BibTex RIS Kaynak Göster

كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان - Şükran Vahide: “The Book of the Universe: Its Place and Development in Bediuzzaman’s Thought”

Yıl 2010, Sayı: 2, 69 - 94, 01.12.2010

Öz

كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان
شكران واحدة1
المقدمة
عندما يتناول بديع الزمان سعيد النورسي الكون بالبحث يستعمل تشبيهات ومجازات عدّة، مثل "معرض"، "مضيف"، "قصر". ولكنه في نهاية المطاف "كتاب". أي أن تشبيهه للكون بشيء "يُقر" يُعد علامة فارقة لرسائل النور وتعريفا ورمزا لها. أكّد بديع الزمان في رسائل النور ماهية العلاقة المتكاملة بين القرآن الذي هو "كتاب صفة الكلام" وبين الكون الذي هو "كتاب صفة القدرة". ويُحَوِّلُ بديع الزمان أنظار قرائه إلى الكون على الدوام ويدلهم على كيفية قراءة كتاب الكون على الطريقة القرآنية، كما يدلّهم في الوقت نفسه على كيفية فهم دلالة جميع المخلوقات على المعاني التي لا تعد ولا تحصى، ليستخرجوا الدروس التي يشير إليها القرآن الكريم، لهذا فمفهوم قراءة "كتاب الكون" بتأمل وتفكر2 يشغل مركز رسائل النور، كما يشغل قلب "الطريق الموصل إلى الحقيقة" الذي فتحه بديع الزمان.
سأشرح في هذا البحث هذا المفهوم وكيفية استعماله في رسائل النور، وبيان العلاقة بينه وبين القرآن الكريم، وكيف أنه يرمز إلى طريقة رسائل النور في الفهم العصري للقرآن الكريم. وعند عرضها سأتطرق إلى التعريف ببديع الزمان نفسه وعن مسيرة تطور فكره في هذه المسألة. وفي هذا السياق سأقدم أولا بعض المعلومات عن حياة "سعيد القديم" لمعرفة سبب اختياره لهذا الطريق وهذه الطريقة. وسَنُضَمِّنُ هذه المعلومات الخطوط الرئيسة التي كانت سببا في تحوّل "سعيد القديم" إلى "سعيد الجديد" وأثَرُ ذلك على تطور أفكاره، ثم أتطرق بشكل موجز إلى العلاقة المتكاملة الموجودة بين القرآن وبين الكون. ويعقب هذا قسم بعنوان "كتاب الكون ووظائفه ومعانيه".
لماذا كتاب الكون؟
نعرف من حياة النورسي أنه كان يشعر منذ طفولته وشبابه - أي منذ حياته المبكرة - بالحاجة إلى تجديد شامل وجذري في كثير من الساحات المتعلقة بالإسلام، ولا سيما فيما يتعلق بتدريس الإسلام وتعليمه. إذ كان يحس غريزيا بعدم كفاية الطرق التعليمية الموجودة آنذاك، وهذا قاده في السنوات التي تلت هذه المرحلة إلى تقديم مقترحات تجديدية في التعليم تستند إلى تدريس العلوم الحديثة جنبا إلى جنب مع العلوم الشرعية وفق الطريقة التقليدية. وكانت الساحة الأخرى لاهتمامه القيام بعملية التجديد في ساحة علم الكلام، الذي أصبح عتيقاً وغير قادر على مجابهة تحدّيات تقدّم العلوم العصرية، لأجل مجابهة الهجوم المتزايد على الإسلام باسم العلم والتقدم، وبمجرّد أخذ هذا الهدف بعين الاعتبار -خلافا لكثير من علماء زمانه- درس علوم الفيزياء والرياضيات دراسة جيدة.3
طبع بديع الزمان العديد من الكتب التي تناولت أهم المشاكل التي يجابهها الإسلام حسب رأيه وقدّم لها حلولا، فذكر في كتابه (المحاكمات) -الذي يُعدّ من أوائل كتبه (1911)- أنّ أهم عائق يحول بين العالم الإسلامي وبين التَخَلُّص من تَخَلُّفِه الشديد، هو التناقض المزعوم بين بعض مسائل العلم الحديث وبين بعض (ظواهر) الإسلام.
وبقصد إظهار خطأ هذا الأمر وخطره تناول عددا من المسائل ذات الصلة بالموضوع، من ضمنها التناقض المزعوم بين العقل والمكتشفات العلمية من جهة وبين بعض الآيات القرآنية من جهة أخرى، واستهدف بديع الزمان بهذا الجهد الإشارة إلى "الصراط المستقيم للإسلام"، والرد على كل "أعداء الدين" ويعني بهم الفلاسفة الماديين و "الظاهريين"، أي بعض العلماء "الشكليين."4
فكان تصوير الكون ووصفه على أنّه "كتاب" مدخلا رئيسا للقضية المركزية في البحث، وأشار في السياق نفسه إلى علاقته المتبادلة مع القرآن. ذلك أنّ القرآن كشف عن القوانين السارية في الكون، لذا فهو المصدر الحقيقي الوحيد للتقدم. وعلى أي حال فقد كان سعيد الجديد موفقا في شرح وتفسير كتاب الكون، يشهد لهذا المعنى قوله: "إنّ القرآن المعجز البيان: الذي بيّن بقواعده -من كتاب العالم- قوانين الله العميقة الجارية بيد القدر، المسطّرة بقلم الحكمة على صفحة الوجود، فيحقق بأحكامه العادلة رقي البشرية وسمو نظامها ودقة اتزانها، فأصبح حقاً مرشداً وهادياً إلى سواء السبيل."5
كان الاهتمام الرئيسي لبديع الزمان هو القرآن وإثبات وشرح طبيعته الإعجازية بطريقة مناسبة للحاجات المعاصرة. وفي رسالة من الرسائل التي أدرجها في كتابه "ختم التصديق الغيبي" (رسائل صغيرة كانت تتداول بين طلابه بشكل سري ثم طبعت بهذا العنوان) شرح وأبان عن رد فعله أمام المخاطر الموجهة ضد القرآن وضد المجتمع الإسلامي في منعطف العصر فقال: "وغيّر اهتمامه من جراء هذا الانقلاب الفكري فيه... جاعلاً جميع العلوم المتنوعة المخزونة في ذهنه مدارج للوصول إلى إدراك معاني القرآن الكريم وإثبات حقائقه. ولم يعرف بعد ذلك سوى القرآن هدفاً لعلمه وغاية لحياته. وأصبحت المعجزة المعنوية للقرآن الكريم دليلاً ومرشداً وأستاذاً له"6 ويقرّ في السياق نفسه بأنه تأخّر في حمل هذه الوظيفة عندما أفاق واستيقظ على صوت انفجار وضوضاء الحرب العالمية الأولى. ويشير إلى إفاقته هذه في رسالة أخرى حيث يشرح فيها كيف أدرك أنه مكلّف ببيان إعجاز القرآن.7
وفي (إفادة المرام)8 الذي كتبه مقدمة تفسيره المشهور (إشارات الإعجاز) -الذي بلغ من إدراكه لأهميته وعدم جواز تأخيره أنّه استمر في كتابته وهو يقاتل الروس الغازين في الخنادق الأولى- ذكر بأنّه أمام التقدّم السريع للمعرفة والناشئ عن المكتشفات العلمية فإنّه من الضروري وضع تفسير "شامل وصحيح للقرآن الكريم "لكشف معاني القرآن وجمع المحاسن المتفرقة في التفاسير وتثبيت حقائقه -المتجلية بكشف الفن وتمخيض الزمان- من انتهاض هيئة عالية من العلماء المتخصصين، المختلفين في وجوه الاختصاص، ولهم مع دقةِ نظر وُسْعةُ فكرٍ لتفسيره."9 ويُفهم من هذا تصريحه بعدم إمكان شرح الحقائق القرآنية إلا بمعرفة العالم المادي في ضوء التقدم العلمي، وهو ما جسّده في تفسيره الموسوم برسائل النور، متمنيا أن يكون أنموذجا للتفاسير المقبلة، وتطبيقا لهذا المسلك نراه يشرح بأن ما اكتشفه العلم في المقام الأول من النظام الموجود في الكون وفي الكائنات متلائم تماما مع الآيات القرآنية ولا يتناقض معها أبدا.
نستطيع أن نقول بإيجاز بأن بديع الزمان أدرك -منذ عمره المبكر- حقيقة عصر العلم وتطبيقاته في المعاهد وفي نظم التعليم والتربية، وعمليا في مجال التقدم المادي للعالم الإسلامي. وكان اهتمامه الأول والعاجل هو تبديد أوهام القول بالتناقض والصدام بين العلم وبين الإسلام، وإرجاع علم الفيزياء وعلم الرياضيات إلى موقعهما الصحيح، لأن الإسلام (سيد المعارف ورئيس العلوم الحقة ووالدها)10 وهو يسند تقدم العلوم وما صاحبه من كشف للكون إلى القرآن وجعل مهمته استخدام معرفته في العلوم لفهم حقائق القرآن والبرهنة على إعجازه.
وتظهر أهمية ما كتب النورسي حين نستصحب هيمنة تيار الفكر المادي وبالأخص الفلسفة الوضعية على الفكر الغربي والتي أصبحت تؤثر بشكل متزايد في الدولة العثمانية في العقود الأخيرة منها. وكان الطابع العام لمن تبنى هذه الفلسفة هو الهجوم على جميع الأديان ولاسيما الدين الإسلامي، مع أنهم كانوا يشكلون فئة صغيرة حتى تشكيل الجمهورية التركية عام 1923. وبعد هذا التاريخ حاولوا إدامة هذا الهجوم وتبنيه بشكل رسمي واتخاذ الخطوات لجعل الفلسفة الوضعية أساسا للإيديولوجية الرسمية بدلا من الإسلام.
وقد عَدّ بديع الزمان كتابه (إشارات الإعجاز) -الذي كتب القسم الأول منه فقط- "فاتحة" رسائل النور11 وربما قصد أنه يُعد القسم الأول لرسائل النور12 وشهدت السنوات المرة للحرب العالمية الأولى التي أعقبتها هزيمة الدولة العثمانية ظهور "سعيد الجديد "، وكتاباته باللغة العربية ثمرة من ثمار هذا التغيّر الداخلي الكبير الذي قاساه واجتازه.13
نلاحظ أن بديع الزمان ذكر في مواضع عديدة من كتاباته الأولى هذه وفي رسائل النور عموما الصراع الداخلي والعوامل التي ساهمت في ظهور "سعيد الجديد" وانفتاح "الطريق القرآني غير المسلوك" أمامه، وهو مسلك إلى الحقيقة لم يسبق إليه. ستتم الإشارة هنا إلى بعض وجوهه.
لم يتوضح السبيل أمام بديع الزمان إلا بعد صراع عنيف، يشرح هذا في رسالة (القطرة) فيقول: "هذه الرسالة مكالمات فجائية مع نفسي في وقتٍ مدهش. والكلمات إنما تولّدتْ في أثناء مجادلة هائلة كإعصار يتصارع فيها الأنوارُ مع النيران، يتدحرج رأسي في آن واحد من الأوج إلى الحضيض، ومن الحضيض إلى الأوج، من الثرى إلى الثريا؛ إذْ سلكتُ طريقاً غير مسلوك، في برزخٍ بين العقل والقلب."14
في هذه الأثناء ظهرت له أنوار خاصة عرف أنها "أنوار من شمس القرآن". ونستشف من فقرات أخرى أنها كانت تعليمات قرآنية حول الوحدانية الإلهية.15
"إن الفرق بين طريقي في "قطرة" المستفادة من القرآن؛ وطريق أهل النظر والفلاسفة، هو أني أحفر أينما كنتُ، فيخرج الماءُ، وهم تشبثوا بوضعِ ميازيب وأنابيب لمجيء الماء من طرفِ العالَم ويُسلسِلونَ سلاسل وسلالمَ إلى ما فوق العَرش لجلب ماء الحياة، فيلزم عليهم بسبب قبول السبب وضع ملايين من حفظة البراهين في تلك الطريق الطويلة لحفظها من تخريب شياطين الأوهام. وأما ما علَّمنا القرآنُ فما هو إلاّ أنْ أُعْطِينا مثلَ "عصا موسى" أينما كنتُ -ولو على الصخرة- اضربُ عصاي فينفجر ماءُ الحياة.."16
والحقيقة أن هذا الطريق تمثل حقيقة:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد17
ثم قال عن هذا "الطريق غير المسلوك": "إني ما أدري كيف صار عقلي ممزوجاً بقلبي، فصرت خارجاً عن طريق أهل العقل من علماء السلف وعن سبيل أهل القلب من الصالحين، فإن وافقتهما "فبِها ونعمت "وإن خالفتُ في كلامي أيَّ السبيلين منهما فهو مردود عليّ."18
وكتب في ذيل رسالة (الحُباب): "فمسائلها وإنْ حصلت لي أول ما حصلت شهودية وحدسية وذوقية، لكن لدخولي في صحراء الجنون مع رفاقة عقلي مفتوح الجفون -فيما يغمض فيه ذوي الأبصار- لفّ عقلي على عادته ما رآه قلبي في مقاييسه ووزنه بموازينه واستمسكه ببراهينه.. صارت مسائل هذه الرسائل من هذه الجهة كأنها مبرهنة استدلالية.
فيمكن لمن ضلّ من جهة الفكر والعلم أن يستفيد منها ما يُنجيه من مزالق الأفكار الفلسفية.
بل يمكن أن يستخرج منها بالتهذيب والتنظيم والإيضاح عقائد إيمانية وعلم كلام جديد في غاية القوة والرصانة لردّ ضلالات أفكار هذا الزمان. بل يمكن لمن اختلط عقلهُ بقلبه، أو التحق قلبهُ بعقله المتشتت في آفاق الكثرة أن يستنبط منها طريقة كسكة الحديد متينةً أمينة يسلك فيها تحت إرشاد القرآن الكريم.. كيف لا، وكل ما في رسائلي من المحاسن ما هو إلاّ من فيض القرآن."19 "حتى غدت رسائل النور طبيبة حاذقة لذوي الجراحات من طلاب الحقيقة، وأصبحت مُلزمةً ومُسكتةً لأهل الإلحاد والضلالة."20
قاد هذا التركيب بين العقل وبين القلب بديع الزمان إلى "طريق من الفكر التأملي" الذي كان من أهم عناصر رسائل النور وتتمة ضرورية لـ "كتاب الكون". وفي أثناء حبسه في سجن "أسكي شهر" عام 1935 كتب مقدمة (اللمعة التاسعة والعشرين) باللغة العربية وسماها "رسالة التفكّر" أي الجزء أو القسم الذي يجب التفكر فيه، قال فيها: "لقد امتزج قلبي بعقلي منذ ثلاثة عشر عاماً ضمن انتهاج مسلك التفكر الذي يأمر به القرآنُ المعجز البيان كقوله تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾البقرة:219 ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾الأعراف:176 ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ...﴾الروم:8 ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾الروم:21 وأمثالها من الآيات التي تَحُثُّ على التفكّر.!
ولقد تواردت في غضون هذه السنوات الثلاثين على عقلي وقلبي ضمن انتهاج مسلك التفكر، أنوار عظيمة وحقائق متسلسلة طويلة. فوضعت بضع كلمات -من قبيل الإشارات- لا للدلالة على تلك الأنوار، بل للإشارة إلى وجودها ولتسهيل التفكر فيها وللمحافظة على انتظامها.
وكنت أردد بيني وبين نفسي تلك الكلمات لساناً بعبارات عربية في غاية الاختلاف. وعلى الرغم من تكراري لها آلاف المرات خلال هذه الفترة الطويلة وأنا انتهج هذا التفكر لم يطرأ عليّ السأم ولم يعتر تذوقها النقص، ولم تنتف حاجة الروح إليها. لأن ذلك التفكّر لمعات تلمعت من آيات القرآن الكريم فتمثّلت فيه جلوة من خصائص الآيات، تلك هي عدم الاستشعار بالسأم والملل والحفاظ على حلاوتها وطراوتها."21
إذن كان أهم ما يميّز هذا الطريق الحديث أو علامته الفارقة مزجه بين العقل وبين القلب وبالطريقة التي علّمنا إياها القرآن الكريم في التأمل لتصديق الوحدانية الإلهية "فحمداً لله على أن وًفَّق على جمع الطريقة مع الحقيقة بفيض القرآن وإرشاده، حتى بيّن برسائل النور التي ألفها سعيد الجديد حقيقة:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ".22
ويحسن بهذا الصدد الإشارة إلى فرق مهم بين رسائل النور وبين هذه الرسائل الأولى التي كتبها باللغة العربية والتي جُمعت فيما بعد في كتاب باللغة العربية تحت عنوان (المثنوي النوري العربي)، فهذه الرسائل العربية الأولى كانت تعبيرا عن الصراع الداخلي بين الروح وبين النفس وكانت "موفقة في فتح طريق خلال القلب والروح" أما رسائل النور فهي "تبيّن أن 'المثنوي العربي' -وهو مشتل رسائل النور وغراسها- قد سعى 'كالطرق الخفية' إلى المعرفة الإلهية، في تطهير الأنفس والداخل من الإنسان، فوفّق إلى فتح الطريق من الروح والقلب. بينما 'رسائل النور' -التي هي بستانه اليانع- قد فتحت طريقاً واسعاً إلى معرفة الله، بتوجهها إلى الآفاق الكونية -كالطرق الجهرية- فضلا عن جهادها في الأنفس، حتى وكأنها عصا موسى u أينما ضربتْ فجّرت الماء الزلال.
وكذا فإنّ 'رسائل النور' ليس مسلكها مسلك العلماء والحكماء، بل هو مسلكٌ مقتَبسٌ من الإعجاز المعنوي للقرآن يُخرج زلال معرفة الله من كل شيء، فيستفيد السالك في 'رسائل النور' في لحظةٍ مالا يستفيده سالكو سائر المسالك في سنة..."23
شرح بديع الزمان في بداية رسالة "القطرة" كيف أنه خلال عمره البالغ آنذاك أربعين عاما وبعد دراسة استغرقت ثلاثين سنة تعلم "أربع كلمات" و "أربع عبارات". والكلمات الأربع التي تهمنا هنا هي: (المعنى الحرفي والمعنى الاسمى والنية والنظر "أي زاوية النظر") ومن هذه الكلمات الأربع تحمل الكلمتان الأولى والثانية أهمية خاصة لأنهما مرتبطتان مع مفهوم "كتاب الكون" بشكل مباشر. ويشرح بديع الزمان هذا باختصار قائلا: "إن النظر إلى ما سواه تعالى، لابد أن يكون بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وأنّ النظر إلى الكائنات بالمعنى الاسمي أي بحساب الأسباب خطأ. ففي كل شيء وجهان: وجهٌ إلى الحق، ووجه إلى الكون. فالتوجه إلى الوجه الكوني لابد أن يكون حرفياً وعنواناً للمعنى الاسمي الذي هو جهة نسبته إليه تعالى. مثلا: لا بد أن يرى النعمةَ مرآةً للإنعام، والوسائطُ والأسباب مرايا لتصرف القدرة."24 توجد هنا نقطتان يجب أخذهما بنظر الاعتبار لكي نكون قادرين على الإجابة عن سؤال هو موضوعنا في هذا القسم وهو: لماذا كتاب الكون؟ للإجابة عن هذا السؤال هناك نقطتان متعلقتان بهذا الموضوع، تتعلق إحداهما بالعوامل التي أدت ببديع الزمان إلى اختيار طريق "سعيد الجديد"، والأخرى متعلقة بمكانة مفهوم كتاب الكون في هذا الصدد.
أولا: أسباب اختيار طريق سعيد الجديد:
ساقت الأقدار بديع الزمان منذ عمره المبكر للتفتيش عن تغييرات وتجديدات في العديد من المؤسسات الإسلامية، وكان أساس معظمها هو سوء فهم العلوم الحديثة ووجود التناقضات الموهومة بين العقل والعلم وبين بعض المسائل الإسلامية والقرآن. بينما كان السبب الرئيس لضرورة التجديد هو الحاجة إلى تفسير القرآن في ضوء التقدم الحديث للمعارف والعلوم. وبهذه الوسيلة فقط يمكن التصدي للهجوم الموجه ضد الإسلام وإيقافه وإنهاءه، وتحويل سير العالم الإسلامي بشكل عكسي، فيتحوّل من الانحطاط إلى الرقي، تلك هي الخلفية التي يجب أن يبدو سعيد الجديد ورسائل النور من خلالها.
ثانيا: مكانة مفهوم كتاب الكون:
يجمع مفهوم "كتاب الكون" العناصر المختلفة التي شكّلت وصاغت طريق "سعيد الجديد"، بل يشكل رمز هذا الطريق. وهو كاستعارة يملك صفة توضيحية مهمة، وقاده وساقه هذا الطريق الجديد "غير المسلوك"، الذي فُتح أمامه من القرآن إلى الكون، وعلّمه التطلّع إلى الكون والتأمل فيه، إلى التفتيش عن المعاني في ثناياه باعتباره كتابا لقراءته وفهمه. وعلاوة على هذا فإنه باستخدامه كلا من العقل والقلب في عملية القراءة -هذه التي طوَّرها بديع الزمان- وجد في كل شيء طريقا إلى الله وطريقا لإثبات حقائق الإيمان الرئيسة الأخرى؛ فشفى بذلك القلوب التي جرحتها الشكوك، وأجاب على الفلسفة وردَّ هجومها. وكما سنرى فقد جمع الدين والعلم في بوتقة واحدة. ولهذا يُنظر إلى بديع الزمان كواضع لعلم كلام جديد.25
ثالثا: مميّزات طريق سعيد الجديد:
يحسن التوقّف عند نقطة أخيرة، نستشف منها ما يميز طريق سعيد الجديد عن الطرق الصوفية، وما يتعلق بمعجزة القرآن. وحسب بديع الزمان فهذا طريق علوي وسامٍ لـ "أهل الحقيقة" أي هو طريق "الإيمان والتصديق"26 أكثر من كونه طريقا للصوفية الذي هو طريق "المعرفة والتصور". وبسبب أهميته وكون بديع الزمان يورد أسباب ضرورته فيطلب التوقّف عند الألفاظ المفتاحية المتضمّنة في عناصر التميّز، لهذا أعرضها بتعريف مفصل:
"لأن الكلمات:
تصديق وليست تصوراً.27
وإيمان وليست تسليماً.28
وتحقيق وليست تقليداً.29
وشهادة وشهود وليست معرفة.30
وإذعان وليست التزاماً.31
وحقيقة وليست تصوفاً.
وبرهان ضمن الدعوى وليست ادعاء.
وحكمة هذا السر هي أنّ الأسس الإيمانية كانت رصينة متينة في العصور السابقة، وكان الانقياد تاماً كاملاً، إذ كانت توضيحات العارفين في الأمور الفرعية مقبولة، وبياناتهم كافية حتى لو لم يكن لديهم دليل، أما في الوقت الحاضر فقد مدّت الضلالة باسم العلم يدها إلى أساس الإيمان وأركانه."32
يتجلى مما سلف أهمية الحاجة إلى بيان صلة القرآن الكريم بكتاب الكون.
القرآن وكتاب الكون
نستطيع بناء على ما سلف أن نقول: أولا إن استعارة "الكتاب" استعارة ملائمة وبليغة للكون ككل عندما ننظر إليه في ضوء القرآن، وهي تنبثق من النظرة القرآنية للوجود وللموجودات، ليس لهذه الموجودات من حيث هي، بل لما تشير وتدل عليه هذه الموجودات، وقد كتب بديع الزمان في رسالة "الآية الكبرى" قائلا: "فنظر السائح إلى مجموع الكون بمنظار واسع محيط قد استعاره من القرآن الكريم، فرأى أنّ هذا الكون منظم تنظيماً بديعا، ومنطوٍ على معاني جمّة وفيرة بحيث يبدو على صورة كتاب سبحاني مجسم، أو قرآن رباني جسماني، أو قصر مزين صمداني، أو بلد منتظم رحماني؛ إذ أن جميع سور ذلك الكتاب وآياته وكلماته، بل حروفه وأبوابه وفصوله، وصحائفه وسطوره، وما يجري على الجميع من "المحو والإثبات" ذي المعنى اللطيف، ومن التحويل والتغيير ذي الحكمة والإبداع كل ذلك بالإجماع يفيد بداهة وجود عليم بكل شيء، قدير على كل شيء. ويعبّر عن وجود بارئ ذي جلال، ومُصَوِّر ذي كمال، يرى كل شيء في كل شيء، ويعلم علاقة كل شيء بكل شيء، فيراعيه."33
هناك مظاهر أخرى للكون تكون واضحة عندما نلاحظه من خلال القرآن والتي تجعله مثل كتاب في موضع آخر يقول بديع الزمان بأن "النظام الكامل والتوازن المتناغم "اللذان هما نتيجة للوحدانية "وجعله كتاباً معجزاً بليغا بحيث إنّ كلّ حرف فيه يفيد معاني مائة سطر وكل سطر فيه يعبّر عن معاني مائة صحيفة، وكل صحيفة فيه تُبَيِّن معاني مائة باب، وكل باب فيه يفصح عن معاني مائة كتاب. فضلاً عن أن كلاً من أبوابه وصحائفه وسطوره وكلماته وحروفه يشير الواحدُ إلى الآخر ويدلّ عليه."34
وفي الحقيقة فإن الوحدانية مفهوم أساسي إذ "بسر التوحيد يُفهم أنّ الكون بِرُمَّتِه كتاب صمداني ينطوي على معاني عميقة غزيرة، وأنّ الموجودات بأسرها مجموعة مكاتيب سبحانية في منتهى الإعجاز، وأنّ المخلوقات بجميع طوائفها جنود ربانية في غاية الانتظام والهيبة..."35
الوحدانية تهب الحياة لكل حرف موجود في كتاب الكون وتجعل كلا منه يجيب على حاجة الآخر. كتب بديع الزمان في (اللمعات): "إنّ سر التساند والترابط، المستتر في الكائنات كلها، المنتشر فيها.. وكذا انبعاث روح التجاوب والتعاون من كلِّ جانب. يُبَيِّن: أنّه ليست هناك إلاّ قدرة محيطة بالعالم كلّه، تخلق الذَّرَّة وتضعها في موضعها المناسب.
فكلّ حرف وكل سطر من كتاب العالم، حيّ، تسوقه الحاجة، وتعرّف الواحد الآخر، فيُلبّي النداء أينما انطلق.
وبسر التوحيد تتجاوب الآفاق كلها، إذ توجّه القدرة كل حرف حي إلى كل جملة من جمل الكتاب وتبصّرها."36
والعلم الإلهي "جعل الكون بحكم كتاب كبير يضم رسائل بعدد أجزائه.."37
بينما الحكمة الإلهية "جعلته ككتاب كبير، كتاب حكمة بليغة بحيث إنّ في كل حرف منه مائة كلمة، وفي كل كلمة مئات الأسطر وفي كل سطر ألف باب وباب وفي كل باب ألوف الكتب الصغيرة... فشاهد الجمال بلا نظير، جمال الحكيمية الإلهية."38
وعند شرحه لاسم "الحكيم" الذي هو ضمن الاسم الأعظم يشرح بديع الزمان أقسام كتاب الكون كما يأتي: "إن سطح الأرض 'صحيفة' من هذا الكتاب الكبير، هذه الصحيفة تضم كتباً بعدد طوائف النباتات والحيوانات، وهي تُكتب أمام أنظارنا في موسم الربيع في غاية الكمال والإتقان من دون خطأٍ، كتابةً متداخلة، جنباً إلى جنب، في آن واحد.
'والبستان' سطر من هذه الصحيفة، نشاهد فيه قصائد منظومة، وهي تُكتب أمام أعيننا بعدد الأزهار والأشجار والنباتات، كتابةً متداخلة، جنباً إلى جنب، من دون خطأ.
والشجرة النامية الزاهية أوراقُها، المفتحة أزهارُها، وقد أوشكت أن تخرج أثمارُها من أكمامها، هذه 'الشجرة' كلمةٌ من ذلك السطر، فهذه الكلمة تمثل فقرةً كاملة ذات مغزى تعبّر تعبيراً بليغاً عن ثنائها وحمدها ودلالتها على 'الحَكَم' ذي الجمال، بعدد أوراقها المنتظمة وأزهارها المزينة وأثمارها الموزونة، حتى لكأن تلك الشجرة المفتحة الأزهار قصيدةٌ عصماء تتغنى بالمدح والثناء على آلاء بارئها المصوّر الجليل."39
إذن هناك علاقة متبادلة بين القرآن وبين الكون؛ فالكون يحتاج إلى القرآن في فهم معناه (أي في فهم معنى الكون)، إذ لا يكتسب معناه الحقيقي إلا بالقرآن. والقرآن بآياته المتعلقة بالظواهر الطبيعية ونظامها وبتغيراتها الغائية والقصدية يقوم بدور المفسر والشارح والترجمان للكون.
"هو الترجمةُ الأزلية لهذه الكائنات، والترجمانُ الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّرُ كتاب العالَم... وكذا هو كشَّافٌ لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السموات والأرض... وكذا هو مفتاحٌ لحقائق الشؤون المضْمَرة في سطور الحادثات."40 "والقرآن إنّما يبحث عن الكائنات استطرادا للاستدلال على ذات الله وصفاته."41
"نعم! إنّ ذلك الفرقان الحكيم هو الذي يرشد الجن والإنس إلى الآيات الكونية التي سطَّرها قلمُ القدرة الإلهية على صحائف الكون الواسع ودبّجها على أوراق الأزمنة والعصور. وهو الذي ينظر إلى الموجودات -التي كل منها حرف ذو مغزى-بالمعنى الحرفي، أي ينظر إليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل. فيقول: ما أحسنَ خلقه! ما أجملَ خلقه! ما أعظم دلالته على جمال المبدع الجليل. وهكذا يكشف أمام الأنظار الجمالَ الحقيقي للكائنات."42
والقرآن تال للكائنات حيث" يتلو على الإنسان ما كتبتْهُ القدرة الإلهية في صحائف الكائنات من آيات حتى كأن القرآن قراءةٌ لما في كتاب الكائنات وأنظمتها، وتلاوةٌ لشؤون بارئها المصّور وأفعاله الحكيمة."43 وهكذا ينقلب الكون إلى "قرآن مجسم"44 وهذا يعني أن الكون يعبر عن نفس الحقائق التي يعبر عنها القرآن. فالقرآن صادر عن صفة الكلام، والكون من تجلي صفة القدرة45 و "المصنوعات" في الكون، أي الكائنات تشبه "كلمات مجسمة" أو "كلمات أُلبست أشكالا خارجية" و"كلمات القدرة هذه" مثلها في ذلك مثل كلمات القرآن "فكما أن صفة "الكلام" تعرّف الذات الأقدس سبحانه وتعالى بالوحي والإلهامات، فإنّ صفة "القدرة" كذلك تعرّف ذاته جل وعلا بآثارها البديعة التي هي بمثابة كلماتها المجسّمة التي تصف قديراً ذا جلال، وتعرّفه بإظهارها الكون من أقصاه إلى أقصاه بماهية فرقان جسماني."46 وبهذا المعنى فإنّ "الكائنات مفسّرات لآيات القرآن الحكيم"47 إنّه دليل للقرآن. قال بديع الزمان: "إنّ التجلي الأعظم لاسم الله الحفيظ ونظير الحقيقة الكبرى لهاتين الآيتين مبثوثٌ في الأرجاء كافة، يمكنك أن تجده بالنظر والتأمل في صحائف كتاب الكائنات، ذلك الكتاب المكتوب على مِسطر الكتاب المبين وعلى موازينه ومقاييسه."48
وبما أنّ الكون قرآن مجسّم فإن هدف كتاب الكون هو "أن صانعه وبانيه له من المحاسن والجمال ما يليق به في ذاته وفي أسمائه، بحيث يقتبس العالم الجمال منه. ولأجل ذلك بُنِيَ هذا العالم على وفق أنوار ذلك الجمال، وكُتب كالكتاب المتقن البديع ليعبّر عن ذلك الجمال."49 "فالمُصَوِّر الجميل سبحانه وتعالى الذي كتب هذه الكائنات إظهاراً لكمالاته، وإبرازاً لجماله وحقائق أسمائه المقدسة.. كتبها كتابةً بديعة، لا أبدع منها؛ إذ تدل جميع الموجودات- بما لا يحد من الجهات -على أسمائه الحسنى وعلى صفاته الجليلة وعلى كمالاته المطلقة وتعبّر عنها."50 "فإنّ البارئ المصور سبحانه الذي أبدع كتاب الكون العظيم هذا يعرِّف جمالَ كمالِه ويحبّبه بألسنةِ مخلوقاته -ابتداءً من أصغر جُزْئِي إلى أكبر كُلِّي- فيعرِّف سبحانه ذاتَه المقدسَّة، ويفهّم كمالَه السامي، ويُظهر جمالَه البديع: بهذا الكون الرائع، وبكل صحيفة فيه، وبكل سطر فيه، وبكل كلمة فيه، بل حتى بكل حرف وبكل نقطة من كتابه العظيم هذا."51
وظائف كتاب الكون ومعانيه
يتجلى مما سبق بيانه أنّ الوظيفة الرئيسة لكتاب الكون -بصفتها مفهوما- هي القيام بتعليم الذين يقرءونه وتوجيه أنظارهم إلى كاتبه وإلى صفاته. وكما قام بديع الزمان بتفسير البيت الآتي:
تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَلإِ الأعلى إلَيكَ رَسَائِلُ52
"بمعنى: انظر بعين الحكمة إلى سطور الحوادث التي كتبها المُصَوِّر الأزلي في الأبعاد الواسعة لصحيفة العالم... كي ترفعك سلاسل تلك الرسائل الممتدة من الملأ الأعلى إلى أعلى عليي التوحيد."
وبشكل مشابه نجد الآيات القرآنية عن الآيات التكوينية.53
قام بديع الزمان في مواضع عديدة من رسائل النور بشرح مثل هذه الآيات مُوَضِّحا معانيها في مستويات متعددة بشكل مُشَوِّق ومثير للاهتمام.54
لذا، فكما أن الغاية من جعل الكون بهذا الشكل مُعَدا لـ "يُقر"، كذلك فإن الإنسان أيضا هو عالم مصغر وخارطة مصغرة للكائنات. وهو كذلك مُعَد ليَقْرَأَ. ويُقْرَأ.
نعم، إن الإنسان هو العالم الأصغر وخارطته المصغرة وإنه جزء من هذا الكون. ومع أن هذا المظهر خارج عن موضوعنا هنا، ولكن علينا أن نذّكر هنا أن بديع الزمان يشير في مقدمة كتابه (الآية الكبرى) -الذي سنتناوله فيما بعد- بأن الغاية من وجود الإنسان هو معرفة ربه خالق جميع الموجودات وعبادته: "إن حكمة مجيء الإنسان إلى هذه الدنيا والغاية منه، هي: معرفة خالق الكون سبحانه، والإيمان به، والقيام بعبادته."55 وهو هنا في مقام تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾الذَّارِيَاتِ:56 بفكر تأملي ميدانه الآفاق بالأسلوب الذي شرحناه أعلاه والذي رمزنا له بمفهوم الكتاب.
كان بديع الزمان يضع أوامر القرآن في صيغة نظامية وعملية لكي يُمَكّن الناس في العصر الحالي من اكتساب "إيمان تحقيقي" لأجل صدّ جميع التيارات المادية وجميع التيارات المنحرفة، وهدفي هنا هو بجانب شرح وظائف ومهمات كتاب الكون، هو القيام بإثبات أن طريقة رسائل النور في الفهم تُعَدُّ "فهما معاصرا للقرآن". أي أنها تشرح الحقائق القرآنية وتُعَلِّمها بطريقة مناسبة ومليئة بالمعاني.
رسائل النور كلُّها غنية بتوظيف المنهج المشار إليه أعلاه، واخترنا لدلالة على إعمال هذا المسلك أنموذجا من الرسائل، فآثرنا الانتقال إلى رسالة "الآية الكبرى" وطريقتها في قراءة كتاب الكون لاستخراج معانيه.
علينا أن نذكر أولا بأن بديع الزمان أشار -في رسالة كتبها في الغالب خلال الفترة الأخيرة من حياته في مدينة قسطموني (1943- 1946)- بأنّه كان هناك تطور مستمر في "طريقة تفكيره التأملي" خلال السنوات التي كان يكتب فيها رسائل النور. كتب قائلا: "في كل عام أو عامين كان ذلك السرّ يغيّر من شكله فينتج إما رسالة عربية أو رسالة تركية. وقد دامت تلك الحقيقة وهي تتلبّس الأشكال المختلفة ابتداء من رسالة 'قطرة' العربية، وانتهاء إلى رسالة 'الآية الكبرى'، حتى أخذت شكلها الدائمي في 'الحزب النوري'."56
والرسالة الأخيرة كتبها باللغة العربية وبأسلوب وجيز خلال الفترة نفسها تقريبا ساردا ومُعَدِّدا عوالم الكون وممالكه ومعبّرا عن الحقائق نفسها التي عبّر عنها في "الآية الكبرى" لتكون مصدرا للفكر التأملي، لذا سنلقي نظرة سريعة على رسالة "الآية الكبرى" التي هي الشكل الأخير لطريقة كشف بديع الزمان لكتاب الكون لكي نعرف الطريقة التي استخدمها لإثبات وجوب الوجود الإلهي ووحدانيته، والحقائق الرئيسة التي أثبتها وشرحها.
تشغل رسالة "الآية الكبرى" من ناحية الشكل موقعا مُتَفَرِّدا في مجموعة رسائل النور لكونها تحتوي على "مشاهدات سائح يستنطق الكونَ عن خالقه". وهذا السائح -الذي يلخص أسلوبه في الاستنطاق والاستجواب للوصول إلى الهدف الذي يريد إنجازه في أسلوب الفكر التأملي في الكون- يقوم بسياحة عقلية في جميع عوالم وممالك الكون لمعرفة شهادتها على الخالق. يقوم السائح باستجواب هذه العوالم بالتعاقب، ويُقال له في الجواب بأن عليه أنْ يشاهد وأنْ يدرس هذه العوالم. فمثلا نراه يستجوب الغلاف الجوي فقيل له: "انظر إليّ! تستطيع أن تكتشف من خلالي الموضوع الذي تبحث عنه… عن الذي أرسلك إلى هن" لذا أدار بصره في جميع من كُلِّفَ بمهمات ووظائف مختلفة فرأى الغيوم والسُّحُب والرياح والمطر. ومن خلال مشاهدته لكل "كلمة" من هذه "الكلمات" التفت لعقله وأجرى معه حوارا منطقيا. أرجع بصره إلى الغلاف الجوي وقرأ المزيد من كلماته، وفَكّر بعقله مرّة أخرى ثم وصل إلى النتيجة الآتية:
"إن هذا الهواء الجامد الذي لا حياة له ولا شعور ولا ثبات له ولا هدف، وهو في اضطراب دائم، وهيجان لا يسكن، وذا عواصف وأعاصير لا تهدأ، تأتي إلى الوجود وتبرز بسببه -وبصورته الظاهرة- مئات الألوف من الأعمال والوظائف والنعم والإمدادات العامرة بالحكمة والرحمة والإتقان، مما يثبت بداهة: أنه ليست لهذه الرياح الدائبة حركة ذاتية، فلا تتحرك بذاتها أبداً وإنّما يحرِّكها أمر صادر من آمر قدير عليم مطلق وحكيم كريم مطلق، وكأنَّ كلَّ ذرة من ذراته تفهم وتسمع -كالجندي المطيع- كل أمر صادر من لدن ذلك الآمر وتدركه فتنقاد له، وتجعل الأحياء جميعها تتنفسها لتسهم في إدامة حياتها، وتشارك في تلقيح النباتات ونموها، وتعاون في سوق المواد الضرورية لحياتها، وسَوْقُ السحب وإدارتها وتسيير السفن التي لا وقود لها وجعلها تمخر البحار وتسيح فيها، وتتوسّط خاصة في إيصال الأصوات والمكالمات والاتصالات عبر أمواج اللاسلكي والبرق والراديو، وأمثال هذه الخدمات العامة الكلية، فضلاً عن أنّ ذرات الهواء مركبة من مواد بسيطة كالأزوت ومولد الحموضة (الأوكسجين) ومع تماثل بعضها لبعض فلا أراها إلاّ أنها تستخدم بيد حكيمة وبانتظام كامل في مئات الألوف من أنماط المصنوعات الربانية.
لذا حكم السائح قائلاً: حقاً مثلما صرّحت به الآية الكريمة:
﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾البَقَرَة:164 فإنّ الذي يجري أمره على الهواء ويستعمله في خدمات ووظائف ربانية غير محدودة، بتصريف الرياح، وفي أعمال رحمانية غير محدودة، بتسخير السحاب، ويوجد الهواء على تلك الصورة، ليس إلاّ رباً واجب الوجود، قادراً على كل شيء، وعالماً بكل شيء ذا جلال وإكرام.
ثم يرجع بنظره إلى "الغيث" فيرى أنّه مثقل بمنافع بعدد شآبيبه ويحمل تجليات رحمانية بعدد زخاته، ويظهر حِكماً بقدر رشحاته، ويرى "أن تلك القطرات العذبة اللطيفة المباركة تُخلق في غاية الانتظام وفي منتهى الجمال والبهاء وبخاصة البَرَد الذي يرسل -وينزل حتى صيفاً- بانتظام وميزان، بحيث إن العواصف والرياح العاتية -التي تضطرب من هولها الكتل الضخمة الكثيفة- لا تخل بموازنة ذلك البَرَد ولا انتظامه، ولا تجعله كتلاً مضرة جمعاً بين حبّاته! فهذا الماء الذي هو جماد بسيط لا يملك شعوراً، يُستخدم في أمثال هذه الأعمال الحكيمة، وبخاصة استخدامه في الإحياء والتروية، وهو المركب من مادتين بسيطتين جامدتين خاليتين من الشعور؛ هما مولد الماء ومولد الحموضة -الهيدروجين والأوكسجين- إلاّ أنّه يستخدم في مئات الآلاف من الخدمات والصنائع المختلفة المشحونة بالحكمة والشعور."57 من المحتمل أنّ ما فكر به السائح حول الهواء وحول وظائفه لا يحتوي على شيء لا نعلمه، ولكن ما قام به هذا التفكير وهذا الحوار هو توضيحه وإشارته إلى أنّ شيئا خاليا من الحياة ومن الشعور كالهواء، لا يستطيع القيام بإنجاز كل هذه الوظائف والمهمات الشعورية إلاّ بوجود ذات مُتَّصفة بصفات الكمال التي أدرجها وذكرها، وهذا الموصوف بصفات الكمال هو الذي يستخدمه ويسخّره لأداء هذه الوظائف. وهذا الأمر يبدو واضحا جدا ومنطقيا ومقنعا خاصة عندما يُنظر إلى عوالم الخلق جميعا نظرة شاملة بدرجاته الثلاثة والثلاثين التي زارها السائح. ومع بساطتها الخادعة، فإن زاوية نظر القارئ تتحول -دون أن يشعر- إلى النظرة القرآنية في "قراءة" الكائنات. أي النظر إلى ما تدل عليه هذه الكائنات، وإلى المعاني التي تلمِّح إليها. وبجانب هذا يقود القارئ ويهيئه نفسيا لاستجواب العديد من المفاهيم مثل الصدفة والسببية، اللتان هما من أسس الفلسفة المادية. وعلاوة على هذا فإن قيام بديع الزمان باستخدام معرفته بالعلوم الحديثة في شرح حقائق قرآن الكون وكذلك حقائق القرآن نفسه ويمزجهما في تناغم وتلاؤم -كما فعل أعلاه- يدحض وجود أي تناقض أو تصادم بينهما، فيقدم بذلك مثالا عمليا كيف يمكن اجتماعهما معا.
هنا علينا أن نتذكر "الكلمة الرابعة" المذكورة في نهاية القسم الأول من هذا البحث، من الكلمات الأربع التي تعلمها "سعيد الجديد" خلال أربعين عاما من حياته وهي كلمة (النظر) أي زاوية النظر، وعرفها بما يأتي:
"النظر يقلب علومَ الأكوان معارفَ إلهية.. فإنْ نُظر بحساب الأسباب والوسائط فجهالات، وإنْ نُظر بحساب الله فمعارف إلهية."58 وتحتوي رسائل النور المئات من الأدلّة على وجود الله وعلى وحدانيته وعلى الحقائق الرئيسة للإيمان كالنبوة والحشر والملائكة والقدر وأسماء الله الحسنى وصفاته والشؤون الإلهية في الكون. وكلّ هذه الحقائق مرتبطة مع بعضها وتشكل كُلاّ لا يتجزأ. ولمزيد من الإيضاح فسأقوم بإيراد الأدلة حول "القدر" ببعض التفصيل لأنه متعلق بكتابة كتاب الكون؛ بينما سأتناول المواضيع الأخرى بأمثلة مختصرة لكونها متعلقة بشكل مباشر بفكرة أن الكون بمثابة كتاب معروض للقراءة. وهذه "الدروس" المعطاة من قبل كتاب الكون نتيجة لقراءته وفهم معانيه.
المعاني الأخرى لكتاب الكون؛ "أعمدة الإيمان"
كثيرا ما يَرِدُ ذكر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في رسائل النور -لكونه الشخص الذي بلّغ القرآن الكريم- في معرض الحديث عن كتاب الكون. وفيما يأتي دليل على نبوته مأخوذ من رسالة "الآية الكبرى":
"كما أنّ هذا الكون يَدُلُّ على صانعه وكاتبه، ومصّوره الذي أوجده، والذي يديره، ويرتِّبه، ويتصرف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنّه قَصْرٌ باذخ أو كأنه كتاب كبير أو كأنه معرض بديع أو كأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لا محالة وجود من يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويَعْلَمُ ويُعَلّمُ المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات. أي يقتضي داعياً عظيماً، ومنادياً صادقاً، وأستاذاً محققاً، ومعلّماً بارعاً، فأدرك السائح أن الكون -من حيث هذا الاقتضاء- يدلّ ويشهد على صدق هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصوابه الذي هو أفضل من أتم هذه الوظائف والمهمات وعلى كونه أفضل وأصدق مبعوث لرب العالمين."59
وفي رسالة (الثمرة) نجد دليلاً مشابهاً عن الأنبياء الآخرين. ويشير في النص الآتي إلى الدور الأساسي الذي لا غنى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الكون. وأن هذا الكتاب يشير إليه ويشهد عليه:
"هذا الكون كما أنّه يدل على صانعه وكاتبه ومصوّره الذي أوجده والذي يديره وينظّمه ويتصرّف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قَصْرٌ باذخ أو كأنه كتاب كبير أو كأنه معرض بديع، أو كأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لا محالة وجود من يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلَم ويعلّم المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات... ويجيب عن الأسئلة الرهيبة المُحَيِّرَة، من أين تأتى هذه الموجودات وإلى أين المصير ولِمَ لا تلبث هنا بل تمضى وترحل مسرعة؟ ويوضح معاني ذلك الكتاب الكبير ويفسّر حكمة آياته التكوينية. أي يقتضى داعياً عظيماً، ومنادياً صادقاً، وأستاذاً محققاً، ومعلماً بارعاً، فالكون من حيث هذا الاقتضاء يدلّ ويشهد شهادة قوية وكلية على صدق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصوابه الذي هو أفضل من أتم هذه الوظائف والمهمات. وعلى كونه أفضل وأصدق مبعوث لرب العالمين. فيشهد الكون قائلاً: أشهد أنّ محمداً رسول الله."60
ويورد بديع الزمان أدلة عديدة على الحشر وعلى بعث الأموات، وتستند معظم هذه الأدلّة إلى تجليات الأسماء الحسنى في الكون. ويستطيع القراء مراجعة الكلمة العاشرة والكلمة التاسعة والعشرين في هذا الخصوص. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى دليلين من هذه الأدلة المتعلقة بكتاب الكون. والقسم الثاني متعلق بالقدرة الإلهية:
"أي إنْ لم يحدث الحشر فإنّ جميع المعاني الحَقَّة لكتاب الكون التي كتبت بقلم القَدر سوف تمسخ وتفسد! وهذا لا يمكن أنْ يكون مطلقاً، وليس له احتمال قط، بل هو محال في محال. كإنكار هذه الكائنات، بل هو هذيان ليس إلاّ."61
إنّ كل ذي شعور يأتي إلى هذه الدنيا المَضِيف، ويفتح عينه يرى:
قدرة تمسك الكون كله في قبضتها، وتضم علماً أزلياً مطلقاً لا يضل ولا ينسى وحكمة سرمدية لا عبث فيها إطلاقاً وتشمل عناية بالغة، بحيث تجعل كل فرد من أفراد جيش الذرات منجذباً جذبة مولوية، فتستخدمها في وظائف شتى، وتجرى في اللحظة نفسها الكرة الأرضية في دائرة واسعة تبلغ مسافتها أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة وتديرها كالعاشق المولوى المجذوب بالقانون نفسه.
وإذ هي تجلب محاصيل المواسم إلى الحيوانات والإنسان، تجعل بالقانون نفسه في اللحظة نفسها الشمس مكوكاً ودولاباً وتديرها في مركزها دوران منجذب عاشق أيضاً مسخرة النجوم السيارة التي هي أفراد جيش المنظومة الشمسية في خدمات ووظائف جليلة بكمال الميزان والانتظام.
وإن القدرة نفسها تكتب بقانون الحكمة نفسها في ذات اللحظة مئات الألوف من الأنواع على صحيفة الأرض كافة، والتي كل منها بمثابة مئات الألوف من الكتب، تكتبها معاً ومتداخلة، وبلا التباس ولا سهو، مظهرة بها ألوف نماذج الحشر الأعظم."62
ويعطي بديع الزمان الدليل الآتي حول الإيمان بالملائكة:
"إنْ قلت: أية آيات كتاب الكائنات تَدُلُّ على وجود معتبرين ومتحيّرين ومتفكّرين ومسبحّين من غير الإنسان؟ وأي سطرٍ من ذلك الكتاب يشير إليه؟.
قيل لك: آية النظام في سطر الميزان من صحيفة الحكمة.
ألا ترى أنّك إذا ذهبت إلى المسرح -مثلا- فرأيت فيه أنواعاً كثيرة من الغرائب التي تتحير فيها الأنظارُ، وأصنافاً من الملاهي التي تستحسنها الأسماعُ، وأقساماً متنوعة من السحر والشعبذة التي تتلذذ بها العقول والخيال. وهكذا من كل ما يتلذذ به ما لا يحدُّ من لطائف الإنسان وحواسه وحسياته، ثم نظرت في ساحة محل التمثيل، فما رأيت إلاّ صبياناً صُماً عُمياً مفلوجي الحواس والحسيات إلاّ قليلا منهم. فبالضرورة العرفية تتفطن وتتيقَّن بأنّ خلف هذه الحُجُب والأستار المرسلة على وجوه الجدار عقلاء مختلفون في الأذواق والمشارب لهم حواسّ سليمة جاءوا للتنزّه، يشتاقون لكلّ ما أبدع وشهر في ذلك المجلس، ويرونك والتمثيل من حيث لا ترونهم.
فإذا تفطّنت لسرّ التمثيل، فانظر من دار الدنيا إلى هذه المصنوعات. فمنها كزرابي مبثوثة، وفُرُشٍ مرفوعة، وحُلَل ملبوسة، وحلية منثورة، وصحائف منشورة.. ومنها أزاهير وثمرات اصطفت؛ تدعو بألوانها وطعومها وروائحها ذوي الحياة وأصحاب الحاجات وتدعو بنقوشها وزينتها وصنعتها أولى الألباب وذوي الاعتبار... ومنها نباتات شمّرت عن سوقها لوظيفة خلْقَتها، وحيوانات قامت على أرجلها لوظيفة عبوديتها، وأكثرها لا تشعر بما أودع في أنفسها من المحاسن الرائقة واللطائف الفائقة.
فليست تلك اللطائفُ والمحاسن لِحَمَلَتِها البُهْمُ العُجْمُ، بل ما هي إلاّ لغيرها السميع البصير... ومنها إلى ما لا يحد ولا يعد. فمع كل هذه الحشمة الجلابة والزينة الجذابة، وأنواع التلطيفات والتوددات، وأنواع التحببات والتعرفات، وأقسام التعهدات والتعمدات وأصناف التزينات والتبسمات وأشكال الإشارات والجلوات، وغير ذلك من ألسنة الحال التي كادت أنْ تنطق بالقال مع أنّه لا نرى ظاهراً في ساحة الدنيا من ذوي الاعتبار والابتصار إلاّ هؤلاء الثقلين اللذين صيرت الغفلة أكثرهم كصبيانٍ صمٍ عميٍ فلج في ظلمات طاغوت الطبيعة يعمهون.
فبالحدس الصادق وبالضرورة القطعية وبالبداهة العقلية، لابد أنْ يكون الكون مشحوناً من ذوي الأرواح المعتبرين المسبّحين مما عدا الثقلين."63
القدر الإلهي وكتابة كتاب الكون
الأدلة التي يقدمها بديع الزمان على "القدر الإلهي" أو "القضاء والقدر" تحوي نظرات مبصرات نفاذة حول استمرار الخلق في الكون، أي حول كتابة الكون. كتب قائلا:
"إنّ كلّ شيء قبل كونه وبعد كونه مكتوب في كتاب، يصرّح بهذا القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمة أمثال ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾الأنعام:59 وتصدّق هذا الحكم القرآني الكائنات قاطبة، التي هي قرآن القدرة الإلهية الكبير، بآيات النظام والميزان والانتظام والامتياز والتصوير والتزيين وأمثالها من الآيات التكوينية.
نعم! إن كتابات كتاب الكائنات المنظومة وموزونات آياتها تشهد على أنّ كلّ شيء مكتوب. أما الدليل على أنّ كلّ شيء مكتوب ومقدّر قبل وجوده وكونه، فهو جميع المبادئ والبذور وجميع المقادير والصور شواهد صدق. إذ ما البذور إلاّ صُنَيْدِقَاتٌ لطيفة أبدعها معمل (ك.ن) أودع فيها القدر فُهَيْرِسَ رسمه، وتبني القدرة -حسب هندسة القدر- معجزاتها العظيمة على تلك البُذَيْرَات، مستخدمة الذرات. بمعنى أنّ كل ما سيجري على الشجرة من أمور مع جميع وقائعها، في حكم المكتوب في بذرتها. لأن البذور بسيطة ومتشابهة مادةً، فلا اختلاف بينها."64
"أما الدليل على أن تأريخ حياة كل شيء، بعد وجوده وكونه، مكتوب؛ فهو جميع الثمرات التي تُخْبِر عن الكِتاب المبين والإمام المبين. والقوة الحافظة للإنسان التي تشير إلى اللوح المحفوظ وتُخْبِر عنه، كل منها شاهد صادق، وأمارة وعلامة على ذلك.
نعم! إنّ كلّ ثمرة تُكتب في نواته -التي هي في حكم قلبها- مقدّرات حياة الشجرة ومستقبلها أيضاً."65
و "الكتاب المبين الذي هو عنوان الإرادة والأوامر التكوينية". بينما "الإمام المبين الذي هو عنوان الأمر والعلم الإلهي".66 و "سِجِلٌّ للقدر الإلهي، وكراس دساتيره".67
ومع أنّ بديع الزمان ذكر في كتابه (المثنوي العربي النوري) عند شرحه لـ "الكتاب المبين" أنّه "كتاب العلم"، إلاّ أنّه ذكر في الهامش الطويل حول هذا الموضوع في مقدمة رسالته حول حركة الذرات بأن كلا التعبيرين الواردين في القرآن هما بمعنى "عنوان العلم الإلهي". ويستنتج أن "الكتاب المبين" هو في الأكثر "دفتر القدرة الإلهية وأوامر الخلق".
اضطررت إلى الإطالة بعض الشيء في شرح هذا لكي أبيّن كيف استطاع بديع الزمان بطريقة منهجية مخططة تحويل موضوع غامض وصعب الفهم إلى موضوع يسهل فهمه حالا، كما يقوم في الوقت نفسه بشرح حقائق عديدة أخرى فكتب:
"إن كتاب الكائنات الذي هو 'كتابُ القُدرة' مكتوبٌ على مِسطرِ 'الكتاب المبين' الذي هو 'كتاب العلم' بشهادة أن هذا النظام والميزان المَش

Yıl 2010, Sayı: 2, 69 - 94, 01.12.2010

Öz

Yıl 2010, Sayı: 2, 69 - 94, 01.12.2010

Öz

Toplam 0 adet kaynakça vardır.

Ayrıntılar

Birincil Dil Arapça
Bölüm ARTICLES
Yazarlar

شكران واحدة Bu kişi benim

Yayımlanma Tarihi 1 Aralık 2010
Yayımlandığı Sayı Yıl 2010 Sayı: 2

Kaynak Göster

APA واحدة ش. (2010). كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان - Şükran Vahide: “The Book of the Universe: Its Place and Development in Bediuzzaman’s Thought”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization(2), 69-94.
AMA واحدة ش. كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان - Şükran Vahide: “The Book of the Universe: Its Place and Development in Bediuzzaman’s Thought”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. Aralık 2010;(2):69-94.
Chicago واحدة شكران. “كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان - Şükran Vahide: ‘The Book of the Universe: Its Place and Development in Bediuzzaman’s Thought’”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, sy. 2 (Aralık 2010): 69-94.
EndNote واحدة ش (01 Aralık 2010) كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان - Şükran Vahide: “The Book of the Universe: Its Place and Development in Bediuzzaman’s Thought”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 2 69–94.
IEEE واحدة ش., “كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان - Şükran Vahide: ‘The Book of the Universe: Its Place and Development in Bediuzzaman’s Thought’”, النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, sy. 2, ss. 69–94, Aralık 2010.
ISNAD واحدة شكران. “كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان - Şükran Vahide: ‘The Book of the Universe: Its Place and Development in Bediuzzaman’s Thought’”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 2 (Aralık 2010), 69-94.
JAMA واحدة ش. كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان - Şükran Vahide: “The Book of the Universe: Its Place and Development in Bediuzzaman’s Thought”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2010;:69–94.
MLA واحدة شكران. “كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان - Şükran Vahide: ‘The Book of the Universe: Its Place and Development in Bediuzzaman’s Thought’”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, sy. 2, 2010, ss. 69-94.
Vancouver واحدة ش. كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان - Şükran Vahide: “The Book of the Universe: Its Place and Development in Bediuzzaman’s Thought”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2010(2):69-94.