المنهج الواقعي في دراسة قضايا الإيمان
رسائل بديع الزمان النُّورْسي أنموذجا
د. بوكاري كندو1
"إنّ سببَ إيرادي التّشبيهَ والتّمثيلَ بصورة حكاياتٍ في هذه الرّسائل هو تقريبُ المعاني إلى الأذهان من ناحية، وإظهارُ مدى معقولية الحقائق الإسلاميّة ومدى تناسبها ورصانتها من ناحية أخرى، فمغزى الحكايات إنّما هو الحقائقُ التّي تنتهي إليها والتّي تدلّ عليها كنايةً، فهي –إذن– ليست حكاياتٍ خياليةً وإنّما حقائقُ صادقةٌ."2
تقديم
يقوم بناءُ الدّين على أسسٍ ثلاثةٍ متلازمةٍ وهي العقيدةُ والشّريعةُ والأخلاقُ؛ فالعقيدةُ أصلٌ يدفع إلى الشّريعة، والشّريعةُ تلبيةٌ لانفعال القلب بالعقيدة، والأخلاقُ ثمرةٌ لهما، وعلى هذا كانت الكلمة الجامعة لرسول الإنسانيّة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم "بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ."3 فإذا كانت الشّريعة متمثّلةً في الجوانب التّعبّديّةِ من الدّين، فإنّ هذه الجوانبَ متوقّفةٌ على معرفة المعبود، ويشير النُّورسي4 بنظره الثّاقبِ إلى هذا المعنى في مقدّمة رسالته "الآية الكبرى"5 أثناء تفسيره لقول الله عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾.الذّاريات:56 "يُفْهَمُ من أسرار هذه الآيةِ الجليلةِ أنّ حكمةَ مجيء الإنسان إلى هذه الدّنيا والغاية منه هي معرفة خالق الكون سبحانه، والإيمان به، والقيام بعبادته، كما أنّ وظيفة فطرته، وفريضة ذمَّته، هي معرفة الله والإيمان به، والتّصديق بوجوده وبوحدانيّته إذعاناً ويقيناً."6
ومن هنا كان المقصدُ الأساسُ لرسالات الأنبياء قاطبةً هو إيقاظَ العقول والقلوب وتهيئتها للعودة إلى عقيدة التوحيد وترسيخَها في النّفس باعتبارها فطرةَ الله التّي فطر النّاس عليها. قال عز وجل: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.الرّوم:30
وهذا هو المنهجُ الرّبّانيُّ الذّي تلقّاه المسلمون بالإذعان والتّسليم عن رسولهم الأمينِ وحياً معصوما من قبل ربّ العالمين.
1. حقيقة المنهج الواقعي:
قام علماءُ الإسلام–بعد ختم النّبوّات بنبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم– بمهام تصحيح كلّ ما يخالف بناءَ الدّين في ذات المسلم في دائرتي التّكاليف الإيمانيّة والتّكاليف العمليّة، بمناهجَ وأساليبَ تفاوتت قوّةً وشمولاً، استعانةً بما يُتيحه العصر من إمكانات.
ونقصد بالمنهج في مجال المعرفة جملةَ الوسائل والأساليب والذّرائع المتّخذة لاكتساب فكرةٍ ما أو إيصالها إلى الغير. ولا يخفى ما للمنهج من أهمّيةٍ، إذ يتوقّف نجاحُ أيِّ مشروع نظريٍّ أو عمليٍّ –إلى حدّ بعيد– على سلامة المنهجِ المتّبعِ بالإضافة إلى سلامة المضمون الفكريّ، ولذلك اعتنى النُّورسي بقضيّة المنهج أيّما اعتناءٍ فقال: "إنّ مقصودَنا ومطلوبَنا هو: ﴿اللهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾،البقرة:255 فمن بين براهينه التّي لا تُعَدُّ نورد هنا أربعةً منها:
البرهانُ الأوّلُ: هو محمّدٌ صلى الله عليه وسلم...
البرهانُ الثّاني: هذا الكونُ وهذا الإنسانُ الأكبرُ، ذلك الكتابُ الكبيرُ المنظورُ.
البرهانُ الثّالثُ: هو القرآنُ الكريمُ، ذلك الكتاب الذّي لا ريب فيه وهو الكلامُ المقدَّسُ.7
البرهانُ الرّابعُ: الوجدانُ الحيُّ، أو الفطرةُ الشّاعرةُ، الذّي يمثّل البرزخَ ونقطةَ اتّصال عالَمي الغيب والشّهادة. فالفطرة الشّاعرة أو الوجدان نافذةٌ إلى العقل يَنشر منها شعاع التّوحيد."8
وتعني الواقعيّةُ في المنهج، التّعاملَ مع الحقائق الموضوعيّة ذات الوجود المستيقَن والأثر الإيجابيّ، لا مع تصوّرات عقليّة مجرَّدة ولا مع مثاليات لا أثر لها في عالم الواقع، وبالتّالي فإنّ بين الواقعيّة والمادّيّة فرقًا لأنّ الفكر المادّيَّ لا يؤمن إلاّ بالمحسوس الذّي يكون في متناول حواسّ الإنسان الخمس.
وتؤكّد "رسائلُ النّور" على قضيّة معرفة الله وتقف عليها بإمعان، وترسم لنا السّبلَ المؤدّيةَ بالمتمعّن فيها إلى معرفته جل جلاله. ويشير النُّورسي في مواضعَ مختلفةٍ إلى أنّ المنهج الذّي قامت عليه رسائلُه هو منهج القرآن الكريم، فإنّ "رسائل النّور ليس مسلكُها مسلك العلماء والحكماء، بل هو مسلكٌ مقتَبسٌ من الإعجاز المعنويّ للقرآن يُخرج زلالَ معرفة الله من كلّ شيء، فيستفيد السّالكُ في رسائل النّور في لحظةٍ ما لا يستفيده سالكُو سائرِ المسالك في سَنَةٍ، وذلك سرٌ من أسرار القرآن يعطيه الله من يشاء من العباد ويَدفع به هجومَ أهل العناد."9
ويزيد النُّورسي توضيحًا لخصوصيّة منهجه في دراسة قضايا الإيمان بعقد مقارنة بينه وبين المناهج المتّبعة لدى أتباع الأديان الأخرى فيقول: "نحن معاشرَ المسلمين خدّام القرآن نتّبع البرهان ونقبل بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائقَ الإيمان، لسنا كمن ترك التّقلّد بالبرهان تقليداً للرّهبان كما هو دأبُ أتباعِ سائرِ الأديان!"10
فلم تنح هذه الرّسائلُ نحو القضايا المجرَّدة الجامدة، والمتتبّع لما ورد فيها يدرك أنّ المنهجيّة الواقعية كانت طابعَها الأساسَ، لم ترد فيها عَرَضًا وإنّما كان ذلك مقصودًا لم يغفل عنه المؤلّفُ لحظة ولم يبتعد عنه قيد أُنملة.
وإذا نحن قلّبنا النّظر فيما ورد في الرّسائل تبيّن لنا أنّ المنهج الواقعيَّ عند النُّورسي يتمثّل في التّعامل مع الحقيقة الإلهيّة متمثّلةً في آثارها الإيجابيّة وفاعليّتها الواقعيّة، ويتعامل مع الحقيقة الكونيّة متمثّلةً في مشاهدها المحسوسة المؤثّرة والمتأثّرة، ويتعامل مع الحقيقة الإنسانيّة متمثّلةً في الأناسي كما هم في عالم الواقع.
ويمكن أن نقول –إجمالاً– إنّ المنهج الواقعيَّ كما تتّضح معالمُه في "رسائل النّور" يتضمّن بُعدين اثنين استرشادا بتوجيهات الوحي القرآنيِّ قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اْلآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾.فصلت:53 وهما:
– البعدُ الآفاقيُّ فـ "يشاهد صاحب هذا النّهج تجلّيات أسماء الله الحسنى، وصفاته الجليلة في مظاهر تلك الدّائرة الآفاقيّة الكونيّة الواسعة، ثمّ ينفذ إلى دائرة النّفس، فيرى أنوار تلك التّجلّيات بمقاييسَ مصغّرةٍ في آفاق كونه القلبيِّ، فيفتح في هذا القلب أقرب طريق إليه تعالى، ويشاهد أنّ القلب حقًّا مرآةُ الصّمد، فيصل إلى مقصوده، ومنتهى أمله."11
– البعدُ الأنفسيُّ وذلك بالانطلاق من "النّفس، ويَصرف صاحبُ هذا السّير نظره عن الخارج، ويحدق في القلب مخترقاً أنانيّته، ثمّ ينفذ منها ويفتح في القلب ومن القلب سبيلاً إلى الحقيقة، ومن هناك ينفذ إلى الآفاق الكونيّةِ فيجدها منوّرةً بنور قلبه، فيصل سريعاً، لأنّ الحقيقة التّي شاهدها في دائرة النّفس يراها بمقياسٍ أكبرَ في الآفاق."12
2. توظيف النُّورسي للمنهج الواقعي في دراسة قضايا الإيمان:
إنّ شأنَ كلِّ قضيّةٍ من قضايا الدّين المنزَّل، لا يقصد منها تقريرها من النّاحية النّظريّة كي يقنع بها من يسير تحت لوائها أو يُفحم من يعارضها أو يحاول التّشويش عليها فحسب، وإنّما يقصد منها بدرجة أولى أن تتحوّل الدّعوةُ إلى كيانٍ حيٍّ تشاهَد مبادئُه وقواعدُه النّظريّةُ في صورة كائنات محسوسة متحرّكة، وفي الفقرات الآتية نرصد طريقة توظيف النُّورسي للمنهج الواقعيِّ في دراسته لقضايا الإيمان من خلال رسائله، وذلك في بعديه الآفاقيِّ والأنفسيِّ.
2. 1. البعد الآفاقي:
إنّ إثبات وجود الكون خطوةٌ ضروريّةٌ قبل الاستدلال به على حقائق الإيمان، وعليه كان النُّورسي حريصا على إثبات ذلك الوجود، فأكّد أنّ وجود الكون ثابت بالآيات القرآنيّة، وذلك انطلاقا من التمييز بين نوعين من الوجود وهما الوجود الإلهيّ ووجود ما سوى الله، أي جميع المخلوقات كما يفيده قوله جل عز وجل: ﴿إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.العلق:1 بدلالة العموم المستفادةِ من حذف المفعول به من فعل ﴿خَلَقَ﴾.فالكون في فكر النُّورسي كلٌّ مركّبٌ من الكائنات الحيّة والميّتة: من الحيوانات والطّيور والنّباتات، ومن السّماوات والأرض، والنّجوم والكواكب والأجرام والأبعاد والأشكال والأوضاع والحركات والآثار والقوى والطّاقات. والظّواهرُ الكونيّةُ هي هذه الحياة والموت، واللّيل والنّهار، والنّور والظّلام، والمطر والبرق والرّعد، والأطوار والأحوال. الكون هو هذا الخلق ذو الوجود الخارجيِّ الذّي أَلِفَهُ الإنسانُ الذّي يعتبر –هو نفسه– عنصرًا من عناصره لئن كان يشترك معه في كثير من أحواله فإنّه لا يتساوى معه بل يعلو عليه قيمة وشأنا بالإيمان،13 والكون مسخَّر له كما في قول الله عز وجل: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾،الجاثية:13 فكان الحديثُ عنه خاصًّا. وقد عُبّر عن الكون في السّياق القرآنيّ في بعض المواضع بالآفاق كما في قوله عز وجل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ﴾.فصّلت:53
يختلف النُّورسي في موقفه من الكون عن التّصوّر الذّي يعتبر الكون عَدَمًا أو شبيها بالعدم على النّحو الذّي نجده في بعض الفكر الصوفي خاصة أو أصحاب وَحْدَةِ الوجود "لأنّه لا يضطرّ إلى إعدام الكائنات ولا إلى سجنها، حيث إنّ أهل وَحدة الوجود توهّموا الكائنات عدماً، فقالوا: لا موجود إلاّ هو، لأجل الوصول إلى الاطمئنان والحضور القلبيِّ، وكذا أهل وحدة الشّهود حيث سجنوا الكائنات في سجن النّسيان فقالوا: لا مشهود إلاّ هو، للوصول إلى الاطمئنان القلبيّ والحضور الدّائميّ."14
كما يتعارض مفهومه للكون مع المفاهيم التّي ترى الكونَ فكرةً مجرّدةً عن الشّكل والقالب، أو هيولى (Hyle) أي مادّة أوّليّة غير مشكّلةٍ، أو صورةً أو مثالاً في العقل اْلمُطْلَقِ، على النّحو الذّي نجده في بعض تيّارات الفلسفة اليونانيّة كالأرسطيّة والأفلاطونيّة.
أولى النُّورسي المعرفةَ الكونيّةَ أهمّيةً كبيرةً سيرًا على المنهج القرآنيِّ الذّي يحثُّ على الانطلاق من الآفاق للعروج إلى عالَم الألوهيّة، فتميّزت هذه المعرفةُ عند المسلمين وافترقت عن مثيلتها في الأفكار المادّيّة الصّرف بخاصيّة جوهريّة هي بُعدها الغيبيُّ، ونقصد بذلك تجاوز المستوى المادّيّ الخالص والنّفاذ إلى الدّلالة الغيبيّة للمحسوسات. وفي هذا الإطار يتجلّى دور العقل والتّفكّر الذّي ركّز النُّورسي على بيانه؛ فممّا ورد في معرض حديثه عن قيمة العقل أنّ "الإنسان – بما مُنح من عقل وفكر– ذو علاقةٍ فطريّةٍ وثيقةٍ بالماضي والمستقبل فضلاً عمّا هو عليه من زمان حاضر حتّى إنّه يتمكّن من أن يذوق لذائذ تلك الأزمنة ويشعر بآلامها، خلافاً للحيوان الذّي لا تعكّر صفوَ لذّته الحاضرة الأحزانُ الواردةُ من الماضي ولا المخاوف المتوقّعة في المستقبل، حيث لم يُمنح الفكرَ."15
وبالفعل، فإنّ عالَم الوجود المادّيّ بأسره لوحةُ تفكّرٍ في عين النُّورسي فكان يحبّ الطّبيعة ويتعلّقُ بها، فيجيل فيها نظره متأملا، وقد بلغ من حبّه للطّبيعة أنّه كان يحصي عناقيدَ ساقٍ نحيفةٍ لعنب متدلّ، بل وحبّات عنقودٍ واحدٍ منها، ويحصي عددَ أغصان شجرة اللّوز وعدد فروعها، بل حتّى عدد ما في أزاهيرها من خيوطٍ. إنّه يتأمّل في كلّ ذلك ليدرك آيات الخلق ودلالتها على الموجد،16 والقصد من خلق الإنسان هو القيام بوظيفة التّفكّر، فهو يطالع العالم في شكل لوحتين ودائرتين "إحداهما: دائرةُ ربوبيّةٍ في منتهى الانتظام وغاية الرّوعة والهيبة ولوحة صنعة بارعة الجمال وفي غاية الإتقان، والأخرى: دائرةُ عبوديّة منوّرة مزهّرة للغاية، ولوحة تفكّر واستحسان وشكر وإيمان في غاية الجامعيّة والسّعة والشّمول، بحيث إنّ دائرة العبوديّة هذه تتحرّك بجميع جهاتها باسم الدّائرة الأولى وتعمل بجميع قوّتها لحسابها."17
إنّ المناظر التّي يوفّرها الكونُ ليست أوهامًا بل حقائق، لأنّ الذّي يقال هو ما يجري حولنا من الأحداث في كلّ لحظة سواء شاهدناها أو لم نشاهدها، لكنّ الأعينَ العضويّةَ غيرُ كافية للإحاطة بهذا المنظر، لذا فإنّ القسمَ المتبقّيَ من اللّوحة سيُتَمَّمُ بمساعدة قوّةِ الخيال وبواسطة التّفكّر؛ فإنّ الحواسّ ليست قاصرةً على الحواسّ الخمس المعروفةِ التّي لا يتجاوزها المادّيّون أو الطّبيعيّون،18 وإنّما للإنسان حواسّ أخرى كثيرة مثل حاسّتي السّوق والشّوق.19
يظهر المسلك المشار إليه في رسالةُ "الآية الكبرى،" والتي تضمّنت أُنْمُوذَجًا واضحًا للتّفكّر الآفاقيِّ، وخاصّة في مقدّمتها التّي هي مشاهدات سائح يسأل الكون عن خالقه، وبرهن النُّورسي فيها على عمقِ معرفةٍ بالعلم الكونيِّ، وكان ذا بصر ثاقب وبصيرة نافذة فتمكّن من تصوير الكون في مظاهره المتعدّدة بريشة الفنّان الماهر، يَشعر كلُّ شخصٍ أمامه بجمال أخّاذ وتأثير عميق، كما تمكّن من إبراز المعاني العلميّة التّي اعتمد عليها في مناقشة الفلاسفة والمادّيّين والطّبيعيّين، فإنّ "كلّ من يأتي ضيفاً إلى مملكة هذه الدّنيا ويحلّ في دار ضيافتها، كلّما فتح عينيه ونظر رأى مضيفاً في غاية الكرم، ومعرضاً في غاية الإبداع، ومعسكرَ تدريب في غاية الهيبة، ومتنزّهاً جميلاً في غاية الرّوعة، ومشهراً في غاية الإثارة للشّوق والبهجة، وكتاباً مفتوحاً ذا معانٍ في غاية البلاغة والحكمة."20
إنّ الكون في بنيته العامّةِ منظّمٌ تنظيمًا بديعًا، ومنطوٍ على معانٍ جمّةٍ وفيرةٍ بحيث يبدو على صورة "قرآن جسمانيّ،"21 وقد أُعدّ ونُظّم بشكل تجد فيه جميعُ الأسئلة والاستفسارات أجوبةً شافيةً لها. وتُثبت شهادتَه العظيمةَ على الوجود الإلهيّ والوحدانية حقيقتان في نظر الأستاذ:
أوّلا: حقيقة الحدوث والإمكان التّي استدلّ بها المتكلّمون ولم ينكرها الأستاذ وإن كان توسّع في توضيحها؛22 فبناءً على أنّ العالم وكلَّ ما فيه في تغيّر وتبدّل، فهو حادثٌ وفانٍ، ولأنّه كذلك فلا بدّ له من محدث، ويستحيل الدّورُ23 والتّسلسلُ،24 فيلزم وجود واجب الوجود.25
أمّا الإمكان فهو "متساوي الطّرفين" أو "عدم اقتضاء الذّات الوجودَ والعدمَ،"26 أي تساوي العدم والوجود بالنّسبة إلى شيءٍ مّا، فقد استولى هو الآخر على الكون، إذ نشاهد أنّ كلّ شيءٍ يرسَل إلى الدّنيا بذاتيّة خاصّة وبشخصيّة متميّزة، وبصفات خاصّة، وبأجهزة ذات مصالح وفوائد، والحال أنّ إعطاء تلك الخصوصيّة لتلك الذّات وتلك الماهية يكون ضمن إمكانات غير محدودة، الأمرُ الذّي يوجب وجود من يميّز الذّوات بخصوصيّاتها.27
ثانيا: حقيقة التّعاون بين الموجودات، وذلك فيما نشاهده فيما هو خارج عن قدرة المخلوقات السّاعية لحفظ وجودها ومهامّها وصيانة حياتها –إن كانت حيّة– وتحقيق وظيفتها في ظلّ الأحوال المضطربة، مثل مدّ السّحاب للنّباتات، ومساعدة النّباتات للحيوانات، ومعاونة الحيوانات للإنسان، فإنّ "إظهار الأشياء المتعاونة –وهي جامدة وبلا شعور ولا شفقة– أوضاعًا تنمّ عن الشّفقة وتتّسم بالشّعور فيما بينها دليلٌ وأيُّ دليلٍ على أنّها تُدفع دفعاً للإمداد والمعاونة فتجري بقوّة ربٍّ ذي جلال، وبرحمة رحيمٍ مطلق الرّحمة، وبأمر حكيمٍ مطلق الحكمة. وهكذا فإنّ التّعاونَ العامَّ الجاريَ في الكون، والموازنةَ العامّةَ السّارية بكمال الانتظام، والمحافظةَ الشّاملةَ، ابتداءً من المجرّات والسّيّارات إلى أجهزة الكائن الحيِّ وأعضائه الدّقيقة... وأمثالها من الحقائق العظيمة جدًّا والشّاهدة شهادة متناسبة مع عظمتها، تشكّل الجناحَ الثّانيَ لشهادة الكون على وجوده سبحانه ووحدانيته وتثبّتها."28
ولئن كان الكونُ في كلّيته، وفي كلّ ذرّة من ذرّاته، يحمل دلالةً قاطعةً على وجود الخالق ووحدانيته، وعلى إمكان الحشر والقيامة29 فإنّنا نستطيع أن نبرز بعض الأوجه التّي استقطبت اهتمامًا بالغًا في التّفكّر الآفاقيِّ عند النُّورسي رفقةَ الضّيف السّائح، وذلك في النّقاط الآتية:
1.2. 1. السّماواتُ:
ورد ذكرُ السّماوات في كثير من آيات القرآن الكريم،30 وذلك في معرض الدّعوة إلى التّأمّل والنّظر فيها لغايات عقديّةٍ؛ فالسّماوات تضمّ ألوفا من الأجرام مرفوعة بلا عمد ولا سند، منها ما هو أكبرُ من أرضنا ألفَ مرّةٍ، وما هو أسرعُ انطلاقًا من القذيفة، وهي تسير وتجري في سرعتها بلا مزاحمة ولا مصادمة. كما تضمّ السّماوات نجوما شبيهة بقناديل توقد بلا بنزين دون انطفاء. كلُّ هذه المخلوقات العظيمة مسخّرة في مهامّ معيّنة كاستسلام الشّمس والقمر لأداء وظائفهما دون إحجامٍ أو تَلَكُّؤٍ، وكلّ هذه السّيارات الضّخمة التّي تملك قوى هائلةً تخضع منقادةً مطيعةً لقانونها دون تجاوز أو انحراف. ثمّ إنّ وجه السّماء يبدو صافيا نقيًّا طاهرا، وبالتّالي ظهرت الرّبوبيّةُ ووجب الإقرارُ بالوحدانية.31
2. 1. 2. الفضاءُ:
يطلق على الفضاء أيضا اسمُ الجوِّ وهو محشرٌ للعجائب ومعرضٌ للخوارق.
فمن مكوّنات الفضاء السّحابُ32 الذّي علّق بين السّماء والأرض يسقي روضة الأرض سقياً يتفجّرُ حكمةً ورحمةً، ويُمد ساكنيها بالماء الباعث للحياة، ملطِّفاً به شدّةَ الحرارة. ومع أنّ ذلك السّحابَ الثَّقيل الضّخمَ يقوم بوظائفَ كثيرةٍ فإنّه يختفي ويتبدّد فوراً بعد أن ملأ أرجاء الجوِّ. ولكن ما أن يتسلّم أمرًا بإنزال المطر حتّى يجتمع ويملأ الجوَّ في وقت قصير.
ومن ظواهر الجوّ الجديرة بنظر الاعتبار أيضا الرّياحُ33 التّي تجول فيه، فالهواء يستخدم في وظائف كثيرة في منتهى الحكمة والكرم استخداماً، فتؤدّي كلُّ ذرّةٍ في ذلك الهواء الجامد–وهي لا تملك شعوراً– خدماتِها وتنفّذها بكلّ انتظام ودقّة دون توانٍ في شيء منها؛ فتدخل هذه الذّرّات في استنشاق جميع أحياء الأرض للهواء، وسَوق السّحب وإدارتها وتسيير السّفن وجعلها تمخر عباب البحار وتسيح فيها، ونقل الأصوات والاتّصالات اللاّسلكيّة، وتوفير الموادّ الضّروريّة لذوي الحياة كالحرارة والضّوء والكهرباء، والتّوسّط لتلقيح النّباتات، وغير ذلك من المنافع.34
ومن الظّواهر الجوّية أيضا المطرُ؛35 فهذه القطراتُ اللّطيفةُ البرّاقةُ العذبةُ التّي أُرسلت تزخر بهدايا رحمانيّة، ولعلّ في هذا يكمن السّرُّ في إطلاق لفظتي الغيث36 والرّحمة37 على المطر في قوله عز وجل: ﴿َهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾.الشّورى:28 فهذا الماء الذّي هو جماد بسيط لا يملك شعوراً، يُستخدم في أعمال حكيمة، وبخاصّة في الإحياء والتّروية، وهو المركّب من مادّتين بسيطتين جامدتين خاليتين من الشّعور هما الهيدروجين والأوكسجين.38
ومن ظواهر الجوّ كذلك البرقُ39 والرّعدُ40 اللذّان يستخدمان في أمور عجيبة غريبة؛ فهاتان الظّاهرتان الجوّيتان تخبران عن قدوم الغيث فتبشران المعوزين الملهوفين؛ فإنّ إنطاقَ الجوِّ المظلم بغتة بصيحة هائلة تزمجر وتجلجل، ومَلْءَ الظّلام الدّامس بنور يكاد يذهب بالأبصار وبنار ترعب كلَّ موجود، وإشعال السّحب العظيمة المحمّلة بالماء تثبت وجود الله جل جلاله ووحدانيته.41
2. 1. 3. كرةُ الأرض:
تظهر كرَةُ الأرضِ كسفينة عظيمة حاملة لأنواع من الكائنات الحيّة الحاملة لجميع أرزاقها ومتطلّباتها بالشّفقة والحكمة، وكذلك المخلوقات غير الحيّة، تخطّ بحركتها دائرة تحصل بها الأيام والسّنون والفصولُ، فتمخر عباب الفضاء في سياحة حول الشّمس بكمال الموازنة والانتظام، وكلّ صحيفة من صحائفها تعرّف ربّها بآلاف آياتها.42 وقد استقطب اهتمامَ النُّورسي جمالُ الرّبيع وسحرُه الأخّاذُ، فإذا هو بما يُشاهَدُ فيه شهادة على إمكان الحشر؛ فهو يجسّد إيجادَ ذوي الحياة وإدارتها في هذا الفصل، بوجود أفراد غير محدودة لآلافٍ من الأنواع "تنفتح صورُها وتنبسط من مادّة بسيطة بمنتهى الانتظام، وتُربّى بمنتهى الرّحمة، وتنشر في الأرجاء بمنتهى السّعة وتمنح بذور قسم منها جُنيحات رقيقة للطّيران في غاية الإعجاز، وإنّها تدار بمنتهى التّدبير،"43 وكان ذلك تصديقًا لقوله تعالى: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.الرّوم:50
2. 1. 4. البحارُ والأنهارُ العظيمةُ:
إنّ البحار التّي تتماوج بحيويّة وتتلاطم بشدّة دوماً، والتّي من شأنها التّشتّت والإغراق، قد أحاطت باليابسة، فهما تُسيَّران معاً في منتهى السّرعة وتجريان في سنة واحدة ضمن دائرة محدّدة، ورغم ذلك فهي لا تتفرّق ولا تنسكب ولا تستولي على جارتها اليابسة.
وتحمل هذه البحارُ في جوفها كائناتٍ في غاية من التّنوع والجمال، تجد أرزاقها وأقواتها في انتظام من رمل بسيط ومن ماء أُجاج، كما تضمّ في جوفها غرائبَ أخرى.
وإذا نظرنا إلى الأنهار رأينا أنّ فيها منافعَ ومصالحَ، ولها خدماتٌ ووظائفُ، وما تنتجه من مصاريف وما ترده من موارد محسوب بحكمة واسعة، وبرحمة عظيمة، وتثبت جميع الجداول والينابيع والسّيول والأنهار العظيمة وجود الله جل جلاله ووحدانيّته.44
2. 1. 5. الجبالُ:
إنّ وظائف الجبال45 الكلّيّةَ وفوائدها العامّةَ هي من العظمة والحكمة ممّا يُحير العقول؛ فبروزُ الجبال واندفاعُها من الأرض يهدِّئ هيجان الأرض ويخفّف من غضبها وحدّتها النّاجمة من تقلّباتها الباطنيّة، ويدعها تتنفّس مستريحة بفوران تلك الجبال ومن خلال منافذها. كما أنّ الجبال أوتادٌ لسفينة الأرض تثبتها وتحفظ توازنها.46
وتوجد في جوف الجبال أنواعُ الينابيع والمياه والمعادن والموادّ والأدوية التّي يحتاج إلى كلٍّ منها ذوو الحياة، قد ادّخرت بحكمة، وأحضرت بكرم، وخزنت بتدبير، وفي ذلك دلالة على وجود الله جل جلاله ووحدانيّته.47
2. 1. 6. الأشجارُ والنّباتاتُ:
إنّ النّاظر إلى الأشجار والنّباتات يلحظ وكأنّها عقدت مجلساً فخماً رائعاً وشكّلت حلقة مهيبة للذّكر والشّكر، وهي تنطوي على حقائقَ تدلّ على أنّها جميعا تؤدّي شهادتها مسبّحة، ومنها: حقيقة الإنعام والإكرام المقصودين، والإحسان والامتنان الإراديّين، التّي يُحسُّ معناها إحساساً ظاهراً في كلّ شجر ونبات، وحقيقة التّمييز والتّفريق المقصودين بحكمة، والتّزيين والتّصوير الإراديّين برحمة، وهي واضحة حقيقةً ومعنًى، وحقيقة فتح صور المصنوعات غير المحدودة، من حبوب معدودة متشابهة، ومن نوى محدودة متماثلة، واستنباتها في غاية الانتظام والميزان وبمنتهى الزّينة والجمال، رغم أنّها بسيطة جامدة ومختلط بعضها ببعض. كلّ هذا يؤكّد حقيقة أنّ الله جل جلاله موجود وواحد في ألوهيّته، وأنّه قادر على الإحياء يوم القيامة.48 فضلا عن كونها تؤكّد أن رب الكون ممده بعناصر الوجود والبقاء والمصير.
2. 1. 7. الطّيورُ والحيواناتُ:
إنّ جميع الطّيور والحيوانات بأنواعها وطوائفها وأممها كافّةً تذكر متّفقةً كلمةَ التّوحيد بلسان حالها ومقالها، كأنّ حواسّها ومشاعرها وأعضاءها، وآلاتها، وأجهزتها، وقواها، كلماتٌ موزونةٌ منظومةٌ، وكلامٌ فصيحٌ بليغٌ. ويدرك المرءُ في جميع هذه الطّيور والحيوانات جملةً من الحقائقِ العظيمةِ الدّالّةِ قطعًا على أنّها تؤدّي شكرها تجاه ربّها بتلك الكلمات، وهي حقائقُ كلُّها تؤكّد وجودَ الله تعالى ووحدانيّتَه، منها:
– حقيقة الإيجاد والإبداع، أي منح الرّوح، إيجاد من عدم بإرادة وحكمة، وإبداع بعلم وإتقان.
– حقيقة التّمييز والتّزيين والتّصوير التّي تتّضح من تلك المصنوعات غير المحدودة التّي يختلف بعضها عن بعض بعلامات فارقة متميّزة في الوجوه، وبأشكال مزيّنة جميلة متباينة.
– حقيقة فتح صور تلك الحيوانات غير المحدودة من بيوض وبويضات متماثلة معدودة، ومن قطرات محدودة، متشابهة أو مختلفة بفارق طفيف، وذلك بانتظام كامل، وموازنة تامّة.49
ويُجمل النُّورسي الملاحظات التّي شاهدها في رحلته مع السّائح فيُظهر درسَ الإيمانِ من الكون في وضوحٍ ودقّةِ تعبيرٍ بقوله: "لا إله إلاّ الله الواجب الوجود، الممتنع نظيره، الممكن كلُّ ما سواه، الواحد الأحد، الذّي دلّ على وجوب وجوده في وحدته هذه الكائناتُ، الكتابُ الكبير المجسّمُ والقرآن الجسمانيُّ المعظّم والقصر المزيّن المنظّم والبلد المحتشم المنتظم، بإجماع سورهِ وآياته وكلماتهِ وحروفهِ وأبوابه وفصولهِ وصحفهِ وسطورهِ، واتّفاق أركانه وأنواعه وأجزائه وجزئيّاتهِ وسكنتهِ... ووارداتهِ ومصارفهِ، بشهادة عظمةِ إحاطةِ حقيقة: الحدوث والتّغيّر والإمكان، بإجماع جميعِ عُلماء علم الكلام، وبشهادة حقيقة تبديل صورتهِ ومشتملاته بالحكمة والانتظام، وتجديدِ حروفهِ وكلماتهِ بالنّظام والميزان، وبشهادة عظمة إحاطةِ حقيقة: التّعاون، والتّجاوب، والتّساند، والتّداخل، والموازنة، والمحافظة، في موجوداته بالمشاهدة والعيان."50
وَفي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلٰى أَنَّهُ وَاحِدٌ51
وإذا نحن تأمّلنا في مختلف المعاني الكونيّة التّي كانت محلّ اهتمام النُّورسي أمكن حصرُها في دليلين أَسَاسَيْنِ:
أوّلا: دليل العناية:
وخلاصته فيما عرضت في الخلقة من صنعة بلا قصور، ورعاية فوائد ذات حكمة كما يرينا نظامُ الكونِ المكمّلُ، وأنّ الآيات التّي تتحدّث عن فوائد الأشياء للإنسان وسائر المخلوقات هي مواضع هذا الدّليل،52 مثل قوله عز وجل: ﴿ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾،الملك:3–4 وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَار. وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾.إبراهيم:32–34
ثانيا: دليلُ الحدوثِ والاختراعِ:
وخلاصته أنّ الكون حادثٌ حيث نشاهد في كلّ عصر وفي كلّ سنة، بل في كلّ موسم عَالَمًا يرحل ويحطّ آخرُ مكانه، تمضي كائنات وتأتي أخرى، والأسبابُ الجامدةُ التّي لا شعور لها لن تستطيع أن تكون مُوجدة المخلوقات التّي يعتبر كلٌّ منها معجزةً للقدرة، كما لا تستطيع الأسباب التّي هي مخلوقةٌ أن تخلق الكون وتجدّه من جديد، فالله القدير يُوجِدُ الأشياءَ من العدم ويجدّد تلك العوالمَ الشّاسعةَ من غير شيءٍ مذكورٍ.53 والقرآن بآياته الباحثة عن الخلق والإيجاد يثبت هذا الدّليل في أذهان النّاس بجلبه النّظر إلى المؤثّر الحقيقيّ، مثل قوله عز وجل: ﴿اَلَّذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكمْ أَيُّكمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزيزُ الْغَفُورُ. اَلذّي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾.الملك:2–3
يتجلّى من خلال هذه المعطيات براعةُ النُّورسي في الوصف ودقّتُه في الملاحظة، فتحصّل عنده رصيدٌ كبيرٌ من المعرفة الآفاقيّة، استعان به على مجادلة المادّيّين الذّين يتلخّص فكرُهم في التّأكيد على التّلازم الضّروريّ بين الأسباب الظّاهرة ومسبّباتها؛ فالنّباتات –مثلا– تقوم بنفسها بإنتاج غذائها فيما يسمّى "التّركيب الضّوئيّ "، ومضمونُه أنّنا إذا أخذنا ورقةً خضراءَ وسحقناها بين الأصابع وجدنا أنّ أصابعنا قد تلوّنت باللّون الأخضر بفعل مادّة الكُلُورُوفِيل المؤلّف من ذرّات الكربون والهيدروجين والأكسيجين والنّتروجين والمغنيسيوم، يعمل كمصنع للأغذية.54
والنّباتاتُ المجرّدةُ من الإرادة والعلم والقدرة لا تقوم بنفسها بإنتاج غذائها، فهذه الفكرة تمتُّ بصلة وثيقة إلى الفكر المادّيّ الذّي يزعم بأنّ الأسباب هي التّي تصنع النّتائج، لأنّه يرفض مسبقًا قبولَ وجودِ الخالق.
لقد استفادت كثيرٌ من التّيّارات الفلسفيّة من أجوآء الحرّية التّي حلّت بتركيا بإعلان المشروطيّة55 عام 1908، وبقي بعض المثقّفين56 في هذه المرحلة ينتهجون نهج الهجوم على المعتقدات الدّينيّة، ونقرأ هذا التّحوّلَ فيما سجّله كارل بوبر (Karl Popper)57 بقوله: "إنّ الثّورة الطّبيعيّة أخذت موقفًا مضادًّا للإله وجعلت الطّبيعةَ مكان الإله، وخارج ذلك بقي كلُّ شيءٍ على ما كان عليه، وبذلك ترك العلمُ اللاّهوتيُّ مكانه للعلم الطّبيعيِّ، والقوانينُ الإلهيّةُ مكانها لقوانين الطّبيعة، وإرادةُ الله وقوّتُه لإرادة وقوّةِ الطّبيعة، وفي النّهاية ترك النّظامُ الإلهيُّ مكانه لخيارات الطّبيعة، وأخذت الحتميّةُ الطّبيعيّةُ مكان الحتميّة اللاّهوتيّةِ، يعني أنّ قدرة الطّبيعة على كلِّ شيءٍ ووحدة كلِّ شيءٍ أخذت مكان قدرة الله على كلّ شيءٍ ووحدانيّته."58
وقد بذل النُّورسي جهدًا كبيرًا في بيان تهافت هذا الفكر في أسسه وغاياته في مواضعَ مختلفةٍ من رسائله.59 ومن ذلك تعليقه على الآيات الكريمة: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الاَرْض شَقًّا. فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً. وَحَدَائِقَ غُلْبًا. وَفَاكهَةً وأَبًّا. مَتَاعًا لَكمْ وَلاَنْعَامِكمْ﴾.عبس:24–32 بقوله: "قد تُبيّن الآيةُ غايات المسَبَّب وثمراته لتعزل السّببَ الظّاهريَّ وتسلب منه قدرةَ الخلق والإيجاد، وليُعلَم أنّ السّبب ما هو إلاّ ستارٌ ظاهريٌّ؛ ذلك لأنّ إرادة الغايات الحكيمة والثّمرات الجليلة يلزم أن يكون من شأن من هو عليم مطلق العلم وحكيم مطلق الحكمة، بينما سببها جامدٌ من غير شعور. فالآية تفيد بذكر الثّمرات والغايات أنّ الأسباب وإن بدتْ في الظّاهر والوجود متّصلة مع المسببَّات إلاّ أنّ بينهما في الحقيقة وواقع الأمر بونًا شاسعًا جدًّا. نعم! إنّ المسافةَ بين السّبب وإيجاد المسبَّب مسافةٌ شاسعةٌ بحيث لا طاقة لأعظم الأسباب أن تنال إيجادَ أدنى مسبَّب، ففي هذا البعد بين السّبب والمسبَّب تُشْرِقُ الأسماءُ الإلهيّةُ كالنّجوم السّاطعة."60
نلاحظ فيما سبق أنّ النُّورسي سار على منهج الغزّالي(أبو حامد) توسّع في تناوله المسألةَ فناقش قضيّةَ التّوكّل وعلاقتها بالسّببيّة، ونجد خلاصةَ تصوّره في رفعه بعضَ الالتباسات والظّنون التّي قد تصاحب تقريراتِه بشأن الأسباب والمسبّبات، وذلك في قوله: "ولا تظنّن أنّ التّوكّلَ هو رفضُ الأسباب وردُّها كلّيًّا، وإنّما هو عبارةٌ عن العلمِ بأنّ الأسبابَ هي حُجُب بيَدِ القدرة الإلهيّة، ينبغي رعايتُها ومداراتُها، أمّا التّشبّثُ بها أو الأخذ بها فهو نوعٌ من الدّعاءِ الفعليِّ. فطلبُ المسَبَّباتِ –إذن– وترقّبُ النّتائج لا يكون إلاّ مِن الحقِّ تعالى، وأنّ المنّةَ والحمدَ والثّناءَ لا ترجعُ إلاّ إِليه وحدَه."61
2. 2. البعد الأنفسي:
ومثلما كان الشّأنُ في التّفكّر الآفاقيِّ فإنّ التّفكّر الأنفسيَّ مجلًى لحقائق الإيمان ومطيةٌ لإدراكها وقد وفّرت رسائل النُّورسي رصيدًا كبيرًا من "المعرفة الأنفسيّة" قائمًا على أساس عقديٍّ ومبنيّا على تعاليم الوحي تأسيسًا.
وبالفعل، يلحظ قارئ رسائل بديع الزّمان سعيد النُّورسي اهتماماً كبيراً بالإنسان، فهو وإن لم يكن –على حدّ علمنا– خصّص مؤلَّفاً مستقلاّ لهذا الموضوع، فإنّه تناوله بالبحث في مناسباتٍ مختلفةٍ، تناولاً كان مقصوداً بالأصالة لا بالعرض؛ فنراه في بحثه يفصّل القول تفصيلاً، ويتناول الموضوع بشمولٍ، ويؤصّل رؤاه بتعاليم الوحي، ويدافع عما استودعه القرآن الكريم ويدفع الآراء المخالفة المنبثقة من الثّقافات الأخرى بالاستدلال، وهو في كلّ ذلك يتعامل مع الإنسان لا باعتباره صورةً ذهنيّةً وفكرةً مجرّدةً، بل باعتباره الكائنَ المحسوسَ الذّي يأكل الطّعام ويمشي في الأسواق، وهو يعتبر أنّ طريق التّفكّر الأنفسيِّ أقصرُ من طريق التّفكّر الآفاقيِّ،62 واصفا النّتيجة التّي يُتوصّل إليها بالتّفكّر الآفاقيِّ بأنّها قطعيّةٌ تبلغ مرتبة علمِ اليقين، بينما يصف النّتيجةَ التّي يُتوصّل إليها بالتّفكّر الأنفسيّ بأنّها قطعيّةٌ تبلغ مرتبة حقِّ اليقين.63
تكوّنت الموجّهاتُ العامّةُ التّي وجّهت النُّورسي في بياناته لحقيقة الإنسان تأسيساً على تعاليم الوحي التّي كان موصولاً بها على حبلٍ متينٍ، فكانت تصوّراته منطبعة بتلك الموجّهات في ذاتها وفي أسلوبها، بحيث يساعد تبيّنُها على فهم الصّورة التّي رسمها النُّورسي للإنسان في أركانها المختلفة. وفي مقدّمة تلك الموجّهات أصولُ العقيدة الإسلاميّة فيما يتعلّق بحقيقة الإنسان؛ فكان النُّورسي يتّخذ مرجعيّته في هذا الموضوع دومًا من نصوص القرآن والحديث، منها ينطلق وإليها ينتهي وعليها يؤسّس كلَّ بيان، بل كانت أكثرُ تقريراته في طبيعةِ الإنسان ومهمّةِ وجوده ومصيره استنتاجاتٍ استخرجها من التّأمّل في آيات قرآنيّة، فجرت مجرى التّفسير لها، وهو ما حفلت به رسائلُ النّور، التّي كان في الغالب يصدّر كلاّ منها بآيات قرآنيّة، ثمّ ينطلق في شرحها والاستنتاج منها ليبني على أساسها تصوّرَه لحقيقةٍ من حقائق الإنسان.64
2. 2. 1. ماهية "الأنا" بين الصّورة النّبويّة والصّورة الفلسفيّة:
ظلّ الإنسانُ محلّ تأمّل من قبل الإنسان نفسه طوال عصور متعاقبة، ولكنّ حصيلة ذلك من المادّة العلميّة شيءٌ ضئيلٌ، وعبّر ألكسيس كاريل عن معرفة الإنسان بنفسه بقوله: "وفي الحقّ، لقد بذل الجنسُ البشريُّ مجهودًا جبّارًا لكي يعرف نفسه، ولكنّنا بالرّغم من أنّنا نملك كنزًا من الملاحظة التّي كدّسها العلماءُ والفلاسفةُ والشّعراءُ وكبارُ العلماءِ الرّوحانيّين في جميع الأزمان، فإنّنا استطعنا أن نفهمَ جوانبَ معيّنةً فقط من أنفسنا، إنّنا لا نفهم الإنسانَ ككلٍّ... وواقع الأمر أنّ جهلنا مُطْبِقٌ، فأغلب الأسئلة التّي يلقيها على أنفسهم أولئك الذّين يدرسون الجنسَ البشريَّ تظلّ بلا جواب."65
إذا قلّبنا النّظر في رسائل النُّورسي لاحظنا أنّ صاحبها ميّز بين صورتين لماهية "الأنا" أو الكينونة الإنسانيّة وهما الصّورة الفلسفيّة والصّورة النّبويّة وذلك في إطار حديثه عامّة عن الفرق بين الفلسفة والدّين، فإنّ "في تاريخ البشريّة –منذ زمن سّيدنا آدم عليه السلام إلى الوقت الحاضر– تيّارين عظيمين وسلسلتين للأفكار، يجريان عبر الأزمنة والعصور، كأنّهما شجرتان ضخمتان أرسلتا أغصانَهما وفروعَهما في كلّ صوبٍ وفي كلّ طبقةٍ من طبقات الإنسانيّة: إحداهما سلسلة النّبوّة والدّين والأخرى سلسلة الفلسفة والحكمة."66
إنّ الصّورة النّبويّة لماهية "الأنا" هي أن يعرف الأنا "أنّه عبدٌ لله، ومطيعٌ لمعبوده، ويفهم أن ماهيته حرفيّةٌ، أي دالٌّ على معنًى في غيره، ويعتقد أن وجوده تَبَعيٌّ، أي قائم بوجود غيره وبإيجاده، ويعلم أنّ مالكيّته للأشياء وهميّةٌ، أي أنّ له مالكيّةً مؤقّتةً ظاهريّةً بإذن مالكه الحقيقيِّ، وحقيقته ظلّيةٌ – ليست أصيلة – أي أنّه ممكنٌ مخلوق هزيل، وظلٌ ضعيف يعكس تجلّياً لحقيقةٍ واجبةٍ حقّةٍ. أمّا وظيفته فهي القيام بطاعة مولاه، طاعةً شعوريّةً كاملةً، لكونه ميزانًا لمعرفة صفات خالقه، ومقياساً للتّعرّف على شؤونه سبحانه."67
أمّا الصّورةُ الفلسفيّةُ المادّيّةُ لماهية "الأنا" فإنّها تقف في زاويةٍ معاكسةٍ تمامًا للصّورة السّابقة إِذْ "نظرت إلى ‘أنا' بالمعنى الاسمي، أي تقول: إنّ ‘أنا' يدلّ على نفسه بنفسه، وتقضي أنّ معناه في ذاته، ويعمل لأجل نفسه، وتتلّقى أنّ وجوده أصيلٌ ذاتيٌّ –وليس ظلاًّ– أي له ذاتيّةٌ خاصّةٌ به، وتزعم أنّ له حقًّا في الحياة، وأنّه مالكٌ حقيقيٌّ في دائرة تصرّفه، وتظنّ زعمَها حقيقةً ثابتةً، وتفهم أنّ وظيفته هي الرّقيُّ والتّكاملُ الذّاتيُّ النّاشئُ من حبّ ذاته."68
على أنّه لا ينبغي أن نستنتج من كلام النُّورسي رفضَه المطلقَ للفلسفة أو الحكمة ذلك أنّ ما ورد في مواضعَ كثيرةٍ من رسائله يؤكّد أنّه يميّز في الفلسفة بين قسمين: الفلسفة التّي استرشدت بالوحي، والفلسفة التّي تعفّنت بظلمات الفكر المادّيّ، وعليه فإنّ "الفلسفة التّي تهاجمها رسائلُ النّور وتصفعها بصفعاتها القويّة، هي الفلسفة المضرّة وحدها، وليست الفلسفة على إطلاقها، ذلك لأنّ قسمَ الحكمةِ من الفلسفة التّي تخدم الحياةَ الاجتماعيّةَ البشريّةَ، وتعين الأخلاقَ والمُثُلَ الإنسانيّةَ، وتمهّد السّبل للرّقيِّ الصّناعيِّ، هي في وفاق ومصالحة مع القرآن الكريم، بل هي خادمة لحكمة القرآن، ولا تعارضها، ولا يسعها ذلك؛ لذا لا تتصدّى رسائلُ النّور لهذا القسم من الفلسفة. أمّا القسم الثّاني من الفلسفة، فكما أصبح وسيلةً للتّردّي في الضّلالة والإلحاد والسّقوط في هاوية المستنقع الآسن للفلسفة الطّبيعيّة، فإنّه يسوق الإنسانَ إلى الغفلة والضّلالة بالسّفاهة واللهو. وحيث إنّه يعارض بخوارقه التّي هي كالسّحر الحقائقَ المعجزةَ للقرآن الكريم، فإنّ رسائلَ النّور تتصدّى لهذا القسم الضّالِّ من الفلسفة في أغلب أجزائها وذلك بنصبها موازينَ دقيقةً، ودساتيرَ رصينةً، وبعقدها موازناتٍ ومقايساتٍ معزّزةً ببراهينَ دامغةٍ، فتصفعها بصفعاتها الشّديدة، في حين أنّها لا تمسّ القسمَ السّديدَ النّافعَ من الفلسفة،"69 فالمطلوب هو تأسيس الحكمة على الدّين.70
وبالفعل، فإنّ النُّورسي قسّم أوروبا إلى قسمين، وأكّد باستمرار أنّه لا يهاجم أوروبا التّي نفعت الإنسانيّةَ بعلومها وصناعاتها، وإنّما يهاجم أوروبا الثّانيةَ بقوله في أسلوب حادّ: "اعلمي جيّداً أنّك قد أخذت ِبيمينكِ الفلسفةَ المضلّةَ السّقيمةَ، وبشمالك المدنيّةَ المضرّةَ السّفيهةَ، ثمّ تدّعين أنّ سعادةَ الإنسان بهما. أَلاَ شُلَّتْ يداكِ، وبِئْسَتِ الهديّة هديتكِ، ولتكن وبالاً عليكِ، وستكون."71
2. 2. 2. الرّمزيّةُ العقديّةُ للكينونة الإنسانيّة أو ماهية "الأنا":
أولى النُّورسي أهمّيةً خاصّة للتّكوين الإنسانيّ في أبعاده المادّيّة والرّوحيّة من بين العناصر العديدة المندرجة ضمن قضيّة الإنسان، فخصّص لذلك حجماً كبيراً من تأمّلاته وتقريراته. وإذا كان تناولُ هذا العنصر من قِبل الباحثين في موضوع الإنسان أمراً مألوفاً، فإنّ النُّورسي بحث فيه بمنهج يحمل من ملامح الجدّة والابتكار ما لا نجده عند غيره إلاّ عَرَضًا.
تناول النُّورسي بالبيان عناصرَ متعدّدةً من تكوين الذّات الإنسانيّة في بُعديها المادّيِّ والرّوحيِّ، فإذا هو في كلِّ مناسبةٍ يتعرّض فيها بالشّرح لحقيقة الإنسان لا يفتأ يتطرّق إلى جانب من جوانب تكوينه في أعضائه الظّاهرة والباطنة، وفي غرائزه وطبائعه، وفي استعداداته وقدراته، وفي مظاهر ضعفه وقوّته، وفي آماله وأشواقه الرّوحيّة؛ إنّه الإنسان المكوّن من لحمٍ ودمٍ وأعصابٍ، وروحٍ وعقلٍ ونفسٍ، ذو النّوازع والرّغائب والضّرورات، الذّي يؤثّر ويتأثّر، يحبّ ويكره، يرجو ويخاف، يطمع وييأس، يؤمن ويكفر، يعمّر الأرض أو يفسد فيها ويقتل الحرثَ والنّسلَ، يحيى ويموت. يتوقّف النُّورسي عند جميع هذه الجوانب فيشرح آيات الخلق فيها ويربط باستمرار بين الآيات التّكوينيّةِ في طبيعة الإنسان الجسميّة والرّوحيّة وبين الدّلالات العقديّة لتلك الآيات، بحيث تُعرض كلُّ آيةٍ من تلك الآيات في معرض البيان لبعدها العقديِّ الذّي هو مرتبط بها ارتباطاً مكيناً في أصل الغاية من خلقها، كما هو مرتبط بها في الوظيفة الحياتيّة التّي أُنيطت بالإنسان، فيغدو التّكوينُ الإنسانيُّ بعناصره المختلفة في منهج النُّورسي رَمْزاً قيمتُه ليست في ذاته بقدر ما هي فيما يرمز إليه من أبعادٍ عقديّةٍ.
إنّ الإنسان يشترك مع المخلوقات الأخرى وجوديًّا أو أنطولوجيًّا، وذلك بانتماء الجميع إلى طرف مشترك من طرفَي الوجود وهو الطّرف النّاقص المحتاج، وذلك من حيث المأتى وهو خلق الله جل جلاله الذّي يسري على الكونِ كلِّه72 والمصيرُ وهو الرّجوعُ إلى الله تعالى،73 غير أنّ هذا الاشتراك لا يدلّ على تساوٍ قيميٍّ بين الإنسان والكائنات الأخرى؛ فهو مستعلٍ عليها تكوينيًّا74 ومعرفيًّا،75 وهو يحمل هذه القيمة لسر التّوحيد الكائن فيه، يفقدها بعدمه، وهذا ما حرص النُّورسي على بيانه في كثير من المواضع في رسائله، مثل قوله: "نعم، إنّ الإنسان بسرّ التّوحيد، صاحبُ كمالٍ عظيمٍ بين جميع المخلوقات، وهو أثمنُ ثمرات الكون، وألطفُ المخلوقات وأكملُها، وأسعدُ ذوي الحياة ومُخَاطَبُ ربِّ العالمين وأهلٌ ليكون خليلَه ومحبوبَه. حتّى إنّ جميعَ المزايا الإنسانيّة وجميعَ مقاصد الإنسان العليا مرتبطة بالتّوحيد وتتحقّق بسرِّ التّوحيد، فلولا التّوحيدُ لأصبح الإنسانُ أشقى المخلوقات وأدنى الموجودات وأضعفَ الحيوانات وأشدَّ ذوي المشاعر حزناً وأكثرهم عذابًا وألمًا."76
الصورة النورسية للإنسان كما استفادها الأستاذ من المصادر النبوية تُبرز هذا المخلوقَ في حالة عجزٍ وفقرٍ؛ فهو عاجز بالنّظر إلى ما يكتنفه من أعداء لا حدّ لهم، وما يعترضه من أنواع البلايا والمصائب، وهو فقيرٌ لعجزه عن تحقيق حاجاته التّي لا حدود لها، وهو بهذا الاعتبار يتحرّى دائما مرتكَزًا يرتكز عليه ومستنَدًا يستند إليه، كما أنّه مضطرٌّ إلى تحرّي نقطةِ استمدادٍ يستمدُّ منها حاجاتِه التّي لا تتناهى ويَسُدُّ بها فقرَه الذّي لا يتناهى ويُشْبِعُ آمالَه التّي لا نهاية لها. ويؤكّد النُّورسي هذه المعاني بقوله: "أَمْعِنْ في الوجدان لترى كيف أنّه برهانٌ مُودَعٌ في نفس كلِّ إنسانٍ يثبت التّوحيدَ، ولتشاهد أيضا أنّ قلب الإنسان مثلما ينشر الحياةَ إلى أرجاء الجسد، فالعقدةُ الحياتيّةُ فيه –وهي معرفة الله– تَنشر الحياةَ إلى آمال الإنسان وميوله المتشعّبة في مواهبه واستعداداته غيرِ المحدودة كلّ بما يلائمه، فتقطر فيها اللّذّة والنّشوة وتزيدها قيمةً وأهمّيةً، بل تبسطها وتصقلها، فهذه هي نقطة الاستمداد. والمعرفةُ الإلهيّةُ نفسُها هي نقطةُ استنادٍ للإنسان أمام تقلّبات الحياة ودوّاماتها وأمام تزاحم المصائب والنّكبات وتواليها عليه."77 وهكذا يتمّ إثباتُ وجود الإله ووحدانيّته.
ولكنّ ما يُثبت وجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيّته لا ينحصر في النّظر إلى الوجدان الإنسانيِّ وما ينطوي عليه من مكوّناتٍ باطنيّةٍ، وإنّما يُثبت الوجودَ والوحدانيّةَ أيضًا ما يظهر من تكوين الإنسان من النّاحية المادّيّة؛ فيخاطب النُّورسي الإنسانَ الذّي خلق في أحسن تقويم لإدراك هذه الحقيقة بقوله: "تأمّلْ فيما يَحويه جسمُك وأعضاؤُك أيّها الإنسانُ من حدود متعرّجةٍ والتواءاتٍ دقيقةٍ، وتأمّلْ في فوائدِها ونتائجِ خدماتها، وشَاهِدْ كمالَ القدرةِ في كمال الحكمة."78
والواقع، أنّ النُّورسي ينطلق من التّركيبة الإنسانيّة المادّيّةِ والرّوحيّةِ للوصول إلى نتائجَ عقديّةٍ، ذلك أنّ التّركيب الإنسانيَّ الذّي أُودع فيه من عظيمِ القدرات ووفيرِ الطّاقات ولطيفِ الأسرار ودقيقِ الآلات، يُنْبِئُ بأنّ هذه المكوّناتِ جميعَها أُعِدَّتْ لغاياتٍ أسمى وأُنِيطَتْ بعهدة الإنسان مهمّةٌ جسيمةٌ هي مهمّة الخلافة، وحيث كانت الخلافةُ هي المهمّةَ التّي تقوم على العبادة، فهذه أيضًا غايةٌ عليا هُيِّئَ الإنسانُ في تركيبه لإنجازها، فإنّ "فطرة الإنسان وما أَودع الله فيه من أجهزةٍ معنويّةٍ تدلاّن على أنّه مخلوقٌ للعبادة،"79 وإنّ فطرة الإنسان هي التّكمّلُ بالتّعلّم والعبوديّةُ لله سبحانه وتعالى "لذا تكون وظيفتُه الفطريّةُ الأساسُ الدّعاءَ بعد الإيمان، وهو أساسُ العبادة ومخُّها."80
والإنسان مرآةٌ لتجلّيات الأسماء الحسنى، فما وُهب من نماذجَ من الصّفات الجزئيّة من العلم، والقدرة، والبصر، والسّمع، والتّملّك، والحاكميّة، وأمثالِها من الصّفات الجزئيّة، هو بمثابة مرآةٍ تعكس الصّفاتِ المطلقةَ لله سبحانه وتعالى، وتركيبُ الإنسان في بنيته الظّاهرة والخفيّة تأكيدٌ على أنّ تلك البنيةَ الدّقيقةَ الصّنعةِ إنّما هي المَجْلَى الأعظمُ للصّنعة الإلهيّة، والمعرضُ الأكبرُ لصفاته سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى، فالله سبحانه وتعالى أحسنَ كلَّ شيءٍ خلقه، ولكنّ أعظمَ درجات حسنه إنّما هي تلك ا
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Haziran 2010 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2010 Cilt: 1 Sayı: 1 |