BibTex RIS Kaynak Göster

وقفات مع رسالة الإجتهاد للأستاذ النورسي

Yıl 2013, Cilt: 7 Sayı: 7, - , 01.06.2013

Öz

وقفات مع رسالة الاجتهاد للأستاذ النورسي

د. وثيق بن مولود1
أ.د. عمار جيدل
مقدمة
يعد العلامة النورسي من أبرز العلماء المجددين في العصر الحديث، قال الأستاذ محسن عبد الحميد: "درستُ رسائل النور دراسة دقيقة في الأقل مرتين كاملتين، فكتبتُ في ضوئهما كتابي "النورسي متكلم العصر الحديث" وقدمت لكتاب النورسي النفيس "الآية الكبرى" ولكتابه القيم "إشارات الإعجاز" وألقيت محاضرات علمية عنه وعن أفكاره وعصره في أقسام الدراسات العليا في كلية الآداب بالرباط وكلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد، واستمعت إلى البحوث العلمية المتنوعة التي ألقيت في مؤتمري فكر النورسي في إسطنبول عامي 1995 و1998م، ثم قرأت كتباً وأبحاثاً كتبت عن رسائل النور والنورسي في العراق وخارجه، فتحصل عندي أن الإمام النورسي من أكابر المجددين، ليس في العصر الحديث فحسب، بل في تاريخ المسلمين كله، ولاسيما في عصرنا، عصر الفتن الكبرى، وعصر النكبة والهلاك عصر بداية التراجع الحضاري الإسلامي".2
والرسالة التي نحن بصددها "رسالة الاجتهاد" تنبجس منها فكرة النظر التجديدي لمسألة الاجتهاد.
عرضت الرسالة من خلال هيكلها وتفاصيلها في شكل توجيهات مستعجلة وضرورية للحيلولة دون التلاعب بالدين في وقت كانت الأمة بحاجة ماسة للحفاظ على أصوله المهددة بالزوال من خلال مخططات استئصال أصول الدين من القلوب والعقول على السواء، فقد كان الدين عصر الأستاذ معرّضا في أصوله الثابتة للإبعاد والاستئصال، الانتباه إلى خطورة محدقة بالدين والتنبيه عليها جهد تجديدي بامتياز، يستشف من هذا الأمر تركيز الأستاذ على ترتيب الأولويات في العمل الإصلاحي، فانصب جهده وجهاده على تثبيت الحقائق الإيمانية وتثبيتها،3 لأنّ الحقائق الإيمانية مهددة.4
رسالة الاجتهاد سبق أن درست من قبل الأستاذ قطب مصطفى سانو في رسالة عنوانها: "رسالة الاجتهاد للإمام بديع الزمان سعيد النورسي قراءة تحليلية"،5 ولكنها مختلفة عمّا نحن بصدده في هذه المقالة، ذلك أنّها تناولت بالعرض مقدمة بيّن فيها أهمية موضوع رسالة الاجتهاد ومكانة النورسي في الفكر الأصولي المعاصر، ثم ذكر أنّه عرض مادة الكتاب في ستة فصول،6 بينما الكتاب مقسّم عمليا على خمسة فصول،7 خصص الأوّل لموقف النورسي من مسألة الخطأ والصواب في الفكر الأصولي، أما الثاني فعرض فيه رأي الأستاذ في مجالات الاجتهاد، وأفرد الفصل الثالث لدراسة تحليلية لظروف تأليف رسالة الاجتهاد، وتصدى المصنف في الفصل الرابع لتحليل معمّق للرسالة، وأودع الفصل الخامس محاولة نقدية لأهم الأفكار الناضجة في الرسالة، وختمها بنتائج البحث ومقترحاته، من هنا فإنّ الرسالة مختلفة فكرة ومعالجة وطريقة، فقد عرضنا في مقالتنا قضيتين هما:
القضية الأولى: هندسة الرسالة، عرضنا فيها المقدمات الأساسية التي استندت إليها الرسالة، ثم أردفنا عليها -وفق ما وردت عند المصنف- موانع الاجتهاد.
القضية الثانية: وقفات مع رسالة الاجتهاد.
الرسالة في جوهرها تقصد خدمة هذا المقصد النبيل، عملا منه على منع التلاعب بالدين، وتعريضه للامتهان والتوظيف السياسي السلبي.
استهل الأستاذ رسالة الاجتهاد بقوله تعالى في الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾،النساء:83 ثم أردف الآية الكريمة بما أراد أن يرشد إليه من حقائق الاجتهاد، ولكنّه أسبق التوجيهات ببيان مقدمة ضرورية للبحث في المسألة، سنتوقّف عندها وعند ما ألحق بها في نقطتين رئيستين هما هندسة الرسالة، وموانع الاجتهاد، لنختمها بوقفات مع رسالة الاجتهاد.
القضية الأولى: هندسة الرسالة
أولا: مقدمات أساسية في الرسالة
رسالة الاجتهاد اجتهاد في معرفة ظروف الاجتهاد:
استهل الأستاذ الرسالة بما يستشف منه الغرض منها، فقد سجّل بأنّه كتب هذه الرسالة باللسان التركي بعد التي كتبها باللسان العربي: "إرشاداً لمن لا يعرف حدّه في هذه المسألة ليدرك ما يجب أن يقف عنده"، فهو تذكير لمن جاوز طوره فتعدى حدوده، وخاض فيما لا يملك مؤهلات الخوض فيه، فلا معرفة تشفع ولا خوف الله الرادع من الخوض بغير تأهّل.
باب الاجتهاد مفتوح
الإقرار بالأصل الذي عليه الإسلام ومسلمون عبر تاريخهم الطويل، ومفاده أنّ التوافق مع جمهرة علماء المسلمين وفق ما دلّت عليه نصوصه، بأنّ باب الاجتهاد مفتوح، وهو حكم جوهري؛ مفاده إنّ باب الاجتهاد مفتوح، وبهذا الرأي دفع لمن ادعى إغلاق باب الاجتهاد؛ ومدار هذه الرسالة على هذا الأصل وما ذكره بعده متفرع عنه.
الدين أصل الاجتهاد
التأكيد على أنّ الأصل "باب الاجتهاد مفتوح" قد يتعيّن عدم الأخذ به إذا كان أصل هذا الأصل مهددا بالزوال، ذلك أنّ أصل القول بالاجتهاد الدين، فإذا كان الدين معرّضا للزلازل، فالأصل الحفاظ على الأصل طمعا في بعث الأصل (الاجتهاد) المبني عليه في قابل الأيام، وقد أشار الأستاذ في سياق الحفاظ على أصل الأصل (الدين) في ظل ميل البعض إلى تفصيل القول في الأصل المتفرّع عنه (الاجتهاد) إلى جملة من موانع الأخذ بهذا الأصل (الاجتهاد).
وبيّن مما سلف أنّ الأستاذ عدّه كسائر علماء المسلمين عبر الزمن أصلا شرعيا دلّت عليه الأصول الشرعية (الكتاب والسنّة) ومزاولة علماء المسلمين عبر الزمان، فالاجتهاد ماض في هذه الأمة، إلاّ أنّ لهذا الأصل العام استثناءات، وهو ما أومأ إليه الأستاذ بعنوان موانع الاجتهاد، ولا شكّ أنّ التنبيه إلى الموانع مؤكّد لأصل الاجتهاد، ذلك أنّ تقدير الأولويات في الاجتهاد في سياق العمل الإصلاحي جهد اجتهادي ظاهر.
ثانيا: موانع الاجتهاد
المانع الأول
التعامل مع الاجتهاد على أسس غير شرعية، وهذا إهمال لترتيب الأولويات الإصلاحية
يفرض ترتيب الأولويات الإصلاحية التركيز على الحفاظ على الدين الذي هو أصل الأصول كلّها، فلا يسوغ في ظل تهديد يطال أصل الأصول (الدين) التركيز على ما ينبني عليها، وإن كانت أصولا من نحو الاجتهاد، ذلك أنّ أصل الأصول أولى بالعناية، والترتيب المنطقي والمنهجي يجعلنا، نبذل المهج لأجل الحفاظ على الأصل مقابل الحفاظ على ما تفرّع عنه من أصول أخرى وعلى رأسها الاجتهاد.
قال الأستاذ: "كما تُسَد المنافذ حتى الصغيرة منها عند اشتداد العواصف في الشتاء، ولا يستصوب فتح أبواب جديدة، وكما لا تفتح ثغور لترميم الجدران وتعمير السدود عند اكتساح السيول، لأنه يفضي إلى الغرق والهلاك.. كذلك من الجناية في حق الإسلام فتح أبواب جديدة في قصره المنيف، وشق ثغرات في جدرانه مما يمهّد السبيل للمتسللين والمخربين باسم الاجتهاد، ولا سيما في زمن المنكرات، ووقت هجوم العادات الأجنبية واستيلائها، وأثناء كثرة البدع وتزاحم الضلالة ودمارها".8
المانع الثاني
اجتهاد العصر لا يقصد الحفاظ على الضرورات الدينية
الضروري من الدين قي الغالب مما فيه نص قطعي لا مساغ للاجتهاد فيه، ولهذا قال علماء أصول الفقه: "لا اجتهاد مع النص"، سواء كان النص في الشريعة أو الأخلاق أو العقيدة، وهي على قول النورسي رحمه الله: "في حكم القوت والغذاء، ومن ضيّع القوت والغذاء"،9 فلا يمكن أن يستفيد من كماليات الأكل، وبتضييعها عرّض صحّته للخطر وبدنه للتلف، فكذا من ضيّع قوت الأرواح وغذاءها عرّض نفسه للتحوّل من مطمئنة إلى لوامة ثم أمّارة بالسوء، وهذا له تجلياته في أمراض الأبدان والأخلاق الاجتماعية، يؤكد هذه المعاني قول الأستاذ: "إنّ الضروريات الدينية التي لا مجال فيها للاجتهاد لقطعيتها وثبوتها، والتي هي في حكم القوت والغذاء، قد أهملت في العصر الحاضر وأخذت بالتصدع، فالواجب يحتم صرف الجهود وبذل الهمم جميعاً لإحياء هذه الضروريات وإقامتها، حيث إن الجوانب النظرية للإسلام قد استثرت بأفكار السلف الصالحين وتوسعت باجتهاداتهم الخالصة حتى لم تعد تضيق بالعصور جميعاً؛ لذا فان ترك تلك الاجتهادات الزكية والانصراف عنها إلى اجتهادات جديدة اتباعاً للهوى إنما هو خيانة مبتدعة".10
المانع الثالث11
انصياع اجتهادات العصر للرائج من الأفكار والرؤى، كأنّها استجابة لما يطلبه المستمعون، وقصده التنبيه إلى خطورة انصياع المجتهدين للرائج في سوق الفكر والتعليم والإعلام والسياسة.
ميل الناس للانصياع لما هو شائع متداول في حياتهم الاجتماعية والفكرية طبع لا يمكن دفعه بسهولة، وخاصة في ظل ظروف تجعل الحجة القوية ما صدر عن قوي لا ما كانت قوية، فيرغّب القوي معرفيا واجتماعيا وماديا سائر المستضعفين بما انتهت إليه قناعته، فإن عجز الترغيب عن تحقيق القصد لجأ إلى الترهيب من خطورة ما عليه المخالف من آراء وقناعات لا تدفعها أفكاره، والبشر في سياق التدافع الحضاري، قلّما ينظرون إلى الحجج المعرفية والدينية بمعزل عن الوعاء أو الجهة التي صدرت عنه أو منه، والأستاذ في هذا السياق يحذّر من الانصياع للمتداول في عالم الفكر من غير فحص وتمحيص لمضامينها وتداعياتها على الحياة الفكرية والاجتماعية ومن ثمّ الحضارية.
تعلّقت الهمم في العصر الحديث بجملة من السلع الرخيصة وزُهِّد في السلع الغالية، فمن السلع الرخيصة المُشاد بها:
الانشغال بالأمور السياسية وأحداثها.
حصر الهمّ في تأمين الراحة في الحياة الدنيا.
نشر الأفكار المادية وترويجها.
تزهيد الناس في السلع النفيسة عند سلف الأمة، ومنها:
طلب إرضاء رب السموات والأرض والوقوف عند حدوده، فمال ناس العصر عنها لصالح طلب مرضاة البشر وخاصة الغالب.
استنباط أوامره ونواهيه من كلامه الجليل، فصاروا في العصر الحاضر مائلون عن ذلك لصالح استنباط الأوامر والنواهي من كلام البشر.
السعي لنيل وسائل الوصول إلى السعادة الخالدة التي فتح أبوابها إلى الأبد القرآن الكريم ونور النبوة الساطع، وعوّضت بجعل السعادة أمرا دنيويا صرفا، فارتبطوا بالدنيا فأصابتهم الدنية في نفوسهم ومعاشهم.
هـ- توجّه الأذهان والقلوب والأرواح كلها وبكل قواها إلى معرفة مرضاة الله سبحانه وإدراك مرامي كلامه، بينما صرفت همم المعاصرين عن التعلّق بها، بل تعلّقت بجعل الدنيا أكبر الهمّ ومبلغ العلم,
تَحَوُّل استغرق الأنفاس والأقوال والأفعال والأحوال، فباتت وجهة حياتهم وروابطهم فيما بينهم وحوادثهم وأحاديثهم مقبلة كلها إلى مرضاة رب السموات والأرضين، وأهل زماننا تغيّرت وجهتهم، فامتلكت عليهم الدنيا أنفاسهم وأرواحهم وعقولهم وقلوبهم، حتى غدوا لها عابدين وبها متعلّقين وعليها مرابطين.
أصبحت الحوادث بالنسبة إليهم دروساً وعبراً لهم من حيث لا يشعرون، كأن قلبوهم وفطرهم متعلّمة من جميع الأحوال وفي كلّ الظروف، أما أهل عصرنا فهم في غفلتهم سادرون، والدروس والعبر التي اتفقت في الصدع بها أدلة الآفاق والأنفس فهم عنها عمون، وعن ناطقات حججها مائلون.
جملة ما نقل عن الأستاذ يؤكّد أن المسلم في مثل أنموذج السلف الصالح، يتعلّم من كلّ مكوّنات الحياة، قال الأستاذ: "كأن كل شيء يقوم بدور معلم مرشد يعلم فطرتهم ويلقنها ويرشدها ويهيئها للاجتهاد، حتى يكاد زيت ذكائه يضيء ولو لم تمسسه نار الاكتساب. فإذا ما شرع مثل هذا الشخص المستعد في مثل هذا المجتمع، بالاجتهاد في أوانه، فان استعداده ينال سراً من أسرار "نور على نور" ويصبح في أقرب وقت وأسرعه مجتهداً".12
ولكن واقعنا المعاصر يختلف عن أنموذج السلف الصالح فكرة واهتماما وهمًّا، فعصرنا تحكّمت فيه الحضارية الغربية، وتسلّطت عليه الفلسفة المادية، وتعقّدت فيه حياته اليومية، وكلّ ذلك أدّى إلى تشتت الأفكار وحيرة القلوب وتبعثر الهمم وتفتت الاهتمامات، حتى غدت الأمور المعنوية غريبة عن الأذهان13
والظروف المحيطة بالتعليم والحياة الاجتماعية والتربية والسياسة كلّها موانع تحول دون أنموذج المجتهد المتهيّئ للتبليغ ثم الاجتهاد في المستجدات، فضلا عن فقد التهيّؤ الفطري للاجتهاد، فسلف الأمة فضلا عن التأهّل الفطري ولدوا وترعرعوا وتربوا في ظل ظروف تفتق فيهم الاستعداد للاجتهاد، وإذا كان السابق محتاجا لمدة غير قصيرة ليصبح مجتهدا بالفعل، مع توفّر كلّ عناصر الاستعداد، من نحو الاستعداد الفطري ووسط تربوي تعليمي واجتماعي يفتّق المواهب وينميها، بينما الذي نراه في هذا الزمان قد يكون مانعا من ظهور نماذج كالسابقين في اجتهادهم وقبل ذلك استعدادهم، فهل نطمع في بعث الاجتهاد مِنْ مَنَ "غرق فكرُه في مستنقع الفلسفة المادية وسرح عقلُه في أحداث السياسة، وحار قلبُه أمام متطلبات المعاش، وابتعدت استعداداته وقابلياته عن الاجتهاد، فلا جرم قد ابتعد استعداده عن القدرة على الاجتهادات الشرعية بمقدار تفننه في العلوم الأرضية الحاضرة، وقصر عن نيل درجة الاجتهاد بمقدار تبحره في العلوم الأرضية، لذا لا يمكنه أن يقول لِمَ لا استطيع أن أبلغ درجة المتقدمين، وأنا مثلهم في الذكاء؟ نعم، لا يحق له هذا القول، كما أنه لن يلحق بهم ولن يبلغ شأوهم أبداً".14
المانع الرابع
السعي إلى تنمية الفروع على حساب الأصول، وهو ما يدفعه الانسجام مع طبيعة النمو الديني الذي لا يختلف عن الانسجام مع طبيعة النمو البدني.
يمثّل الأستاذ لبيان طبيعة النمو السنني أنّ الناس الأسوياء من الخلق لا يمكن أن يفكروا في تنمية الجوانب الخارجية من أبدانهم على حساب أصل ما يقوم عليه البدن، مثله كمثل من يروم تجمّلا أو رائحة طيّبة في ظلّ تعرّض البدن نفسه للخطر، فمن مال إلى التجمّل أي إلى الكماليات بتعريض الأصل الضروري للخطر، لا يكون في الأسوياء، أما مع سلامة البدن واستجماع كلّ العناصر الضرورية فإنّ الاهتمام بالأصل الكمالي دليل كمال في العقل والهمّة، يؤكّد هذه المعاني قول الأستاذ: "إن ميل الجسم إلى التوسع لأجل النمو إن كان داخلياً فهو دليل التكامل. بينما إن كان من الخارج فهو سبب تمزّق الغلاف والجلد، أي أنّه سبب الهدم والتخريب لا النمو والتوسع".15
والتفكير في المسألة الدينية لا يختلف عن التفكير في المسألة البدنية، فمن ضيّع الضروري من الدين وتطلّع للاجتهاد فلا يكون إلاّ مخرّبا للدين ومدمّرا لوجود العالم الإسلامي، كذا من أراد تزيين بدنه بتعريضه لخطر الزوال أو التلف، قال الأستاذ: "إن وجود إرادة الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين عند الذين يدورون في فلك الإسلام ويأتون إليه من باب التقوى والورع الكاملَين وعن طريق الامتثال بالضروريات الدينية فهو دليل الكمال والتكامل. وخير شاهد عليه السلف الصالح. أما التطلع إلى الاجتهاد والرغبة في التوسع في الدين إن كان ناشئاً لدى الذين تركوا الضروريات الدينية واستحبوا الحياة الدنيا، وتلوثوا بالفلسفة المادية، فهو وسيلة إلى تخريب الوجود الإسلامي وحل ربقة الإسلام من الأعناق".16
المانع الخامس
ضياع الطابع الروحي للاجتهاد وتغليب الطابع الأرضي على ميزة الارتباط بالسماء، فكان الجهد منصبا على التذكير، أي يقصد من التنبيه إلى هذا المانع الحفاظ على الطابع الروحي للاجتهاد وتحريره من الانشداد إلى الأرض.
الاجتهاد في تعريفاته الاصطلاحية المشهورة: "استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد،"17 واستفراغ الوسع في طلب الظن لا يٌقْبَلُ مِنْ مَنْ كان مضيّعا للعمل بمقتضى المقطوع به، من نحو الصلوات الخمس، ونحوها، لأنّها ليست محلا للاجتهاد،18 ومن كان لها مضيّعا لا يتورّع في أفعاله وأقواله،19 ولهذا لا حجة في فعله وقوله، لأنّ تلك الأصول ثابتة بالأدلة القطعية، وهي للإنسان كالقوت والغذاء، فلا يُقدم على تضييعها إلاّ من ختم الله على قلبه بالشقاء، وأكّد العلماء هذا المعنى بالقاعدة المشهورة: "لا اجتهاد في مورد النص".
وتلقي الأمة بالقبول قاعدة: "لا اجتهاد في مورد النص" والعمل بمقتضاها، دليل على أنّ للاجتهاد طابع روحي، ويستشف منه أنّ الانشداد إلى الأرض يلوّث الاجتهاد، ويجعله عملا مزاحما للأصل الروحي، ذلك أنّ أصل الاجتهاد عمل على توثيق الأصل الذي ورد به النص، فإن كان عائدا عليه بالإبطال، دلّ ذلك على أن ما تسمى اجتهادا ليس اجتهادا ولا تجديدا، فقد يكون حريا بأن يكون تبديلا أو محاولة تبديد للدين نفسه.
أصل الوضع الشرعي للاجتهاد أنّه عمل على تمثّل الأوامر الإلهية ببذل الوسع في الظنيات بعد تحقق القلب والعقل بالقطعيات والعمل بمقتضاها، بخلاف ما عليه الاجتهاد مزاولة في العصر الراهن، فقد جُعل جهدا يربط الناس بالأرض، عوض ربطهم بالسماء، فخلع من الاجتهاد طابعه الروحي السماوي، ومرّغه بأوحال الأرض، وكان الأصل أن يكون الاجتهاد من طبيعة الشريعة التي تأسس عليها، فالشريعة السماوية تقتضي أن الاجتهادات بدورها سماوية، لأنها مظهرة لخفايا أحكامها، وهذا يدعو إلى التأمل والنظر من الزوايا الآتية:
الخلط المتعمّد في هذا الزمان بين علّة الحكم وحكمته، فجعلوا الحكمة التي هي سبب في الترجيح مناط الوجود ومدار الإيجاد، وأهملوا العلّة التي هي مناط وجود الحكم وعليها مدار التكليف، وقد مالوا إلى ذلك بسبب ارتباط اجتهادهم بالأرض والتعلّق بمفاتنها، ذلك أنّ "علّة كل حكم تختلف عن حكمته فالحكمة والمصلحة سبب الترجيح وليست مناط الوجود ولا مدار الإيجاد، بينما العلة هي مدار وجود الحكم".20
اجتهاد هذا العصر يتوجّه إلى إقامة المصلحة والحكمة بدل العلّة، وفي ضوئها يصدر حكمه، فلا شكّ أنّ اجتهادا كهذا أرضي وليس سماويا.21
ميزة اجتهادات هذا العصر أنّها أرضية تقصد تأمين سعادة الدنيا، وتوجّه الأحكام نحوها، بخلاف ما عليه قصد الشريعة، فهي متوجّهة بالدرجة الأولى إلى تحقيق السعادة الأخروية، وتحقق السعادة الدنيوية بالتبع، ويجعل من الدنيا وسيلة للآخرة، كما يجعل طلب جلب السعادة الأخروية عاملا فعّالا في تحقيق عمارة الأرض وجلب السعادة فيها، لهذا كانت السمة العامة لاجتهادات العصر غريبة عن روح الشريعة ومقاصدها، فلا تستطيع أن تجتهد باسم الشريعة.
التلاعب بقواعد الشرع في اجتهادات العصر، فيجعلون من بعض القواعد الشرعية وسيلة للعود على الأصل بالإبطال، والأصل في هذا الصنف من القواعد أن يكون مندرجا في الإطار الكلي للشرع نفسه، لهذا انتهى الأستاذ إلى أنّ "القاعدة الشرعية 'الضرورات تبيح المحظورات‘ ليست كلية، لأن الضرورة إن كانت ناشئة عن طريق الحرام لا تكون سبباً لإباحة الحرام، وإلاّ فالضرورة التي نشأت عن سوء اختيار الفرد، أو عن وسائل غير مشروعة لن تكون حجة ولا سبباً لإباحة المحظورات ولا مداراً لأحكام الرُخص".22
اجتهادات أهل العصر جعلوا ضرورات ناشئة بطريق الحرام مدارا للأحكام الشرعية، لذا فهو اجتهاد أرضي تابع للأهواء ومشوب بالفلسفة المادية، ومن ثمّ فهو ليس اجتهادا سماويا، ولهذا قال الأستاذ "لا تصح تسميتها اجتهادات شرعية قطعاً؛ ذلك لأن أي تصرف في أحكام خالق السموات والأرض وأي تدخل في عبادة عباده دونما رخصة أو إذن معنوي فهو مردود".23
يوضّح الأستاذ الفكرة بضرب الأمثلة، منها مسألة استحسان بعض الغافلين إلقاء خطبة الجمعة وأمثالها من الشعائر الإسلامية باللغة المحلية لكل قوم عوض إلقائها باللسان العربي مبررين استحسانهم بسببين: 24
السبب الأول
تمكين عامة المسلمين وعامتهم من فهم الأحداث السياسية، ويستغرب الأستاذ الاحتجاج بمثل هذه الحجة الساقطة، وخاصة في ظل سياسة دخلتها الأكاذيب والدسائس والخداع ما جعلها في حكم وسوسة الشياطين! بينما منبر مسجد مقام تبليغ الوحي الإلهي، وهو أرفع وأجلّ من أن ترتقي إليه الوسوسة الشيطانية.
السبب الثاني
جعلت خطبة صلاة الجمعة للبلاغ عن الله وبيان ما ترشد إليه سور القرآن الكريم ونصائحه، ولو كان معظم جمهور المسلمين يفهمون أصول الأحكام الشرعية والمعلوم من الدين بالضرورة، ويتصرّفون بمقتضاها، لاستحسن إيراد الخطبة بلغتهم، تيسيرا لفهم النظريات الشرعية والمسـائل الدقيقة والنصائح الخـفية.
ولكن عصرا أهملت فيه الأحكام الشرعية الواضحة المعلومة من الدين ضرورة من نحو وجوب الصلاة والزكاة والصيام وحرمة القتل والزنا والخمر، عوامه بحاجة إلى امتثال الأحكام الشرعية المعلومة من الدين في حياتهم، ويخلص إلى تحقيق هذا القصد بتذكيرهم وحثّهم على العمل وشحذ الهمم وإثارة غيرة الإسلام في عروقهم، وتحريك شعور الإيمان لديهم كي ينهضوا بامتثال وإتباع تلك الأحكام المطهرة. 25
يستشهد الأستاذ لتأكيد هذه المعاني بواقع البلاغ عن الله باللسان بالعربي، فالمسلم وإن كان عاميا لا يفهم اللسان العربي، يدرك -مهما بلغ جهله- المعنى الإجمالي من القرآن الكريم، الذي نزل بالعربية وبها يرتّل، ويعلم العامي في قرارة نفسه بأن الخطيب أو المقرئ للقرآن الكريم يذكّره -ويذكّر الآخرين معه- بأركان الإيمان وأسس الإسلام التي هي معلومة من الدين بالضرورة، وسماع القرآن مرتلا باللسان العربي يفعم قلب العامي وغيره الأشواق إلى تطبيق تلك الأحكام. 26
وفضلا عن ذلك فأي "تعبير في الكون كله يمكنه أن يقف على قدميه حيال الإعجاز الرائع في القرآن الكريم الموصول بالعرش العظيم.. وأي ترغيب وترهيب وبيان وتذكير يمكن أن يكون أفضل منه؟!"27
المانع السادس
بُعْدُ مجتهدي العصر الحديث عن عصر العلم والعمل بمقتضى الشريعة، فكانوا ينظرون إلى كتاب الحقيقة من مسافة بعيدة جداً ومن وراء أستار وحجب كثيرة جداً صعّبت عليهم رؤية أوضح حرف فيه.28
فضلا عن كون جيل التنزيل من الصحابة قاموا باجتهاداتهم النيّرة لعدالتهم وتلقيهم من شمس النبوة، عهد عصر الحقيقة والنور، فقد أخذوا معارف الوحي من مصادره، بينما لا يملك مجتهد العصر شيئا من ذلك، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين روّاد الحق وعشّاقه، وهم التوّاقون إلى الصدق والعدل. وتبيّن في عصرهم قبح الكذب ومساوئه، وجمال الصدق ومحاسنه بوضوح تام، بحيث أصبح البون شاسعاً بين الصدق والكذب... أما الآن، فقد ضاقت المسافة بين الكذب والصدق، وقصرت حتى صارا متقاربين بل متكاتفين، وبات الانتقال من الصدق إلى الكذب سهلاً وهيناً جداً بل غدا الكذب يفضل على الصدق في الدعايات السياسية. 29
وعلى مسلم العصر إن كان أجمل شيء يباع مع أقبحه في حانوت واحد جنباً إلى جنب وبالثمن نفسه، أن يشتري لؤلؤة الصدق الغالي ولا يعتمد على كلام صاحب الحانوت ومعرفته دون فحص وتمحيص. 30
القضية الثانية: وقفات مع رسالة الاجتهاد
الوقفة الأولى: خطورة الحديث في الاجتهاد بمعزل عن معطيات الزمان والمكان
إن العلامة النورسي يدرك جليا أن إغلاق باب الاجتهاد إعلان لوفاة العقل وخروج من الواقع وانسحاب من مشكلاته، وغياب عن الحاضر والمستقبل، ومصيبة تجعل العلماء يسيرون خلف المجتمع يدفنون موتاه بدل أن يسيروا أمامه ويقودوه إلى الخير ويقوموا سلوك أحيائه؛ إنّه التحوّل إلى الدوران في فلك نصوص وآراء أسلافهم والسعي في فلكها شرحا واختصارا أو شرح الشرح واختصار الاختصار، ومع ذلك يحذّر من فتح باب الاجتهاد على مصراعيه من غير مسوّغات وفي ظل فقد شروط الاجتهاد أو في ظلّ الخطر الذي يتهدد الدين نفسه.
الوقفة الثانية: لماذا الغلق المؤقت لباب الاجتهاد؟
يرى ابن خلدون رحمه الله بأنّ الدافع الحقيقي إلى الإغلاق لا يعود إلى الحجج النقلية أو إلى الحجج العقلية، وهي واهية في جملتها يمكن تجاوزها بيسر؛ بل ينحصر في العلاقة بين الفقه والسياسة؛ وقد خشي الفقهاء على أصول الدين من سطوة رجال السياسة؛ وعزفوا عن خدمة الحكام وأطماعهم بإصدار ما يعنّ لهم من الفتاوى فأغلقوا الباب، وهو مستند الأستاذ النورسي في الدعوة إلى الإغلاق المؤقت لباب الاجتهاد31 وندرك في هذا السياق أن عملية الغلق مرت بمرحلتين:
المرحلة الأولى: كان فيها للعامل السياسي دورا جوهريا في الدعوة لغلق باب الاجتهاد، وهو أمر مفهوم ومستساغ، ذلك أنّه في ظل الاستبداد السياسي وهيمنة السياسة بمعنى التلاعب بالمجتمعات بالمراوغة والوسوسة، يجب منع التلاعب بالدين من قبل الساسة.
المرحلة الثانية: وترجع إلى طابع التقليد، وقد حمل التقليد اللاحقين من الفقهاء على تقليد المتقدمين فأغلقوا الباب وأقروا بمشروعية الغلق المؤقت لباب الاجتهاد، ولم يراعوا في ذلك حقيقة التعامل بين الفقه والحياة الواقعية، حيث أضحى سد باب الاجتهاد يقينا في الضمير الإسلامي الفردي والجماعي أو كاد32، طبعا وهذا صلته بما نحن بصدده باهتة، فمشكلة العصر ليست في شيوع تقليد الفقهاء المتقدمين، بل في شيوع الجهل بالفقه الإسلامي، وانتشار تقليد الغربيين والفلسفة، المادية وامتدادتها في السياسة والفكر، حتى غدت السياسة تلاعبا بالعقول، واستغلالا لخيرات الأمة بعنوان خدمتها، فضلا عن فقد المعرفة بأصول الدين نفسه، وهو مسوّغ قوي للتأكيد على الإغلاق المؤقت لباب الاجتهاد.
الوقفة الثالثة: أسباب الغلق المؤقت لباب الاجتهاد عند النورسي
فضلا عما سبق ذكره، أشار الأستاذ النورسي إلى تخوّف العلماء من ضعف الوازع الديني الذي قد يؤدي إلى هدم صرح الفقه الذي بناه الأئمة السابقون، فأفتوا بإغلاق باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع الهجري ليوصدوا الباب على من ليس أهلا للاجتهاد والنظر، وبهذا يقطعون الطريق على الفرق والمذاهب التي تكاثرت وضعف فيها الانتماء للأمة، وشاع بين منتسبيها التعصب، فلأجل حماية الأمة من الانقسام الديني33 أغلق باب الاجتهاد مؤقتا, وكان هذا في تقديرنا من باب السياسة الشرعية التي تعالج شأنا خاصا أو أمرا مؤقتا أو فوضى اجتهادية قائمة بسبب ادعاء غير الأكفاء الاجتهاد، وقد رام الأستاذ النورسي تحقيق القول فيه، فالزمان الراهن يتهدد الأمة بالزوال من خلال السعي الدءوب إلى تجفيف منابع الدين بعنوان الاجتهاد الفوضوي، أومن خلال الميل إلى الاجتهاد في الفروع في ظل أصول مهددة بالزوال، فلا أصولا حافظوا عليها ولا فروع نفعوا فيها، وفضلا عن ذلك، فإنّ ما أصل له لا فرع له ضرورة، من هنا كانت جهود الأستاذ منصبّة على الحفاظ على الأصول أولا، ولو اقتضى الأمر غلقا مؤقتا لباب الاجتهاد، لأنّه في ظل ظروف تهدد الأصل لا معنى للحديث عن الفروع، فالذمة يجب أن تكون منشغلة بالحفاظ على الأصل، لأنّه إن كان الاجتهاد حقا فإنّ الحفاظ على الأصل أحق من هذا الحق، بل وأحق بالعناية، لأنّ الاجتهاد فرع عن الأصل، ومن ضيّع الأصل كيف له أن ينشئ فرعا، لهذا كانت رسالة الأستاذ في سياسة الإصلاح، مفادها الإجابة عن السؤال الآتي: كيف السبيل إلى تسيير عملية الإصلاح والتغيير في ظل هذا الواقع المتردي؟
رسالة الاجتهاد، رسالة في سياسة الإصلاح الاجتماعي، ولا يمكن قراءتها وتفهّم معانيها بمعزل عن الظروف التي ولدت فيها.
الوقفة الرابعة
إنّ باب الاجتهاد سيظل مفتوحا، ولا يملك عالم إغلاقه بعد أن فتحه سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، ولا يسع فردا أو مجموعة من العلماء أن يقولوا في واقعة تعرض عليهم ليس لنا حق الاجتهاد في هذه المسألة أو تلك؛ لأن من سلفنا قبلنا لم يقولوا شيئا في شأنها؛ إذ الشريعة لابد أن تحيط بأفعال المكلفين، وأن يكون لهم حكم في كل واقعة؛ وهذا مما لا خلاف فيه.
فإذا زال الموجب لما سبق نعود إلى أصل الحكم، وهو فتح باب الاجتهاد، إذ لا دليل أصلا على سد باب الاجتهاد، وإنما هي دعوى فارغة وحجة واهنة أوهن من بيت العنكبوت لأنها غير مستندة إلى دليل شرعي أو عقلي سوى التوارث،34 وهذا الكلام صحيح في المطلق، ولكنه ليس صحيحا بإطلاق، ذلك أنّه من مقتضيات الاجتهاد معرفة ظروف الاجتهاد ومعطيات المجتمع الذي يجتهد له، ذلك أنّ معرفة واقع وأحوال ومعطيات الاجتهاد وجوّه عوامل رئيسة في تقديم الاجتهادات المتوافقة مع متطلبات الظروف الراهنة، ولا شكّ أنّها عمل اجتهادي محض، لهذا لا مساغ للقول بالغلق المطلق لباب الاجتهاد إلا بالاجتهاد، إذ أساس القول بالغلق المؤقت لباب الاجتهاد اجتهادي، ولكنّه في ظل المسوّغات المؤسسة للغلق المؤقت لبابه أولى بالاعتبار منعا للدين من الضياع.
الوقفة الخامسة
إن العلامة النورسي يعي أن توقيف الاجتهاد تحت عنوان فساد العصر يؤدي إلى فساد كبير واتهام ضمني للشريعة ورميها بالقصور وعدم تقدير الأمور، ويحوّل الأمة من التفكير والإبداع إلى التلقين والتقليد والجمود ويعود بها إلى أدنى وظائف العقل، عود به إلى مراحل العقل الطفولي القادر على الحفظ وشحن الذاكرة أكثر منه على التفكير والتحليل والنظر والاجتهاد.35
ولكن هل الأمة في ظل جهود مضنية تبذل من قبل الفلسفة المادية وبعض أنصارها لاستئصال إيمانها من القلوب ليسهل استئصاله من الواقع ثم من الحياة كلّها، في مقام الاجتهاد والنقاش القديم والجديد عن أهمية الاجتهاد، أم أنّ المسألة أكبر من ذلك بمراحل، إنّ الأمّة معرّضة لرغبة جامحة في تجفيف مصادر دينها ومنابعها الروحية واستبعاد مكوّناته الأخلاقية من الحياة، ومن كان وضعه على وفق ما ألمحنا، فإنّه يضحك ملء شدقيه إذا تحدّث أمامه عن أهمية الاجتهاد، لأنّه وباختصار مفيد يرى أنّ الأصل يفرض الاهتمام بما إذا فقدناه فقدنا أصل التفكير في الاجتهاد، وإذا كان الاجتهاد أصلا، فأصله الدين، وإذا ضاع الدين ضاع الاجتهاد ضرورة، لهذا وجبت العناية به، تمكينا وتثبيتا في القلوب وإثباتا بما يحقق إقناع العقل ويدفع إلى العمل بمقتضى الطاعة في شعاب الحياة.
الوقفة السادسة
دعوة الأستاذ في ظل المعطيات الزمنية والمكانية المشار إليها، اجتهاد في تحديد الأولويات -وفق ما ألمحنا إليه في مستهل البحث- فليست من قبيل غلق دائم لباب الاجتهاد، وتعطيل العقل، بل الموقف ليس إلا إعمالا للعقل في ترتيب الأولويات، وبالتالي لا يمكن أن يؤدي بالناس إلى الشعور بتقادم معاني الشريعة وأفكارها وقيمها بالمقارنة مع قيم العصر، فضلا عن الإحساس بأنها تقيّدهم كثيرا في فهم شؤون حياتهم ومعاشهم وسبل السيطرة عليه؛ ولا في مساعدتهم على التعامل معه والاندماج فيه36، ولهذا كانت روح هذا الترتيب المنهجي لباب الاجتهاد مانعا من جعلهم مستعدين لقبول الوافد الجديد أو مرحبين بالغزو الفكري والثقافي والحضاري بشكل عام، ذلك أنّه يعمل على استعادة الأصل الذي ضاع الدين قبل التفكير في استعادة الأصل الذي تفرّع عنه الاجتهاد.
الوقفة السابعة
تأتي أهمية رسالة الاجتهاد للإمام بديع الزمان النورسي في القرن العشرين في كونها رسالة تحذير وتوجيه لأولئك الذين طاوعتهم أنفسهم فتطلعوا إلى النظر الاجتهادي قبل رسوخهم في الشريعة، والتمكّن من أدوات وشروط الاجتهاد معرفة وتمرّسا، زيادة إلى معرفة مقبولة على الأقل بالواقع الذي يعيشون، والأولويات التي تنتظرهم، ومن فقد الشروط المشار إليها آنفا، اجتهاده غير معتبر شرعا، لأنه صادر عمن ليس بعارف بما يفتقر إليه الاجتهاد، وحقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضد الحق الذي أنزل الله فيه قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾.المائدة:49
الوقفة الثامنة
ختم الأستاذ رسالة الاجتهاد بالتأكيد على ختم النبوة، وبعد خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام، لم تعد هناك حاجة إلى شريعة أخرى، لأن شريعته العظمى كافية ووافية لكل قوم في كل عصر، وبالرغم من خاتمية الشريعة فإنّ جزئيات الأحكام غير المنصوص عليها تقتضي التبديل تبعاً للظروف، واجتهادات فقهاء المذاهب كفيلة بمعالجة التبديل. فكما تبدل الملابس باختلاف المواسم، وتغيّر الأدوية حسب حاجة المرضى، كذلك تبدل الشرائع حسب العصور، وتدور الأحكام وفق استعدادات الأمم الفطرية، لأنّ الأحكام الشرعية الفرعية تتبع الأحوال البشرية، وتأتي منسجمة معها وتصبح دواء لدائها."37
دواء لداء الإنسانية بجملة مكوّناتها، ولعجز البشرية عن بلوغ مستوى واحد، وعدم تمكّنها من السير على نمط واحد في حياتها الاجتماعية فقد تعـددت المـذاهب الفقهــية في الفروع.
فلو تمكنت البشرية -بأكثريتها المطلقة- أن تحيا حياة اجتماعية واحدة، وأصبحت في مستوى واحد، فحينئذ يمكن أن تتوحد المذاهب، ومثلما لا تسمح أحوال العالم، وطبائع الناس لبلوغ تلك الحالة، فان المذاهب كذلك لا تكون واحدة.38
ولعلّ بعضهم يقول: إنّ الحق واحد، فكيف يمكن أن تكون الأحكام المختلفة في المذاهب الأربعة والاثني عشر حقاً؟ فاختار الأستاذ للإجابة عن التساؤل المشروع مسلك المثيل، ويؤكّد الفكرة بتنويع الأمثلة:39
المثال الأول
يأخذ الماء أحكاماً خمسة مختلفة حسب أذواق المرضى المختلفة وحالاتهم: "فهو دواء لمريض على حسب مزاجه، أي تناوله واجب عليه طباً. وقد يسبب ضرراً لمريض آخر فهو كالسم له، أي يحرم علـيه طباً، وقد يولد ضرراً أقل لمريض آخر فهو إذن مكروه له طباً، وقد يكون نافعاً لآخر من دون أن يضره، فيسنّ له طباً، وقد لا يضر آخر ولا ينفعه، فهو له مباح طباً فليهنأ بشربه"، ويخلص بعد المثال الأول إلى النتيجة العامة الآتية: "إن الحق قد تعدد هنا، فالأقسام الخمسة كلها حق، فهل لك أن تقول: إنّ الماء علاج لا غير، أو واجب فحسب، وليس له حكم آخر؟... لهذا يؤكّد تغير الأحكام الإلهية بسَوْقٍ من الحكمة الإلهية وحسب التابعين لها. فهي تتبدل حقاً، وتبقى حقاً ويكون كل حكم منها حقاً ويصبح مصلحة".
المثال الثاني
أكثر الذين يتبعون الإمام الشافعي t هم أقرب من الأحناف إلى البداوة وحياة الريف، تلك الحياة القاصرة عن حياة اجتماعية توحدّ الجماعة. فيرغب كل فرد في بث ما يجده في نفسه إلى قاضي الحاجات بكل اطمئنان وحضور قلب، ويطلب حاجته الخاصة بنفسه ويلتجئ إليه، فيقرأ سورة الفاتحة بنفسه بالرغم من أنّه تابع للإمام. وهذا هو عين الحق، وحكمة محضة في الوقت نفسه. أما الذين يتبعون الإمام الأعظم "أبو حنيفة النعمان" t، فهم بأكثريتهم المطلقة أقرب إلى الحضارة وحياة المدن المؤهلة لحياة اجتماعية، وذلك بحكم التزام أغلب الحكومات الإسلامية لهذا المذهب. فصارت الجماعة الواحدة في الصلاة كأنها فرد واحد، وأصبح الفرد الواحد يتكلم باسم الجميع، وحيث إن الجميع يصدقونه ويرتبطون به قلباً، فإنّ قوله يكون في حكم قول الجميع، فعدم قراءة الفرد وراء الإمام بـ "الفاتحة" هو عين الحق وذات الحكمة.
المثال الثالث
لما كانت الشريعة تضع حواجز لتحول دون تجاوز طبائع البشر حدودها، فتقوّمها بها وتؤدبها، فتربى النفس الأمّارة بالسوء، فلابد أن ينقض الوضوء بمس المرأة وقليل من النجاسة يضر، حسب المذهب الشافعي الذي أكثر أتباعه من أهل القرى وأنصاف البدو والمنهمكين بالعمل أما حسب المذهب الحنفي الذين هم بأكثريتهم المطلقة قد دخلوا الحياة الاجتماعية، واتخذوا طور أنصاف متحضرين فـ "لا ينقض الوضوء من مسِّ المرأة، ويسمح بقدر درهم من النجاسة ". ولننظر الآن إلى عامل وإلى موظف، فالعامل بحكم معيشته في القرية معرض للاختلاط والتماس بالنساء الأجنبيات والجلوس معاً حول موقد واحد، والولوج في أماكن ملوثة فهو مبتلى بكل هذا بحكم مهنته ومعيشته، وقد تجد نفسه الأمّارة بالسوء مجالاً أمامها لتتجاوز حدودها؛ لذا تلقي الشريعة في روع هذا صدى سماوياً فتمنع تلك التجاوزات بأمرها له: لا تمس ما ينقض الوضوء، فتبطل صلاتك. أما ذلك الموظف، فهو حسب عادته الاجتماعية لا يتعرض للاختلاط بالنساء الأجنبيات -بشرط أن يكون نبيلا- ولا يلوث نفسه كثيراً بالنجاسات، آخذاً بأسباب النظافة المدنية. لذا لم تشدد عليه الشريعة، بل أظهرت له جانب الرخصة -دون العزيمة- باسم المذهب الحنفي وخففت عنه قائلة: إن مست يدك امرأة أجنبية فلا ينقض وضوؤك، ولا ضرر عليك إن لم تستنج بالماء حياء من الحاضرين، فهناك سماح بقدر درهم من النجاسة فتخلصه بهذا من الوسوسة، وتنجّيه من التردد.40
الوقفة التاسعة
يستشف مما سبقت الإشارة إليه أنّ مسلم العصر قد يكون بحاجة إلى كلّ المذاهب بحسب الأوضاع التي يكون عليها، وخير مثال على ذلك الموقف أنّ يأخذ المكلّف بعنوان الرخصة رأي مذهب آخر غير الذي ينتسب إليه، منها -نسجا على رأي الأستاذ- أخذ مالكية العصر برأي الحنفية في جواز إخراج زكاة الفطر نقدا، وفي ذلك تثاقف إسلامي بين المذاهب وتشجيع على ما تمسّ الحاجة إليه من الاجتهاد الجماعي عن طريق توسيع المشورة العلمية إلى أكبر عدد من العلماء في مختلف البلاد والمذاهب الإسلامية في صورة مجمع علمي أو مؤتمر فقهي للنظر في قضايا العصر وما تحتاجه الأمة؛ فيتفقون على ما يرونه محققا للمصلحة؛ لأن الاجتهاد الفردي في عصرنا أضحى غير مأمون العواقب ولا مضمون النتائج.
وبذلك يظهر جليا في الواقع أن الاجتهاد حركة عقلية في أحكام الدين المشروعة لصالح الأمة،41 وهذا الاتجاه هو ما أشارت إليه الآيات القرآنية في قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾،التغابن:16 وقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾،الحشر:02 وهو تطبيق لمبدأ الشورى المطلوبة شرعا في أمور القضاء وغيره في قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾،آل عمران:159 وقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾.الشورى:38
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا النحو من الاجتهاد فيما سعى إلى تحقيقه العلامة النورسي بجمع العلماء وتداولهم في الرأي فيما روى مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب t قال: "قلت يا رسول الله الأمرُ ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه سنة؟ قال: "اجمعوا له العالمين -أو قال العابدين- من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد".42
وهكذا كانت طريقة الخلفاء الراشدين إذ وجدت لهم مجالس شورى عامة بالإضافة إلى مجالس شورى خاصة.43
وطريق التشاور العلمي والاستنباط من الأدلة يعتمد على أمرين: أصول الفقه، والقواعد الفقهية الكلية، والقواعد مبنية على فهم مقاصد الشريعة، والمقاصد مبنية على اعتبار المصالح، والمصالح المعتبرة من وضع الشرع لا بأهواء الناس.
وإذا كان الإمام الجليل بديع الزمان النورسي قد بلغ شأوا عظيما ومكانا مرموقا في مجال العقيدة والفكر الإسلامي والفلسفة والتربية والتفسير وعلم الكلام، وشاع لدى تلاميذه الإبداع في هذه الفنون درسا وتدريسا وكتابة ودعوة فإنه يلحظ من خلال هذه الرسالة بعض مسائل الاجتهاد التي وردت عنه في كثير من المسائل الفقهية توحي بامتلاك الإمام ناصية الفكر الأصولي، وهو ما أهمل العناية به كثير مما كتب عنه، فلم نجد كثير بحوث تناولت النواحي الاجتهادية في رسائل النور، وقد ظهر لنا أنّ الأستاذ النورسي كان المتفننين في درس أصول الفقه، إذ يظهر جليا لمن فحص ومحّص وحلّل رسالة الاجتهاد أنّ للأستاذ النورسي عناية بفقه الضروريات أو الأولويات، وما يحتاج إليه في علم أصول الفقه.
والأستاذ بما توفّر عليه من ميزات واستعداد وقابلية يحق له الاجتهاد، ذلك أنّ "كل من لديه استعداد وقابلية على الاجتهاد وحائز على شروطه له أن يجتهد لنفسه في غير ما ورد فيه النص من دون أن يلزم الآخرين به، إذ لا يستطيع أن يشرع ويدعو الأمة إلى مفهومه، إذ فهمه يعد من فقه الشريعة، ولكن ليس الشريعة نفسها، لذا ربما يكون الإنسان مجتهدا ولكن لا يمكن أن يكون مشرعا". 44
الوقفة العاشرة
مسألة الخطأ والصواب في الاجتهاد
بمعنى هل كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد؟ والجميع سوغوا هذا الاختلاف، وهو دليل على أنه له مساغا في الشريعة الإسلامية،45 وذهب الأكثرون إلى أنّ الحق في جميعها وأنّ كلّ مجتهد مصيب فيما عند الله ومصيب في الحكم لأن جواز الجميع دليل على صحة الجميع.46
وذهب الإمام الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء إلى أنّ الحق في أحدهما، وإن لم يتعين لنا فهو عند الله متعين لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالا حراما، وهذا يقتضي أن يطلب كل واحد إصابة الحق.47
ثم اختلفوا هل كل مجتهد مصيب أم لا؟48
فعند الشافعي أن المصيب عندهم واحد وإن لم يتعين وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد، وبه قال مالك وغيره، وذهب أبو يوسف وغيره إلى أنّ كل مجتهد مصيب وإن كان الحق في واحد فمن أصابه فقد أصاب الحق ومن أخطأه فقد أخطأه، وقيل إنّ الحق من قول المجتهدين واحد والآخر باطل.49
لا يمكن الكلام عن هذه الرسالة وتجاهل الواقع الأخلاقي والاجتماعي والعلمي الذي كان سائدا في ذلك الزمان، وقد لفتت أزمات عصره حياة الأستاذ بديع النورسي فاستضاء بنور الله ساعيا إلى تبصير الأمة وكشف الغمة عما آلت إليه الأمة من انحطاط وتيه، بسبب تركها لكتاب الله وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، القائل: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي".50
إن المجتهد الحق هو الذي ينظر إلى النصوص والأدلة بعين وينظر إلى الواقع والعصر وإكراهاته بعين أخرى؛ حتى يوائم بين الواجب والواقع، ويعطي لكل واقعة حكمها المناسب لمكانها وزمانها وحالها تعتبر هذه المسألة من المباحث الأساسية في الدرس الأصولي.
يميل الأستاذ بديع الزمان في هذه المسألة إلى رأي من يقول بالتصويب، ويقبل آراء الآخرين في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص عن الشارع، أو ورد فيها نص واختلف فيه من حيث دلالته؛ أي الاختلاف في الفهم لا في الثبوت، كما يمكن أن تختلف العقول في تنزيله على الواقع.
وهذا ما أشار إليه بقوله: "فإن قلت: إن الحق واحد فكيف يمكن أن تكون الأحكام المختلفة للمذاهب الأربعة والاثني عشر؟
الجواب: يأخذ الماء أحكاما خمسة مختلفة حسب أذواق المرضى المختلفة وحالاتهم: فهو دواء لمريض على حسب مزاجه، أي تناوله واجب عليه طبا، وقد يسبب ضررا لمريض آخر فهو كالسم له، أي يحرم عليه طبعا، وقد يولد ضررا أقل لمريض آخر فهو إذن مكروه له طبا، وقد يكون نافعا لآخر من دون أن يضره، فيسن له طبا، وقد لا يضر آخر ولا ينفعه، فهو مباح طبا فليهنأ بشربه.
فنرى من الأمثلة السابقة: أن الحق قد تعدد هنا، فالأقسام الخمسة كلها حق؛ فهل لك أن تقول: إنّ الماء علاج لا غير أو واجب فحسب؛ وليس له حكم آخر؟".51
ورد بصدد التأكيد على التصويب بلحاظ الحكم المستشفة من مختلف التفسيرات للأحاديث، منها فالمقصود - أياً كان - من الحديث فهو حق... "لأنّه نتيجة الاجتهاد، لا التشهي؛ إذ من المعلوم أنّ المجتهد ليس مكلفاً بتقليد غيره من المجتهدين".52
وبلوغ المجتهد رتبة الاجتهاد يتحصل بتوفر شروط فيه، وارتأيت أن ننطلق من شكل يمثل الشروط اللازم توفرها في المجتهد استقيها من حجة الإسلام الغزالي إذ يمثل في الزمن مرحلة الحوصلة والجمع.
ربط الغزالي الاجتهاد بشروط53 جعلها تبدأ بالمدارك وهي الكتاب ويشترط فيه معرفة آيات الأحكام والعلم بمواضعها دون حفظها، ثم السنة، وقد اقترح الشرط السابق ذاته ثم الإجماع، فدعا إلى التخلي عن حفظ جميع المواقع وألا تخالف الفتوى الإجماع ثم العقل، وقد عرّفه بأنّه مستند النفي الأصلي للأحكام... فإنّه قد دلّ على نفي الحرج في الأقوال والأفعال وعلى نفي الأحكام عنها بصورة لا نهاية لها.
ثم ثنى بالعلوم واعتبر علمين مقدمين هما: معرفة نصيب الأدلة وشروطها التي بها تصير البراهين والأدلة منتجة، ومعرفة اللغة لفهم الخطاب العربي، وهو يقصد الكتاب والسنة أساسا... ثم علمين متممين هما الناسخ والمنسوخ ومعرفة الرواية وتمييز الصحيح منها من الفاسد، ثم أنهى الشروط بحوصلة ميادينها وهي علم الحديث وعلم اللغة وعلم أصول الفقه، فتلك العلوم الثمانية في نظر الغزالي هي التي يستفاد بها منصب الاجتهاد، ولم يضف القرافي إلى هذه الشروط شيئا يذكر إذا استثنينا إغضاءه عن القياس،54 أما ابن خلدون فقد ردد شروط الغزالي مع الاستعاضة عن العقل بالقياس.55
يستشف من إشارة العلامة النورسي إلى مسألة التصويب والتخطئة أنّها كانت من قضايا التي احتدم حولها النقاش والجدل في عصره، وحاول هذا المجدد أن يكون ابن زمانه وبيئته وعصره ومكانه، وقد كان في هذه المسألة متأثرا بمذهب الإمام الشافعي رحمه الله.
ثم إن المتأمل في أقوال الذين تكلموا في هذه المسألة واختاروا الرأي الذي اختاره البديع النورسي، يلاحظ أنّهم أيّدوا ودعّموا رأيهم بالأدلة التي ذكرها علماء أصول الفقه في هذا الباب، فانتهوا إلى صحة القول بالتصويب وهو من المسائل التي لم يفصّل فيها الأستاذ، وترك هذا المسلك الأصولي واتجه إلى تثبيت الأفكار التي اختارها بضرب الأمثلة من الواقع وتقريب ذلك إلى العقول والأفهام مشيرا إلى تأثير الظروف والبيئة والزمان والمكان على الآراء الاجتهادية في القول بتعدد الحق الواحد.
الوقفة الحادية عشر: مجالات الاجتهاد عند الإمام النورسي
يحدد رحمه الله المجالات التي تسع لاجتهادات المجتهدين ومناقشاتهم، ويخرج بذلك ببيان ما لا مجال للاجتهاد فيه، وهو ما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع كوجوب الصلوات الخمس والزكاة ونحوها.
فيشير رحمه الله إلى ما يجوز فيه الاجتهاد وهي المسائل التي لا

Yıl 2013, Cilt: 7 Sayı: 7, - , 01.06.2013

Öz

Toplam 0 adet kaynakça vardır.

Ayrıntılar

Birincil Dil Arapça
Bölüm ARTICLES
Yazarlar

د. وثيق بن مولود - أ.د. عمار جيدل Bu kişi benim

Yayımlanma Tarihi 1 Haziran 2013
Yayımlandığı Sayı Yıl 2013 Cilt: 7 Sayı: 7

Kaynak Göster

APA جيدل د. و. ب. م. .-. أ. ع. (2013). وقفات مع رسالة الإجتهاد للأستاذ النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, 7(7).
AMA جيدل دوبمأع. وقفات مع رسالة الإجتهاد للأستاذ النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. Haziran 2013;7(7).
Chicago جيدل د. وثيق بن مولود - أ.د. عمار. “وقفات مع رسالة الإجتهاد للأستاذ النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 7, sy. 7 (Haziran 2013).
EndNote جيدل دوبم-أع (01 Haziran 2013) وقفات مع رسالة الإجتهاد للأستاذ النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 7 7
IEEE جيدل د. و. ب. م. .-. أ. ع., “وقفات مع رسالة الإجتهاد للأستاذ النورسي”, النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, c. 7, sy. 7, 2013.
ISNAD جيدل د. وثيق بن مولود - أ.د. عمار. “وقفات مع رسالة الإجتهاد للأستاذ النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization 7/7 (Haziran 2013).
JAMA جيدل دوبم-أع. وقفات مع رسالة الإجتهاد للأستاذ النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2013;7.
MLA جيدل د. وثيق بن مولود - أ.د. عمار. “وقفات مع رسالة الإجتهاد للأستاذ النورسي”. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization, c. 7, sy. 7, 2013.
Vancouver جيدل دوبم-أع. وقفات مع رسالة الإجتهاد للأستاذ النورسي. النور للدراسات الحضارية والفكرية - AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization. 2013;7(7).