النور وسهّل الانسجام بين طلاب رسائل النور وبين قرائها. أما التغَيُّر الرئيسي الملاحظ على سعيد النورسي في هذه المرحلة فهو استعادة اهتمامه بالحياة السياسية والاجتماعية أكثر من ذي قبل.8 ولا يعني هذا أن النورسي شكّل حزبا سياسيا أو وَضَع طريقة صوفية نمطية. بل أنشأ تجديدا إيمانيا، ولهذا عومل على أنّه حركة إيمانية9 تتضمن منظمات نشر وجماعات من المسترشدين برسائل النور.
كان لسعيد الثالث دور كبير في النهضة الدينية التي شهدتها أعوام الخمسينات. وكانت أفكاره تجذب الناس من مختلف المشارب وتؤثر فيهم، وتعاملت هذه الأفكار مع مواضيع متنوّعة تجاوزت الاقتصار على الشؤون التركية فقط.
إن الكتابة عن دور رسائل النور في مواجهة الحداثة التي تحققت في الخمسينات يحتاج إلى دراسة طويلة وشاملة. ومع ذلك فيمكن تناول بعض ما كتبه في "اللمعات" كخطوة أولى في تحليل أفكاره.10
الحداثة - المعرفة - العقل
واجه معظم المفكرين العالميين في مجال التعاليم الدينية تحديات ومهمات كبيرة بخصوص تقديم حقائق تعاليمهم بطريقة قوية ومؤثرة ومقنعة في العصر الحديث. وفي أواخر القرن التاسع عشر بدا بوضوح أن التغلّب على مشكلات الحداثة ومكافحتها بنجاح يشكّل أهم أشكال المرافعة عن الدين والنضال دونه، ولعلّ من أكثر المواضيع إثارة للجدل بهذا الخصوص هو ضبط العلاقة بين الإيمان الديني والعقل الديني. فقد اعتبر في الغالب وجود نزاع وخصام بين العقل وبين العقيدة الدينية ولا سيما في التعاليم الفلسفية التي ظهرت نتيجة لعهد التنوير في أوروبا. فعدّ كثير من الذين حاولوا تقديم تعريف لمنظور "الحداثة" الإيمان الديني فكرة من صنع الإنسان في العهود السابقة للعهد الحديث. فكانت، بحسب رأيهم، القرون الوسطى "عهد إيمان" بينما اعتبر العهد الحديث القائم على النظرة الفلسفية للقرن الثامن عشر "عهد العقل".
كان النزاع بين العقل وبين الوحي قسما مهما من وعي وإدراك العقلية الحديثة في الخمسينات. وقد قُدّم هذا بوضوح في كتاب (طُبع عام 1950) ألفه "كرين برينتن" بعنوان "تشكيل العقلية الحديثة"11 وكان له تأثير كبير. قال المؤلف في هذا الكتاب:
"إن ما اعتقده كثير من الرجال والنساء منذ القرن الثامن عشر وما تلاه من قرون لا يتماشى مع قسم مهم من التعاليم المسيحية التقليدية". وكان هذا يتضمن علم كونيات "كوزمولوجي" جديد والذي كان يرى أن "الاعتقاد بأن البشرية تستطيع الآن بلوغ المرتبة الكاملة على هذه الأرض في الفكر الغربي شيء ممكن فقط بالنسبة للمسيحيين كنعمة إلهية، ثم لهم فقط بعد الموت"12 كان الفكر الرئيسي لعلم الكونيات الجديد إجراء تركيب بين العقلانية وبين العلم الحديث. وكان على الشخص العقلاني في هذا السياق القيام "ليس فقط بطرد وإبعاد أي قوة خارقة وفوق الطبيعة من الكون، بل القيام أيضا بإحلال الإنسان نفسه ضمن إطار عمل الطبيعة، أو عمل الكون المادي." وتدين العقلانية بقسم كبير من سمعتها التي صعدت ونمت بشكل تدريجي للنجاحات التي حققها العلم الطبيعي. وأخيرا عندما استطاع هذا العلم بفضل قوانين نيوتن الحصول على صورة كاملة ورائعة لنظام الكون بحيث أصبح في الإمكان تجربته رياضيا وإجراء التنبؤات الناجحة، كانت المرحلة بالنسبة للنظرة العقلانية الجديدة قد وصلت إلى نهايتها."13
وفي منتصف القرن العشرين سيطرت "العقلية الحديثة" على معظم أنحاء العالم، فواجهها كثير من المفكرين الدينيين بعنوان "العقلانية العلمية". وثارت مناقشة في أوساط الحداثة الدينية، مفادها التساؤل عن إمكانية الجمع بين الإيمان بدين قائم على الوحي، والإيمان بالعقلانية الحديثة وبالعلم النيوتني، وحدث في هذا المجال تطوران رئيسان: فقد اتفق العقلانيون الملحدون مع الأصوليين الحرفيين على عدم وجود أي انسجام أو توافق بين العقل وبين الدين، ولا بين العلم الحديث وبين "الدين الحقيقي". بينما طَوَّرَت جميع الأديان الرئيسة في العالم مدارس حديثة في الفكر لإظهار أن الأديان يمكن فهمها بالمصطلحات الحديثة. وقد تبنى المتقبلون للحداثة وضعا اعتذاريا في قبول شرعية الحداثة وعملوا على إظهار أن أديانهم تتماشى معها. وتقوّت التقاليد الحديثة في العالم الإسلامي بأعمال بعض المثقفين في أواخر القرن التاسع عشر من أمثال محمد عبده.
وفي الخمسينات بدأت المواضيع الرئيسة ضمن نقاش "الدين ضد العلم" تتغير نتيجة للتغيرات المهمة التي حدثت في ساحة العلم والتي بدأت بالنفوذ والتسرّب إلى أذهان الشعب وتهيمن على نقاشات الطبقة المثقفة، فقد جاء في كتاب كُتب في الخمسينات من قبل "وارنر هايزنبرغ" (من أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين) شرح فيه وبيّن التطور الذي حدث في النقاش بين العلم وبين الدين، فكتب قائلا:
"لقد انكشف في القرن التاسع عشر إطار ضيق جدا للعلوم الطبيعية. ولم يحدد هذا الإطار نظرة العلماء فقط، بل نظرة جماهير عريضة من الشعب… وقد كان هذا الإطار من الضيق والمحدودية بحيث كان من الصعب أن نجد فيه مكانا لكثير من المفاهيم الموجودة في لغتنا… مثل مفاهيم العقل أو الروح الإنساني أو حول الحياة… لقد تطور عداء واضح وصريح للعلم ضد الدين… لقد حلت الثقة في الطرق العلمية وفي التفكير العقلاني محل جميع وسائل الوقاية والحماية للعقل الإنساني."14 وقد لاحظ هايزنبرغ ما يأتي:
"لقد تم قبول اللغة العلمية للميكانيكية النيوتينية بشكل خاطىء وكأنها النقطة النهائية للعلم."
ولم يدم للإطار الضيق القديم صيته، فبدأ ينحل ويتهاوى في القرن العشرين نتيجة تأثير النظرية النسبية وميكانيكا الكم.15 ولم تكن الأحكام التي وصل إليها هايزنبرغ تقوده إلى إنشاء إطار جديد وضيق، بل نراه يصرح بأنه مع إمكان قيام العلم الحديث بدور تمزيقي للأشكال الثقافية للمدنيات الموجودة في العالم فإنه يستطيع المشاركة في مهمة جديدة هي: "إنهاء الخلاف بين التعاليم والتقاليد القديمة وبين النهج الجديد للتفكير."16
ومع أن انتشار التكنولوجيا الحديثة قد يضر بالتقاليد الثقافية القديمة، ذلك أنّ كل هذه التطورات حدثت خلال زمن طويل خارج سيطرة أي قوة إنسانية، فإنّ علينا قبولها كملامح رئيسة لزماننا، ومحاولة ربطها قدر الإمكان بالقيم الإنسانية التي سعت إليها الثقافات والقيم الدينية.17
يمثل هذا المسعى الذي بيّنه هايزنبرغ النغمة الجديدة للنقاش في الخمسينات ويقدّم في الوقت نفسه بُعدا جديدا لفهم تأثير سعيد النورسي.
كان النقاش الماضي في عهد "الحداثة" يتمحور على إمكانية أن يُؤَيّد العلم الدين أم ينقضه، بينما تمحور النقاش في أوائل "ما بعد الحداثة" على بذل الجهود لرؤية العلاقات والروابط بين العلم والدين، والنظر إلى كل من "العلم" و "الدين" كأجزاء من لغتنا الطبيعية. ويقدم مؤلف كتاب عن حياة النورسي الحادثة الآتية التي تعكس الاتجاه المختلف للنقاش، ففي أواسط الخمسينات جاء أحد المستشرقين الإنجليز إلى إستانبول وألقى محاضرة ذكر فيها أن الآيات القرآنية التي تذكر "السماوات السبع" ترينا بأن القرآن يخالف العلم، لأن علم الفلك الحديث يرينا عدم وجود سبع سماوات في الفضاء، فذهب طالبان من طلاب النورسي من مستمعي المحاضرة إلى أستاذهم وسألوه عن رأيه في الموضوع، فكتب النورسي رسالة مستندة إلى مختارات من رسائل النور وقام طلابه باستنساخ الرسالة وطبعها ووزعوها في اليوم التالي في قاعة المحاضرة، وحسب كاتب حياة النورسي فقد ترجموا فحوى الرسالة للمستشرق الذي اختصر محاضرته في ذلك اليوم وألغى محاضراته الأخرى.18
هذه الحادثة مثيرة للاهتمام من ناحية طبيعة النقاش. فمن الواضح أن المستشرق الإنجليزي كان يستعمل أسلوب المناظرة العائد إلى "الحداثة" مستعملا العلم الحديث لتفنيد نصوص مقدسة مستندة إلى الوحي.
وكان جواب بديع الزمان مخالفا للصيغة القديمة التي يتّفق فيها العالم المزعوم والأصولي (الحرفي) من الطراز القديم على وجوب تقديم تفسير حرفي للنص المقدس... ولعلّ نص الرسالة التي سلمها النورسي لطلابه هي المذكورة في كتابه "اللمعات وإشارات الإعجاز" في القسم الذي يشرح فيه كيف يجب فهم معنى السماوات السبع. يبدأ بديع الزمان جوابه بذكر ما يأتي:
"لما عجز أصحاب علوم الجغرافيا والفلك بقوانينها القاصرة ودساتيرها الضيقة وموازينها الصغيرة أن يرقوا إلى سموات القرآن وأن يكشفوا عن الطبقات السبع لمعاني نجوم آياته الجليلة، بدءوا يحاولون الاعتراض على الآية الكريمة وإنكارها بحماقة وبلاهة.":19 إن معنى الآية شيء، وأفْرَادُ ذلك المعنى وما يشتمل عليه من تلك المعاني من الجزئيات شيء آخر. فإن لم يوجد فرد من أفرادٍ كثيرة لذلك المعنى الكلي فلا يُنكر ذلك المعنى الكلي.20
ويُقَدِّم بديع الزمان شرحا إضافيا في هذا الصدد مستخدما ما تَعَوَّد على استخدامه على الدوام وهو سلوك "الطريق الوسط" فقال:
"إن الحكمة القديمة قد تصورت السموات أنها تسعُ سموات، فزادت على السموات السبع، العرش والكرسي الواردين في الشرع، فكان تصويراً عجيباً لها. ولقد استولت على البشرية طوال عصور مديدة تلك التعابير الرنانة لفلاسفة الحكمة القديمة وحكمائها حتى إن مفسرين كثيرين اضطروا إلى إمالة ظواهر الآيات إلى مذهبهم مما أدّى إلى إسدال ستار على إعجاز القرآن، إلى حد ما.
أما الحكمة الجديدة المسماة الفلسفة الحديثة فتقول بما يفيد إنكار السموات إزاء ما كانت تدّعيه الفلسفة القديمة من أنّ السموات غير قابلة للاختراق والالتئام. فقد فرّط هؤلاء كما أفرط أولئك. وعجز الاثنان عن بيان الحقيقة بياناً شافياً.
أما حكمة القرآن الكريم المقدسة فإنها تدع ذلك الإفراط والتفريط متخذة الحد الوسط، فهي تقول: إن الصانع جل جلاله خلق سبع سموات طباقاً."21
ويستمر بديع الزمان في السرد بهذا الأسلوب من التعبير ذاكرا أن أناسا مختلفين يفهمون معنى الآيات بطريقة تكون ملائمة لمستوى عقلياتهم وقابليتهم على الفهم، فقال:
"نعم! إنّ سعة خطاب القرآن وشمول معانيه وإشاراته ومراعاته درجات أفهام الطبقات عامة ومداركهم من أدنى العوام إلى أخص الخواص تبيّن أنّ كلّ آية لها وجه متوجّه إلى كل طبقة من الناس.
ولأجل هذا فقد فُهِمَتْ سبعُ طبقات بشرية سبعَ طبقات مختلفة من المعاني ضمن المعنى الكلي للآية الكريمة: "سبع سموات."22
ثم يعرض النورسي الطرق المختلفة التي يمكن بها فهم معنى "السماوات السبع"، ثم يصل إلى استنتاج بأنّ:
"معنى واحداً لهذه الآية من بين تلك المعاني الكثيرة إن كان صدقاً فإنّ المعنى الكلي يكون صدقاً وصواباً، حتى لو أن فرداً واحداً من تلك المعاني، لا وجود له في الواقع إلاّ في ألسنة الناس، يصح أن يكون داخلاً ضمن ذلك المعنى الكلي، رعايةً لأفكار العامة. فكيف ونحن نرى كثيراً جداً من أفراده صدقاً وحقيقةً."23
يقدم هذا المثال صورة عن الجهد الأساسي الذي بذله النورسي لتقديم "جامع الدعوى "synthesis" للعلم والدين. وخلال الخمسينات كتب مجموعة من الرسائل التي كانت آخر ما أضيف إلى رسائل النور. وهذه الرسائل -كما ذكر كاتب سيرته- "تصور أهم أوجه رسائل النور وهو شرح العلاقة بين العلم وبين حقائق الإيمان وأنهما -بدلا من كونهما في حالة خصام وتناقض- إن تم تناولهما في ضوء القرآن فإن العلم سيقوم بتعضيد الإيمان وتقويته."24 وعلى أي حال فإن نقاش الآيات حول "السماوات السبع" لم يجر بالأسلوب المعهود في "الحداثة" بين عقلاني يناقش أصوليا. بدلا من هذا فقد بيَّن بديع الزمان "سعة الخطاب القرآني" و"لغة الشريعة" علاوة على ذكره اختلاف المفاهيم حسب الزمان والمكان وحسب الموقع الاجتماعي. بينما لم يتم تقديم هذا النقاش بأسلوب التحليل التفسيري والتأويلي. ولا شك أنه مثال واضح على أسلوب قوي لـ "ما بعد الحداثة" ظهر وبرز في الخمسينات بديلا عن الأسلوب القديم في النقاش المحصور ضمن إطار "الحداثة" في معالجة موضوع المعركة بين العلم وبين الدين.
الحداثة والطريق الوسط
دخلت في أواسط القرن العشرين كثير من المظاهر الاجتماعية المهمة والشؤون الدولية ضمن أقطاب متنافسة، وكان هناك قطبان واضحان في الصراع (الحرب الباردة) على النطاق الدولي، الأول مثّلته الولايات المتحدة الأمريكية و مثّلت الثاني الاتحاد السوفيتي… والغرب في مواجهة الشرق، والرأسمالية في مواجهة الشيوعية، رسمت هذه الحرب الباردة إطارا لكثير من العلاقات ذات الصلة بأبعاد الحياة. وشهد عقد الخمسينات ظهور حروب رئيسة بارزة في حركات تحرر الأمم والصراعات الاجتماعية، كتب "هارولد لاسويل" (من الخبراء المعروفين في السياسة) في ذلك العهد ما يأتي:
"لم يعد أحد يشك أو يختلف في أن عهدنا هو عهد التغيرات الثورية على المستوى العالمي، ما نختلف فيه هو حول طبيعة هذه التغيرات الثورية."25 وإذا كان عليّ أن أستعير تعبيرا من كتاب كان واسع الانتشار آنذاك قلت إنه عهد: "المؤمنون الراسخون" وهو عنوان الكتاب الذي ألّفه "أريك هوفر" عام 1951، والذي قال فيه:
"من الضروري على معظمنا في هذه الأيام أن نكون على بصيرة من حوافز وبواعث وأجوبة المؤمنين الراسخين. لأنه مع أن عصرنا عصر إلحاد إلا أنه ضد الزندقة أو عداء الدين. إن المؤمنين الراسخين في كل مكان وقد بدءوا مسيرتهم، وكل فريق يريد تشكيل عالمنا حسب الصورة الموجودة في ذهنه."26 والمقصود من تعبير "المؤمنون الراسخون" الوارد في هذا التحليل هم المتعصبون الذين يرون هذا الإيمان ضروريا لتحريك كتل الجماهير. ويتابع قائلا: "إن من يقوم بتغيير أمة أو بتغيير العالم لا يستطيع عمل ذلك بإظهار معقولية هذا التغيير المطلوب أو بإكراه وإجبار الجماهير والناس على أسلوب آخر للحياة. عليهم أن يعرفوا كيفية إثارة الآمال العريضة المبالغة بها وتهييجها."27
لقد أكدت الثورات الكبيرة على أهمية المجموعات المختلفة والمتنافسة فيما بينها وعلى أهمية الجماهير. وعندما أسندت الثورات الرئيسة نفسها إلى قاعدة أيديولوجيات المجموعات الدولية كما هو الملاحظ في الثورة الماركسية كانت الأيديولوجيات مستندة إلى "الدور العالمي الفريد لطبقة البروليتاري"، ولوحظ أن "جميع الثورات التي نجحت في القرن العشرين نجحت بإنشائها حكومة دولة قومية موجودة في العالم ضمن دول قومية أخرى."28 وعُدّت -من أوجه عديدة- الحروب التي نشبت في أواسط القرن العشرين نتيجة خصومات ونزاعات الحركات الثورية للقرن العشرين… ذروة وأوج الحداثة. كانت الدولة القومية ولا زالت الوجه السياسي للحداثة وظاهريتها. وفي أواسط القرن العشرين كانت عملية التحديث مقترنة في الغالب من ناحية المفاهيم مع "بناء القومية". بينما كانت الدول القومية تستطيع العمل معا كان القوميون والثوريون من "المؤمنون الراسخون" جزءا مهما في الدول والمجتمعات في العالم أجمع. لقد كان عقد الخمسينات عهدا لتطرف كبير.
كانت القومية والثورة والحظر والصراع الحديث ولا تزال من مظاهر عملية تقدم الحداثة العالمية في القرن العشرين. وفي الوقت نفسه كانت هناك حركات مهمة ومشاهدة أيضا ذهبت أبعد من هذا. وكما قام آنشتاين وهايزنبرغ في حقل العلوم الطبيعية بتجاوز وتخطي فيزياء نيوتن، كانت هناك تغيرات مهمة مشابهة في ساحة السياسة والدين. وقد صرح ف. س. ج. نورثروب – آنذاك بقوله:
"اُفتتح القرن العشرين بقيام آنشتاين وبلانك بإعادة تركيب مذهل ومفاجئ لنظرة الإنسان إلى الطبيعة، ووصل القرن إلى منتصفه بتغيير مماثل في ساحة السياسة الداخلية والدولية. أما التغيير الذي كان مماثلا في الأهمية فقد وقع في ساحة الدين على الرغم من أنّه لم يجلب كثيرا من الأنظار ومن الانتباه."29 وقال بخصوص التطور الديني:
"لقد ولد علم مقارنة الأديان في جو من الاحترام الناضج بين أديان العالم، من الانسجام وجو التفاهم في الداخل، وليس من وسط الحماسة التبشيرية من الخارج، وأصبح هذا هو الجوهر في الأمر. ولذا فليس من الصدف في شيء أن تكون الصفات المميزة لجميع الأديان المهمة في العالم هي ذهنيتها وعقليتها العالمية."30
ويُعَدُّ هذا المنظر-بحسبهم- ابتعادا عن الروح القتالية للأصولية الحرفية من نواحي عديدة، وذلك لصالح الاعتدال وسلوك طريق وسط جامعا في ثناياه محاولة الإقناع والمرونة والمسامحة. وهذا يعكس بدايات وعي "ما بعد الحداثة" لأهمية قبول التعددية ورفض روح المنع والحصر والخصام.
في مثل هذا العالم لم يكن بديع الزمان -حسب تعريف هوفر- من "المؤمنين المتزمتين" أي المتعصبين، بل كان شخصا مؤمنا بالإسلام باعتباره "طريقا وسط". وكانت نظرته تقوم على جمع الدين والعلم معا وليس النظر إليهما باعتبارهما نِدّين متنافسين، وكانت هذه هي الصفة المميزة لنظرته الواسعة لمواضيع الإيمان والحياة العملية في سياقها الحديث. ونجد في كتاباته وإرشاداته تكرارا في هذا الصدد مفاده أن الإسلام هو طريق وسط ومسلك معتدل وغير متطرف. وهذا يمثل تعبيرا مُهمّا عن الموضوع الذي عرضه نورثروب وهو الاتجاهات الموجودة في أديان العالم في منتصف القرن العشرين.
و قد عبّر النورسي عن الطريق الوسط من خلال وضعين متعاكسين ومتضادين، وبيّن بأنّ الطريق الإسلامي الصحيح هو الطريق الوسط بينهما، ويعمل على استحضار هذه المعاني حتى في المواضيع المثيرة للنزاع مثل موضوع اختلاف السنة والشيعة في شرح تعاليم الإسلام. فمثلا عند مناقشته لاختلاف السنة والشيعة يصل إلى قرار يتمحور على الطريق الوسط، يشهد له قوله:
"لا خير في الإفراط والتفريط في كل شيء. وإن الاستقامة هي الحد الوسط الذي اختاره أهل السنة والجماعة… فيا أهل الحق الذين هم أهل السنة والجماعة! ويا أيها الشيعة الذين اتخذتم محبة أهل البيت مسلكاً لكم! ارفعوا فوراً هذا النزاع فيما بينكم، هذا النزاع الذي لا معنى له ولا حقيقة فيه، وهو باطل ومضر في الوقت نفسه… فيلزمكم نبذ المسائل الجزئية التي تثير النزاع، لأنكم أهل التوحيد بينكم مئات الروابط المقدسة الداعية إلى الأخوة والاتحاد."31
وبشكل مماثل يظهر الطريق الوسط في مسلك بديع الزمان بمعنى الاعتدال، فلا ينطبق عليه القالب أو التعريف الذي قدمه "هوفر" -أو "لاسويل"- للزعيم الثوري -حسب مفهوم "الحداثة"- الذي يقود الجماهير، ذلك أنّه أكد على معقولية رسالة الإسلام، وعرض في سياقات عديدة الاعتدال كهدف وأمل كبير للإسلام. وفي تقديمه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة حسنة ما يؤكّد هذه المعاني منها قوله: "لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد خلق في أفضل وضع وأعدله وفي أكمل صورة وأتمها، فحركاته وسكناته قد سارت على وفق الاعتدال والاستقامة، وسيرته الشريفة تبيّن هذا بياناً قاطعاً وبوضوح تام، بأنه قد مضى وفق الاعتدال والاستقامة في كل حركة من حركاته متجنباً الإفراط والتفريط… وهكذا فإنه صلى الله عليه وسلم قد اختار حد الاستقامة في جميع سننه الشريفة الطاهرة وفي جميع أحواله الفطرية وفي جميع أحكامه الشرعية، وتجنب كليا الظلم والظلمات أي الإفراط والتفريط، والإسراف والتبذير، حتى إنّه قد اتخذ الاقتصاد له دليلا متجنبا الإسراف نهائيا، في كلامه وفي أكله وفي شربه."32
تعكس طريقة بديع الزمان في عرض المواضيع ظهور وبزوغ الميول العالمية لـ "ما بعد الحداثة"… هذه الميول التي شرحها "نورثروب" وقال إن من مظاهرها الانفتاح التنوع وعلى شكل من أشكال التعددية. لم يكن النورسي في وضع يمكنه من القيام باتصالات عديدة مع غير المسلمين لمناقشة المواضيع الإيمانية معهم، ولم يكن هذا الجزء واضحا من مهمته ورسالته، ومع هذا فإنه كان على وعي بأهمية تطوير العلاقات مع العالم المسيحي، فزار البطريق اليوناني الأرثوذكسي في إستانبول عام 1953. وبتعبير أوسع "مع أن بديع الزمان أيَّد على الدوام ودَعَّم الصراع من أجل استقلال العالم الإسلامي عن الغرب، وأيد سلامة ووحدة ثقافته، فإنه تنبّأ وتوقّع التعاون بين المسلمين وبين المسيحيين المخلصين في وجه الإلحاد المعتدي والظالم."33 وفي هذا السياق كتب رسالة تناول فيها مسألة سياسية مهمة أيّد فيها بقوة دخول تركيا إلى حلف بغداد، هذا الحلف الذي جعل تركيا وأقطارا إسلامية أخرى حليفة لدول مسيحية كبرى ضد الكتلة الشيوعية.34
يُعد مفهوم التحالف مع المسيحيين لمحاربة الإلحاد امتدادا لموقف قديم، ولا يعد إعلانا مهما لقبول التعددية. على أي حال، كان بديع الزمان -بشكل نسبي- من أنصار التعددية من ناحية المنهج والطريقة ومن ناحية التفسير.
ومع أن "ما بعد الحداثة" يُتهم على الدوام بأنه يدافع عن النسبية وينكر وجود أية حقيقة، وهذا صحيح بالنسبة لبعض مفكري ما بعد الحداثة، لأن قبول الحداثة وصحة وشرعية التعددية والتنوُّع في وجهات النظر والآراء لا يُعد نسبية. إن القناعة الحديثة حول إمكانية اكتشاف حقيقة علمية مطلقة ثم البرهنة عليها يناقض تماما النسبية المفرطة لما بعد الحداثة، وبالرغم من كلّ ذلك كانت هناك "طرق وسطى" بين هذين القطبين من الإفراط. ويقدم بديع الزمان أنموذجا لإحدى هذه الطرق.
وفي مجال تفسير القرآن يصرّح سعيد النورسي بأنّ الآيات القرآنية تعكس الرسالة الإلهية الشاملة والواسعة ومعانيها العميقة:
"إن القرآن الكريم مثلما يبيّن الحقائق بمفاهيمه وبمعناه الصريح يفيد كذلك معاني إشارية كثيرة بأساليبه وهيئاته. فلكلّ آية طبقات كثيرة من المعاني؛ ولأن القرآن الكريم قد نزل من العلم المحيط، فيمكن أن تكون جميع معانيه مرادة، إذ معاني القرآن لا تنحصر في واحد أو اثنين من المعاني كما ينحصر كلام الإنسان الحاصل بإرادته الشخصية وبفكره الجزئي المحدود.
فبناءً على هذا السر فقد بيّن المفسرون ما لا يحد من الحقائق لآيات القرآن.
وهناك حقائق كثيرة جداً لم يبينها المفسرون بعدُ. ولاسيما حروف القرآن وإشاراته ففيها علومٌ مهمة سوى معانيه الصريحة...35
هذا الانفتاح على معاني ذات مستويات مختلفة يعكس تعددية ولا يعكس وضعا نسبيا، لأنه يؤكد فقط على أهمية دور التفسير الشخصي والفردي. ويُقَدِّم النورسي عند حديثه في موضوع "الإخلاص" هذا التوازن الدقيق للتعددية في فهم الحقيقة بكل وضوح فقال:
"وإذا ما كان ثمة غرور وأنانية في النفس يتوهم المرء نفسه مُحِقّاً ومخالفوه على باطل فيقع الاختلاف والمنافسة بدل الاتفاق والمحبة، وعندها يفوته الإخلاص ويحبط عمله ويكون أثرا بعد عين.
والعلاج الوحيد لهذه الحالة والحيلولة دون رؤية نتيجتها الوخيمة هو في تسعة أمور هي: اتخاذ دستور الإنصاف دليلاً ومرشداً، وهو أن صاحب كل مسلك حق يستطيع القول: "إن مسلكي حق وهو أفضل وأجمل" من دون أن يتدخل في أمر مسالك الآخرين، ولكن لا يجوز له أن يقول: "الحق هو مسلكي فحسب" أو "إن الحسن والجمال في مسلكي وحده" الذي يقضي على بطلان المسالك الأخرى وفسادها."36
وهو عندما يشير إلى الطرق المتعددة التي يستطيع بها الناس القيام بتفسير الحقيقة يتخذ طريقا وسطا فلا يقدّم وضعا نسبيا ولا وضعا مطلقا. فهو يرى بأن الوحي الإلهي يقدّم الحقيقة إلى كل الناس. ولكن بما أنّ الناس يختلفون في قابليتهم ومداركهم وأزمانهم وأوضاعهم فإنهم يفهمون هذه الحقيقة بطرق مختلفة. و "كما أن للقرآن الكريم متشابهات، يرشد المسائل الدقيقة العميقة للعوام بالتشبيه والتمثيل، كذلك للحديث الشريف متشابهات يعبّر عن الحقائق الواسعة بتشبيهات مأنوسة لدى العوام."37 ولكن "التشبيهات والتمثيلات كلما انتقلت من الخواص إلى العوام، أي كلما سَرَتْ من يد العلم إلى يد الجهل عُدّت حقائق ملموسة بمرور الزمن، أي كأنّها حقائق واقعة وليست تشبيهات."38
وقَدَّم بديع الزمان مثالا عن عقيدة شعبية قديمة بأن الأرض موجودة فوق قرني ثور واقف على حوت، بينما يقول علم الفلك الحديث بأن الأرض تسبح في فراغ. إن حقيقة الثور والحوت مجاز ورمز ضمن استعارة كبيرة، ويجب ألا يُفهم كوجود حقيقي ولا يبدو وكأنه خطأ في الحديث. ولكنه مجرد تأكيد على أن الحقيقة يمكن التعبير عنها بطرق مختلفة.39
بمثل هذا التناول للمواضيع يمكن أن يُنظر إلى بديع الزمان كممثل مبكر لأسلوب "ما بعد الحداثة" في الرد على معارضي الميتافيزيقية المحدثين في الفكر والثقافة، ولكن بصيغة هي أقرب إلى ما يدعونه بأسلوب "ما بعد الحداثة المجازي metaphoric post modern" منها إلى صيغة "ما بعد الحداثة التحليلي analytic post modern".40
ومثل معظم المفكرين الدينيين الآخرين للخمسينات الذين كانوا قد بدءوا بتجاوز الفكر الحديث ذي الطابع القهري والإجباري، لم يكن بديع الزمان من مفكري "ما بعد الحداثة" أو من أنصار المدرسة التعددية "pluralist" بشكل كلي، فقد كانت نظرته للعالم من خلال المنظور الاسلامي بشكل واضح. وهو يشبه في هذا طراز النظرة الدينية التعددية لعالم الدين الكاثوليكي "كارل رينر "Karl Rahner" - من خلال الإطار المفاهيمي الذي وضعه لـ "المسيحية غير المسماة anonymous Christianity".
على كل حال فقد كانت كلتا الحالتين خطوة مهمة لتجاوز مقولات الحصر والمنع الموجودة في نظرة الأصوليين المحدثين وكذلك في النظرة التبشيرية. وقدَّم هذه الخطوة بشكل صارم بلغة العصر وبلغة الإسلام بوصفه طريقا وسطا.
البيئة التركية في الخمسينات
كانت تركيا -مثل غيرها من العديد من بلدان العالم- تُجَرِّبُ تحولات مهمة في الخمسينات. وهذا الأمر ملاحظ في الساحة السياسية بعد النجاح السياسي لتعدد الأحزاب في انتخابات عام 1950، والذي رافقته آثاره في الساحة الاقتصادية، والشؤون الدولية، وقد لاحظ المراقبون أن الساحة الدينية كانت مسرحا لتغيرات وتحولات مهمة. وكان العقد من 1950 حتى 1960 من الناحية السياسية عهد حكم الحزب الديمقراطي. وعند تقييم هذا العهد نرى أن المواضيع الدينية كان لها دور حاسم في تاريخ تلك الفترة. فمثلا في دراسة جرت في الستينات عن الانقلاب الذي حدث عام 1960 وأنهى حكم الحزب الديمقراطي، أكّدت الدراسة أن نقاشات ستجري في تركيا لسنوات عديدة، تتناول بالعرض والتقويم عهد الحزب الديمقراطي من جهة كونه عهد خيانة للعلمانية أم عهد استغلال للدين أم عهد تأمين لحرية العبادة أم بداية عهد جديد لعصرنة الإسلام.41
كتب في نهاية الخمسينات "ولفرد كانتويل سمث Wilfred Cantwell Smith" دراسة مهمة حول التجربة الإسلامية في العهد الجديد فأوضح بأن التجربة التركية كانت أنجح التجارب في العالم الإسلامي من ناحية التكيف مع الحداثة فقال:
"الأتراك هم الشعب المسلم الوحيد الذي عرف ماذا يريد. وهم الأمة الوحيدة التي طَوَّرّت في الأغلب أسسها الثقافية والاجتماعية بشكل ملائم مع جوهر الحداثة."42
وقد رأى "سمث" وغيره في هذه التجربة التركية جهودا متباينة ومتناقضة في "النهضة" و "التجديد" ولكن يُكَمِّل بعضها البعض الآخر. ويكمن التناقض بين "إحياء حقيقة قديمة اضمحلت ‘أي حركة الإحياء' وبين ‘إصلاح وتعديل الخاطئ من الموجود فعلا ‘أي حركة التجديد'."43
وكثيرا ما تكلم المراقبون آنذاك عن "التجديد" التركي في الخمسينات المتضمن كلا من التأكيد على العلمانية الليبرالية، وإعادة التأكيد على الهوية الإسلامية. وكان السؤال الوارد في أذهان العديدين في هذا الموضوع هو: هل ستكون هذه التطورات الدينية باتجاه زيادة الجهود لبعث أرثوذكسية قديمة، أم باتجاه حركة تجديدية للإسلام تتضمن وجها جديدا لتحديث الإسلام الخاص بالأتراك؟44 وكان السياق العام الذي لاحظه معظم الناس هو أنه مرحلة في عمليات التحديث وإجابة على التحديث.
ظهرت مؤشرات تحوّلات أكثر أهمية بدأت تأخذ مكانها، إذ يمكن بكل وضوح مشاهدة تناقضات الخمسينات التي كانت بين الحكومة وبين المجددين من جماعات المسلمين وخاصة في موقفهم من تحديث القديم، وما رافقها من ردود فعل وردت من الجهات ذات الصبغة القديمة والتقليدية. إذ كان هذا هو الوضع فيما يتعلّق بالحوادث التي ارتبطت بالطرق التيجانية.45 وكان من الممكن على أي حال مشاهدة التطورات التي تجاوزت التوترات بين الحداثة وبين الرجعية. فالشيوخ من الزعماء المسلمين في القرى والأرياف كانوا يموتون ويحل محلهم خريجو مدارس الأئمة والخطباء الذين أصبح لهم تأثير قوي في الحياة الدينية المحلية، وهذا أدى إلى ضعف واضح في قوة الرجعية عند المسلمين.
قام "ريتشارد روبنسون" -الذي كان له اطلاع جيد آنذاك على أحوال تركيا- بشرح وتعريف الطابع الديني الذي بدأ بالظهور بالمقارنة مع طابع المجددين المسلمين القدماء، فقال: "على الرغم من وجود قوة سياسية يعتد بها للمتدينين المحافظين في عام 1960 فإنها لم تعد خطرا على الجمهورية العلمانية، بل إن الإسلام نفسه كان قد اجتاز مرحلة دقيقة من التحول حتى في مستوى القرية، فلم تعد الرفاهية المادية أو الحوافز الاقتصادية أو الإبداع أو الآلات الميكانيكية والتجارة تحديات للدين. فقد رأيت قرية تفتخر ببناء جامع بكلفة "100" ألف ليرة تركية تفتخر أيضا بمدرستها العلمانية النظيفة والمنظمة. ولم يكن الجامع الجديد -في مجتمع هذه القرية في الأقل- يمثل رجعية دينية، لأن القرويين كانوا يتكلمون على الدوام عن زيادة مستوى رفاهيتهم المادية حاليا وما ينتظرونه في المستقبل. وقد يقوم أي مراقب سطحي برؤية الجامع الجديد فقط لكي يعطي حكما بتجدد الميل إلى الإسلام الشعبي التقليدي. ولكن هذا يكون خطأ منه، لأن التوفيق بين الإسلام التقليدي وبين الحياة العصرية كان قد بدأ فعلا."46
كان بديع الزمان بشكل بارز ومتميز جزءاً من مجتمعه، ولم يكن من المناضلين في الصفوف الخلفية ضد الحداثة والحياة العصرية. كما لم يكن من "الإصلاحيين التجديديين Reformists" ضمن الطبقة المثقفة التي عرّفها ووصفها "و. ك. سمث" بأنهم من "الليبراليين العصريين Liberal modernists" مثل القرويين الذين وصفهم "روبنسون"، ولم يكن من "المناضلين الثوريين الإحيائيين Revivalist renascence" بحسب تعبير "سمث". ولا من أنصار "التجديد العصري Modernist reformation". بل كان رائد طريق وسط جديد وضعه هو "الطريق الأوسط Middle way" الذي لم يهتم بالنزاع بين مؤيدي ومعارضي التحديث "Modernization" أو بدعاويهم وأدلتهم عند البناء على الأسس الموجودة سابقا. بل تجاوز هؤلاء لتأسيس ما يؤدي في المستقبل إلى ملامح وإلى طريق ما بعد الحداثة "Post-Modern". إن كلا من حركة الإحياء "Renascence" وحركة التجديد "Reformation" تعكسان الحركات التي تأخذ أماكنها ضمن إطار عام من "الحداثة". بينما شهدت أعوام الخمسينات بداية لحركات تخطت وتجاوزت الحداثة. ونستطيع ملاحظة ومشاهدة ذلك في كثير مما كتبه بديع الزمان عن الإسلام والعقيدة الإسلامية معبّرا بما كتبه عن طريق وسط يُعد تعبيرا وبيانا أوليا عن "ما بعد الحداثة".
يمكن النظر على النطاق العالمي إلى بديع الزمان كحلقة من سلسلة طويلة من التحولات التي ظهرت في منتصف القرن العشرين. وتتضمن هذه التحولات التحرك من "الحداثة" نحو "ما بعد الحداثة"، هذا على الرغم من كون "ما بعد الحداثة" مرحلة لم تتضح بعد ملامحها بشكل كاف حتى ونحن نخطو نحو نهاية القرن العشرين. وبهذا الخصوص قد يكون من المفيد إيراد التمييز الذي وضعه أحد العلماء المسيحيين بين الأصول "Paradigm وبين الدين ‘Religion' فالأصول هي: "مجموعة مؤلفة من صيغ السلوك والقيم المعنوية والقناعات الشعورية واللاشعورية." بينما يقول عن الدين: "ليس الدين مجرد أنموذج أساسي شعوري أو لاشعوري حول العالم والمجتمع والعقيدة والكنيسة. بل هو نظرة شعورية للحياة تتضمن جميع أمثال هذه النماذج."47
ومن خلال التواريخ الطويلة للتقاليد والأعراف الدينية الرئيسة ولتواريخ المدنيات والحضارات يمكن تعريف النماذج الرئيسة "Major paradigms" للعهود من خلال هذه النظرة؛ فإن منتصف القرن العشرين كان عهدا للتحول من مرحلة الأنموذج الذي تطور من أنموذج "التنوير الحديث Modern Enlighten" إلى بداية ظهور أنموذج "ما بعد الحداثة" الذي تميز بتعددية أكثر وبكونه يقترب من المسائل اللاهوتية "Theology" بصيغة تفسيرية وتأويلية. ونحن نرى في "الطريق الوسط" الذي اختطه بديع الزمان طريقا مهما يعكس هذا التحول.
وهذا الطريق الوسط ليس جزءاً من النقاش الدائر بين أنموذج التنوير الحديث "Modern Enlighten" السابق الجاري بين العلمانيين وبين الرجعيين التقليديين، بل هو بداية لتعريف وتوضيح الأنموذج الإسلامي لـ "ما بعد الحداثة" الجديد.
___________________________________
الهوامش:
1 أستاذ التاريخ الإسلامي -ومدير مركز التفاهم بين المسلمين والنصارى، جامعة جورج تاون بواشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية. حصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 1969 عن موضوع "تاريخ الطريقة الختمية في السودان". وهو عضو في: الجمعية الأمريكية للمجتمعات المثقفة. الجمعية الأمريكية لدراسة المجتمعات الإسلامية. الجمعية الأمريكية للتاريخ. هيئة المؤلفين لدائرة معارف العالم الإسلامي المعاصر. هيئة المؤلفين للمجلة العالمية لدراسات الشرق الأوسط. رئيس هيئة المؤلفين لجمعية دراسات الشرق الأوسط. مجموعة المستشارين لبرنامج ثقافة الأمن القومي. ورئيس: جمعية نيو انكلاند للتاريخ وهيئة المديرين لمجلس نيوهامشاير للشؤون العالمية 1978. وهيئة المديرين لمجلس نيوهامشاير للشؤون الإنسانية 1991-95. وهيئة المديرين لجمعية دراسات السودان. وله أبحاث ودراسات كثيرة، من مؤلفاته المنشورة:
-Islam: Continuity and Change in the Modern World
-Historical Dictionary of the Sudan
-Sudan: State and Society in Crisis,
-Islam and Democracy, with John L. Esposito
-The Contemporary Islamic Revival, with Yvonne Haddad and John L. Esposito
-The Sudan: Unity and Diversity in a Multicultural State, with Sarah P. Voll".
-Eighteenth Century Renewal and Reform in Islam, with Nehemia Levtzion, editors
2 محمد مصدق (1880-1967) أحد أبرز القادة السياسيين في إيران عرف برائد تأميم النفط في بلده، وشغل مناصب تنفيذية هامة، منها رئاسة الوزراء (1951-1953)
3 من أكثر المقالات فائدة والمكتوبة آنذاك في هذا الخصوص انظر إلى: "Islamic Revival" لبنارد لويس. "International Affairs 28 /1952" صفحة: 38-48.
والى: "Recent Development in Turkish Islam" لـ "لويس ف. توماس "Lewiis V. Thomas المنشور في "Middle East Journal" بتاريخ 6/1952؛ صفحة: 22-40.
والى مقالة: "Howard A. Reed" بعنوان: "Revival of Islam in Secular Turkey" المنشورة في "Middle East J ournal" بتاريخ: 8/ 1954؛ صفحة: 227-282.
4 هناك كتاب تحليل مفيد للأشخاص خارج تركيا كتبه "شريف ماردين" حول حياة وأهمية النورسي تحت عنوان: "Religion and social change in modern Turkey" من منشورات:(Albany: State University Press of New York, 1989.)
5 لمعرفة تفاصيل حياة النورسي انظر إلى: Bediuzzaman Said Nursi بقلم "شكران واحدة" إستانبول: سوزلر 1992.
6 المصدر السابق، صفحة: 164-165 والمكتوبات: 569.
7 المصدر السابق، صفحة: 167.
8 المصدر السابق، صفحة: 330.
9 انظر إلى شريف ماردين:
"Nurculuk", The Oxford Encyclopedia of the Modern Islamic World, ed. John L. Esposito (New York: Oxford University Press, 1995) صفحة: 3:256
10 استفدت في كتابة هذه المحاضرة من ترجمة شكران واحدة التالية لـ "اللمعات" إستانبول: سوزلر 1995 وسأشير فيما بعد إلى هذا المصدر بكلمة "اللمعات"
Crane Brinton, "The Shaping of the Modern Mind" (New York: Mentor Books, 1950.) 11
12 المصدر السابق، صفحة: 107 و 113.
13 المصدر السابق، صفحة: 110-111.
14
Werner Heisenberg, Physics and Philosophy: The Revolution in Modern Science (New York: Harper and Row, 1958.) صفحة: 197-198
15 المصدر السابق، صفحة 198-199.
16 المصدر السابق، صفحة: 202.
17 انظر المصدر السابق، صفحة: 202- 203؛ "أضيفت الاقتباسات".
18 شكران واحدة، صفحة: 346.
19 Flashes صفحة: 97 واللمعات: 100.
20 نفسه، صفحة: 97 واللمعات: 101.
21 نفسه، صفحة 99 "أضيفت الاقتباسات" واللمعات: 104.
22 نفسه، صفحة: 101؛ "أضيفت الاقتباسات" واللمعات: 106.
23 نفسه، صفحة: 102 واللمعات: 107.
24 شكران واحدة، صفحة: 336
25 نشر لأول مرة عام 1951:
[Harold D. Lasswell, "The World Revolution of Our Time" Stanford University Press]; "ضمن World Revolutionary Elits: Studies in Coercive Ideological Movments" ed. Harold D. Lasswell and Daniel Lerner (Cambridge: The M.I.T. Press, 1965.) صفحة: 29
26 انظر إلى: Eric Hoffer The True Believer: Thoughts on the Mass Movments
(Perennial Library Edition, 1966, New York: Harper and Brothers, 1951.) صفحة: 10
27 المصدر السابق، صفحة: 18.
28 انظر إلى: John Dunn Modern Revolutions
( الطبعة الثانيةCambridge: Cambridge University Press, 1989.) صفحة: 12
29 انظر إلى:
[ضمن F.S.C.Northrop, "The World's Religions at Mid-century: An Introductory Essay" Religions and the Promise of the Twentieth Century] ed. Guy S. Metraux and Francois Crouzet (New York: New American Library, 1965.) صفحة: 14
30 المصدر السابق، صفحة: 15.
31 Flashes صفحة: 43 واللمعات: 37.
32 نفسه، صفحة: 92-93 واللمعات: 95.
33 شكران واحدة، صفحة: 344.
34 المصدر السابق، صفحة: 353-354.
35 نفسه، صفحة: 51 واللمعات: 47.
36 نفسه، صفحة: 203 واللمعات: 228.
37 نفسه، صفحة: 129 واللمعات: 139.
38 نفسه، صفحة: 128واللمعات: 138.
39 تم تناول نقاش هذا الموضوع بالتفصيل في "Flashes" صفحة 127-132
40 انظر إلى:
[الذي نشر ضمن Carl Raschke "Fire and roses, or the problem of postmodrn religious thinking" Shadow of Spirit: Postmodernism and Religion] Philippa Berry and Andrew Wernick (London: Routledge, 1992.) صفحة: 101-102
41 انظر:
Walter F. Weiker "The Turkish Revolution, 1960-1961" (Washington: The Brookings Institution, 1963.) صفحة: 9
42 انظر الى:
Wilfred Cantwell Smith "Islam in Modern History" (Princton: Princton University Press, 1957.) صفحة: 170
43 المصدر السابق، صفحة: 170.
44 المصدر السابق، صفحة: 189- 190.
45 انظر مثلا إلى النقاش في مقالة:
"Lewis Thomas" "Recent Developments." صفحة: 22-23
46 انظر إلى:
Rich
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Aralık 2010 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2010 Sayı: 2 |