مقاصد الحياة وغاياتها في فكر بديع الزمان سعيد النورسي من خلال رسائل النور
د. محمد حمد كنان ميغا1
مقدمة
الحمد لله الحي القيوم، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، ليخرج الناس من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ورضي الله عن صحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
إنّ من المسلّمات لدى علماء الشريعة أن الخالق عز وجل لم يخلقنا عبثا ولم يتركنا هملا، بل كلّفنا بالمسؤوليات الجسام التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، فحملناها بإرادة من الله عز وجل وبتكليف منه تعالى، لنكون بذلك أسياد الكائنات، وخليفة الله تعالى في إقامة نظام الحياة بجلب المصالح ودرء المفاسد، على أن يكون قصدنا في التكليف موافقا لقصد الشارع عز وجل في التشريع، قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾،المؤمنون:115 وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾،الدخان:38–39 وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾.الذاريات:56
فعموم هذه الأدلة تثبت أنّ لله عز وجل في خلقه غايات وأهدافا تتضمّن حفظ مصالح العباد في الدنيا والآخرة. وإذا نظرنا إلى عموم الشريعة، وجدنا أن المقصد الأساس منها هو إقامة نظام البشر فيما بينهم في إطار إثبات الحاكمية الأعلى لرب العباد، وقد لخص النورسي ذلك في الشكر والعبادة، بالإخلاص والمتابعة. وفي ذلك يقول: "الحياة هي نتيجة الكائنات، مثلما أن نتيجة الحياة هي: الشكر والعبادة، فهما سبب خلق الكائنات، وعلة غايتها، ونتيجتها المقصودة..."2 ويقول أيضا: "إنّ الحياة آية توحيد ساطعة على وجه الكائنات، وأنّ كل ذي روح – من جهة حياته – آية الأحدية، وأنّ الصنعة المتقنة الموجدة على كل فرد من الأحياء ختم للصمدية.."،3 ومن أجل هذا أرسل الله الرسل، وأنزل الشرائع كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.الحديد:25 فباستقراء هذه النصوص وغيرها من النصوص القرآنية والحديثية نخلص إلى اليقين بأنّ هذه الشريعة جاءت لمصالح العباد في العاجل والآجل معا.
ولما كان الأستاذ الكبير النادر بديع الزمان سعيد النورسي (1876م–1960م) قد جاهد بفكره النيّر المتجلي في كليات رسائل النور – التي تعتبر تفسيرا واقعيا ومقاصديا للقرآن الكريم – من أجل تحقيق العبودية الحقة لله عز وجل، وحفظ مصالح العباد في المعاش والمعاد، تحت الرقابة الإلهية، والعناية الربانية، رأيت أن أبرز في هذه الورقة البحثية مقاصد الحياة وغاياتها في فكر هذا المفكر الإسلامي النادر من خلال كليات رسائل النور. وقد رأيت أن أقسم هذا البحث بعد المقدمة إلى مبحثين وخاتمة وتوصيات.
المبحث الأول: الحياة وعلاقتها بالكسب، سيُجَلِّى في هذا المبحث حقيقة الحياة، وأنّه لا معنى للحياة بدون كسب الإنسان الذي هو مطالب فيه أن يوافق قصد الشارع من خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، ليكون سيد الكائنات بعقله وكسبه، لا بحجمه.
المبحث الثاني: مقاصد الحياة، وهذا المبحث ستنجلي فيه مقاصد الحياة وغاياتها وأسرارها في نظر الإسلام، وكما يصوّرها بديع الزمان سعيد النورسي في كليات رسائله. وقد لخصها في الشكر والعبادة، بالإخلاص والمتابعة.
خاتمة: سيرد فيها أهم النتائج التي توصّل إليها الباحث.
توصية عامة في الترغيب في استكشاف محاسن هذه الشريعة ومقاصدها الأسمى، وتتبع هذا الفكر عند علماء الشريعة، ودراستها دراسة واقعية تطبيقية.
المبحث الأول: الحياة وعلاقتها بالكسب.
إنّ الحياة باعتبار الكائنات: عبارة عن تلك الحركة الدءوب في الكائنات جميعا، على اختلاف في نوعية الحياة والحركة بحسب كل جنس من الكائنات، فمن الكائنات ما حياته حياة روح، كالإنسان والبهائم، ومنها ما حياته حيات نموّ، كالنباتات، ومنها ما حياته حياة حركة دائمة، كحركة الإلكترونات حول النواة في الجمادات عند علماء الكيمياء والفيزياء. والدليل على حركية كل الكائنات، قول الله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾.الإسراء:44 فقد أثبتت الآية الحركية لكل الكائنات وذلك بإسناد التسبيح إليها جميعا بلا استثناء، فالحياة – كما يقول النورسي – "نتيجة الكائنات، مثلما أنّ نتيجة الحياة الشكر والعبادة"،4 وبينت الآية أنّ الكائنات أدل دلالة على وجود خالق مدبر وقيّوم على أمور هذه الحياة والحركة. وفي هذا يقول النورسي: "اعلم أنّ أعجب معجزات القدرة وأدقها الحياة..وكذا هي أعظم كل النعم، وأظهر كل البراهين على المبدأ والمعاد".5
الحياة باعتبار الفناء والبقاء حياتان: حياة الدنيا الفانية، وحياة الآخرة الباقية.
فالحياة الدنيا هي التي لها ارتباط بالكسب، ولا اعتبار لها بدون كسب، وأعني بالكسب هنا: العمل الذي يقرّب الإنسان إلى الله تعالى، عبادة كان أم عادة أم معاملة، ولهذا وصف الله الحياة الدنيا بمتاع الغرور، ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾،آل عمران:185 والحديد:20 فإنّ حصر النظر في الدنيا يحوّل اللذة إلى ألم مرير كما يقول النورسي، وضرب لذلك مثالا، فقال يخاطب نفسه: "يا من ترين هذه الحياة حلوة لذيذة فتطلبين الدنيا وتنسين الآخرة..هل تدرين بم تشبهين؟ إنك لتشبهين النعامة..تلك التي ترى الصياد فلا تستطيع الطيران، بل تقحم رأسها في الرمال تاركة جسمها الضخم في الخارج ظنا منها أنّ الصياد لا يراها.."6 فلولا الكسب الذي يندرج تحت الدين الإسلامي لما كان للحياة طعم ولا لذّة، يقول النورسي: "إذا أردت أن تفهم ما دور الدنيا وما دور الروح الإنسانية فيها، وما قيمة الدين عند الإنسان، وكيف أنّه لولا الدين الحق لتحولت الدنيا إلى سجن رهيب، وأن الشخص الملحد هو أشقى المخلوقات..".7 فإذا كانت هذه الحياة الدنيا هكذا فينبغي للعاقل أن يأخذ بالأولويات فيها، فيأخذ الأحسن من كل شيء، ويأخذ ما صفا ويترك ما كدر؛ لأنّ هذه الحياة الاجتماعية الموقتة، والحضارة الإنسانية يوجد فيها الخير والشر، والطيب والخبيث، والطاهر والقذر معا، فلا بد من التمييز بين الأولويات لينال هذا الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، وإلا كان أشقى الكائنات في الدنيا هنا وفي الآخرة. يقول النورسي: "اتخذ هذه القاعدة دستورا لك (خذ ما صفا، دع ما كدر) فانظر بحسن، وشاهد بحسن، ليكون فكرك حسنا، وظنك حسنا، وفكّر حسنا، لتجد الحياة اللذيذة الهانئة.. إنّ الأمل المندرج في حسن الظنّ ينفخ الحياة في الحياة، بينما اليأس المخبوء في سوء الظن ينخر سعادة الإنسان ويقتل الحياة."8 وقد بَيَّنَ النورسي حقيقة الدنيا لدى أهل الهداية في قوله:
لما زالت الغفلة، أبصرت نور الحق عيانا
وإذا الوجود برهان ذاته، والحياة مرآة الحق..
وإذا العقل مفتاح الكنز، والفناء باب البقاء.
وانطفأت لمعة الكمال، وأشرقت شمس الجمال.
فصار الزوال عين الوصال، والألم عين اللذة.
والعمر هو العمل نفسه، والأبد عين العمر.
والظلام غلاف الضياء، وفي الموت حياة حقة.
وشاهدت الأشياء مؤنسة، والأصوات ذكرا..
فالموجودات كلها ذاكرات مسبحات.
ولقد وجدت الفقر كنز الغنى وأبصرت القوة في العجز.
إن وجدت الله فالأشياء كلها لك.
نعم إن كنت عبدا لمالك الملك، فملكه لك..
وإن كنت عبدا لنفسك معجبا بها فأبصر بلاء وعبئا بلا عد وذقها عذابا بلا حد.
وإن كنت عبدا لله حقا مؤمنا به، فأبصر صفاء بلا حد، وذق ثوابا بلا عد، ونل سعادة بلا حد.9
فهذه العبارات الجميلة في تراكيبها، البليغة في معانيها، بيّن فيها النورسي حقيقة الحياة، وأنّ أهل الهداية الذين هم أهل الله وخاصته، حياتهم كلها تتحول إلى لذّة، وهذا إنما هو بيان قوله صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له،"10 فهؤلاء لا يعتبرون الموت فناء، إنما يرونه بداية حياة حقيقية، وسعادة أبدية، كما يعتبرون الوجود أسطع برهان على ذات الله تعالى، فطوبى لمن سلك سبيل أهل الهداية، وانخرط في مساق فريقهم.
أما الحياة الآخرة، فإنها هي الحيوان حقيقة، لأنها لا كسب فيها، إنما فيها الجزاء، والجزاء من جنس العمل. قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ اْلآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾.العنكبوت:64 ويقول النورسي: "إنّ الحياة حقيقة إنما هي حياة الآخرة، فذلك العالم هو عين الحياة؛ إذ لا ذرة من ذراتها إلا نابضة بالحياة، ولا تعرف الموت مطلقا".11 وما دام هذه الحياة للجزاء كما قلنا، فلا بد من التمييز بين المؤمن والكافر فينال كل ما يستحقه حقيقة من الجزاء؛ "لأنه ليس هناك سلطان عظيم دون أن يكون له ثواب للمطيعين، وعقاب للعاصين، فلا بد من أنّ السلطان السرمدي – وهو في علياء الربوبية المطلقة – له ثواب للمنتسبين إليه بالإيمان والمستسلمين لأوامره بالطاعة، وعقاب الذين أنكروا عظمته وعزّته بالكفر والعصيان، ولا بد من أنّ ذلك الثواب سيكون لائقا برحمته وجماله، وذلك العقاب سيكون ملائما لعزّته وجلاله".12 وأنّ ذلك من كمال عدل الله عز وجل. وها هو بديع الزمان سعيد النورسي يضرب هنا أروع مثال للحياة الدنيا، فيشبهها بفندق ضخم بناه ملك عظيم يعتني بتزيينه وتحسينه للزوار، الذين لا يلبثون فيها إلا أياما قليلة فيغادرونه وقد التقطوا بعض الصور الجمالية من ذلك الفندق، تحت رقابة الخدم الذين لا يغفلون عن مراقبة الزوار ساعة، وهذا نص كلامه: "فها أنت ترى أن الملك يهدم يوميا أغلب تلك التزيينات النفيسة، مجددا إياها بأخرى جديدة للضيوف الجدد، أفبعد هذا يبقى لديك شك في من بنى هذا الفندق على قارعة الطريق يملك قصورا دائمة عالية، وله خزائن زاخرة ثمينة لا تنفد، وهو ذو سخاء دائم لا ينقطع، وأن ما يبديه من الكرم في هذا الفندق هو لإثارة شهية ضيوفه إلى ما عنده من أشياء، ولتنبيه رغباتهم وتحريكاتهم لما أعدّ لهم من هدايا".13
فالمقصود بالفندق الضخم: الدنيا وما فيها من بديع صنع الله عز وجل، وأما الملك العظيم فكناية عن الله عز وجل، وأما الضيوف فهم البشر الذين استخلفوا في هذه الحياة الدنيا، وأما عمال الفندق وهم الملائكة، فلا يتركون شاردة ولا واردة من أفعال هؤلاء الضيوف إلا وأحصوها لهم، ودوّنوها في كتبهم.
المبحث الثاني: مقاصد الحياة.
إنّ مقاصد الحياة تتجلّى في أمور كثيرة، منها:
1 – معرفة الله عز وجل حق المعرفة.
2 – العبادة بالإخلاص والمتابعة.
3 – الامتحان والاختبار
4 – الشكر الصبر.
5 – الإصلاح.
أولا: معرفة الله عز وجل حق المعرفة.
إن معرفة الله تعالى هو دعوة كل الأنبياء والرسل، وهو أساس كل كمال، وعليها تنبني التكاليف، قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ..﴾محمد:19 وقال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِماً بِالْقِسْطِ ِ..﴾آل عمران:18 وقال تعالى: ﴿اللهُ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ..﴾البقرة:255 فمن أراد أن يتمتع بجمال المخلوقات وحسنها عليه أن يعرف الله حق المعرفة، لأن الخالق عز وجل هو ذو الجمال الكامل الذي أضفى جماله على كل قوانينه وأحكامه، ومخلوقاته، وتصرفاته في الكون وفي الحياة. يقول النورسي: "من عرف الله حقا يرى كل شيء جميلا حقا، استنادا إلى عطف السلطان ورحمته، واعتمادا على جمال قوانينه الإدارية.. فيقضي حياته في لذة كاملة، وسعادة تامة، فافهم من هذا سر من آمن بالقدر أمن من الكدر."14 ولهذا لا يكون العمل مقبولا إلا إذا سبقه العلم بالله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾.التوبة:54
إنّ مقاصد الحياة تتجلّى في العبودية الحقة لله تبارك تعالى؛ عبودية اختيارية بالإضافة إلى العبودية الاضطرارية، والعبودية الاختيارية تقتضي أن يوافق قصد المكلف في التكليف قصد الشارع في التشريع، فيأخذ من هذه الدنيا ما صفا ويترك ما كدر، فيسعد بذلك في الدارين؛ لأنه لم يغتر بهذه الحياة الفانية وزخارفها. يقول النورسي: "إن كل من يجعل الحياة الفانية مبتغاه فسيكون في جهنّم حقيقة ومعنى، حتى ولو كان يتقلّب ظاهرا في بحبوحة النعيم، وأنّ كل من كان متوجها إلى الحياة الباقية ويسعى لها بجد وإخلاص فهو فائز بسعادة الدارين، وأهل لهما معا حتى ولو كانت دنياه سيئة وضيقة، إلا أنه سيراها حلوة طيبة، وسيراها قاعة انتظار لجنته، فيتحملها ويشكر ربه فيها ويخوض غمار الصبر".15 قال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.آل عمران:185 فإذا كانت هذه الحياة الدنيا على ما هي عليها من نظام دقيق وبديع، ما هي إلا زخارف عابرة، فكيف يليق بالإنسان أن يتغافل عن نفسه ويطلق العنان لشهواته، أولا يعلم أنه معدود ضمن سلسلة هذا النظام الدقيق للكون والحياة؟ فالحياة – كما يقول النورسي – "نتيجة الكائنات مثلما أن نتيجة الحياة هي: الشكر والعبادة."16 ويقول أيضا: "ولا تظني نفسك سارحة مفلوتة الزمام، ذلك لأنك إذا ما نظرت إلى دار ضيافة الدنيا هذه نظر الحكمة..فلن تجدي شيئا بلا نظام ولا غاية، فكيف تبقين إذن وحدك بلا نظام ولا غاية".17
فالغاية إذن من هذه الحياة هي الشكر والعبادة، اللذان يكونان سببا للحياة الباقية في النعيم الأبدي، ووسيلة ذلك هي: العمل الصالح، وهو عند النورسي: "فعل المأمور لكسب الخيرات".18 والعمل الصالح عنده نوعان:
أحدهما: إيجابي اختياري.
والآخر: سلبي واضطراي، فالآلام والمصائب كلها أعمال صالحة سلبية اضطرارية.19
ثانيا: العبادة الخالصة لله تعالى.
العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهي الغاية من خلق الإنس والجن قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَاْلاِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾الذاريات:56 قال النورسي: "يفهم من أسرار هذه الآية الجليلة أن حكمة مجيء الإنسان إلى هذه الدنيا الفانية والغاية منه هي: معرفة خالق الكون والإيمان به والقيام بعبادته.."20
والعبادة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: عبادة بدنية، كالصلاة والصوم.
النوع الثاني: عبادة مالية، كالزكاة.
النوع الثالث: عبادة جامعة بينهما، كالحج.
فمقصود الحياة تحقيق كل هذه الأنواع من العبادات لله رب العالمين بالإخلاص، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الابتعاد عن التشديد في كل قضايا الدين ولا سيما في العبادات؛ لأنّ الله رفع الحرج والمشقة في هذا الدين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكد النهي عن التنطع والتشديد في الدين، قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾البقرة، جزء من آية 186 وقال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾الحج:87 وقال عليه الصلاة والسلام: "إنّ الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة."21
يحث الإمام النورسي على الإكثار من الاستغفار، وعدم الإعجاب بالأعمال الصالحة، فقال: "اعلم أنّ الإسلام دين الله الحق، دين يسر لا حرج فيه.. فإن أدرك المرء تقصيره تلافاه بالاستغفار الذي هو أثقل ميزان من الغرور الناشئ من إعجابه بالأعمال الصالحة."22 وقال أيضا: "الوجه الرابع: وهو نوع من الوسوسة الناشئة من التشدد المفرط لدى التحري للأكمل الأتم من الأعمال، فكلما زاد المرء في التشدد هذا – باسم التقوى والورع – ازداد الأمر سوءا وتعقيدا حتى ليوشك أن يقع في الحرام في الوقت الذي يبتغي الوجه الأولى والأكمل في الأعمال الصالحة."23
فالعبادة من لوازم التقوى، والتقوى هو الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، كما قال علي رضي الله عنه. ويقول النورسي في بيان مفهوم التقوى: "فالتقوى: هي ترك المحظور والاجتناب عن الذنوب والسيئات."24
ثالثا: الامتحان والاختبار.
من مقاصد الحياة الامتحان والاختبار، فإنّ الله تعالى لما خلق العباد لطاعته، وجعل على كل فرد رقيبا وعتيدا، جعل الموت والحياة امتحانا واختبارا لهم ليميز الخبيث من الطيب، وأهل الفساد من أهل الصلاح، قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.الملك:1–2 قال النورسي في تأكيد ذلك: "إنّ الإيمان والتكليف امتحان واختبار، ومسابقة ضمن دائرة الاختبار.. وذلك ليتميز إيمان أبي بكر عن كفر أبي جهل، فيسمو المؤمنون إلى أعلى عليين، ويتردى الكفار إلى أسفل سافلين."25 ويقول أيضا: "وستفهم أن الإنسان لم يترك حبله على غاربه، ولم يترك طليقا ليرتع أينما يريد، بل تسجل جميع أعماله، وتلتقط صورها، وتدوّن جميع أفعاله ليحاسب عليها."26
نعم، إن الحياة امتحان واختبار، فكذلك الموت، فالموت ليس نهاية النهاية، إنما هو إعفاء عن الوظائف الدنيوية التي يستكملها الإنسان في هذه الحياة الدنيا الفانية، وبداية حياة جديدة دائمة، فالموت – إذن – إما راحة من هذه الحياة الدنيا ومشاكلها المتعددة، وهذا في حق المؤمن التقي النقي، الذي خاف مقام رب العزة والجلال، وإما بداية فتنة وعذاب وتضييق، وهذا في حق الكافر الجاحد لربه في هذه الحياة الفانية، الذي اتخذ إلهه هواه، وتبلد حسه عما يحيط به من العلامات الظاهرة، والبراهين الساطعة، على ألوهية الله عز وجل وربوبيته المطلقتين اللتين تتجليان في الكون كله، وفي الإنسان نفسه. يقول النورسي: "وستفهم أن الموت والاندثار الذي يصيب في الخريف مخلوقات الربيع والصيف الجميلة، ليس فناء نهائيا، وإعداما أبديا، وإنما هو إعفاء من وظائفها بعد إكمالها وإيفائها، وتسريح منها، وإفساح مجال، وتخلية مكان لما سيأتي في الربيع الجديد من مخلوقات جديدة، فهو تهيّؤ وتهيئة لما سيحل من الموجودات المأمورة الجديدة، وهو تنبيه رباني لذوي المشاعر الذين أنستهم الغفلة مهامهم، ومنعهم السكر عن الشكر.."27
رابعا: الشكر والصبر.
إنّ الشكر والصبر من أهم مقاصد الحياة، فهما دليلان على الاستسلام المطلق لله عز وجل في المحبوب والمكروه، لأنّ الله هو الفعال لما يريد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فهما مفتاح الفرج والسعادة؛ إذ بهما يضاعف الله الحسنات، ويحوّل الآلام إلى اللذّات. قال تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾،إبراهيم:7 وقال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾،لقمان:14 وقال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾،سبأ:13 وقال تعالى: ﴿وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾،لقمان:12 ويقول عليه الصلاة والسلام: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله"28 ويقول: "من سألكم بالله فأعطوه، ومن استعاذ كم بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أهدى إليكم فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى ترون أن قد كافأتموه"29
ومقام الشكر والحمد لا يليقان إلا بالله عز وجل، ومن ثم ينبغي أن يكون شكر الناس نتيجة لشكر المنعم عز وجل، قال النورسي: "إن الشكر والحمد لا يليقان إلا به سبحانه."30 وقد ذكرنا فيما مضى قوله بأنّ نتيجة الحياة هي الشكر والعبادة. فهذه نصوص تؤكد أهمية الشكر في الحياة، فالحياة بلا شكر حياة بلا طعم ولا لذّة.
أما الصبر فمجاله في الأصل المصائب والصدمات، غير أنّ العلماء صنّفوا الصبر إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الصبر على المصائب.
النوع الثاني: الصبر على الطاعة.
النوع الثالث: الصبر عن المعصية.
والصبر إذا أطلق فالمتبادر إلى الذهن هو الصبر على المصائب، وهو الذي بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"،31 أما الصبر المشار إليه في سورة العصر فهو الصبر العام الذي يشمل كل أنواع الصبر، فالتواصي بالصبر يكون على المصائب، وعلى الطاعة، وعن المعصية. فالشكر والصبر هما اللذان خوّلا للمؤمن هذا الفضل العظيم، فهما باب السعادة الأبدية كما ذكرنا.
خامسا: الإصلاح.
إنّ الإصلاح من أهم مقاصد الحياة، ذلك أن بالصلاح تصفو الحياة، وتنتظم أمورها، ويعيش الناس متحابين، ومطمئنين آمنين في دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم.
وقد ذم الله تعالى الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، والذين فرطوا في التناصح، وأعلى مراتب الإصلاح: إصلاح المرء نفسه، فيصلح علاقته بالله عز وجل، ثم علاقته بغيره من بني جنسه، وما يحيط به من بيئته، حتى يكون إنسانا مرضيا من الله ومن الناس، فإذا ما استطاع المرء أن يقوّم اعوجاج نفسه حُقّ له أن يسعى لإصلاح غيره وإنقاذه من مهاوي الردى.
والإصلاح هو دعوة الأنبياء والرسل جميعا، ﴿إنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ﴾.هود:88 ومن أجله أنزلت الكتب، وشرعت الشرائع، فمدار الحياة كلها على المصلحة، وذلك عن طريق جلب المصلحة ودفع المفسدة.
الخاتمة
لقد انبنى هذا البحث على بيان حقيقة الحياة الدنيا ومقاصدها عند بديع الزمان سعيد النورسي، فتمخّضت عنه النتائج التالية:
1– إنّ الحياة باعتبار الفناء والبقاء حياتان: الحياة الدنيا الفانية، والحياة الأخرى الباقية.
2– إنّ الحياة الدنيا حياة كسب وكدّ من أجل نيل ثواب الآخرة.
3– إنّ هذه الدار دار ضيافة وتزوّد للآخرة.
4– إنّ الفناء في هذه الحياة هو عين البقاء؛ لأنه انتقال إلى دار البقاء.
5– إنّ الألم في هذه الحياة الدنيا هو عين اللذة الدائمة لمن صبر عليها.
6– إنّ النعم المنتشرة في هذه الحياة الدنيا ما هي إلا مفتاح شهية أهل الهداية للنعيم الأبدي.
7– إنّ للحياة مقاصد عدة، وتتجلّى في الشكر والعبادة، كما قال النورسي: "الحياة نتيجة الكائنات، مثلما أنّ نتيجة الحياة الشكر والعبادة".32
وقد تجلى في هذا البحث مقاصد الحياة في الأمور الآتية:
1– معرفة الله عز وجل حق المعرفة.
2– العبادة بالإخلاص والمتابعة.
3– الامتحان والاختبار
4– الشكر الصبر.
5– الإصلاح.
ويحسن في الأخير أن أختم البحث ببعض التوصيات على رأسها أن أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وبهذا الصدد يمكن أن أشير إلى بعض التوصيات مرتّبة على النحو الآتي:
1– ثم أوصي الباحثين في مجال العلوم الشرعية أن يهتموا بإبراز مقاصد هذه الشريعة ومحاسنها، وحسن عرض هذه المقاصد والمحاسن لغير المسلمين، فإنّ كل جزئية من جزئيات الشريعة لها مقاصدها الخاصة، كما أن هنالك مقاصد عامة تدخل في كل أبواب الشريعة، وكل قاعدة من القواعد المقاصدية تستحق التخصص والبحث الدقيق، والتطبيقات الواقعية، لكي نوسع دائرة الانتفاع بما نقدمه من بحوث.
2– كما أنه ينبغي الاهتمام بإبراز مقاصد الشريعة من خلال المصادر الشرعية الأصيلة، لنبيّن بذلك دور المجتهدين من أسلافنا، الذين قدموا حياتهم خدمة لهذا الدين، ثم نبني على ذلك ما عندنا من تجديد في النظر والتحليل، فنكون بذلك قد جمعنا بين الأصالة والحداثة.
3– ولا ما نع كذلك إن وجد – لتحقيق هذا الغرض – مركز المقاصد كما أن هنالك مراكز أخرى متخصصة، كمركز الوسطية في الكويت.
المصادر والمراجع:
1–القرآن الكريم.
2– إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز لبديع الزمان سعيد النورسي – كليات رسائل النور – تحقيق د. إحسان قاسم، شركة سوزلر– استنبول، الطبعة الثالثة، سنة 1420هـ/ 1999م.
3– سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى السلمي الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، الطبعة والسنة (بدون).
4– سيرة ذاتية، لبديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق. إحسان قاسم.
5– الشعاع – كليات رسائل النور – لبديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق. إحسان قاسم، شركة النسل – إستنبول، الطبعة الأولى، سنة 1414هـ/ 1993م.
6– صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير – بيروت، الطبعة الثالثة، سنة 1407هـ/1987م.
7– صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة والسنة (بدون).
8– صيقل الإسلام – كليات رسائل النور – لبديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق . إحسان قاسم، شركة النسل – إستنبول، الطبعة الأولى، سنة 1416هـ / 1995م.
9– الكلمات – كليات رسائل النور – لبديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق. إحسان قاسم، شركة سوزلر – إستنبول، الطبعة الثالثة، سنة 1419هـ/ 1998م.
10– اللمعات – كليات رسائل النور – لبديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق. إحسان قاسم، شركة النسل – إستنبول، الطبعة الأولى، سنة 1413هـ/1993م.
11– المستدرك، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1411هـ/ 1990م.
12– مسند الإمام أحمد، لأبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، مؤسسة قرطبة – مصر، الطبعة والسنة (بدون).
الهوامش:
1 د. محمد حمد كنان ميغا، الجامعة الإسلامية بالنيجر
2 كليات رسائل النور، اللمعات 3/562، اللمعة الثلاثون.
3 المرجع السابق 3/572 571.
4 النورسي، اللمعات، كليات رسائل النور 3/562.
5 النورسي، إشارات الإعجاز، كليات رسائل النور 5/215.
6 المرجع السابق 1/192، خاتمة الكلمة الرابعة عشرة.
7 المرجع نفسه 1/31.
8 نفسه 1/854، اللوامع.
9 . سيرة ذاتية 9/172
10 صحيح مسلم 4/2295، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، عن صهيب.
11 النورسي، صيقل الإسلام، كليات رسائل النور 8/335.
12 النورسي، الشعاع، كليات رسائل النور 4/263.
13 النورسي، الكلمات 1/77 78.
14 النورسي، كليات رسائل النور، الكلمة السادسة والعشرون 1/552 553.
15 النورسي، كليات رسائل النور، الكلمة الثامنة 1/37.
16 النورسي، كليات رسائل النور، اللمعة الثلاثون 3/562.
17 المرجع السابق، الكليات 1/193.
18 سيرة ذاتية 9/314.
19 نفسه 1/859 860.
20 النورسي، الشعاع، كليات رسائل النور 4/135.
21 البخاري في صحيحه، 1/ 23، رقم الحديث 39، كتاب الإيمان، باب الدين يسر وقول النبي صلى الله عليه وسلم.أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة.
22 النورسي، كليات رسائل النور 1/307، المقام الثاني من الكلمة 21.
23 المرجع السابق 1/306.
24 سيرة ذاتية 9/314.
25 النورسي، الشعاع، كليات رسائل النور 4/104.
26 النورسي، الكلمات 1/80، الكلمة العاشرة.
27 نفسه 1/80 81، الكلمة العاشرة.
28 سنن الترمذي 4/339، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك.
29 مسند الإمام أحمد 2/68، والحاكم في المستدرك 1/572، وقال هذا صحيح على شرط الشيخين.
30 النورسي، اللمعات، كليات رسائل النور 3/562 563.
31 صحيح مسلم 4/2295، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، عن صهيب.
32 النورسي، اللمعات، كليات رسائل النور 3/562.
Birincil Dil | Arapça |
---|---|
Bölüm | ARTICLES |
Yazarlar | |
Yayımlanma Tarihi | 1 Haziran 2010 |
Yayımlandığı Sayı | Yıl 2010 Cilt: 1 Sayı: 1 |