مناجاة فكرية بين حجة الإسلام الإمام الغزالي وخادم القرآن الشيخ النورسي
أ. د. عرفان عبد الحميد فتاح1
في اللحظات الفاصلة التي هي انعطافات تاريخية في حياة الأمم وتمثل لخطورتها مفترق طريق حاسم في وجودها المادي والمعنوي، معاً، تبرز الحاجة الوجودية إلى مفكرين يرسّخون معالم الهوية العقدية للأمة، وخصوصيتها الثقافية المميّزة لها، ويدفعون عنها مخاطر الانصهار في الأغيار، ويحمون معاقلها من سهام الغزاة الطامحين، ويكتشفون من جديد السّر الذي حفظ لها ديمومتها في الوجود، مخافة أن تفنى وتلحق بالأقوام المندثرة، ممن تقرأ عنهم ولا وجود لهم في الحياة، بل شتات أخبار في ثنايا كتب التاريخ تروي شذرات متفرقات عن وجود عَرَضي هامشي، كان في قديم الزمان، ثم لم يلبث أن باد وانقرض حتى صار نسياً منسياً.
وأمثال هؤلاء المفكرين العظام، الذين خلّد تاريخ الأمة ذكراهم، وصاروا يشكّلون رواسي شامخات في البنيان المعنوي للأمة، هم -في العادة- طراز متميز من البشر، تقع عليهم مسؤولية بناء مشروع ثقافي للإحياء والتجديد، يقوم بطبيعته، كما تفيدنا فلسفة التاريخ، على مرتكزات ثلاثة، متداخلة ومتضايفة، تشكل في مجموعها: وحدة عضوية لا تقبل الفصل والانفصال، لأنها، وحدة عضوية، وكل واحد جامع، يأبى بحكم منطقه الداخلي، التجزئة والافتراق. وهذه المرتكزات هي:
أولا: الاستمرارية، continuation: بمعنى وجوب صدور مشروع الإحياء وتواصله الحيّ مع الأصول والمنابت الأصيلة للأمة. وهذا التواصل مع، الأنا الثقافية، The Common Cultural Ego أمر لن يتحقق لصاحب المشروع إلاّ من خلال اطلاع موسوعي شامل لتراث الأمة، اطلاع يستوعب كافة الاتجاهات والتيارات الفكرية التي وُلدت من رحم الأمة الثقافي، وتربت في أحضان فضائها الفكري المميز لها، وإلا: بإجالة فكر وسياحة في ميادين العلوم، على اختلافها، والتعمق في مناحي العلوم التي أنتجتها الأمة، منحىً بعد منحى، فلا يكاد صاحب المشروع يستقر على منحىً فكري، بعينه، لأنه يحمل بين جنْبيه روحاً بلغ من اضطرابها: أنّها لا تطمئن إلى التخصص في مادة يرتاح إليها، فهو: طالب علم لا يشبع، وناقد لا يرحم، وسائح لا يستقر في مقام،2 ولأنه قد أحاط علماً بمجالات فكر الأمة كلّها، يحتار المؤرخون له في تصنيفه عادة: "أهو فيلسوف أم متكلم أم متصّوف أم فقيه،"3 فليس هو أحد هؤلاء المفكرين بالمعنى المتعارف، "ما هو بالفيلسوف، إن كانت الفلسفة رؤية فلاسفة لمجال المعرفة والوجود، وليس متكلماً، إن عنى الكلام الاكتفاء باستعمال الجدل الفلسفي للذود عن الدين، وليس هو متصوف، إذا كان التصوف دين الوجدان أو فلسفة فحسب، فالصحيح أنّه، في نشاطه الفكري، من حيث هو شخص متعّين وملتزم، أن يكون جميع ذلك، تتالياً، وأحياناً تساوقاً، وهذه الممارسة الفكرية ذات الانتماء المتعدد، تؤدي بصاحب مشروع الإحياء، أن يكون ليس هو هذا ولا ذاك، ولا ذلك، بل يتجاوزهم جميعاً،4 فيفتح عهداً جديداً لمن خلفه، ويدشن منهاجاً له خاصيته، ونمطاً في الحياة له معالمه.
يدرك صاحب مشروع الإحياء ببصيرته النافذة الناقدة أسباب النجاحات وسرّ الإحباطات، معاً في مسيرة الأمة، وله القدرة الفائقة المقتدرة على: فرز الأصيل والجوهري من الأصول والجذور الذي يشهد لفعل الأمة الناجع في التاريخ، عن الزوائد الدودية التي أفرزتها ظروف التراجع والانحسار عن الفعل المؤثر في التاريخ.
ومن غير هذه الإحاطة الشمولية، والنظرة الناقدة المحلّلة، لن يكتب لصاحب المشروع الإحيائي تحقيق ما يريد، ويبغي القيام به من بناء ذاتي للأمة، يعيد للهياكل النخرة والشرايين المتصّلبة في بناء الأمة الفكري، ماء الحياة، ودماء البقاء والديمومة.
ثانياً: القدرة على التكيّف مع العصر وتحدياته Adaptation.
والتكيّف في عرف صاحب الإحياء لا يعني: الاستسلام في خضوع، والاستكانة في خنوع لتحديات العصر ومطالبه التي تتفاوت بين حقّ يجب الاعتراف به، وباطل يجب فضحه وردّه والتصدي له. لأنه يدرك بثاقب بصيرته، والنور الذي يمشي على هديه، أن الاستسلام للأغيار: مزلق خطير، أوله التمويه والافتراء والبهت والمكابرة، ونهايته: الانسلاخ عن روح الأمة، لا محالة، وتقمّص لبوس غيرها قسراً. كما مثلته "المدارس التغريبية في الفكر الإسلامي القديم والحديث ودعاة التغريبية المضلّلة،"5 بل يعني التكيّف: مواجهة التحدّيات الحضارية، التي غالباً ما تكون أجنبية غريبة عن الأمة في "المبدأ الأخلاقي العام" التي تصدر عنه، وتلهث وراء مقاصده المتغيّية وراءه، ويختفي أهل الضلالات من أتباعه وراء شعارات كاذبة مموّهة، قصد الإبهام على الجماهير، إنمّا الاستجابة الواعية للتحديات -في عرف صاحب المشروع الإحيائي- تكون: بهضمها وتمثّلها، ثم إعادة صياغتها، بإخضاع مفرداتها التي تمثل ثقافة غريبة "Heterogenetic Culture" إلى ثقافة تلتئم وتتناغم مع روح الأمة ومبدئها الأخلاقي العام "Ethos" والذي به تطرق أبواب التاريخ، فتغدو عبر عملية إعادة التركيب هذه: ثقافة أصيلة معتبرة "Orthogenetic Culture"،6 لخص معالمها المرحوم مالك بن نبي في مأثورتيه: "شروط النهضة" و "ميلاد مجتمع".7
فمن غير إلمام بخصائص عملية التكيّف الحضاري، وبالمعنى الذي حدّدناه، فإنّ الفكر يبقى -وهو يواجه زخم الغارات الحضارية- جسداً محنطّاً، وينسلخ من عالم الأحياء ليلحق بما يصطلح عليه في علوم الحياة بالمتحجرات "Fossils". فالتكيّف مع التحديات في فهم صاحب المشروع الإحيائي -إذن- يراد به على وجه التحديد: تجاوز ما يشهده في الواقع المعيش من: أخلاق منحطة وفهم صوري شكلي للدين عند المنتسبين زوراً إلى الفقه، ممن أسماهم الغزالي: "بأصحاب الطيلسان وأرباب الهذيان ممن يأكلون الدين بالدني"8 ورداً لما يراه من: إيمان قشري واهٍ، وموج صاخب من الكفر والبدع والخرافات، وانتشار للآراء الفاسدة، فلابّد عندئذ من شد المآزر، وخوض معركة الجهاد والدعوة إلى "الإحياء"، تجاوزاً لكل هذه السلبيات. قال الإمام الغزالي:
"فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التمّيز عن الأتراب والنظراء، بمزيد الفطنة والذكاء، وقد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين من وظائف الصلوات، والتوقي عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده ولم يقفوا عند توقيفاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين، بفنون من الظنون، يتبعون فيها رهطاً يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً، وهم بالآخرة هم كافرون. ولا مستند لكفرهم غير تقليد سماعي إلفي، كتقليد اليهود والنصارى، إذ جرى على غير دين الإسلام نشؤهم وأولادهم، وعليه درج آباؤهم وأجدادهم، وغير بحث نظري صادر عن التعثّر بأذيال الشُبه الصارفة عن صوب الصواب، والانخداع بالخيالات المزخرفة كلاً مع السراب… وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسماء هائلة: كسقراط وبقراط، وأفلاطون، وأرسطو طاليس، وأمثالهم9 وقارن هذا بما قاله خادم القرآن النورسي "اعلم أن هناك كلمات رهيبة تفوح منها رائحة الكفر النتنة تخرج من أفواه الناس، وتردّدها ألسنة أهل الإيمان دون علمهم بخطورة معنى ما يقولون." ثم يستطرد قائلاً: "وإنْ قلت مَنْ تكون أنت حتى تخوض في الميدان أمام هؤلاء المشاهير أمثال: أرسطو وأفلاطون وتتدخل في الطيران مع الصقور مع أنّك ذبابة. أقول: لما كان القرآن الكريم أستاذي الأزلي. ومرشدي في طريق الحق، فلا أراني مضطراً للإهتمام بصقورهم، تلامذة هذه الفلسفة الملوّثة بالضلالة، والعقل المبتلى بالأوهام، فمهما كنت أدنى منهم إلا أن أستاذهم أدنى بدرجات لا حد لها من أستاذي. بفضل أستاذي الأزلي وبِهِمّته لم تبل قدمي المادة التي غرقوا فيها."10
ثالثاً: وبعد الإحاطة الشاملة لمناحي فكر الأمة، مشفوعة باستيعاب صورة التحديات الحضارية، ووجوب الاستجابة الواعية لها، يتصدى صاحب المشروع الإحيائي لعملية" إعادة البناء الذاتي لفكر الأمة "Reconstruction" وصياغتها من جديد، مما سماها المرحوم محمد إقبال بـ "تشكيل جديد إلهيات إسلام" في الاوردية، و "تجديد الفكر الديني في الإسلام" في ترجمته العربية للعنوان الإنجليزي للكتاب" "The Reconstruction Of Religion Thought In Islam" وذلك بإسقاط ما لحق بجوهر الدين الإسلامي من صدأ وأضاليل ومختلقات أفرزتها ظروف القهر والتراجع عن الفعل الناجع في ميدان الثقافة، والانقطاع المأساوي عن الترشيد القرآني السديد، وبذل الجهد المكين لاستعادة "الجوهرة المفقودة"11 وصفاتها الأولى والسرّ المكنون فيها الذي حفظ للأمة القدرة على صناعة الحضارة لا مجرد تكديس حضارة الغير واستهلاكها.12
والملاحظ على من يتصدى للمشروع الإحيائي أنّه يمّر: بانقلاب نفسي جوّاني، عميق وثري، من ملامحه الأولى: الشعور بالقلق، وعدم الراحة، وغياب الطمأنينة، والشك في المعارف المتداولة، وهي فترة أشبه "بالليالي المظلمة" التي تسبق فتمهد "للانقلاب النفسي الهائل، الشامل والعميق "Transmutation Of The Soul"، حيث تولد النفس: ولادة معنوية جديدة وتتجاوز حالات القلق والاضطراب والشك المعرفي لتصل إلى عالم: الطمأنينة الجُوَّانية والصحوة المعرفية المصحوبة باليقين13 الذي - كما أشار الغزالي-: "ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الخطأ والوهم ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين، فكلّ علم غيره، فهو علم لا ثقة فيه، ولا أمان معه، وكلّ علم لا أمان معه، فليس بعلم يقيني،14 ومعنى هذا الانقلاب النفسي هو الخروج كما أشار هنري برجسون من "المنغلق إلى المنفتح" ومن الوقوف عند حدود المعارف الحسية والعقلية إلى الجمع بينهما وبين: معرفة ذوقية كشفية، تنبثق من أعماق النفس المطمئنة التي استغرقت بالكلية في الله تعالى، الذي ﴿يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾النمل: 62 وتصبح المعارف آنئذ، تارة معرفة طبيعية آتية من الخارج، تنهمر كالمطر من أعلى، وأخرى معرفة ما فوق الطبيعية تنبع من الداخل وتنبثق من أعماق النفس المَوْصُولَة بالله تعالى، وتتآخى المعرفتان وتتعاضدان، بلا مدافعة بينهما، وتكون حصيلتهما النهائية15 ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء﴾.النور: 35 16
قال الإمام الغزالي: "فمن ظنّ أنّ الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة… فأما النُظَّار وذوو الاعتبار، فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإمكاناته وإفضائه إلى هذا المقصد على الندور، فإنّه أكثر حالات الأنبياء والأولياء، ولكن استوعروا هذا الطريق واستبطأوا ثمرته واستبعدوا استجماع شروطه، وزعموا أن محو العلائق إلى ذلك الحّد كالمتعذر، وإنْ حصل في حال فثباته أبعد منه عند أدنى وسواس وخاطر يشوب القلب"17 وقارن هذا بقول خادم القرآن النورسي، وهو يصف حالة التوتر والقلق وذهاب الطمأنينة وموجة الحيرة التي كانت تنتابه، مشيراً إلى حالتي سعيد القديم والجديد، حيث قال: "هوت صفعات عنيفة قبل ثلاثين سنة على رأس" سعيد القديم الغافل "ففكّر في قضية، الموت حق" ووجد نفسه غارقاً في الأوحال… استنجد وبحث عن طريق، وتحرّى عن منقذ يأخذ بِيَده… إنّ السُبُلَ أمامه مختلفة، حار في الأمر وأخذ كتاب "فتوح الغيب" للشيخ عبد القادر الكيلاني، رضي الله عنه، وفتحه متفائلاً، ووجد أمامه العبارة الآتية: أنت في دار الحكمة فاطلب طبيباً يداوي قلبك. يا للعجب… ثم أحسست بفترة بأن آلام الجراح قد وَلَّت، وخلّفت مكانها لذائذ روحية عجيبة… إنّ الأنوار المستقاة من القرآن الكريم إذن: ليست مسائل علمية فحسب، وإنما مسائل قلبية، روحية، وأحوال إيمانية، فهي بمثابة علوم إلهية نفيسة، ومعارف ربانية سامية."18
ثم، وبعد تجاوز حالات القلق وعدم الراحة والحيرة والشك والتحقُّق بالطمأنينة الجوانية والعافية و "عودة النفس إلى الصحة والاعتدال" بورود النفث الإلهي على القلب المستغرق بالكلية في عظمة الخالق تعالى وجلاله وكماله، يعود صاحب المشروع الإحيائي إلى ساحة النضال وميدان الجهاد، وقد أصبح إنساناً حركياً من الطراز المختار، فيعمد إلى نقل مشروعه من دائرة التجربة الذاتية والتأمل النظري إلى نسق حياتي معيش، أي تتحوّل المعرفة إلى حياة، وقد أيقن كل من الغزالي والنورسي من ذلك في صميمه، أي: وجوب تحوّل المعرفة إلى نمط حياة معيشة تتسم بقدر فائق من الفاعلية، مع الحذر الشديد من الوقوع في "حياة التواكل والطرقية والاعتقاد بتفاهة الدنيا وبلا واقعية الحياة وبالتالي الزهد في العالم."19
لقد علّمتنا تجارب الحياة مع أصحاب الأفكار السامقة، أن ليس ناجعاً أن تبقى الأفكار معلَّقة في الهواء مقطوعة الصِّلة بالواقع، طافية على السطح كالزبد الذي لا نفع فيه، بل المُهِمُّ في المنظومة المعرفية -وقد تحقَّق صاحبها من صدقها بالتجربة والمعاناة الذاتية- أن تتحوّل إلى منهج في الحياة، ومفاهيم تتكرس في الواقع لتحدث التغيير المرتجى والغاية المقصودة منها، فتتماهى المفاهيم مع الواقع المراد تغييره، فلا خير في الأفكار إذا لم تجمع الناس حولها، وتتجسد في أنماط سلوكهم في الحياة الواقعية، وإلاّ تحوّلت الأفكار إلى معرفة نخبوية متعالية وعبث باطل ولعبة صبيان، قد تَسْتَهْوِي شرذمة قليلة من البشر ولكنَّها لن تتحوّل إلى نشاط جماهيري، ما دامت الجماهير -في فهم صاحب المشروع الإحيائي- هي أداة التغيير وغايته، قال تعالى: ﴿إنَّ اللّٰهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِاَنْفُسِهِمْ﴾،الرعد:11 20 فالخطاب إلى القوم أجمعين وليس إلى قلة نخبوية لا أثر لها على مجريات الحياة: وكل منظومة معرفية، مهما تهيَّأت لها من أسباب الذيوع والانتشار المصطنعة، إنْ هي قطعت صلتها بالواقع، أو تقاطعت مع الوعي الجمعي للأمة، ولم تصدر عن مرجعية قرآنية صافيّة نقية، فهي بناءٌ من غير أساس مكين، يسقط مع أوّل إعصار يصيبها. ولعلّ فيما سُمِّي "بالفلسفة الإسلامية" التي كانت فلسفة إسلامية، تأريخاً فحسب ولم تصبح إسلامية: أصلاً ونظراً وحلولاً ومشكلات، ما ينبغي الاسترشاد به، فقد نبذتها الجماهير بعفويتها وفطرتها الإسلامية، رغم مرور قرون على الدعوة إليها، والتبشير بها، لأنها كانت صدى لفضاء فكري لا يَمُتُّ إلى الإسلام بصلة عضوية وتجانس روحي، حتى قيل ويقال: "إنّه 'أي الغزالي' طعن الفلسفة 'في الإسلام' طعنة لم تقم لها بعد في الشرق قائمة"21 مما يؤيد ما ذهبنا إليه، من أنّها لو كانت فلسفة إسلامية أصلاً ونظراً، لا تأريخاً فحسب، أو كانت تصدر عن المرجعية القرآنية وتتناغم مع المخزون النفسي والوعي الجمعي للأمة، لم تكن لتهوى بالشكل المروّع والنهائي.
وهكذا كان الموقف والحال مع خادم القرآن يوم تصدى بروح جهادية، ونقد واع وعميق، واعتمادٍ على حجج فطرية واستمدادٍ من "أستاذية القرآن المطلقة"، وبعد أن فحص سعيد الجديد أفكاره، ونفض عنها "أدران الفلسفة المزخرفة، ولَوْثَات الحضارة السفيهة، والفلسفة المادية المعادية للدين،"22 فهوى، هو الآخر متابعا خطى الإمام الغزالي: بمطرقة النقد على دعاوى الماديين والطبيعيين المحدثين، أخلاف من سماهم الغزالي: بالدهرية والزنادقة، وقال عن مذاهبهم، الصنف الأول "من أصناف الفلاسفة" الدهريون: وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبّر، العالم القادر، وزعموا أنّ العالم لم يزل موجوداً، كذلك بنفسه، وبلا صانع، ولم يزل الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، وكذلك يكون أبداً، وهؤلاء هم الزنادقة، والصنف الثاني: الطبيعيون، فذهبوا إلى أنّ النفس تموت ولا تعود، فجحدوا الآخرة، وأنكروا الجنة والنار والقيامة والحساب، فلم يبق عندهم للطاعة ثواب، ولا للمعصية عقاب، فانحلَّ عنهم اللجام، وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام، وهؤلاء أيضاً زنادقة، لأن أصل الإيمان: هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر."23
وهكذا كان الحال مع "دعاة التغريبية الحديثة" ممن أرادوا، غصباً وقسراً، فرض سلطة الآخر على الفكر الإسلامي الحديث، ولم يعتبروا بأسلاف لهم ما جنوا من سعيهم إلا الخسران، وفاتهم لشدة افتتانهم بسلطان الغير عليهم أن يتحققوا من أنَّ "لكل حضارة نواتها التي تتمحور حولها المبادئ والقواعد التي ينبني عليها الإنتاج الفكري لدى حامل لواء تلك الحضارة"24 وتناسوا وسط موجة الاستغواء الغربي التي جرفتهم بعيداً عن الأمة وعقيدتها، "إنَّ المفاهيم الغربية التي أرادوا إخضاع الفكر الإسلامي لها، مما لا يمكن تجريدها عن تاريخها، مفصولة عن سياقها، كنماذج صقلتها حضارة معينة لها روحها الكلية"25 المهيمنة على مسيرتها، المحددة لمقاصدها الغائية، فظنوا -عابثين مكابرين- أنّه لا يمكن لنا التفكير في موضوعات ومشكلات مرتبطة بالعالم الإسلامي إلاّ من خلال الحقل المفاهيمي الذي تنتمي إليه فلسفة الغرب وحضارته. حتى وجدنا فيهم من يزعم باطلاً بأن: علينا "معاشر المسلمين" أنْ نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم، ولنكن لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حُلوِها ومرّها، وما يُحَبُّ منها وما يُكْرَه، وما يُحْمَدُ منها وما يُعَاب، ومن زَعَمَ لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع،"26 وبلغ البهت والمكابرة بأحدهم حد القول: "كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضّحت أمامي أغراضي من الأدب، كما أزاوله، فهي تتلخص في أنّه يجب علينا أَنْ نخرج من آسيا وأَنْ نلتحق بأوروبا، فإنّي كلما زادت معرفتي بالشرق ازدادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلّقي بها وزاد شعوري بأنّها مني وأنا منه"27 فلنكن بمقتضى منطق دعاة التغريبية: "شركاء الأوروبيين في تراثهم العقلي على اختلاف ألوانه وأشكاله، وفي تراثهم الديني على اختلاف مذاهبه ونحله، وفي تراثهم المادي على اختلاف ضروبه وأنحائه."28
هكذا فات الأولين وغفل المحدثون عن إدراك مواضع الخلاف الجوهرية بين حضارة الإسلام التي قامت على أساس عقيدة التوحيد الخالص وبين حضارة غربية حديثة ترتد في منابتها وأصولها الأولى المنشئة لها إلى حضارة يونانية رومانية غارقة في المادية والنفعية والأخلاق الوضعية.29 والحق أن الغربيين كانوا أوعى إدراكاً لمواضع الخلاف هذه من دعاة التغريبية الكاملة فينا فلا نكاد نحظى بواحد منهم، على مرّ العصور من قال بوجوب خضوع حضارة الغرب لمنطق الإسلام وحقله المفاهيمي المميز له، أو أنَّ الغرب لا يمكنه أَنْ يتنفس إلا من خلال رئة الإسلام. ويوم شعر دعاة التغريبية بالخذلان وسوء المنقلب، وابتعادهم عن الشروط الثقافية الموضوعية المباشرة للفكر الإسلامي، وأنهم جنحوا نحو شروط ثقافية غير مباشرة وغير موضوعية: وأنهم يطاولون المستحيل عادوا عن الذي بشّروا به واقتربوا بشكل قوي وواضح من مفهوم الأصالة الإسلامية، وكان على رأس هؤلاء إسماعيل مظهر، ومنصور فهمي، وحسين هيكل، وطه حسين، وأخيراً وليس آخراً: زكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي وحسن حنفي. أمّا أولئك الذين هداهم الله ابتداءً، ورزقهم حسن الإدراك أمثال إمامنا حجة الإسلام الغزالي قديماً وشيخنا خادم القرآن سعيد النورسي والمرحوم محمد عاكف ومحمد إقبال، فقد أدركوا بثاقب بصيرتهم "والنور الذي أُنزِلَ"30 مواضع الخلاف بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، القديمة والحديثة، وتحقّقوا من خطر التلفيقات التوليفية بينهما، وانتبهوا إلى خصائص وروح حضارتهم الإسلامية فناصروها وأبانوا عنها، ورفضوا الخضوع لفضاء فكري غريب عنها، فحقّ أنْ يكونوا من الخالدين في ذاكرة الأمة المسلمة، "وحسن أولئك رفيقاً."31
وبعد، فلقد اخترنا قضية فلسفية معقدة، تباينت الأقوال حولها، حدّ التناقض، في القديم والحاضر، وشغلت أفهام الفلاسفة وعلماء الأديان والعلم الطبيعي على مدى ألفين وخمسمائة سنة، ودوّنت فيها وحولها ألوف المدونات والرسائل، لتكون عيّنة تجسّد وتشخّص موقف العملاقين منها، صدوراً منهما عن المنطلقات التي أسلفنا الحديث عنها، إدراكاً منّا أنّ سعيهم عكس موقفاً إسلامياً خالصاً، صادراً بصدق عن أستاذية القرآن الكريم.
أنموذج الحضور بالقرآن
والقضية الفلسفية التي سنتناولها بالتدقيق والتمحيص هي: قضية العليّة المادية الطبيعية، التي تصديا لها بعقلية جهادية لا تعرف المواربة والاستسلام للباطل، فكانا في اجتهادي: الصاحيان الوحيدان بين هذيان كثيرين من المتحذلقين، ممن فاتهم إدراك الدلالات الشنيعة للقول بالعلية الطبيعية المادية، كما صوّرها دعاتها من الملاحدة والزنادقة.
ولنبدأ بمقولة خادم القرآن أولاً: "أيها الإنسان: اعلم أن هناك كلمات رهيبة تفوح منها رائحة الكفر النتنة، تخرج من أفواه الناس، وتردّدها ألسنة أهل الإيمان، دون علمهم بخطورة معنى ما يقولون، وسنبين ثلاثاً منها هي الغاية في الخطورة.
أولاها: قولهم عن الشيء "أوجدته الأسباب" أي أن الأسباب "الطبيعة" هي التي توجد الشيء بعينه. ثانيهما: قولهم عن الشيء "تشكّل بنفسه" أي أنّ الشيء كما هو، وثالثتها: قولهم عن الشيء "اقتضته الطبيعة" أي أنّ الشيء طبيعي، والطبيعة هي التي أوجدته … إنّ الذي مكّن آلاف الآلهة من عقول اليونانيين في القديم، وأولد الأصنام، هو مستنقع الفلسفة الطبيعية ووحلها.. نعم إن الذي لا يرى نور الله بسبب من الأسباب الطبيعية، فإنّه يمنح "عندئذ" لكل شيء ألوهيته."32 وليس مستغرباً أنْ يذكر الشيخ النورسي اسم الغزالي33 بعد هذه الانتقادات التي وجهها للفلسفة المادية والطبيعية، فَهُما معاً، يصدران عن عين اليقين الواحدة، التي لا تغشاها الفتنة العارضة، لأنها تنظر بعين الله تعالى. مصداقاً لقول الحبيب المصطفى، صلوات الله وسلامه عليه: "ما يزال عبدي يتقرب إليًّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه."34
من هذا المنطلق الذي يرتبط فيه القول بالعلية المادية بالإلحاد، تصدى الإمام الغزالي للقضية بمنهج فلسفي رصين، يتجاوز في مراميه مجرد القول بالعلية المادية، كما يتصور بعض الباحثين، إلى محاولة مبتكرة، متفّردة في أبعادها استهدفت: "تحرير وضع العقل الإسلامي من وضع العقل اليوناني ومسلّماته،"35 وهو عقل كما نعرف لم يخبر النبوة والوحي والكتاب، وما استضاء إلا بنور العقل الإنساني، وأصرّ -لانقطاعه عن نور النبوّة- على أنّه قادر على البحث فيما وراء الطبيعة قدرته على البحث في عالم الطبيعة.
فجاء ردّ الغزالي للعلّية المادية في صورة نقد فلسفي عميق للعقل اليوناني المسترشد بذاته، ليبدّد أوهام التلفيقات التوليفية الخرقاء، التي حاولها عبثاً الفلاسفة في الإسلام، وجُهْداً رصيناً متقناً لاسترجاع الهوية الذاتية للعقل الإسلامي الصادر عن مشكاة النبوّة، ومن ثمَّ تحريره من سلطة الخضوع": للعقل الكلي، الكوني، ذي المدى الوجودي والمعرفي، المطلق، عند اليونان.36 ولبيان صورة الإشكالية التي نحن بصدد دراستها لابد من التمهيد لها، بملاحظات مستقاة من تاريخ الفكر الفلسفي عند اليونان، توضيحاً لما نريد بيانه وتبسيط القول فيه.
1- لقد درس الإمام الغزالي علوم الفلسفة في الإسلام، بمنهجية علمية، وحيدة موضوعية، بلغت الذروة من التحقيق والتدقيق والتمييز،37 فميّز بين علوم الفلاسفة المنطقية والرياضية وبين علومهم الطبيعية والإلهية وقال، أما "الرياضية" فتتعلّق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية، نفياً وإثباتاً، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى جحدها، بعد فهمها ومعرفتها… وأما "المنطقيات" فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً، بل هو النظر في طرق الأدلّة والمقاييس وشروط مقدّمات البرهان وكيفية تركيبها، وشروط الحدّ الصحيح وكيفية ترتيبها. وأنّ العلم إمّا تصوّر، وسبيل معرفته الحدّ، وإمّا تصديق، وسبيل معرفته البرهان، وليس في هذا ما ينبغي أنْ ينكر، وأما "الطبيعيات" فالحق فيها مشوب بالباطل، والصحيح فيها مشتبه بالخطأ "وقد أوضح الغزالي في 'التهافت' ما ينبغي أنْ يعتقد بطلانه". وأما "الإلهيات" ففيها أكثر أغاليطهم فما قدروا على الوفاء بالبراهين، على ما شرطوا في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه38 ومعنى هذا كلّه، فإن العلوم الرياضية والمنطقية، علوم صورية، تحْكُمها أحكام العقل الضرورية، وهي البديهيات الواضحة لذاتها، كمبدأ عدم التناقض ومبدأ الذاتية، وأنَّ الكل أكبر من الجزء، في حين أن مباحث الإلهيات، مما لا يمكن إخضاعها لأحكام العقل الطبيعي، لأن من شأن ذلك، أن يجعل الألوهية خاضعة لأحكامها، مما يسوق -لا محالة- إلى سلب الإرادة الحرّة عن الله تعالى، الفعّال المريد المختار، ولهذا أكّد الإمام الغزالي بأنّ ما يشهد في الطبيعة من "تلازم الأسباب والمسببات ليست علاقة ضرورية، بل إنّ هذا "التلازم" مستفاد من التجربة، فالاقتران إذن حكم العادة لا حكم العقل بضرورته. قال الإمام مفسراً وموضحاً: "الاقتران بينهما يعتقد في العادة سبباً وبين ما يعتقد مسبَّباً ليس ضرورياً عندنا. بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا "مبدأ الذاتية" ولا إثبات أحدهما متضمناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمناً لنفي الآخر "مبدأ عدم التناقض"، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس والموت وجزّ الرقبة والشفاء وشرب الدواء وإسهال البطن واستعمال المسهل، وهلم جراً إلى كل المشاهدات من المقترنات.39
2- إن المستفاد من قراءة تاريخ الفكر الفلسفي عند اليونان أنّ القول بالعلية المادية الطبيعية ابتدعها -بادئ ذي بدء- فلاسفة المذهب الذري أمثال لوقريطس "505 ق. م" وديموقريطس "420 ق. م" وأنباروقليس "435 ق. م" وابيقورس: ممن ذهبوا إلى القول: "" بأن العالم عبارة عن أجسام مادية، تتألف من ذرات مادية، أزلية أبدية، غير مخلوقة ولا نهاية لعددها، ولا تصير إلى فناء فلا شيء يأتي من لا شيء، ولا يفنى شيء إلى لا شيء، تتحرك في خلاء لا نهائي حركة آلية، وحركتها هي الأخرى أزلية قديمة من ذاتها، وحركتها "ب" لا تخضع لنظام، لا تفاوت فيه، بل للصدفة أو الضرورة العمياء "Blind Necessiry".40
3- وتصدى أرسطو "ت 322 ق. م" لهذه النظرية الإلحادية ولازمها القول بالصدفة، فأكّد بأنّ "العالم قديم في الزمان حادث بالذات،" وفسّر الحدوث بمعنى: أنّه لا يتصور عقلاً وجود العالم من نفسه، بل هو موجود بغيره، الذي أسماه بالمحرّك الأوّل الذي لا يتحرك أو العلّة القصوى النهائية لوجود العالم، ومن أجل تبرير هذه النظرية والقول بالخالق وبالنظام في العالم قال بأن المادة الأولية القديمة غير المخلوقة "الهيول" -التي هي الشرط الأولي والمنطقي لوجود الأشياء- تنطوي في ذاتها على مبدأ حركتها: بمعنى: أن كل موجود: يتحرك بفعل "قوة طبيعية ذاتية فيه" من الإمكان الوجودي "Potentiality" إلى الوجود الحقيقي "Actualization". لأن الطبيعة ترمي إلى تحقيق ذاتها بهذا الاجتماع بين الهيولا والصورة وبالانتقال من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل. وقد ساقه هذا كله إلى افتراض عقل ما بعدي كلي مطلق ذي مدى وجودي ومعرفي، أساسه القول بالضرورة العقلية، التي يخضع لها حتى المحرك الأول الذي لا يتحرك، أي الله تعالى الذي يخضع لهذه الضرورة العقلية - الطبيعية، ولا يمكن له تعالى تجاوزها.41
وقد أعاد صياغة هذه النظرية الأرسطية الفلاسفة في الإسلام: وتابعوه فيما قال، ومن هنا جاء إطلاق اسم "المشائيين" عليهم: للدلالة على صدورهم عن فلسفته، وذهبوا معه إلى القول بالعلية الطبيعية بزعم أن من رفع الأسباب فقد رفع إمكان العلم، فقال ابن رشد على لسانهم "وبالجملة متى رفعنا الأسباب والمسببات لم يكن هاهنا شيء يرد به على القائلين بالاتفاق، أعنى الذين يقولون لا صانع هاهنا وإنما جميع ما حدث في العالم إنما هو عن الأسباب المادية، لأن أحد الجائزين له أحق أنْ يقع على الاتفاق منه أنْ يقع على فعل مختار،"42 وأنَّ نفي السببية مناقض لطبيعة العقل الإنساني بل هو نفي للعقل والعلم معاً ذلك أن: "العقل ليس هو شيئا أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها وبه يفترق 'العقل' عن سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل."43
4- أساء كثير من الباحثين تفسير نفي الغزالي للعلية ومبدأ السببية، وحملوا أقواله على أنها كما أفاد ابن رشد تعني: نفي النظام في العالم، في حين أن الغزالي: "لم ينف أبداً النظام في العالم، بل هو لا ينفي إلاّ نسبة الضرورة لهذا النظام الذي هو وليد أفعال ثلاثة من أفعال الإرادة الإلهية: الحكم والقضاء والقدر44 أي الانتقال من عالم مبدؤه ومثاله العقل إلى عالم المبدأ والمثال فيه الإرادة الإلهية التي تسامى على التقييد. وكيف نتصور من الغزالي نفي النظام وهو المتدبر لآيات الله تعالى في كتابه المبين التي ربطت بين مسألتين متضايفتين، سوية بلا فصل، أعني: الإقرار أن الطبيعة من صنع الله وخلقه، وإنّها مطبوعة على سنن لا تفاوت فيها، وأنّ هذه السنن "الأسباب الطبيعية" هي الأخرى من خلق الله تعالى، البارئ المصوّر الخالق للكون الذي ركّب فيه السنن والقوانين، وطبعه عليها، في اطراد لا تفاوت فيه، فليست المسألة في نظر الغزالي قضية إثبات العلية المادية أو نفيها، والتي أسماها "مجاري العادات" وإنما الذي أراد هو الانتقال من القول: إنّ السببية المادية -التي جعلها الفلاسفة في الإسلام، ومن تابعهم في عصرنا الحاضر- من لوازم ذات الطبيعة، إلى توكيد القول بأن الله تعالى، الخالق المبدع، قد فطر الطبيعة على هذه السنن، وقدّرها، فلا شذوذ ولا انحراف، وذلك بمقتضى الحكمة في الخلق التي تتنافى مع العبثية والتفاوت والاضطراب، ذلك أنّ من جعل الأسباب الطبيعية من لوازم الطبيعة ذاتها انتهي لزاماً إلى الإقرار بأن الطبيعة المادية وحدة طبيعية كاملة، تفسر ذاتها بنفسها، -كما تصورها أرسطو وتابعوه- وهذا هو الانتكاس في قاع المادية الخالصة، والارتكاس على أمّ الرأس في الإلحاد، لا ريب.
إنّ الغزالي وخادم القرآن النورسي، وتأسيساً على تدبّر موضوعي وشامل لكتاب الله الخالد، إنما أرادا تنبيه العقل المؤمن، المسترشد بضوء النبوّة، على وجوب الجمع بين: مقتضى توحيد الربوبية ومقتضى الحكمة في الخلق، وهو الجمع الذي أكدته الآيات القرآنية، في أكثر من مناسبة، فقال تعالى: ﴿قُلْ اَرَاَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي دائماً أبداً مطرداً وذلك خرقاً للضرورة الطبيعية ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَاْتِيكُم بِضِيَاء اَفَلاَ تَسْمَعُونَ. قُلْ اَرَاَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَاْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾ وهذا إثبات للسنة المطردة التي فطر الله تعالى عليها الطبيعة ﴿اَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾القصص:71-72 وقوله تعالى: ﴿اَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾الفرقان:45 وقوله تعالى: ﴿اَفَرَاَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ. اَاَنتُمْ اَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ اَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ. لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ اُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ. اَفَرَاَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. اَاَنتُمْ اَنشَاْتُمْ شَجَرَتَهَا اَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ﴾الواقعة:68
إن العوامل الطبيعية -كما أرشدنا الكتاب العزيز- وأشار العملاقان: لا تجري على ما هي عليه، لزاماً بحكم العقل، أو بحكم التفكير المنطقي، بل كان يجوز أن يجري على مجراها هذا، أو على مجرى آخر يساويه ويماثله في حكم العقل والأقيسة المنطقية. وإنما هي الإرادة "الإلهية الحرّة والمطلقة" التي أوجبت هذا النظام نتيجة لتلك العوامل، فليست المعجزة التي يريدها الله أغرب من نظام العوامل المطردة في ظواهر الكون، ومرجعها جميعاً إلى الإرادة الإلهية على اطراد: ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي اَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾.النمل:88 ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾،الملك:3 ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾،الرعد:8 ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾،القمر:49 ذلك أن العقل السليم يفرض بداهة، والإيمان والدين، كل ذلك يقضي أنْ يكون مراد الخالق تعالى من المخلوق له، هو الآخر، على أكمل وجه، وأتمّ شكل، وأدق مقدار، وأحسن صورة، وأعدل وزنه ومقداره، وحسن صورته، وانتظام سلوكه، على كمال الخالق تعالى، أحسن الخالقين، أو على استثناء: تعبيرا عن الإرادة الحرّة المطلقة، التي تتسامى على كل قيد: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ. قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾،الأنبياء:68-69 ﴿فَاَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى اَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾.الشعراء:63 إنّ إرادة الله المطلقة هي التي تقرن الأشياء ببعضها البعض، وتقدر أيضاً على فصلها، مادامت الضرورة الطبيعية قد نُفِيَت، وأصبح الاقتران بين الفعل المنتظم والقدرة التي هي آيتها، ليست الضرورة الطبيعية، بل قدرة عاقلة وراءها عادة وليس ضرورة ما دامت لا تعلمنا أنّ النقيض مستحيل.
______________________________
الهوامش:
1 من مواليد سنة 1933م في كركوك - العراق. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كمبردج 1965، فأصبح مدرسا ثم أستاذا مساعدا بقسم الفلسفة، كلية الآداب جامعة بغداد. حصل على ترقية مزدوجة إلى مرتبة الأستاذية بجامعة الكويت جامعة بغداد سنة 1976. وفي سنة 1994. كان أستاذا بقسم الفلسفة بجامعة آل البيت، الأردن. وأستاذا بقسم أصول الدين والأديان المقارنة بكلية معارف الوحي والتراث في الجامعة الإسلامية بماليزيا. توفي رحمه الله سنة 2009م.
2 يقول الإمام الغزالي عن نفسه: "ولم أزل في عنفوان شبابي، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السّن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغّل في كل مظلمة، وأتهجّم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة لأمّيز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع" "المنقذ من الضلال، مع أبحاث في التصوف ودراسات عن الإمام الغزالي - تحقيق ودراسة الدكتور عبد الحليم محمود - دار الكتب الحديثة، القاهرة - 1385، ص: 70". ويقول في إحياء علوم الدين: فعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم ثم يزيد عليه درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة، وإذ ذلك يمكن ما يدعيّه من فساده، حقاً "تهافت الفلاسفة - تحقيق د. سليمان دنيا، القاهرة، 1966، ص: 60" وقارن ما ذكره الأستاذ إحسان قاسم الصالحي عن شغف خادم القرآن واطلاعه على سائر العلوم الإسلامية: بديع الزمان النورسي - نظرة عامة عن حياته وآثاره، ط: 2 منقحة ومزيده، دار سوزلر للطباعة والنشر، إستانبول، 1997، ص: 21 - 24
3 لويس غارديه وج. قنواتي: "فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية" ترجمة: الشيخ الدكتور صبحي الصالح والأب الدكتور فريد جبر "دار العلم للملايين - بيروت - لبنان، ط2 كانون الثاني "يناير، 1983"، ج 1 ص 190، ويقول فضيلة الأستاذ المرحوم الشيخ المراغي، عن هذه التعددية في الدارسة والتحصيل: "إذا ذكرت أسماء العلماء اتجه الفكر إلى ما امتازوا به من فروع العلم وشعب المعرفة…أما إذا ذكر الغزالي فقد تشعبت النواحي، ولم يخطر بالبال رجل واحد بل خطر بالبال رجال متعددون لكل واحد قدره وقيمته. يخطر بالبال الغزالي الأصولي الحاذق الماهر، والغزالي الفقيه الحرّ. والغزالي المتكلم إمام السنة وحامي حماها. والغزالي المربّي. والغزالي الصوفي الزاهد، وإن شئت فقل إنه يخطر بالبال رجل هو دائرة معارف عصره. رجل متعطش إلى معرفة كل شيء نهم إلى جميع فروع المعرفة"، نقلاً عن: الدكتور سليمان دنيا: "الحقيقة في نظر الغزالي" دار المعارف - الطبعة الرابعة، ب - ت - ص / 9.
4 أبو يعرب المرزوقي: "مفهوم السببية عند الغزالي" "الطبعة الأولى - دار سلامة للطباعة والنشر، تونس، ب. ت، ص: 86"
5 سمّى الإسلاميون المعاصرون هذه المحاولات التي استهدفت محق الهوية الذاتية للأمة المسلمة، بمسميّات مختلفة، فقد سمّاها جلال أحمد، المفكر الإيراني "ت / 1969" الذي اعتنق الماركسية، وكان من دعاة القومية العلمانية المتطرفة، ثم عاد إلى إسلامه، بالتسمم الغربي "غه رب زه دكي" "West Intoxication"، وسماها مفكرون عرب مسلمون" بالتغريب "Westernization" "يعنون: الاختراق الثقافي الغربي للعالم الإسلامي، وسمّاها آخرون" بالاستعمار الثقافي أو الصليبية الثقافية، انظر بحثنا الموسوم بـ: "إسلامية المعرفة ومنهجية التثاقف الحضاري مع الغرب" مجلة: إسلامية المعرفة -السنة الثانية- العدد الخامس، صفر 1417هـ يوليه 1966م - المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص: 10 - 11. وللتعرف على أعلام التغريبية المعاصرة في الفكر الإسلامي، ومفاصل دعوتهم، انظر: جدعان "الدكتور فهمي"، "أسس التقدم عند مفكري الإسلام" "دار الشروق للنشر والتوزيع عمان - الأردن، الطبعة الثالثة - 1966" ص: 328 - 345. وأيضاً: ص: 564، ولقد أفاض وأحسن في تصوير محاولات دعاة التغريبية، بلا مزيد عليه: الشيخ جمال الدين الأفغاني، فقال عنهم: علمتنا التجارب، ونطقت مواضي الأحداث بأن المقلدين من كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها... تكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين قلّدوهم، واحتقار من لم يكن على مثالهم، شؤماً على أبناء أمتهم يذلونهم ويحقّرون أمرهم ويستهينون بجميع أعمالهم وإنْ جلت ويكونون "طلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات يمهدون لهم السبل ويفتحون الأبواب".
انظر الأفغاني: "الأعمال الكاملة مع دراسة وتحقيق د. محمد عمارة، القاهرة - المؤسسة المصرية العامة، "خاطرات الأصالة والتقليد"، ص: 192.
6 عن هذه القابلية الموروثة للفكر الإسلامي على هضم وتمثّل عناصر الثقافات الأجنبية وإعادة صياغتها لتلتئم مع المبدأ الأخلاقي العام للإسلام، انظر: فتاح "الدكتور عرفان عبد الحميد": "دراسات في الفكر العربي الإسلامي"، "دار عماّر - عمان - الأردن - 1421هـ - 1991م"، فصل: "الخصائص الثقافية للتاريخ العربي - الإسلامي، ص: 22 وما بعدها.
7 مالك بن نبي "شروط النهضة"، ترجمة: عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي - مكتبة دار العروبة، القاهرة، الطبعة الثانية 1961، وأيضاً له: "ميلاد مجتمع" ترجمة عبد الصبور شاهين مكتبة دار العروبة، الطبعة الأولى، 1962.
8 شارك ابن حزم الأندلسي الإمام الغزالي في التنديد بفقهاء زمانه، فيقول فيهم: "لا تغالطوا أنفسكم ولا يغرّنكم الفساق المنتسبون إلى الفقه اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم. "انظر: أنور خالد الزعبي: ظاهرية ابن حزم الأندلسي" دار البشير -عمان- الأردن 1417هـ - 1966م" ص: 42.
9 الغزالي "تهافت الفلاسفة "، "سلسلة ذخائر العرب - 15، دار المعارف - 1955" بتحقيق سليمان دنيا، ص: 59 - 60.
10 النورسي، الكلمات، ص: 511.
11 ردّ الأفغاني أسباب التقهقر والتراجع إلى طمس معالم جوهر الدين الإسلامي: "دين قويم الأصول، محكم القواعد شامل لأنواع الحكم، باعث على الألفة، داع إلى المحبة، مُزَكّ للنفوس، مطهر للقلوب من أدران الخسائس، مُنوّر لعقل بإشراق الحق من مطامع قضاياه… فإنْ كانت هذه شِرعة تلك الأمة، ولها وردت وعنها صدرت، فما تراه من عارض خللها، وهبوطها عن مكانتها، إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهرياً، وحدوث بدع ليست منها في شيء أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة …فتكون هذه الحادثات حجاباً بين الأمة وبين الحق الذي تشعر بندائه أحياناً بين جوانحه" الأفغاني: المصدر نفسه، ص: 192 - 195.
12 االك بن نبي: "شروط النهضة"، ص: 55، حيث قال: إن الذي يكرّس منتجات الحضارة لا يصنع حضارة، إن المقياس العام في عملية الحضارة هو "أنّ الحضارة هي التي تلد منتجاتها، وإنّه لمن السخف أنْ ننشئ حضارة بشراء منتجات حضارة أخرى وتكديسها، فإنّ هذا يقود إلى عملية هي ممتنعة كماً وكيف" ولمزيد من الشرح والتفصيل انظر: د. فهمي جدعان - المصدر نفسه، ص: 418 وما بعدها.
13 عن هذا الانقلاب النفسي الشامل والعميق الذي يمهد لحالة الصحوة الكاملة، انظر: فتاح "الدكتور عرفان عبد الحميد". المصدر السابق، فصل: "الإمام الغزالي: دراسة في المنهج"، ص: 349 وما بعدها. وقال هنري برجسون "منبعا الدين والأخلاق - الترجمة العربية للدكتور سامي الدروبي، ومراجعة الدكتور عبد الله عبد الدايم، الهيئة المصرية للتأليف والنشر، ص 245-246" عن هذه الحالة: "حالات الوجد والرؤى والبهجة حالات غير عادية، وهي حالات عارضة، استباق وتمهيد لحالة الصحو التي تليها …كل ذلك نفهمه بسهولة إذا فكرنا في الانقلاب العميق المفاجئ الذي يقتضيه الانتقال من السكوني إلى الحركي ومن المنغلق إلى المفتوح ". وقد استعار الدكتور محمد عزيز الحبابي هذه العبارة وفصل في خصائص هذا الانقلاب النفسي العميق في كتابه "الشخصانية الإسلامية"، "دار المعارف بمصر -القاهرة- 1969م. ص: 27-30. وأيضاً:
"LUBA: The Psychology Of Religious Mysticism, HARCOURT BAEE & COOMPANY 1952"
14 قال الإمام الغزالي: "فأعضل هذا الداء ودام قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال.. ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف. فمن ظن أنّ الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله الواسعة "المنقذ من الضلال - ص: 126" والكشف هو: "الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الخطأ والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين …. فكل علم غيره، فهو علم لا ثقة فيه، ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه، فليس بعلم يقيني" "المصدر السابق" وقد فصل عدد من فلاسفة الدين المحدثين أمثال شلاير ماخر "1768-1834" ورودولف أتّو "1869-1937" في خصائص هذه الخبرة الجوّانية، وأنها مما لا ينبغي النظر إليها من خلال أحكام خارجة عنها، للتحقق من صحتها، باعتبارها هي: خبرة تقوم بذاتها ولا تحتاج الى دليل غريب عنها من خارجها:
"It requires no justification because it is grounded an autonomous moment of experience with its own integrity"
انظر للاستزادة:
SCHLEIRMACHER , F: "ON RELGION" Tran. John Toman, New York, 1955.
15 هكذا وصف فرنسيس بيكون لوني المعرفة "الطبيعية وما فوق الطبيعية" فقال:
"The knowledge of man is the waters, some descending from above, and some springing from beneeth. The one informed by the light of nature, the other inspired by divine inspiration"
انظر "BACON, F ADVANCEMENT OF LEARNING" وهذا القول يذكرنا مباشرة بقول الإمام الغزالي في الإحياء عن المعرفة الانبثاقية من أعماق النفس، انظر إحياء علوم الدين، 1: 72 وقد أطلق الإمام الشيخ محمد عبده على لوني المعرفة هاتين "عينان للنفس تنظر بهما، عين تقع على القريب وأخرى تمتد إلى البعيد..." والنفس في حاجة إلى كلتا هاتين العينين، إذ هي لا تنتفع بإحداهما حتى يتم لها الانتفاع بالأخرى… والدين الكامل: "علم وذوق، عقل وقلب، برهان وإذعان، فكر ووجدان". وإن اقتصار الدين على أحد هذين العاملين يسقط إحدى قائمتيه، أما التخالف بين العقل والوجدان فلا يعني إلا شرخاً قد أصاب الفرد فتحول الإنسان إلى إنسانين والوجود إلى وجودين.. فليس الإنسان عقلاً يشتق علومه من الإحساسات، أو من ذاته، أو من حدسه للوجود فحسب، وإنّما هو أيضاً فاعلية وجدانية لا تخضع، لعملية البرهان المنطقي المنظم، وجيزاً كان أم مفصلاً ! انظر: د. فهمي جدعان - المصدر نفسه، ص: 204 و 24.
ولعلّ هذا يفسر لنا موقف الغزالي والشيخ النورسي من علم الكلام. ذلك أنّ وجود الله تعالى لا كالموجودات، الذي أراد المتكلمون إخضاعه لعقل يتمنطق، أو لعلم في الكم فلابد أن ينبثق الإيمان بوجود الله عن الوجدان، عن القلب، تلك المضغة ذات المنطق الخاص، والمنهج الخاص… وغلطة المتكلمين الكبرى تكمن في أنهم لم يعرفوا هذا الفرق فأتت مناقشاتهم غير ذي خصب، وبدون حرارة "انظر: محمد عزيز الحبابي، المصدر نفسه، ص: 73-74. ومن هذا المنطلق، وتأسيساً عليه قال الغزالي: فصادفته "علم الكلام" وافياً بمقصوده، غير وافي بمقصودي "المنقذ من الضلال، ص: 68"، وقارن هذا بقول خادم القرآن النورسي "... حقاً إنّ معرفة الله المستنبطة بدلائل 'علم الكلام' ليست هي المعرفة الكاملة، ولا تورث الاطمئنان القلبي… وكما تبدو معرفة الله الناشئة من علم
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Aralık 2010 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2010 Sayı: 2 |