BibTex RIS Kaynak Göster

عالم الغيب في المنظور النورسي - ‘Imaduddin Khalil: The World of the Unseen as Regarded by Nursi

Yıl 2010, Cilt: 1 Sayı: 1, 69 - 92, 01.06.2010

Öz

عالم الغيب في المنظور النورسي
د. عماد الدين خليل[1]
[ 1 ]
ثمة ملمح جمالي يؤكد نفسه المرة تلو المرة في معطيات النورسي عن عالم الغيب، يعرضه بصيغ شتى، ومن زوايا مختلفة.. وهذا الملمح في حقيقة الأمر ليس سوى إحدى ثوابت الرؤية الإيمانية للكون والحياة والإنسان، ولمغزى الوجود والمصير.
إن ما يتشكل في عالم الشهادة قبالتنا.. إزاء أحاسيسنا ووعينا، من لمسات جمالية، لا يعدو أن يكون شاهداً مجتزء محدوداً من أصول كلية كاملة لا نهائية، توجد في عالم الغيب.. وانعكاساً للمطلق على مرآة الوجود التي لن يكون بمقدورها أن تستوعب الفيض الجميل، فلا تتلقى منه سوى الأشتات والتفاريق!
وهذا يكفي على أية حال لأنه يجيء موازياً لقدرات الإنسان واستعداداته للتلقي إن على مستوى الحس أو على مستوى العقل والروح والوجدان.. كما أنه –في هذه الحالة– يحمل بطانته الأخلاقية من حيث إنه لا يتيسر بهذا القدر المعلوم، إلا وفاقاً للجهد المبذول في هذا العالم. فبقدر ما ازدادت نسبة الجهد في النوع والكم، أتيح للإنسان منحة أكبر من جماليات عالم الغيب التي لا تعد ولا تحصى.
والأمر قبل هذا وبعده ليس سوى شاهد فحسب على ما ينطوي عليه الوجود غير المنظور من كنوز مخبوءة ما سمعتها أذن ولا رأتها عين، ولا خطرت على قلب بشر.. هذه الكنوز التي تومض دراريها من بعيد بهذا اللون الجميل أو تلك الإشارة الضوئية المدهشة.. تماماً كما تومض الجواهر والأحجار الثمينة وهي تتلألأ من بعيد وسط مهرجان من الأضواء والألوان والظلال.
إن المرء ليتذكر هنا رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في معراجه القدسي إلى سدرة المنتهى.. يقول صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن بعض ما شهده هناك: "فغشيها ألوان لا أدري ما هي"[2] إذن فإننا لا نعرف من عالم اللون الجميل سوى نماذج محدودة فحسب، بينما هناك في العمق الكوني ألوان أخرى لن يكون بمقدور لغات العالم كلها أن تصفها أو تنقل انعكاساتها إلينا.. وغير الألوان هناك ألوف المفردات الجميلة، بل ملايينها، تنتشر في منجم الغيب السخي في الكم والنوع، بما تغدو إزاءها كل جماليات العالم المشهود قطرات في بجر لجي مثقل بالجواهر واللآلئ واليواقيت والانعكاسات اللونية والخفقان الجميل الذي لم يتهيأ للإنسان أن يتلقى شحناته الكاملة بعد.
كأن الله جل في علاه يريد لنا أن نتذوق جانباً من عطائه الكريم الموعود.. حيث تصير الجنة الفرصة الكاملة للتكشف الجمالي الباهر.. الحلم الذي يملأ قلوب المؤمنين بالعشق، ويدفعهم إلى تقديم كل ما يقدرون عليه من أجل الفوز بالنعيم الكبير ذاك.
إن عالمنا المشهود إذن ينبئ بمراياه عن إشارات فحسب مما يكون هناك.. وما يكون هناك لا تكاد تصفه لغة أو يحيط به خيال.
ولكون النورسي واحداً من أكثر عشاق الجمال في هذا العالم لهفة وانبهاراً وإعجاباً وتواجداً، فإنه طالما حدثنا في كلماته عن جوانب ولمحات مما يجري هناك.. إنها ساحته الأثيرة وسياحته التي يحبها حتى أعمق طبقة في روحه.. وهو يعرف كيف يأخذ بأيدينا –بمحبة– إلى هناك، ويشعل في قلوب قرائه الشوق ليوم تتمزق فيه حجب الدنيا وتتكشف الأستار.. معتمداً دائماً مأثورات القرآن الكريم والسنة الشريفة، مضيفاً إليها قدراته المبدعة على التحليل والاستنتاج، وترتيب التفاصيل والجزئيات.
[ 2 ]
في مساحات واسعة من "كلماته" يتحدث النورسي عن جماليات عالم الغيب: حيناً عن الموت والحياة، وحيناً عن البعث والنشور.. وحيناً عن الملائكة والأرواح، وحيناً عن الجنة والنعيم.. ثم هو قبل هذا ومعه وبعده، يقف طويلاً إزاء الذات الإلهية، جلت وتباركت في علاها، لكي يحكي لنا، استناداً إلى معطيات الكتاب والسنة، وتجليات أسماء الله الحسنى، عن القيم والمفردات الجميلة ؛ بل عن الفيض الجميل الذي يتدفق في قلب الكون بما لا أول له ولا آخر، ولا بدء له ولا انتهاء، عن الجزاء الأوفى.. الدرجة القمة التي لا يبلغها إلا الأنبياء والشهداء والقديسون، إذ تؤثرهم رحمة الله سبحانه وعدله بالرضا الكامل، والنظر إلى الوجه الكريم جل في علاه، حيث لن يكون بمقدور لغة في العالم أن تحكي لنا ما تهبه هذه الرؤية للروح البشري وهو يتلقى المنحة الكبرى.
يختصر النورسي إشكالية القدرة النسبية المحدودة لعالم الشهادة على تلقي المعطى الغيبي بهذه الكلمات: "الصور المنعكسة للأرواح النورانية، هذه الصور حية، وهي عين في الوقت نفسه، ولكن لأن ظهورها يكون وفق قابليات المرايا، فالمرآة لا تسع ماهية الروح بالذات."[3]
تلك هي المسألة: المرايا التي لا تملك القدرة على استيعاب ماهية اللا مرئي، لذا فهي لا تعكس لنا منه سوى جزيئات وأشتات وتفاريق..
ومع ذلك فإن هذا يكفي، ما دام يمنحنا الدلالة المؤكدة، بشفرته المحدودة هذه، على عالم الغيب المترع صفاءً وعطاءً وجمالاً..
إلا أن النورسي لا يسلم بهذا، وإنما يمضي لكي يطرق أبواب الغيب مستعيناً بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم متذرعاً –أيضاً– برؤيته النقية كالبلور..
بقدرته على الإيغال في المجاهيل.. بنَفسه الطويل القدير على المقارنة والاستنتاج والتحليل والتركيب، لكن ما يلبث أن يحدثنا، وهو هناك، عن هذه المفردة أو تلك من جماليات عالم مغيب لا يكاد الشاهد المنظور أن يكون هباءة من خضمه الذي لا شطآن له..
وحديث النورسي ها هنا ينفسح ويطول.. وهو يتحرك لكي يتعامل مع حشود المعطيات الغيبية، على مساحات واسعة خصبة من "كلماته".. فليس –إذن– غير استدعاء بعض الشواهد فحسب، من أجل الإيجاز الذي يحتمه بحث كهذا.
يتحدث في "الغصن الرابع" من "الكلمة الرابعة والعشرين" عن الدور الذي تمارسه الملائكة في قصر الكون الكبير.. إنهم "لا مراتب لهم في الرقي بالمجاهدة، إذ لكل منهم مقام ثابت ورتبة معينة، إلا أن لهم ذوقاً خاصاً في عملهم نفسه، وهم يستقبلون الفيوض الربانية –حسب درجاتهم– في عبادتهم نفسها، بمعنى أن أجرة خدماتهم مندرجة في عين أعمالهم. إذ كما يتلذذ الإنسان من الماء والهواء والضياء والغذاء، كذلك الملائكة، يتلذذون ويتغذون وينعمون بأنوار الذكر والتسبيح والحمد والعبادة والمعرفة والمحبة، لأنهم مخلوقون من نور، فيكفيهم النور غذاءً، بل حتى الروائح الطيبة القريبة من النور، هي الأخرى نوع من غذائهم حيث يسرون بها.. ثم أن للملائكة سعادة عظمى إلى درجة لا يدركها عقل البشر، ولا يستطيع أن يعرفها إلا الملك نفسه، وذلك فيما يعملون من عمل بأمر معبودهم.. والإشراف الذي يزاولونه بنظره، والشرف الذي يغنمونه بانتسابهم إليه، والتفسح والتنزه الذي ينالونه بمطالعة ملكه وملكوته، والتنعم الذي يحصلون عليه بمشاهدة تجليات جماله وجلاله.."[4]
وفي مقدمة الكلمة "التاسعة والعشرين" يسوق هذه المقارنة عن عالم الملائكة: "رغم ضآلة كرتنا الأرضية وصغرها قياساً إلى السماء، فإن ملأها بمخلوقات ذوات مشاعر –بين حين وآخر– وإخلاءها منهم، وتزيينها بآخرين جدد يشير، بل يصرح: أن السماوات ذات البروج المشيدة، وكأنها قصور مزينة، لابد أنها ملأى أيضاً بذوي حياة مدركين واعين، الذين هم نور الوجود، ومن ذوي الشعور الذين هم ضياء الأحياء، وأن تلك المخلوقات –كالإنس والجن– هم كذلك: مشاهدو قصر هذا العالم الفخم، ومطالعو كتاب الكون هذا، والداعون الأدلاء إلى سلطان الربوبية ويمثلون بعبوديتهم الكلية الشاملة: تسابيح الكائنات وأوراد الموجودات أجل إن تنوع هذه الكائنات يدل على وجود الملائكة، لأن تزيين الكائنات بدقائق الصنعة المبدعة التي لا تعد ولا تحصى، وبمحاسن ذات معان ونقوش حكيمة، يتطلب –بالبداهة– أنظار متفكرين، ومستحسنين، ومعجبين مقدرين، أي يستدعي وجودهم.
نعم! كما أن الجمال يطلب العاشق، والطعام يعطى للجائع، فلابد أن غذاء الأرواح وقوت القلوب في هذه الصنعة الإلهية الجميلة الرائعة، يدل على وجود الملائكة والعالم الروحاني ويتوجه إليهم. ولما كانت هذه التزيينات غير النهائية في الكون تتطلب تأملاً وعبودية غير محدودة.. فلابد أن تكون هناك أنواع غير نهائية من (الملائكة) وأجناس غير محدودة من (الروحانيات)، كي يعمروا بصفوفهم المتراصة ويملأوا هذا المسجد الكبير، هذا العالم، هذا الكون."[5]
إننا في النصين السابقين اللذين يتحدثان عن الملائكة، نجد أنفسنا قبالة غنى ملحوظ في المفردات والتعابير الجمالية، أو المستمدة من عالم الجمال وظلاله وايحاءاته: الذوق، الفيوض الربانية، التلذذ، التنعم، الأنوار، المعرفة، المحبة، النور، الروائح الطيبة، المسرة، التفسح، التنزه، مطالعة الملك والملكوت، مشاهدة تجليات الجمال والجلال، التزيين، البروج المشيدة، القصور المزينة، مشاهدو قصر العالم الفخم، مطالعو كتاب الكون، تزيين الكائنات بدقائق الصنعة المبدعة، محاسن ذات معان، ونقوش حكيمة، مستحسنون، معجبون، الجمال الذي يطلب العاشق، الصنعة الإلهية الرائعة، التزيينات غير النهائية في الكون.
فإذا كنا نجد في مقطعين فقط، مما يتحدث به النورسي عن عالم الغيب، ويخص بهما الملائكة، ما يقرب من الثلاثين مفردة وتعبير جمالي.. فلنا أن نتصور ما تنطوي عليه المقاطع الخصبة التي تتحدث عن معطيات الغيب عبر "الكلمات" من بدئها حتى منتهاها.. إن النورسي يستمد مفرداته من قاموس الجمال وهو يجول في عالم الغيب.. يستدعيها لكي تعينه على صياغة الخطاب عن دنيا تبث زينة وبهجة وشفافية ونوراً.. فليس ثمة غير المفردة الجمالية ما يعين على التواصل مع هذا العالم، أو مقاربته.
[ 3 ]
والنورسي يجد في ظاهرة الموت والحياة "أسطع معجزة من معجزات القدرة الربانية وأجملها."[6] إنها رحلة الانبعاث والزوال.. هذا التفجر المترع حيوية وخفقاناً، والذي ينبثق من قلب السكون والهمود والتلاشي بإرادة الله، لهو واحد من أشد الظواهر الجمالية غرابة وإثارة.. وسواء عاينا الظاهرة الفذة في دنيا النبات والحيوان.. أو في عالم الإنسان.. أو عبر تقلب السدم والمجرات والذرات والجزئيات، ودوران الشمس والقمر، وتعاقب الغروب والشروق، ورحلة الليل والنهار.. فإننا نجد أنفسنا قبالة حالة مترعة بالقيم الجمالية.. ويزيدها غرابة وجمالاً أنها تقيم جسراً بين عالمي الغيب والشهادة، فتتخلق مفرداتها وتتشكل إزاء حواسنا.. قبالتنا تماماً.. لكن جذورها.. جذورها المغيبة.. توغل هناك في عالم الغيب، بحيث لا يعرف إلا الله سبحانه كيف يتأتى للظلمة أن تمنح النور، وللموت أن يهب الحياة ؟ ! إنها –إذن– وكما يقول النورسي "أسطع معجزة من معجزات القدرة الربانية وأجملها."
يمضي النورسي في معاينة الظاهرة وسبرها فيرى أن الحياة " كالبؤرة التي تجمع فيها الأشعة الضوئية المختلفة، فتتداخل الصفات المتنوعة في الحياة بعضها في بعض، تداخلاً يجعل كل صفة منها عين الأخرى. فكأن الحياة بكاملها (علم) كما أنها (قدرة) في الوقت نفسه، وهي (حكمة) أو (رحمة) سواء بسواء.. نعم.. إننا نرى أمامنا ماثلة للعيان أنواعاً لا تعد ولا تحصى من "الحياة" تخلق كل حين، وإن أرواحها –التي هي أصولها وذواتها– تخلق دفعة واحدة من العدم، وترسل أنواعاً غفيرة من الأحياء إلى ميدان الحياة مباشرة.."[7]
والموت.. " ليس عدماً ولا إعداماً، ولا فناءً، ولا لعبة العبث، ولا انقراضاً بالذات من غير فاعل، بل هو تسريح من العمل، من لدن فاعل حكيم، وهو استبدال مكان بمكان، وتبديل جسم بجسم، وانتهاء من وظيفة، وانطلاق من سجن الجسم، وخلق منتظم جديد وفق الحكمة الإلهية."[8]
والموت برهان قاطع على وحدانية الله جل في علاه وعلى سرمديته، فكما أن الأحياء "تدل بوجودها على الخالق الحي" فإنها تشهد بموتها على "سرمديته ووحدانيته."
ويضرب النورسي على ذلك مثلاً: سطح الأرض، ونحن نلمح في "شاهده" وفي مفردات هذا الشاهد، معجزة الفناء والانبعاث، وإبداعية التقلب بين الموات والحياة، وهي تنطوي على جمالياتها الباهرة التي تأسر الألباب: "إن النظام الرائع الباسط هيمنته على الأرض بأسرها، والذي يبدو لنا من خلال مظاهره عياناً، يشهد شهادة صادقة على الصانع القدير. فعندما يسدل الشتاء كفنه الثلجي الأبيض على وجه الأرض الربيعي، وتموت الأحياء التي كانت تزخر بالحياة فوقها، فإن منظر هذا الموت ينقل نظر الإنسان إلى أبعد من اللحظة الراهنة، فيركب متن الخيال ليذهب بعيداً إلى الماضي الذي درجت إليه جنائز كل ربيع راحل، فتتفتح عندئذ أمام النظر مشاهد من الموت والحياة أوسع من هذا المنظر المحصور في الحاضر الراهن. لأن كل ربيع راحل.. كان مشحوناً ملء الأرض بمعجزات القدرة الإلهية، وهو يشعر الإنسان بمجيء موجودات تتدفق بالحياة وتملأ الأرض كلها في ربيع مقبل.."[9]
إن هذا كله ليس سوى دلالة على "الحشر" الكبير الذي سيعقب دمار الحياة على الأرض.. وهو واحد من أكثر الحقائق الغيبية في المنظور الإسلامي ثقلاً وحضوراً.
وما يهمنا هنا ليس الجانب العقدي للظاهرة، وإنما بُعدها الجمالي في المنظور النورسي الذي يعرف كيف ينقب عن ملامح الجمال وخطوطه وحيثياته في كل حدث أو شيء أو ظاهرة أو موجود.. ويكفي أن يكون " الحشر " انبعاثاً بعد الخمود الأخير للعالم، لكي ينطوي على البعد الجميل.
والنورسي يرى كيف "أن الجمال البديع الخالد الأبدي الذي ليس له مثيل يطلب خلود مشتاقيه وبقاءهم وهم كالمرآة العاكسة لذلك الجمال. وإن الصنعة الكاملة الخالدة غير الناقصة تستدعي دوام مناديها المتفكرين.. لذا فالروح باقية بصحبة ذلك الجمال.. في طريق الخلود والأبدية."[10] بل إن أبسط المخلوقات –كذلك– لم تخلق للفناء، بل لها نوع من البقاء. فالزهرة البسيطة مثلاً التي لا تملك روحاً مثلنا، هي أيضاً عندما ترحل ظاهراً من الوجود، تبقى صورتها محفوظة في كثير من الأذهان، كما يدوم قانون تراكيبها في مئات من بذيراتها المتناهية في الصغر، فتمثل بذلك نموذجاً لنوع من البقاء بآلاف من الأوجه."[11]
وهو يجد أن جمالية التناسق الكوني للخلق تقوم على "القصد".. " فإن لم تكن هناك حياة أخرى وسعادة خالدة، فماذا يعني هذا النظام الرصين ؟ إنه سيبقى مجرد صورة ضعيفة باهتة واهية.. وستذهب المعنويات والروابط والنسب –التي هي روح ذلك النظام والتناسق البديع– هباءً منثوراً."[12] كما أنه طالما أكد على انتفاء العبثية في الخلق الذي صيغ على "أرق صورة وأجمل كيفية" والذي حمل فيه الإنسان استعداداً أصيلاً للكمال والخلود. ويجيء الحشر لكي يؤكد مصداقية هذا كله، وإلا فهو "الإسراف والعبث" وانتفاء الحكمة من الخلق.. وحاشا لله.[13]
وهو يعود لكي يؤكد المرة تلو المرة على ما تشهده الحياة الدنيا من " تبدلات وتحولات في كثير من الأنواع، حتى في الليل والنهار، وفي الشتاء والربيع.. وهي تشابه الحشر والنشر، وهي نوع من القيامة لكل منها، تشعر بحدوث القيامة الكبرى وتخبر عنها رمزاً."[14] وأن الذي "زين بستان الربيع العظيم الواسع بمئات الآلاف من نقوش الحشر، يتوج بها هامة الكرة الأرضية كأنها زهرة واحدة، فيظهر لنا جمال صنعته وكمال حكمته." هل يجرؤ أحد ليقول لهذا القدير ذي الجلال "كيف يحدث القيامة ؟ أو كيف يبدل هذه الدنيا بآخرة؟"[15]
والنورسي يعاين الحقيقة مقارنة بالصورة فيرى أنها مهما كانت ضعيفة فإنها لا تموت أبداً، ولا يمكن أن تمحى كالصورة، بل تسير وتجول في الصور والتشخصات والأشكال المختلفة، إذ تكبر وتظهر كلما تقدمت، بعكس الصورة فإنها تتهرأ وتهزل وتتمزق وتتجدد لتظهر بحلة جميلة جديدة تلائم قوام الحقيقة الثابتة الكبيرة. وهو يخلص إلى القول بأن "الحقيقة والصورة تتناسبان عكسياً زيادة ونقصاناً، أي كلما أخشوشنت الصورة رقت الحقيقة، وكلما ضعفت الصورة تقوت الحقيقة بالنسبة نفسها، وهذا قانون شامل لجميع الأشياء الداخلة في قانون التكامل. فليأتين ذلك الزمن الذي يتمزق فيه –بإذن الفاطر الجليل– عالم الشهادة الذي هو صورة لحقيقة الكائنات العظمى وحشر لها، ومن ثم يتجدد بصورة أجمل.."[16]
كما أنه يلاحظ اصطراع الأضداد في هذا العالم: كالخير والشر، والحسن والقبح، والنفع والضر، والكمال والنقص، والضياء والظلمة، والهداية والضلال، والنور والنار، والإيمان والكفر، والطاعة والعصيان، والخوف والمحبة.. وأنه لابد من نهاية لهذا الاصطراع الذي تتميز فيه الأضداد وتفترق، لكي تصب أخيراً في سياقين كبيرين: الجنة والنار.. "ولما كان عالم البقاء سيبنى من عالم الفناء هذا، فالعناصر الأساسية لعالمنا –إذن– ستساق وترسل حتماً إلى البقاء والأبد."[17] في أقصى صيغ التكشف والتنامي والاكتمال حيث لا يعتورها نقص أو غبش أو صيرورة أو تغير أو تحول أو فناء.. ويومها ستأخذ جهنم، باعتبارها المصير الأخير للقبح، صورتها الأبدية البشعة المريعة، وتتجلى الجنة بروعتها وأبهتها الجمالية الخالدة.. وسيمنح أهل هذين الدارين الخالدين وجوداً ثابتاً لا يعتريه تغير ولا انحلال..[18]
ثم هو يخلص بعد هذا كله إلى حتمية البعث.. "نعم. إن الدنيا بعد دمارها ستبعث آخرة، وإن الخالق القدير الذي بناها لأول مرة، سيعمرها تعميراً أجمل من عمارتها الأولى.. فلأنه وعد فسيفي بالوعد حتماً."[19]
[ 4 ]
والنورسي يملك تذوقاً لجماليات الجنة يذكرنا بتذوقات المتصوفة والزهاد.. ولكنه قد يختلف عنهم برؤيته التوازنية التي ترفض الذهاب بعيداً باتجاه الثواب المعنوي على حساب " الحسيات " المؤكدة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. ولأنه الابن البار لهذين المصدرين التأسيسيين لعقيدة الآخرة بثوابها وعقابها.. وبنعيمها وعذابها.. فإنه يعرف كيف يظل وفياً لمعطياتها وهو يجول في المأثورات الخاصة بالجنة، دون أن ينحرف ذات اليمين أو ذات الشمال.. بل نلحظه، منذ البدء، ينطلق من آيات القرآن الكريم التي تخص الجنة واصفاً إياها بأنها "أجمل من الجنة، وألطف من حورها، وأحلى من سلسبيلها" وأن هذه الآيات البينات "لم تدع مزيداً لكلام."[20] لذا فإن كل ما سيفعله هو نوع من المقاربة "لتلك الآيات الساطعة الأزلية الرفيعة الجميلة"، وأنه، انطلاقاً من هناك، سيقدم لقارئه "باقة من مسائل لطيفة هي نماذج أزاهير من جنة القرآن"، معتمداً الترميز، مؤكداً منذ البدء، أن الجنة "شاملة جميع اللذائذ المعنوية، كما هي شاملة جميع اللذائذ المادية، الجسمانية أيضاً."[21] وهو من أجمل تأكيد المعطيات الإيمانية بهذا الخصوص يثير –عادته– سؤالاً، أو اعتراضاً، لكن ما يلبث أن يجيب عليه، فيمنح مقولاته –بهذا التقابل– حيوية وإقناعاً، وينقذها من التجريد.. إنه يسأل: "ما علاقة الجسمانية (المادية) القاصرة الناقصة المتغيرة القلقة المؤلمة، بالأبدية والجنة ؟ فما دامت الروح تكتفي بلذائذها العلوية في الجنة، فلم يلزم حشر جسماني للتلذذ بلذائذ جسمانية؟"
وما يلبث أن يجيب: "على الرغم من كثافة التراب وظلمته، نسبة إلى الماء والهواء والضياء، فهو منشأ لجميع أنواع المصنوعات الإلهية، لذا يسمو ويرتفع معنى فوق سائر العناصر.. وكذا النفس الإنسانية على الرغم من كثافتها، فإنها ترتفع وتسمو على جميع اللطائف الإنسانية بجامعيتها بشرط تزكيتها. فالجسمانية كذلك هي أجمع مرآة لتجليات الأسماء الإلهية، وأكثرها إحاطة وأغناها.. فالآلاف التي لها القدرة على وزن جميع مدخرات خزائن الرحمة الإلهية وتقديرها، إنما هي في الجسمانية، إذ لو لم تكن حاسة الذوق التي في اللسان مثلاً حاوية على آلات لتذوق الرزق بعدد أنواع المطعومات كلها، لما كانت تحس بكل منها، وتتعرف على الاختلاف فيما بينها، ولما كانت تستطيع أن تحس وتميز بعضها عن بعض، وكذا فإن أجهزة معرفة أغلب الأسماء الإلهية المتجلية، والشعور بها وتذوقها وإدراكها إنما هي في الجسمانية. وكذا فإن الاستعدادات والقابليات القادرة على الشعور والإحساس بلذائذ لا منتهى لها، وبأنواع لا حدود لها، إنما هي في الجسمانية.
"يفهم من هذا أن صانع هذه الكائنات، قد أراد أن يعرف بهذه الكائنات جميع خزائن رحمته، ويعلم بها جميع تجليات أسمائه الحسنى، ويذيق بها جميع أنواع نعمه وآلائه، وذلك من خلال مجرى حوادث هذه الكائنات وأنماط التصرف فيها، ومن خلال جامعية استعدادات الإنسان.. فلابد إذن من حوض عظيم يصب فيه سيل الكائنات العظيم هذا.. ولابد من معرض عظيم يعرض فيه ما صنع في مصنع الكائنات هذا.. ولابد من مخزن أبدي تخزن فيه محاصيل مزرعة الدنيا هذه.. أي لابد من دار سعادة تشبه هذه الكائنات إلى حد ما، وتحافظ على جميع أسسها الجسمانية والروحانية.. ولابد أن ذلك الصانع الحكيم والعادل الرحيم، قد خص لذائذ تليق بتلك الآلات الجسمانية أجرة لوظائفها، ومثوبة لخدماتها، وأجراً لعبادتها الخاصة. وإلا تحصل حالة منافية تماماً لحكمته سبحانه وعدالته ورحمته، مما لا ينسجم ولا يليق بجمال رحمته وكمال عدالته مطلقاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً."[22]
ليس هذا فحسب، بل إن اللذائذ والجماليات الحسية، ستتغاير في الكم والنوع، عما كانت عليه في الحياة الدنيا، وستتخذ "صوراً رفيعة جداً، وسامية جداً" وستصير أكثر لطافة وذوقاً، بما يليق بالجنة ويلائم الأبدية، بل إن المواد الجامدة التي لا شعور لها ولا حياة في دار الدنيا هذه، تصبح هناك ذات شعور وحياة[23].
والنورسي يؤكد في أكثر من موضع على "أن التزيينات في هذه الدنيا ليست لأجل التلذذ والتمتع فحسب، إذ لو أذاقتك اللذة ساعة، أذاقتك الألم بفراقها ساعات وساعات، فهي تذيقك مثيرة شهيتك دون أن تشبعك، لقصر عمرها أو لقصر عمرك الذي لا يكفي للشبع." ثم هو يصل إلى القول بأن "هذه الزينة الغالية الثمن والقصيرة العمر هي للعبرة والشكر، وللحض على الوصول إلى تناول أصولها الدائمة، ولغايات أخرى سامية." إن "هذه الزينة في الدنيا بمثابة صور ونماذج للنعم المدخرة لدى الرحمة الإلهية في الجنة للمؤمنين."[24]
والنورسي وهو يتحدث عن جماليات الجنة يوغل في التفاصيل والمقارنات والتشبيهات التي ينسجها –في الأساس– من حقائق القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهو يستجيش كل قدراته العقلية والحسية والروحية والذوقية والوجدانية، لمقاربة الصورة، وتعميق خطوطها ومساحاتها في الحس والخيال والوجدان.
إن قارئ النورسي يجد نفسه، المرة تلو المرة، وهو يسيح في رياض الجنة ونعيمها.. ليس بخياله، ولكن بكينونته، فكأنه يراها بأم عينيه، ويشمها ويتذوقها.
وهو يقدم تشبيهات بديعة من أجل التحقق بالمقاربة المطلوبة، لهذه المفردة أو تلك من مفردات الثواب الكبير والإنعام الإلهي الذي لا تحده حدود، وسنكتفي باثنتين منها حسبما يسمح به المجال.
إنه –مثلاً– يتحدث عن طبقات الجنة الثماني: كل منها أعلى من الأخرى إلا أن عرش الرحمن سقف الكل: "الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلى الجنة وأوسطها وفوقه عرش الرحمن."[25] إذ لو بنيت بيوت متداخلة حول جبل مخروطي، كل منها أعلى من الآخر، كالدوائر المحيطة بالجبل، فإن تلك الدوائر تعلو الواحدة على الأخرى، ولكن لا تمنع الواحدة الأخرى عن رؤية الشمس، فنور الشمس ينفذ في البيوت كلها، كذلك الجنان شبيهة بهذا المثال إلى حد، كما نفهم من الأحاديث الشريفة.[26]
ويقف بعض الوقت عند الأحاديث الشريفة التي تحكي عن المرأة من نساء أهل الجنة يرى مخ سوقها من وراء سبعين حلة، كما يرى الشراب الأحمر من الزجاجة البيضاء،[27] ويتساءل: كيف يعد هذا جمالاً؟ ثم ما يلبث أن يجيب: "إن الحور العين جامعة لكل نوع من أنواع الزينة والحسن والجمال المادية والمعنوية، التي تشبع وترضي كل ما في الإنسان من مشاعر وحواس وقوى ولطائف عاشقة للحسن، ومحبة للذوق، ومفتونة بالزينة، ومشتاقة إلى الجمال. بمعنى أن الحور يلبسن سبعين طرزاً من أقسام زينة الجنة، دون أن يستر أحدها الآخر، إذ ليس من جنسه، بل يبدين جميع مراتب الحسن والجمال المتنوعة بأجسادهن وأنفسهن وأجسامهن بأكثر من سبعين مرتبة حتى يظهرن حقيقة إشارة الآية الكريمة: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾[28]..."[29]
باختصار شديد، فإن "الجنة بجميع لطائفها وجمالها ونعيمها إنما هي تجل لإظهار جمال رحمته –سبحانه– ورحمة جماله!!"[30]
[ 5 ]
والنورسي يمضي مصعداً في قراءة آثار الجمال في كتاب الغيب الكبير التي لا تنقضي عجائبه.. حتى إذا بلغ الذات الإلهية وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى جل جلاله، وتقدست أسماؤه وأفعاله وصفاته.. حاول أن يمد يديه إلى تلامذته لكي يرفعهم معه إلى هناك من أجل أن تُمْلَى بعض انعكاسات الجمال الإلهي على صفحة الوجود المنظور، أو في أغوار الروح والوجود، بقدر ما يطيق الإنسان أن يتعامل معه، ويتملاه، وإلا فإنها الصعقة التي خر لها موسى مغشياً عليه، يوم أن دفعه الشوق العارم لرؤية الله سبحانه فنادى: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ فجاءه الجواب: ﴿لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾.الأعراف:143
لم يطق الجبل العظيم شحنة التجلي الكبرى، فصار هباءً.. فكيف بالإنسان، إنما هي القبسات التي تطيقها قدراته هنا في الأرض، والتي إن تمكنت من اجتياز الامتحان الصعب في حياتها الدنيا، وكتب لها النعيم المقيم في الآخرة، أعطيت استعداداً أكبر بكثير، وبالقدر الذي تستحقه، لتلقي سيال الجمال الإلهي.. قمة الرضوان، وهدف المؤمنين والصديقين والشهداء.. الغالي.. العزيز "فاللذة والحسن والكمال والسعادة الحقيقية في الأوصاف الراقية الرفيعة –إذن– لا ترجع إلى الأقران ولا تنظر إلى الأضداد، بل إلى مظاهرها ومتعلقاتها، فإن جمال رحمة ذي الجمال والكمال، الحي القيوم، الحنان المنان، الرحمن الرحيم، ينظر ويتوجه إلى المرحومين الذين نالوا رحمته، ولا سيما إلى أولئك الذين نالوا أنواع رحمته الواسعة وشفقته الرؤوفة في الجنة الخالدة. وله جل وعلا ما يشبه المحبة –تليق بذاته سبحانه– بمقدار سعادة مخلوقاته وبمدى تنعمهم وفرحهم، وله شؤون سامية مقدسة جميلة منزهة ذات معانٍ تليق به سبحانه وتعالى، ما لا نستطيع أن نذكرها –لعدم وجود إذن شرعي– من التعابير المنزهة للغاية، والمقدسة الجليلة، والتي يعبر عنها باللذة المقدسة والعشق المقدس والفرح المنزه والسرور القدسي، بحيث إن كلا منها هي أسمى وأرفع وأنزه، بما لا يتناهى من درجات العلو والسمو والنزاهة مما يظهر في الكائنات وما تشعر به من العشق والسرور بين الموجودات."[31]
مهما يكن من أمر، فإن النورسي يفرش في " كلماته " لجماليات الذات الإلهية وكمالها، وتجليات أسمائها الحسنى.. مساحات واسعة، ما فرشها بهذا القدر، لحقيقة أخرى في الوجود.. ويصعب على المرء –والحالة هذه– أن يستقصي ما قدمه الرجل في هذا المجال، أو أن يقرأه من ألفه حتى يائه.. ولكنها الشواهد والإشارات، قد تقرب المسألة، وتغني عن الكثير.
ولعل نقطة الارتكاز في معطيات النورسي هنا، تبدو في المساحات الواسعة التي خصصها لأسماء الله الحسنى وتجلياتها في العالم، بالنسب والمواصفات التي يطيقها هذا العالم، وفي حدود الحكمة من الخلق ومعادلات الوجود والمصير: "الحقائق الحقيقية للأشياء، إنما هي الأسماء الإلهية الحسنى، أما ماهية الأشياء فهي ظلال تلك الحقائق."[32]
ويجب أن نلحظ –ابتداءً– أن وصف أسماء الله سبحانه "بالحسنى"، يحمل مغزاه في هذا المجال. إن هذه الصفة مشتقة من قاموس الحسن والجمال، وأن أسماءه –سبحانه– تنطوي بالضرورة على البعد الجمالي، الذي هو خصيصة من خصائص الذات الكاملة المبدعة الخلاقة، جلت في علاها. وليس ثمة أكثر تبياناً وتأكيداً لهذه المسالة التاسيسية لجماليات الحضور الإلهي، من ذلك المثال الذي يضربه النورسي في الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين، والذي نجدنا مضطرين لاقتطاع بعض فقراته، محيلين القارئ الكريم إلى تفاصيله الكاملة في "الكلمات."[33] "إذا أراد فنان بارع في التصوير والنحت، رسم صورة زهرة فائقة الجمال، وعمل تمثال حسناء رائعة الحسن، فإنه يبدأ أول ما يبدأ بتعيين بعض خطوط الشكل العام لكل منهما.. فتعيينه هذا إنما يتم بتنظيم ويعمله بتقدير يستند فيه إلى علم الهندسة فيعين الحدود وفقه.. فهذا التنظيم والتقدير يدلان على أنهما فعلاً بعلم وبحكمة.. وها قد بدأت قابلية الحسن والزينة في الظهور مما يدل على أن الذي يحرك الصنعة والعناية هو إرادة التجميل والتحسين وقصد التزيين.. ولما كان الجمال يحب نفسه، فلابد أنه يريد رؤية نفسه في المرايا، فالنعم الموضوعة على التمثال، والثمرات اللطيفة المعلقة على الصورة، تحمل لمعة براقة من ذلك الجمال المعنوي –كل حسب قابليته– فتظهر تلك اللمعات الساطعة نفسها إلى صاحب الجمال وإلى الآخرين معاً.. وعلى غرار هذا المثال ينظم الصانع الحكيم وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى الجنة والدنيا والسماوات والأرض والنباتات والحيوانات والجن والأنس والملك والروحانيات، أي بتعبير موجز ينظم سبحانه جميع الأشياء كلها وجزئياتها، ينظمها جميعاً بتجليات أسمائه الحسنى، ويعطي لكل منها مقداراً معيناً حتى يجعله يستقرئ اسم "المقدر، المنظم، المصور.." وهكذا بتعيينه سبحانه وتعالى حدود الشكل العام لكل شيء تعييناً دقيقاً يظهر اسم "العليم" "الحكيم". ثم يرسم بمسطرة العلم والحكمة ذلك الشيء ضمن الحدود المعينة، رسماً متقناً إلى حد يظهر معاني الصنع والعناية، أي اسمي: الصانع، الكريم، ثم يضفي على تلك الصورة جمالاً وزينة، بفرشاة العناية وباليد الكريمة للصنعة، فإن كانت الصورة إنساناً أضفى على أعضائه كالعين والأنف والأذن ألواناً من الحسن والجمال، وإن كانت الصورة زهرة أضفى سبحانه إلى أوراقها وأعضائها وخيوطها الرقيقة ألواناً من الجمال والرواء والحسن، وإن كانت الصورة أرضاً منح معادنها ونباتاتها وحيواناتها ألواناً من الزينة وضروباً من الجمال والحسن، وإن كانت الصورة جنة النعيم أسبغ على قصورها ألواناً من الحسن وعلى حورها أنواعاً من الزينة.. وهكذا قس على هذا المنوال.."[34]
في حديثه عن تجليات اسم "الجواد، الجميل" يتساءل النورسي: "اَمِنْ الممكن.. لجمال سرمدي لا مثيل له، وكمال أبدي لا نقص فيه أن لا يطلب دار سعادة ومحل ضيافة يخلد فيه.. المشتاقون إلى الجمال، المعجبون به؟" وما يلبث أن يجيب: "انظر إلى معارض أقطار العالم التي هي مشهد من مشاهد الصنعة الإلهية وتدبر في ما تحمله النباتات والحيوانات على وجه الأرض من إعلانات ربانية، وأنصت إلى الداعين الأدلاء إلى محاسن الربوبية وهم الأنبياء عليهم السلام والأولياء الصالحون، كيف أنهم يرشدون جميعاً الناس لمشاهدة كمال صنعة الصانع ذي الجلال بتشهيرهم صنعته البديعة ويلفتون أنظارهم إليها.
إذن، فلصانع هذا العالم كمال فائق عظيم مثير للإعجاب، خفي مستتر، فهو يريد إظهاره بهذه المصنوعات البديعة لأن الكمال الخفي الذي لا نقص فيه ينبغي الإعلان عنه على رؤوس أشهاد مقدرين مستحسنين معجبين به، وإن الكمال الدائم يقتضي ظهوراً دائماً، وهذا بدوره يستدعي دوام المستحسنين المعجبين، إذ المعجب الذي لا يدوم بقاؤه تسقط في نظره قيمة الكمال. ثم إن هذه الموجودات العجيبة البديعة الدقيقة الرائعة المنتشرة في هذا الكون تدل بوضوح على محاسن الجمال المعنوي الذي لا مثيل له، وتريك كذلك لطائف الحسن الخفي الذي لا نظير له. وان تجلي ذلك الحسن الباهر المنزه، وذلك الجمال الزاهر المقدس يشير إلى كنوز كثيرة خفية موجودة في الأسماء الحسنى، بل في كل اسم منها. ومثلما يطلب هذا الجمال الخفي السامي الذي لا مثيل له، أن يرى محاسنه في مرآة عاكسة، ويشاهدون قيم حسنه ومقاييس جماله في مرآة ذات مشاعر وأشواق إليه، فإنه يريد الظهور والتجلي ليرى جماله المحبوب أيضاً بأنظار الآخرين. أي أن النظر إلى جمال ذاته يستدعي أن يكون من جهتين:
"الأولى: مشاهدة الجمال بالذات في المرايا المختلفة المتعددة الألوان. والأخرى: مشاهدة الجمال بنظر المشاهدين المشتاقين المعجبين المستحسنين أي أن الجمال والحسن يقتضيان الشهود والأشهاد، وهذان يستلزمان وجود المشاهدين المشتاقين والمستحسنين المعجبين. ولما كان الجمال والحسن خالدين سرمديين فإنهما يقتضيان خلود المشتاقين وديمومتهم. لأن الجمال الدائم لا يرضى بالمشتاق الزائل الآفل.. ولما كان ذلك الجود في العطاء غير المحدود، وذلك الحسن في الجمال الذي لا مثيل له، وذلك الكمال الذي لا نقص فيه، يقتضي خلود الشاكرين، وبقاء المشتاقين المستحسنين، ونحن نشاهد رحلة كل شخص واختفاءه بسرعة في دار ضيافة الدنيا هذه، دون أن يستمتع بإحسان ذلك السخاء إلا نزراً يسيراً بما يفتح شهيته فقط، ودون أن يرى من نور ذلك الجمال والكمال إلا لمحة خاطفة. إذن الرحلة منطلقة نحو متنزهات خالدة ومشاهد أبدية."[35]
بهذا يضع النورسي قارئه ليس –فقط– أمام مقتضيات المنطق الذي يحتم مضي الأسباب إلى نتائجها، وإنما أيضاً أمام قوة الواقعة المنظورة ودلالاتها التي يفضي بعضها إلى بعض، بدءً بتشكل الجزئيات والمشاهد الجمالية المحدودة في الحياة الدنيا، وانتهاء بالحالة الكاملة في " متنزهات " النعيم المقيم و"مشاهد الأبدية."
ما من شيء في هذا العالم.. ما من قيمة أو معطى جميل إلا وهو يومئ ويومض، من خلال نسبه المجزوءة، ووجوده المرسوم بمقدار، إلى الصيغة العليا التي يمضي فيها إلى مداه، ويتكشف عن أبعادها المدهشة المذهلة كلها.
إن النورسي، وهو يضع قُرَّاءهُ قبالة الواقعة الكونية، كأنَّمَا يُقَدِّم لهم وسيلة إيضاح هي أقوى وأشد تأثيراً وإقناعاً من مئات من الصفحات تدور فيها الكلمات والمعاني في رحى التحليل والتعليل العقليين اللذين يعانيان من جفاء التجريد ووحشة الانفصال عن خفقان الحياة.. إنه هنا يذكر بمنهج القرآن الكريم نفسه، حيث يجد الإنسان نفسه قبالة الواقعة الكونية تماماً، بكل ثقلها وحضورها، وهنالك لا يمكن لكل ذي قلب ذكي وعقل سليم غير ملتوٍ ولا معاند، إلا أن يذعن للحق المشهود.
يعود النورسي في مقطع آخر للحديث عن تجلي اسم "الجميل والجليل" ويتساءل –كعادته– من أجل استفزاز قارئه، ووضعه في حالة الدهشة والإنكار!! "اَمِنْ الممكن لمبدع هذه الموجودات، وهو العليم المطلق، والقدير المطلق، أن لا يوفي بما أخبر به؟.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.. علماً أن الأمور التي وعد بها.. ليست عسيرة على قدرته قطعاً، بل هي يسيرة وهينة وسهلة، كسهولة إعادة الموجودات التي لا تحصل للربيع السابق، في الربيع المقبل.."[36]
[ 6 ]
ويمضي النورسي يعرض قبالة الوجدان البشري حشوداً متلاحقة من الوقائع والمعطيات المشهودة، تأخذ بالحس والعقل والوجدان وتمنحها القناعة بمصداقية التحول المحتوم من المجزوء إلى الكلي ومن النسبي إلى المطلق . ومن الومضة والإيماءة إلى الحقيقة الأصلية بعيداً عن تكلف الجدل ومماحكته.. " فهل يعقل لحكيم ذي جلال اختار هذا الإنسان من بين المخلوقات، وجعله مخاطباً كلياً له، ومرآة جامعة لأسمائه الحسنى، ومقدراً لما في خزائن رحمته من ينابيع، ومتذوقاً لها ومتعرفاً إليها، والذي عرف –سبحانه– ذاته الجليلة له بجميع أسمائه الحسنى، فأحبه وحبّبه إليه.. أفمن المعقول بعد كل هذا أن لا يرسل ذلك (الحكيم) جل وعلا هذا الإنسان المسكين إلى مملكته الخالدة تلك؟ ولا يسعده في تلك الدار السعيدة بعد أن دعاه إليها؟ أم هل يعقل أن يحمل كل موجود وظائف جمة –ولو كان بذرة– بثقل الشجرة، ويركب عليه حكماً بعدد أزهارها ويقلده مصالح بعدد ثمارها، ثم يجعل غاية وجود تلك الوظائف والحكم والمصالح جميعها مجرد ذلك الجزء الضئيل المتوجه إلى الدنيا. أي يجعل غاية الوجود هي البقاء في الدنيا فقط، الذي لا أهمية له حتى بمثقال حبة من خردل؟ ولا يجعل تلك الوظائف والحكم والمصالح بذوراً لعالم المعنى، ولا مزرعة لعالم الآخرة لتثمر غاياتها الحقيقية اللائقة بها؟ وهل يعقل أن تذهب جميع هذه المهرجانات الرائعة والاحتفالات العظيمة هباءً بلا غاية، وسدى بلا معنى، وعبثاً بلا حكمة ؟ أم هل يعقل أن لا يوجه كلها إلى عالم المعنى وعالم الآخرة لتظهر غاياتها الأصيلة وأثمارها الجديرة بها؟.."[37]
وكما ترى، فإن أسئلة النورسي تتلاحق كالسيل، فتحاصر القارئ وترغمه على قبول الحقيقة، والإذعان لمقولاتها المنظورة، وحيثياتها المتشكلة قبالة السمع والبصر والفؤاد.
وما يلبث النورسي، وهو يعاين أسماء الله الحسنى وتجلياتها في الوجود، أن يرفع هذا النداء المؤثر الذي ينطوي على حشد من الدلالات الجمالية: "يا ربي الرحيم.. لقد أدركت.. أن تجليات الأسماء الحسنى –ذات الجلال والجمال– الظاهرة آثارها في هذه الدنيا، وفي العوالم كافة، ستدوم دواماً أسطع وأبهر في أبد الآباد، وأن تجلياتها –ذات الرحمة– وآلاءها المشاهدة نماذجها في هذا العالم الفاني، ستثمر بأبهى نور وأعظم تألق، وستبقى دوماً في دار السعادة. وأن أولئك المشتاقين الذين يحملونها –في هذه الدنيا القصيرة– بلهفة وشوق، سيرافقونها بالمحبة والود، ويصحبونها إلى الأبد، ويظلون معها خالدين.."[38]
والتجلي، بالنسبة التي يطيقها ويستحقها كل شيء في هذا الكون، يجيء بمثابة إضاءة لهذا الكون.. تمضي وتنتشر لكي تلف الكائنات والأماكن والأزمان كلها بألَقها الجميل: "نعم، إن مثل هذا التجلي، تجلي الحياة الذي هو ضياء شمس الحياة الأولية، لن ينحصر في عالم الشهادة هذا فقط، ولا في هذا الزمان الحاضر، ولا في هذا الوجود الخارجي، بل لابد أن لكل عالم من العوالم مظهراً من مظاهر تجلي ذلك الضياء حسب قابليته. فالكون إذن بجميع عوالمه، حي ومشع مضيء بذلك التجلي، وإلا لأصبح كل من العوالم –كما تراه عين الضلالة– جنازة هائلة مخيفة تحت هذه الدنيا المؤقتة الظاهرة، وعالماً خرباً مظلماً.."[39] لكن الذين ينظرون إلى هذا الكون بنظر العبرة، فإنهم سيستشعرون بوجدانهم وقلوبهم، وبحدس صادق، أن الذي يجمل هذه الكائنات ويزينها بأنواع المحاسن، لاشك أن له جمالاً وكمالاً لا منتهى لهما، ولهذا يظهر الجمال والكمال على فعله[40].
والنورسي يرى أن في فطرة كل واحد منا قد أودعت مفاتيح الأجهزة التي تفتح الكنوز المخفية للأسماء الإلهية الحسنى، فتعرف الله –جل وعلا– بتلك الأسماء وأن هذه الأسماء ركبت في كل واحد منا، من لطائف تجلياتها وبدائع صنعتها، ما يوجب إظهاره أمام أنظار المخلوقات بجوانبه كافة في معرض الدنيا، وأن على الإنسان أن يتجمل بمزايا اللطائف الإنسانية التي منحته إياها تجليات الأسماء، وإبرازها أمام نظر الشاهد الأزلي جل وعلا "مثله في هذا كمثل الجندي الذي يتقلد الشارات المتنوعة التي منحها السلطان في مناسبات رسمية، ويعرضها أمام نظره ليظهر آثار تكرمه عليه وعنايته به."[41]
وهو يعود في (الكلمة الثالثة والعشرين) لكي يجمل الوظائف الإنسانية وأساسيات العبودية في منظومة من الممارسات التي تنطوي جميعاً على بُعد جمالي ملحوظ: التصديق بالطاعة لسلطان الربوبية الظاهر في الكون، والنظر إلى كماله سبحانه ومحاسنه بإعجاب وتعظيم. ثم استنباط العبرة والدروس من بدائع نقوش أسمائه الحسنى القدسية ونشرها وإشاعتها. ثم وزن جواهر الأسماء الربانية ودررها.. بميزان الإدراك والتبصر وتقييمها بأنوار التقدير والعظمة النابعة من القلب، ثم التفكر بإعجاب عند مطالعة أوراق الأرض والسماء وصحائف الموجودات التي هي بمثابة كتابات قلم القدرة. ثم النظر باستحسان بالغ إلى زينة الموجودات والصنائع الجميلة. اللطيفة التي فيها، والتحبب لمعرفة الفاطر ذي الجمال والتلهف إلى الصعود إلى مقام حضور عند الصانع ذي الكمال ونيل التفاته الرباني."[42]
إن المؤمن الحق يرى كيف أن جليلاً جميلاً يظهر في مرآة الموجودات كبرياءه وعظمته وكماله، ويبرز جلاله وجماله، بحيث يجلب إليها الأنظار.. لن يكون أمامه سوى أن يردد "الله أكبر، سبحان الله" و"يسجد سجود من لا يمل، بكل حيرة وإعجاب، وبمحبة ذائبة في الفناء."[43] إن الإنسان بمثل هذه العبادة والتفكر يصبح إنساناً حقاً.. ويصير لائقاً للأمانة الكبرى وخليفة أميناً على الأرض.[44]
بل إن النورسي يدعونا للإنصات إلى كل كائن في هذا الوجود ولسوف نسمعه يرفع النداء إلى الله سبحانه ذي الجلال والجمال.. البحر الهائج والأرض المهتزة بالزلازل تناديان: يا جليل يا جليل.. فراخ الحيوانات في البحر والأرض تترنم: يا جميل يا جميل.. السماء تنادي: يا جليل ذو الجمال.. الأرض تردد: يا جميل ذو الجلال.. الربيع وهو يجأر بالدعاء: يا مصور، يا منور، يا محسن، يا مزين "وأسال إنساناً هو حقاً إنسان وشاهد كيف يقرأ جميع الأسماء الحسنى، فهي مكتوبة على جبهته، حتى إذا أنعمت النظر ستقرؤها أنت بنفسك. وكأن الكون كله موسيقى متناغمة الألحان لذكر عظيم. فامتزاج أصغر نغمة وأوطئها مع أعظم نغمة وأعلاها ينتج لحناً لطيفاً مهيباً."[45]
كما أن النورسي يذكرنا في أكثر من موضع بحقيقة "أن الصنائع الموزونة، المنتظمة الجميلة تستند إلى برنامج في غاية الحسن والإتقان، والبرنامج الكامل المتقن الجميل يستند إلى علم جميل، وإلى ذهن حسن، وإلى قابلية روحية كاملة وهذا يعني أن الجمال المعنوي للروح يظهر في الصنعة بالعلم. فهذه الكائنات وما فيها، مع جميع محاسنها المادية التي لا تعد ولا تحصى، ما هي إلا ترشحات محاسن معنوية وعلمية، وتلك المحاسن والكمال العلمي والمعنوي لاشك أنها جلوات حسن وجمال وكمال سرمدي. ومن المعلوم أن المشع للنور يستلزم أن يكون متنوراً، وكل مضيء يستلزم أن يكون ذا ضوء، والإحسان يرد من الغنى واللطف يظهر من اللطيف. لذا فإضفاء الحسن والجمال على الكائنات"، "ومنح الموجودات أنواعاً من الكمالات المختلفة، يدل على جمال سرمدي كدلالة الضوء على الشمس. ولما كانت الموجودات تجري جريان النهر العظيم وتلتمع بالكمال ثم تمضي. فمثلما يلتمع ذلك النهر بجلوات الشمس، فإن سيل الموجودات هذا يلتمع مؤقتاً بلمعات الحسن والجمال والكمال ثم يمضي إلى شأنه. ويفهم من تعاقب اللمعات بأن جلوات حبابات النهر الجاري وجمالها ليست ذاتية، بل هو جمال ضياء شمس منورة وجلواتها. فالمحاسن والكمالات التي تلتمع مؤقتاً على سيل الكائنات، إنما هي لمعات جمال أسماء من هو نور سرمدي. نعم! تفاني المرآة زوال الموجودات مع التجلي الدائم مع الفيض الملازم، من أظهر الظواهر من أبهر البواهر على أن الجمال الظاهر، أن الكمال الزاهر ليسا ملك المظاهر، من أفصح تبيان من أوضح برهان للجمال المجرد للإحسان المحدد، للواجب الوجود للباقي الودود."[46]
[ 7 ]
ويرى النورسي "أن جميع ما في الوجود، والحياة كلها، وعالم الأرواح، وعالم المثال، مرايا شبه شفافة لإظهار جمال ذلك القدوس الجليل الذي صفاته محيطة بكل شيء، وشؤونه شاملة لكل شيء."[47] بل إن جميع أنواع الحسن والكمال والجمال الموجودة في الكون كله، ما هو إلا ظل ضعيف بالنسبة لكماله الحقيقي.[48] ويتساءل متحدياً: "ترى أي شيء يستطيع أن يتستر عن توجه أحديته التي هي ضمن تجلي صفاته المحيطة وتجلي أفعاله بإرادته الكلية وقدرته المطلقة وعلمه المحيط؟"[49] ثم يخلص إلى القول بأن "الجليل ذا الجمال، والجميل ذا الكمال.. هو أقرب إليك من كل شيء، وأنت بعيد عنه سبحانه بعداً لا حد له" وأن التحقق بالمقاربة لن يتأتى إلا لمن يملك "قوة في القلب وعلواً في العقل."[50]
وتجيء العبادة لتكون معراج المؤمن إلى الله.. "والمثول أمام الجليل ذي الجمال والمعبود ذي الجلال. فأنت عندما تقول (الله أكبر) تمضي معنى وتقطع خيالاً، أو نية، الدنيا والآخرة، حتى تتجرد عن القيود المادية فتصعد مكتسباً مرتبة عبودية كلية.. وتتشرف بنوع من الحضور القلبي والمثول بين يديه تعالى فتنال الحظوة العظمى."[51]
إن معنى العبادة، كما يؤكد النورسي، "هو سجود العبد بمحبة خالصة وبتقدير وإعجاب في الحضرة الإلهية، وأمام كمال الربوبية والقدرة الصمدانية والرحمة الإلهية، مشاهداً بنفسه تقصيره وعجزه وفقره."[52] هذا المعنى الذي ينطوي على حشد من القيم الجمالية تعكسها المفردات التي يعتمدها النورسي . إننا –مثلاً– نجد أنفسنا قبالة "المحبة الخالصة" و"التقدير" و"الإعجاب" و"الكمال"، ما يجعل الممارسة التعبدية تعين على إغناء الخبرة الجمالية للإنسان في مستوياتها العليا.[53]
وتظل أسماء الله الحسنى.. ألف اسم ينطوي على " طبقات حسن وجمال وفضل وكمال كثيرة جداً " بمثابة الوقود الذي يعين على الصعود.. نار العشق التي تشتعل في الحنايا فتدفعها إلى طلب المزيد.. ويصير الكون.. جوهر الكون هو المحبة.. وتتحرك الموجودات بالمحبة.. وتفعل قوانين الانجذاب والجذب والجاذبية فعلها المدهش، فتغمر بالنشوة العليا، الذرات والأفلاك والنجوم والسماوات والشمس والقمر والنباتات والأشجار:
"كل ذرات ا

Yıl 2010, Cilt: 1 Sayı: 1, 69 - 92, 01.06.2010

Öz

Yıl 2010, Cilt: 1 Sayı: 1, 69 - 92, 01.06.2010

Öz

Toplam 0 adet kaynakça vardır.

Ayrıntılar

Birincil Dil Arapça
Bölüm ARTICLES
Yazarlar

د. عماد الدين خليل Bu kişi benim

Yayımlanma Tarihi 1 Haziran 2010
Yayımlandığı Sayı Yıl 2010 Cilt: 1 Sayı: 1

Kaynak Göster

APA خليل د. ع. ا. (2010). عالم الغيب في المنظور النورسي - ‘Imaduddin Khalil: The World of the Unseen as Regarded by Nursi. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, 1(1), 69-92.
AMA خليل دعا. عالم الغيب في المنظور النورسي - ‘Imaduddin Khalil: The World of the Unseen as Regarded by Nursi. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. Haziran 2010;1(1):69-92.
Chicago خليل د. عماد الدين. “عالم الغيب في المنظور النورسي - ‘Imaduddin Khalil: The World of the Unseen As Regarded by Nursi”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 1, sy. 1 (Haziran 2010): 69-92.
EndNote خليل دعا (01 Haziran 2010) عالم الغيب في المنظور النورسي - ‘Imaduddin Khalil: The World of the Unseen as Regarded by Nursi. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 1 1 69–92.
IEEE خليل د. ع. ا., “عالم الغيب في المنظور النورسي - ‘Imaduddin Khalil: The World of the Unseen as Regarded by Nursi”, النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, c. 1, sy. 1, ss. 69–92, 2010.
ISNAD خليل د. عماد الدين. “عالم الغيب في المنظور النورسي - ‘Imaduddin Khalil: The World of the Unseen As Regarded by Nursi”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 1/1 (Haziran 2010), 69-92.
JAMA خليل دعا. عالم الغيب في المنظور النورسي - ‘Imaduddin Khalil: The World of the Unseen as Regarded by Nursi. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2010;1:69–92.
MLA خليل د. عماد الدين. “عالم الغيب في المنظور النورسي - ‘Imaduddin Khalil: The World of the Unseen As Regarded by Nursi”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, c. 1, sy. 1, 2010, ss. 69-92.
Vancouver خليل دعا. عالم الغيب في المنظور النورسي - ‘Imaduddin Khalil: The World of the Unseen as Regarded by Nursi. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2010;1(1):69-92.